95 - (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) محرمون بحج أو عمرة (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء) بالتنوين ورفع ما بعده أي فعليه جزاء هو (مثل ما قتل من النعم) أي شبهه في الخلقة وفي قراءة بإضافة جزاء (يحكم به) أي بالمثل رجلان (ذوا عدل منكم) لهم فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم في النعامة ببدنة وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنه يشبهها في العب (هديا) حال من جزاء (بالغ الكعبة) أي يبلغ به الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه ولا يجوز أن يذبح حيث كان ونصبه نعتا لما قبله وإن أضيف لأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفا فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته (أو) عليه (كفارة) غير الجزاء وإن وجده هي (طعام مساكين) من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مد ، وفي قراءة بإضافة كفارة لما بعده وهي للبيان (أو) عليه (عدل) مثل (ذلك) الطعام (صياما) يصومه عن كل مد يوم وإن وجده وجب ذلك عليه (ليذوق وبال) ثقل جزاء (أمره) الذي فعله (عفا الله عما سلف) من قتل الصيد قبل تحريمه (ومن عاد) إليه (فينتقم الله منه والله عزيز) غالب على أمره (ذو انتقام) ممن عصاه ، وألحق بقتله متعمدا فيما ذكر الخطأ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، "لا تقتلوا الصيد"، الذي بينت لكم ، وهو صيد البر دون صيد البحر، "وأنتم حرم"، يقول : وأنتم محرمون بحج أو عمرة.
و (الحرم ) ، جمع (حرام ) ، والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد . تقول : (هذا رجل حرام ) و (هذه امرأة حرام ) . فإذا قيل . (محرم ) ، قيل للمرأة : (محرمة) . و (الإحرام ) ، هو الدخول فيه ، يقال : (أحرم القوم ) ، إذا دخلوا في الشهر الحرام ، أو في الحرم.
فتأويل الكلام : لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة.
وقوله : "ومن قتله منكم متعمدا"، فإن هذا إعلام من الله تعالى ذكره عباده حكم القاتل من المحرمين الصيد الذي نهاه عن قتله متعمداً.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة (العمد) الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارة والجزاء في قتله الصيد.
فقال بعضهم : هو العمد لقتل الصيد، مع نسيان قاتله إحرامه في حال قتله . وقال : إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمداً قتله ، فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله . قالوا : وهذا أجل أمراً من أن يحكم عليه ، أو يكون له كفارة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، من قتله منكم ناسياً لإحرامه ، متعمداً لقتله ،فذلك الذي يحكم عليه . فإن قتله ذاكراً لحرمه ، متعمداً لقتله ، لم يحكم عليه.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا، حدثنا جرير، عن ليث ، عن مجاهد، في الذي يقتل الصيد متعمداً وهو يعلم أنه محرم ، وبتعمد قتله ، قال : لا يحكم عليه ، ولا حج له . وقوله : "ومن قتله منكم متعمدا"، قال : هو العمد المكفر، وفيه الكفارة والخطأ، أن يصيبه وهو ناس لإحرامه ، متعمداً لقتله ، أو يصيبه وهو يريد غيره. فذلك يحكم عليه مرة.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا"، غير ناس لحرمه ، ولا مريد غيره ، فقد حل ، وليست له رخصة . ومن قتله ناسياً، أو أراد غيره فأخطأ به ، فذلك العمد المكفر.
حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : "ومن قتله منكم متعمدا"، قال : متعمداً لقتله ، ناسياً لإحرامه.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا الفضيل بن عياض ، عن ليث ، عن مجاهد قال : العمد، هو الخطأ المكفر.
حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا يونس بن محمد قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا ليث قال ، قال مجاهد: قول الله : "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال : فالعمد الذي ذكر الله تعالى ذكره : أن يصيب الصيد وهو يريد غيره فيصيبه ، فهذا العمد المكفر. فأما الذي يصيبه غير ناس ولا مريد لغيره ، فهذا لا يحكم عليه . هذا أجل من أن يحكم عليه.
حدثنا ابن وكيع ومحمد بن المثنى قالا، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الهيثم ، عن الحكم ، عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية : "ومن قتله منكم متعمدا"، قال : يقتله متعمداً لقتله ، ناسياً لإحرامه.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي قال ، حدثنا شعبة، عن الهيثم، عن الحكم ، عن مجاهد، مثله.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، قال ابن جريج : "ومن قتله منكم متعمدا"، غير ناس لحرمه ولا مريد غيره ، فقد حل ، وليست له رخصة . ومن قتله ناسياً لحرمه ، أو أراد غيره فأخطأ به ، فذلك العمد المكفر.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو، عن الحسن: "ومن قتله منكم متعمدا"، للصيد ناسياً لإحرامه ، "فمن اعتدى بعد ذلك"، متعمداً للصيد يذكر إحرامه.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي قال ، حدثنا إسمعيل بن مسلم قال : كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمداً ذاكراً لإحرامه : لم يحكم عليه . قال إسمعيل : وقال حماد، عن إبراهيم ، مثل ذلك.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عفان بن مسلم قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال : أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسال عمرو بن دينار عن هذه الآية: "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، الآية، فسألته ، فقال : كان عطاء يقول : هو بالخيار، أي ذلك شاء فعل ، إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم ، وإن شاء صام . فأخبرت به جعفراً وقلت : ما سمعت فيه ؟ فتلكأ ساعة، ثم جعل يضحك ولا يخبرني ، ثم قال : كان سعيد بن جبير يقول : يحكم عليه من النعم هدياً بالغ الكعبة، وإنما جعل الطعام والصيام كفارة، فهذا لا يبلغ ثمن الهدي ، والصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة.
حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال ، أخبرني ابن جريج قال ، قال مجاهد : "ومن قتله منكم متعمدا"، غير ناس لحرمه ، ولا مريد غيره ، فقد حل ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسياً، أو أراد غيره فأخطأ به ، فذلك العمد المكفر.
حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فيه الصيد وهو ناس لحرمه ، أو جاهل أن قتله غير محرم ، فهؤلاء الذين يحكم عليهم . فأما من قتله متعمداً بعد نهي الله ، وهو يعرف أنه محرم ، وأنه حرام ، فذلك يوكل إلى نقمه الله ، وذلك الذي جعل الله عليه النقمة.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : "ومن قتله منكم متعمدا"، قال : متعمداً لقتله ، ناسياً لإحرامه.
وقال آخرون : بل ذلك هو العمد من المحرم لقتل الصيد، ذاكراً لحرمه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع -وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي - عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن جريج ، وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال ، قال طاوس: والله ما قال الله إلا: "ومن قتله منكم متعمدا".
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرني بعض أصحابنا، عن الزهري ، أنه قال : نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الخطأ، يعني : في المحرم يصيب الصيد.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، قال : إن قتله متعمداً أو ناسياً، حكم عليه. وإن عاد متعمداً عجلت له العقوبة، إلا أن يعفو الله .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير قال : إنما جعلت الكفارة في العمد، ولكن غلظ عليهم في الخطأ كي يتقوا.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، نحوه .
حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، أخبرنا ابن جريج قال: كان طاووس يقول: والله ما قال الله إلا: "ومن قتله منكم متعمداً".
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره حرم قتل صيد البر على كل محرم في حال إحرامه ما دام حراماً بقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد". ثم بين حكم من قتل من ذلك في حال إحرامه، بل عم في التنزيل بإيجاب الجزاء، كل قاتل صيد في حال إحرامه متعمداً. وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نص كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماع من الأمة. ولا دلالة من بعض هذه الوجوه.
فإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان قاتل الصيد من المحرمين عامداً قتله لإحرامه، أو عامداً قتله ناسياً لإحرامه، أو قاصداً غيره فقتله ذاكراً لإحرامه، في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً.
وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، دون القول الذي قاله مجاهد.
وأما ما يلزم بالخطأ قاتله ، فقد بينا القول فيه في كتابنا: (كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع )، بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره ، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل ، وليس في التنزيل للخطأ ذكر، فنذكر أحكامه .
وأما قوله : "فجزاء مثل ما قتل من النعم"، فإنه يقول : وعليه كفاء وبدل ، يعني بذلك جزاء الصيد المقتول . يقول تعالى ذكره : فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول ، مثل ما قتل من النعم .
قد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : فجزاؤه مثل ما قتل من النعم.
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض البصريين : "فجزاء مثل ما قتل من النعم"، بإضافة (الجزاء) إلى ( المثل ) ، وخفض (ا لمثل ).
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : "فجزاء مثل ما قتل" بتنوين (الجزاء)، ورفع المثل ، بتأويل : فعليه جزاء مثل ما قتل .
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب ،قراءة من قرأ: "فجزاء مثل ما قتل"بتنوين (الجزاء) ورفع (المثل) لأن (الجزاء) هو (المثل) فلا وجه لإضافة الشيء إلى نفسه.
وأحسب أن الذين قرأوا ذلك بالإضافة، رأوا أن الواجب على قاتل الصيد أن يجزي مثله من الصيد بمثل من النعم . وليس ذلك كالذي ذهبوا إليه ، بل الواجب على قاتله أن يجزي المقتول نظيره من النعم . وإذ كان ذلك كذلك ، فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله تعالى ذكره على قاتل الصيد، ولا يضاف الشيء إلى نفسه . ولذلك لم يقرأ ذلك قارىء علمناه ، بالتنوين ونصب (المثل ). ولو كان (المثل ) غير (الجزاء) ، لجاز في (المثل ) النصب إذا نؤن (الجزاء) ، كما نصب (اليتيم ) إذ كان غير(الإطعام ) في قوله : "أو إطعام في يوم ذي مسغبة* يتيما ذا مقربة " [البلد ة 14 ، 5ا]، وكما نصب (الأموات ) و(الأحياء)، ونون (الكفات ) في قوله : " ألم نجعل الأرض كفاتا*أحياء وأمواتا" [المرسلات : 25 - 26]، إذ كان (الكفات ) غير (الأحياء) و (الأموات ) . وكذلك (الجزاء) لو كان غير (المثل ) ، لاتسعت القراءة في (المثل ) بالنصب إذا نون (الجزاء) . ولكن ذلك ضاق ، فلم يقرأه أحد بتنوين (الجزاء) ونصب (المثل ) ، إذ كان (المثل ) هو(الجزاء)، وكان معنى الكلام : ومن قتله منكم متعمدا فعليه جزاء هو مثل ما قتل من النعم .
ثم اختلف أهل العلم في صفة (الجزاء)، وكيف يجزي قاتل الصيد من المحرمين ما قتل مثله من النعم .
فقال بعضهم : ينظر إلى أشبه الأشياء به شبها من النعم ، فيجزيه به ، ويهديه إلى الكعبة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال : أما "جزاء مثل ما قتل من النعم"، فإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة . وإن قتل بقرة أو أيلاً أو أروى، فعليه بقرة. أو قتل غزالاً أو أرنباً فعليه شاة. وإن قتل ضباً أو حرباء أو يربوعاً، فعليه سخلة قد أكلت العشب وشربت اللبن .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة، عن ابن مجاهد قال : سئل عطاء: أيغرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره ؟ قال : أليس يقول الله تعالى ذكره : "فجزاء مثل ما قتل من النعم"؟
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال مجاهد : "ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال : عليه من النعم مثله .
حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : "فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال : إذا أصاب المحرم الصيد، وجب عليه جزاؤه من النعم.فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به . فإن لم يجد جزاءه قوم الجزاء دراهم ، ثم قوم الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يوماً. قال : إنما أريد بالطعام الصوم ، فإذا وجد طعاما وجد جزاء.
حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : " فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما "، قال : إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم . فإن لم يجد، نظركم ثمنه - قال ابن حميد: نظركم قيمته - فقوم عليه ثمنه طعاماً، فصام مكان كل نصف صاع يوماً ، " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما "، قال : إنما أريد بالطعام الصيام ، فإذا وجد الطعام وجد جزاءه .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مقسم، عن ابن عباس: "ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم"فإن لم يجد هدياً قوم الهدي عليه طعاماً، وصام عن كل صاع يومين .
حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في هذه الآية : "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة"، قال : إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه . فإن لم يكن عنده قوم عليه ثمنه طعاماً، ثم صام لكل نصف صاع يوماً.
حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال : ابتدرت وصاحب لي ظبياً في العقبة، فأصبته ، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له ، فأقبل على رجل إلى جنبه ، فنظرا في ذلك، قال فقال : اذبح كبشاً.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن الشعبي ، قال : أخبرني قبيصة بن جابر، نحواً مما حدث به عبد الملك.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن المسعودي ، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال : قتل صاحب لي ظبياً وهو محرم ، فأمره عمر أن يذبح شاة فيتصدق بلحمها ويسقي إهابها.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة، عن دود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال : قتل رجل من الأعراب وهو محرم ظبياً، فسأل عمر، فقال له عمر: أهد شاة.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، وحدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا حصين ، عن الشعبي قال ، قال قبيصة بن جابر: أصبت ظبياً وأنا محرم ، فأتيت عمر فسألته عن ذلك ، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف . فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن أمره أهون من ذلك ! قال : فضربني بالدرة حتى سابقته عدواً! قال : ثم قال : قتلت الصيد وأنت محرم ، ثم تغمص الفتيا! قال : فجاء عبد الرحمن ، فحكما شاة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال : إذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه. فإن قتل ظبياً أو نحوه ، فعليه شاة تذبح بمكة . فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين . فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام . فإن قتل أيلاً أو نحوه ، فعليه بقرة . وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه ، فعليه بدنة من الإبل.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: أرأيت إن قتلت صيداً فإذا هو أعور، أو أعرج ، أو منقوص ، أغرم مثله ؟ قال : نعم ، إن شئت . قلت : أوفى أحب إليك ؟ قال : نعم . وقال عطاء: وإن قتلت ولد الظبي ، ففيه ولد شاة . وإن قتلت ولد بقرة وحشية، ففيه ولد بقرة إنسية مثله . فكل ذلك على ذلك.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: "فجزاء مثل ما قتل من النعم"، ما كان من صيد البر مما ليس له قرن -الحمار أو النعامة- فعليه مثله من الإبل. وما كان ذا قرن من صيد البر من وعل أو أيل، فجزاؤه من البقر. وما كان من ظبي فمن الغنم مثله. وما كان من أرنب، ففيها ثنية. وما كان من يربوع وشبهه، ففيه حمل صغير. وما كان من جرادة أو نحوها، ففيه قبضة طعام. وما كان من طير البر، ففيه أن يقوم ويتصدق بثمنه، وإن شاء صام لكل نصف صاع يوماً. وإن أصاب فرخ طير برية أو بيضها، فالقيمة فيها طعام أو صوم على الذي يكون في الطير. غير أنه قد ذكر في بيض النعام إذا أصابها المحرم، أن يحمل الفحل على عدة ما أصاب من البيض على بكارة الإبل، فما لقح منها أهداه إلى البيت، وما فسد منها فلا شيء فيه.
حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، أخبرني ابن جريج قال ،قال مجاهد: من قتله -يعني الصيد- ناسياً، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفر، فعليه مثله هدياً بالغ الكعبة. فإن لم يجد، ابتاع بثمنه طعاماً. فإن لم يجد، صام عن كل مد يوماً. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة، كان له -وإن كان ذا يسار- موسعاً، إن شاء يهدي جزوراً، أو عدلها طعاماً، أو عدلها صياماً، أيتهن شاء، من أجل قوله: فجزاء، أو كذا، أو كذا. قال: فكل شيء في القرآن: "أو" "أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء.
حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، أخبرني ابن جريج قال ، أخبرني الحسن بن مسلم قال : من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعداً، فذلك الذي قال الله تعالى ذكره : "فجزاء مثل ما قتل من النعم". وأما "كفارة طعام مساكين"، فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي ، العصفور يقتل ، فلا يكون فيه . قال : "أو عدل ذلك صياما"، عدل النعامة، أو عدل العصفور، أو عدل ذلك كله.
وقال آخرون : بل يقوم الصيد المقتول قيمته من الدراهم ، ثم يشتري القاتل بقيمته نداً من النعم ، ثم يهديه إلى الكعبة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبدة، عن إبراهيم قال : ما أصاب المحرم من شيء ، حكم فيه قيمته.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن حماد قال : سمعت إبراهيم يقول : في كل شيء من الصيد ثمنه.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية ما قال عمر وابن عباس ، ومن قال بقولهما: إن المقتول من الصيد يجزى بمثله من النعم ، كما قال الله تعالى ذكره : "فجزاء مثل ما قتل من النعم". وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم ، وقد قال الله تعالى : "من النعم"، لأن الدراهم ليست من النعم في شيء.
فإن قال قائل : فإن الدراهم وإن لم تكن مثلاً للمقتول من الصيد، فإنه يشتري بها المثل من النعم ، فيهديه القاتل ، فيكون بفعله ذلك كذلك جازياً بما قتل من الصيد مثلاً من النعم!
قيل له : أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيراً أو معيباً، ولا يصاب بقيمته من النعم إلا كبيراً، أو سليماً، أو كان المقتول من الصيد كبيراً أو سليماً، ولا يصاب بقيمته من النعم إلا صغيراً أو معيباً، أيجوز له أن يشتري بقيمته خلافه وخلاف صفته فيهديه ، أم لا يجوز ذلك له ، وهو لا يجد إلا خلافه؟
فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلا مثله ، ترك قوله في ذلك . لأن أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمة ذلك فيهديه ، إلا ما يجوز في الضحايا. وإذا أجاز شراء مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيراً معيباً، أجاز في الهدي ما لا يجوز في الأضاحي.
وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا، أوضح بذلك من قوله الخلاف لظاهر التنزيل . وذلك أن الله تعالى ذكره ، أوجب على قاتل الصيد من المحرمين عمداً، المثل من النعم إذا وجده . وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم ، وهو إلى ذلك واجد سبيلاً.
ويقال لقائل ذلك : أرأيت إن قال قائل آخر: ما على قاتل ما لا تبلغ من الصيد قيمته ما يصاب به من النعم ما يجوز في الأضاحي ، من إطعام ولا صيام . لأن الله تعالى إنما خير قاتل الصيد من المحرمين في أحد الثلاثة الأشياء التي سماها في كتابه ، فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل ، سقط عنه فرض الآخرين . لأن الخيار إنما كان له ، وله إلى الثلاثة سبيل ، فإذا لم يكن له إلى بعض ذلك سبيل ، بطل فرض الجزاء عنه ، لأنه ليس ممن عني بالآية، نظير الذي قلت أنت : إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد تبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا، فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه ، وإنما عليه الجزاء بالإطعام أو الصيام ، هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الآخر مثله.
القول في تأويل قوله : "يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم -يعني : فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل - ، "هديا"، يقول : يقضي بالجزاء ذوا عدل ، أي يهدى فيبلغ الكعبة . و (الهاء) في قوله : "يحكم به"، عائدة على (الجزاء).
قال أبو جعفر: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل : أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه ، فإن ذكر أنه أصاب ظبياً صغيراً، حكما عليه من ولد الضان بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم . فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيراً، حكما عليه من الضان بكبير. وإن كان الذي أصاب حمار وحش ، حكما عليه ببقرة. إن كان الذي أصاب كبيراً، فكبيراً من البقر، وإن كان صغيراً فصغيراً . وإن كان المقتول ذكراً فمثله من ذكور البقر. وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى. ثم كذلك ذلك، ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبهاً من النعم، فيحكمان عليه به، كما قال تعالى ذكره.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلاف في ذلك بينهم.
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال: كان رجلان من الأعراب محرمين، فأحاش أحدهما ظبياً، فقتله الآخر. فأتيا عمر، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فقال له عمر: ما ترى؟ قال: شاة، قال: وأنا أرى ذلك، اذهبا فأهديا شاة. فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه: ما درى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه!! فسمعهما عمر، فردهما فقال: هل تقرآن (سورة المائدة)؟ فقالا: لا! فقرأ عليهما: "يحكم به ذوا عدل منكم"، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا.
حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت أنا وصاحب لي ظبياً في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له. فأقبل على رجل إلى جنبه ، فنظرا في ذلك . قال فقال : اذبح كبشاً -قال يعقوب في حديثه ، فقال لي : اذبح شاة- فانصرفت فأتيت صاحبي فقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول ! فقال صاحبي : انحر ناقتك . فسمعها عمر بن الخطاب ، فأقبل علي ضرباً بالدرة وقال : تقتل الصيد وأنت محرم ، وتغمص الفتيا! إن الله تعالى يقول في كتابه : "يحكم به ذوا عدل منكم"، هذا ابن عوف ، وأنا عمر!
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن الشعبي قال ، أخبرني قبيصة بن جابر، بنحو ما حدث به عبد الملك.
حدثنا هناد وأبو هشام قالا، حدثنا وكيع ، عن المسعودي ، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجاً، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث ، قال : فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح، فرماه رجل منا بحجر فما أخطأ خشاءه، فركب ردعه ميتاً، قال : فعظمنا عليه . فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر، فقص عليه القصة . قال : وإذا إلى جنبه رجل كان وجهه قلب فضة -يعني عبد الرحمن بن عوف - فالتفت إلى صاحبه فكلمه . قال: ثم أقبل على الرجل قال : أعمداً قتلته أم خطأ؟ قال الرجل : لقد تعمدت رميه وما أردت قتله.فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وأسق إهابها. قال : فقمنا من عنده ، فقلت : أيها الرجل ، عظم شعائر الله ! فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه ! اعمد إلى ناقتك فانحرها، فلعل ذاك ! قال قبيصة : ولا أذكر الآية من (سورة المائدة) : "يحكم به ذوا عدل منكم". قال : فبلغ عمر مقالتي ، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة! قال : فعلا صاحبي ضربا بالدرة، وجعل يقول : أقتلت في الحرم ، وسفهت الحكم ! لمال : ثم أقبل علي ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني ! قال : يا قبيصة بن جابر، إني أراك شاب السن ، فسيح الصدر، بين اللسان ، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب!
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن مخارق ، عن طارق قال : أوطأ أربد ضباً، فقتله - وهو محرم فأتى عمر ليحكم عليه ، فقال له عمر: احكم معي ! فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر. ثم قال عمر: "يحكم به ذوا عدل منكم". حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً أصاب صيداً، فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك ، وعنده عبد الله بن صفوان ، فقال ابن عمر! لابن صفوان : إما أن أقول فتصدقني ، وإما أن تقول فأصدقك . فقال ابن صفوان : بل أنت فقل . فقال ابن عمر، ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان .
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن شريح أنه قال : لو وجدت حكماً عدلاً لحكمت في الثعلب جدياً، وجدي أحب إلي من ثعلب .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكير قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز: أن رجلاً سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيداً وهو محرم ، وعنده ابن صفوان ، فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدقك ، أو أقول فتصدقني . قال : قل وأصدقك .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل قال : أخبرني أبو جرير البجلي قال : أصبت ظبياً وأنا محرم ، فذكرت ذلك لعمر فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك . فأتيت عبد الرحمن وسعدا، فحكما علي تيساً أعفر. قال أبو جعفر: الأعفر ا لأبيض .
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، بإسناده عن عمر، مثله .
حدثنا عبد الحميد قال ، أخبرنا اسحق ، عن شريك ، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين قال : كان رجل على ناقة وهو محرم ، فأبصر ظبياً يأوي إلى أكمة، فقال لأنظرن أنا أسبق إلى هذه الأكمة أم هذا الظبي؟ فوقعت عنز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها، فأتى عمر فذكر ذلك له ، فحكم عليه هو وابن عوف عنزاً عفراء، قال : وهي البيضاء.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد : أن رجلاً أوطأ ظبياً وهو محرم ، فأتى عمر فذكر ذلك له ، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف ، فأقبل على عبد الرحمن فكلمه ، ثم أقبل على الرجل فقال : أهد عنزاً عفراء.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شيء لم تمض فيه حكومة، استقبل به ، فيحكم فيه ذوا عدل .
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة، عن يعلى، عن عمرو بن حبشي قال : سمعت رجلاً سأل عبد الله بن عمر، عن رجل أصاب ولد أرنب ، فقال : فيه ولد ماعز، فيما أرى أنا. ثم قال لي : أكذاك ؟ فقلت : أنت أعلم مني ! فقال : قال الله تعالى ذكره : "يحكم به ذوا عدل منكم".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف ، عن حميد عن بكر: أن رجلين أبصرا ظبياً وهما محرمان ،فتراهنا،وخطركل واحد منهما لمن سبق إليه . فسبق إليه أحدهما، فرماه بعصاه فقتله . فلما قدما مكة أتيا عمر يختصمان إليه ، وعنده عبد الرحمن بن عوف ، فذكرا ذلك له ، فقال عمر: هذا قمار ولا أجيزه ! ثم نظر إلى عبد الرحمن ، فقال : ما ترى؟ قال : شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك . فلما قفى الرجلان من عند عمر، قال أحدهما لصاحبه : ما درى عمر ما يقول حتى سأل الرجل ! فردهما عمر فقال : إن الله تعالى ذكره لم يرض بعمر وحده ، فقال : "يحكم به ذوا عدل منكم"، وأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف .
وقال آخرون : بل ينظر العدلان إلى الصيد المقتول ، فيقومانه قيمته دراهم ، ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هدياً. فالحاكمان يحكمان في قول هؤلاء، بالقيمة . وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمته في الموضع الذي أصابه فيه .
وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي فيما مضى قبل أنه كان يقول ما أصاب المحرم من شيء ، حكم فيه قيمته ، وهو قول جماعة من متفقهة الكوفيين .
وأما قوله : هدياً، فإنه مصدر على الحال من الهاء التي قي قوله . "يحكم به". وقوله : "بالغ الكعبة" من نعت الهدي وصفته . وإنما جاز أن ينعت به ، وهو مضاف إلى معرفة، لأنه في معنى النكرة . وذلك أن معنى قوله : "بالغ الكعبة"، يبلغ الكعبة . فهو وإن كان مضافاً فمعناه التنوين ، لأنه بمعنى الاستقبال . وهو نظير قوله : (هذا عارض ممطرنا) [الأحقاف :24]، فوصف بقوله : ممطرنا عارضاً ، لأن في ممطرنا معنى التنوين ، لأن تأويله الاستقبال ، فمعناه : هذا عارض يمطرنا . فكذلك ذلك في قوله : "هديا بالغ الكعبة".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : أو عليه كفارة طعام مساكين ، والكفارة معطوفة علىالجزاء في قوله : "فجزاء مثل ما قتل من النعم".
واختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأته عامة قرأة أهل المدينةأو كفارة طعام مساكين بالإضافة .
وأما قرأة أهل العراق ، فإن عامتهم قرأوا ذلك بتنوين الكفارة ورفع الطعام : "أو كفارة طعام مساكين".
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ بتنوين الكفارة ورفع الطعام ، للعلة التي ذكرناها في قوله : "فجزاء مثل ما قتل من النعم".
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : "أو كفارة طعام مساكين".
فقال بعضهم : معنى ذلك : أن القاتل وهو محرم صيداً عمداً، لا يخلو من وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى ذكره : من مثل المقتول هدياً بالغ الكعبة، أو طعام مساكين كفارة لما فعل ، أو عدل ذلك صياماً، إلا أنه مخير في أي ذلك شاء فعل ، وأنه بأيها كان كفر فقد أدى الواجب عليه . وإنما ذلك إعلام من الله تعالى ذكره عباده أن قاتل ذلك كما وصف ، لن يخرج حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادراً، أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم ، لا يجزيه غير ذلك ما دام للمثل واجداً. قالوا: فإن لم يكن له واجداً، أو لم يكن للمقتول مثل من النعم ، فكفارته حينئذ إطعام مساكين .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس : "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره"، قال : إذا قتل المحرم شيئاً من الصيد، حكم عليه فيه . فإن قتل ظبياً أو نحوه ، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين . فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . وإن قتل أيلاً أو نحوه فعليه بقرة. فإن لم يجدها أطعم عشرين مسكينا. فإن لم يجد، صام عشرين يوما. وإن قتل نعامةً أو حمار وحش أو نحوه ، فعليه بدنة من الإبل . فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يوما. والطعام مد مد، شبعهم .
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، إلى قوله : "يحكم به ذوا عدل منكم"، فالكفارة : من قتل ما دون الأرنب ، إطعام .
حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم . فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به . وإن لم يجد جزاءه ، قوم الجزاء دراهم ، ثم قومت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل صاع يوماً. قال : إنما أريد بالطعام الصوم ، فإذا وجد طعاماً وجد جزاء.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن زهير، عن جابر، عن عطاء ومجاهد وعامر: "أو عدل ذلك صياما" قال : إنما الطعام لمن لم يجد الهدي .
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول : إذا أصاب المحرم شيئاً من الصيد، عليه جزاؤه من النعم . فإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ، ثم قومت الدراهم طعاماً، ثم صام لكل نصف صاع يوماً.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال : إذا أصاب المحرم الصيد فحكم عليه ، فإن فضل منه ما لا يتم نصف صاع ، صام له يوماً. ولا يكون الصوم إلا على من لم يجد ثمن الهدي، فيحكم عليه الطعام. فإن لم يكن عنده طعام يتصدق به، حكم عليه الصوم، فصام مكان كل نصف صاع يوماً، "كفارة طعام مساكين"، قال: فيما لا يبلغ ثمن هدي . "أو عدل ذلك صياماً"، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هدياً، أو ما يتصدق به، مما لا يبلغ ثمن هدي، حكم عليه الصيام،
مكان كل نصف صاع يوماً.
حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد : "ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثله هدياً بالغ الكعبة. ومن لم يجد، ابتاع بقيمته طعاماً، فيطعم كل مسكين مدين. فإن لم يجد صام عن كل مدين يوماً.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ومن قتله منكم متعمداً" إلى قوله: "ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: إذا قتل صيداً، فعليه جزاؤه مثل ما قتل من النعم. فإن لم يجد، حكم عليه، ثم قوم الفداء، كم هو درهماً، ثم قدر ثمن ذلك بالطعام على المسكين فصام عن كل مسكين يوماً، ولا يحل طعام المسكين، لأن من وجد طعام المسكين فهو يجد الفداء.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قال لي الحسن بن مسلم: من أصاب الصيد فيما جزاؤه شاة، فذلك الذي قال الله تعالى ذكره: "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم" . وما كان من كفارة بإطعام مساكين، مثل العصفور يقتل ولا يبلغ أن يكون فيه هدي ، "أو عدل ذلك صياماً" قال: عدل النعامة أو العصفور، أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء فقال: كل شيء في القرآن "أو" "أو"، فلصاحبه أن يختار ما شاء.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله: "لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم"، فإن لم يجد جزاءً، قوم عليه الجزاء طعاماً، ثم صام لكل صاع يومين.
وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيداً وعمداً وهو محرم، الخيار بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي: الجزاء بمثله من النعم، والطعام والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله: " فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما "،
فعليه أن يجزي بمثله من النعم، أو يكفر بإطعام مساكين، أو بعدل الطعام من الصيام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء في قوول الله تعالى ذكره: "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما"، قال: إن أصاب إنسان محرم نعامة، فإن له - وإن كان ذا يسار - أن يهدي ما شاء، جزوراً، أو عدلها صياماً. قال: كل شيء في القرآن "أو" "أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء في قوله : "فجزاء مثل ما قتل من النعم " ، قال : ما كان في القرآن: أو كذا أو كذا، فصاحبه فيه بالخيار، أي ذلك شاء فعل .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أسباط وعبد الأعلى، عن داود عن عكرمة قال : ما كان في القرآن "أو" "أو"، فهو فيه الخيار. وما كان : "فمن لم يجد"، فالذي يليه ثم الذي يليه .
حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم ،أخبرنا ليث عن عطاء و مجاهد: أنهما قالا في قوله: "فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قالا: ما كان في القرآن أو كذا أو كذا فصاحبه فيه الخيار، أي ذلك شاء فعل.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر،عن الضحاك : ما كان في القرآن : أو كذا أو كذا، فصاحبه فيه بالخيار، أي ذلك شاء فعل.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حرةعن الحسن، قال وأخبرنا عبيدة ، عن إبراهيم قاللا: كل شيء في القرآن "أو" "أو"، فهو بالخيار، أي ذلك شاء فعل.
حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص ، عن ليث ، عن مجاهد، عن ابن عباس قال : كل شيء في القرآن "أو" "أو"، فصاحبه مخير فيه . وكل شيء : "فمن لم يجد"، فالأول ، ثم الذي يليه .
واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة، في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم ، إذا اختار الكفارة بأحدهما دون الهدي .
فقال بعضهم : إذا اختار التكفير بذلك ، فإن الواجب عليه أن يقوم المثل من النعم طعاماً، ثم يصوم مكان كل مد يوماً.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد قال ، أخبرنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء : ما "أو عدل ذلك صياما"؟ قال : إن أصاب ما عدله شاة، أقيمت الشاة طعاماً، ثم جعل مكان كل مد يوماً يصومه .
وقال آخرون : بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم ، أن يقوم الصيد المقتول طعاماً، ثم الصدقة بالطعام إن اختار الصدقة . وإن اختار الصوم صام .
ثم اختلفوا أيضاً في الصوم .
فقال بعضهم . يصوم لكل مد يوماً.
وقال آخرون : يصوم مكان كل نصف صاع يوماً.
وقال آخرون : يصوم مكان كل صاع يوماً.
ذكر من قال : المقوم للإطعام هو الصيد المقتول .
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة : "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد"، الآية، قال : كان قتادة يقول : يحكمان في النعم ، فإن كان ليس عنده ما يبلغ ذلك ، نظروا ثمنه فقوموه طعاما، ثم صام مكان كل صاع يومين .
وقال آخرون، لا معنى للتكفير بالإطعام ، لأن من وجد سبيلاً إلى التكفير بالإطعام ، فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلاً. ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلاً، لم يجزه التكفير بغيره . قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفارة بالإطعام في هذا الموضع، ليدل على صفة التكفير بالصوم ، لا أنه جعل التكفير بالإطعام إحدى الكفارات التي يكفر بها قتل الصيد. وقد ذكرنا تأويل ذلك فيما مضى قبل .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قول الله تعالى ذكره : "فجزاء مثل ما قتل من النعم"، أن يكون مراداً به : فعلى قاتله متعمداً مثل الذي قتل من النعم ، لا القيمة، إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم . وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم . والدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل، والله تعالى ذكره إنما أوجب الجزاء مثلا من النعم .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله : "أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما"، أن يكون تخييراً، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأي هذه الكفارات الثلاث شاء. لأن الله تعالى ذكره ، جعل ما أوجب في قتل الصيد كل من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله ، وتكفيرا لذنبه ، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حراماً عليه إتلافه في حال إحرإمه ، وقد كان حلالاً له قبل حال إحرامه ، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه ، وقد كان له حلالاً قبل حال إحرامه عقوبة لفعله ، وتكفيراً لذنبه ، في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه ، وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ، ثم منع من حلقه في حال إحرامه ، نظير الصيد. ثم جعل عليه إن حلقه جزاءً من حلقه إياه . فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من أذاته ، مخير في تكفيره فعله ذلك بأي الكفارات الثلاث شاء، فمثله فيما ناله قاتل الصيد من المحرمين، وأنه مخير في تكفيره قتله الصيد بأي الكفارات الثلاث شاء. لا فرق بين ذلك. ومن أبى ما قلنا فيه ، قيل له : حكم الله تعالى ذكره على قاتل الصيد بالمثل من النعم ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدله صياماً، كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك، فزعمت أن أحدهما مخير في تكفير ما جعل منه عوض بأي الثلاث شاء، وأنكرت أن يكون ذلك للآخر، فهل بينك وبين من عكس عليك الأمر في ذلك، فجعل الخيار فيه حيث أبيت ، وأبى حيث جعلته له ، فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الآخر مثله.
ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام.
فقال بعضهم : يقوم الصيد قيمة الموضع الذي أصابه فيه . وهو قول إبراهيم النخعي، وحماد وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد. وقد ذكرت الرواية عن إبراهيم وحماد فيما مضى بما يدل على ذلك، وهو نص قول أبي حنيفة وأصحابه.
وقال آخرون : بل يقوم ذلك بسعر الأرض التي يكفر فيها.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر، عن عامر قال في محرم أصاب صيداً بخراسان ، قال : يكفر بمكة أو بمنى . وقال : يقوم الطعام بسعر الأرض التي يكفر بها.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو يمان ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن الشعبي ، في رجل أصاب صيداً بخراسان ، قال : يحكم عليه بمكة .
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن قاتل الصيد إذا جزاه بمثله من النعم ، فإنما يجزيه بنظيره في خلقه وقدره في جسمه ، من أقرب الأشياء به شبهاً من الأنعام . فإن جزاه بالإطعام ، قومه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه ، لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام . ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه ، وإن شاء بمكة وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء، لأن الله تعالى ذكره ، إنما شرط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه ، فللجازي بغير الهدي أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال : ما كان من دم فبمكه . وما كان من صدقة أو صوم ، فحيث شاء.
وقد خالف ذلك مخالفون ، فقالوا : لا يجزىء الهدي والإطعام إلا بمكة . فأما الصوم ، فإن لم يكن كفر، فله أن يصومه حيث شاء من الأرض .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال : الدم والطعام بمكة، والصيام حيث شاء.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن مالك بن مغول ، عن عطاء قال : كفارة الحج بمكة.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء: أين يتصدق بالطعام إن بدا له ؟ قال : بمكة، من أجل أنه بمنزلة الهدي ، قال : "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة "، من أجل أنه أصابه في حرم -يريد البيت - فجزاؤه عند البيت .
فأما الهدي ، فإن من جزى به ما قتل من الصيد، فلن يجزئه من كفارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة كما قال تعالى ذكره ، وينحره أو يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم ، وعنى بالكعبة في هذا الموضع ، الحرم كله .
ولمن قدم بهديه الواجب من جزاء الصيد، أن ينحره في كل وقت شاء، قبل يوم النحر وبعده ، ويطعمه . وكذلك إن كفر بإطعام ، فله أن يكفر به متى أحب وحيث أحب . وإن كفر بالصوم فكذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، خلا ما ذكرنا من اختلافهم في التكفير بالإطعام على ما قد بينا فيما مض .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: "أو عدل ذلك صياما" هل لصيامه وقت ؟ قال : لا، إذا شاء وحيث شاء، وتعجيله أحب إلي .
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: رجل أصاب صيداً في الحج أو العمرة، فأرسل بجزائه إلى الحرم في المحرم أو غيره من الشهور، أيجزىء عنه ؟ قال : نعم . ثم قرأ: "هديا بالغ الكعبة" قال هناد: قال يحيى : وبه نأخذ.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج وابن أبي سليمان ، عن عطاء قال : إذا قدمت مكة بجزاء صيد فانحره ، فإن الله تعالى ذكره يقول : "هديا بالغ الكعبة"، إلا أن يقدم في العشر، فيؤخره إلى يوم النحر.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء قال : يتصدق الذي يصيب الصيد بمكة، فإن الله تعالى ذكره يقول: "هديا بالغ الكعبة".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك : أو على قاتل الصيد محرماً، عدل الصيد المقتول من الصيام . وذلك أن يقوم الصيد حياً غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم ، ثم يصوم مكان كل مد يوماً . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل المد من الطعام بصوم يوم في كفارة المواقع في شهر رمضان .
فإن قال قائل : فهلا جعلت مكان كل صاع في جزاء الصيد صوم يوم قياساً على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في نظيره ، وذلك حكمه على كعب بن عجرة إذ أمره أن يطعم إن كفر بالإطعام فرقاً من طعام ، وذلك ثلاثة آصع بين ستة مساكين -إن كفر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام ، فجعل الأيام الثلاثة في الصوم عدلاً من إطعام ثلاثة آصع ، فإن ذلك بالكفارة في جزاء الصيد، أشبه من الكفارة في قتل الصيد بكفارة المواقع امرأته في شهر رمضان ؟
قيل : إن القياس، إنما هو رد الفروع المختلف فيها، إلى نظائرها من الأصول المجمع عليها. ولا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزىء مكفراً كفر في قتل الصيد بالصوم ، أن يعدل صوم يوم بصاع طعام . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير جائز خلافها فيما حدثت به من الدين مجمعة عليه ، صح بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعام في قتل الصيد، مخالف حكم معادلته إياه في كفارة الحلق ، إذ كان غير جائز رد أصل س أصل قياسا. وإنما يجوز أن يقاس الفرع على الأصل .
وسواء قال قائل : هلا رددت حكم الصوم في كفارة قتل الصيد، على حكمه في حلق الأذى فيما .يعدل به من الطعام ؟، وآخر قال : هلا رددت حكم الصوم في الحلق على حكمه في كفارة قتل الصيد فيما يعدل به من الطعام ، فتوجب عليه مكان كل مد أو مكان كل نصف صاع صوم يوم ؟
وقد بينا فيما مضى قبل أن العدل في كلام العرب بالفتح ، هو قدر الشيء من غير جنسه ، وأن العدل ، هو قدره من جنسه .
وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : العدل مصدر من قول القائل : عدلت هذا بهذا عدلاً حسناً . قال : والعدل أيضاً بالفتح ، المثل . ولكنهم فرقوا بين العدل في هذا وبين عدل المتاع، بان كسروا العين من عدل المتاع، وفتحوها من قول الله تعالى : "ولا يقبل منها عدل" [البقرة : 23] ، وقول الله عز وجل : "أو عدل ذلك صياما" كما قالوا : امرأة رزان وحجر رزين.
وقال بعضهم : العدل هو القسط في الحق ، والعدل بالكسر، المثل وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى .
وأما نصب الصيام فإنه على التفسير، كما يقال : عندي ملء زق سمناً، وقدر رطل عسلاً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما "عدل ذلك صياما"؟ قال: عدل الطعام من الصيام. قال: لكل مد يوماً، يأخذ زعم بصيام رمضان وبالظهار. وزعم أن ذلك رأي يراه ، ولم يسمعه من أحد، ولم تمض به سنة . قال : ثم عاودته بعد ذلك بحين، قلت: ما "عدل ذلك صياما"؟ قال: إن أصاب ما عدله شاة، قومت طعاماً، ثم صام مكان كل مد يوماً. قال: ولم أسأله : هذا رأي أو سنة مسنونة؟
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل: "أو عدل ذلك صياما"، قال: يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد : "أو عدل ذلك صياما"، من الجزاء إذا لم يجد ما يشتري به هدياً، أو ما يتصدق به مما لا يبلغ ثمن هدي ، حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يوماً.
حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس : "أو عدل ذلك صياما"، قال : إذا قتل المحرم شيئاً من الصيد، حكم عليه فيه . فإن قتل ظبياً أو نحوه ، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فاطعام ستة مساكين . فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . وإن قتل أيلاً أو نحوه ، فعليه بقرة . فإن لم يجدها أطعم عشرين مسكيناً. فإن لم يجد، صام عشرين يوماً. وإن قتل نعامةً أو حمار وحش أو نحوه ، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكيناً. فإن لم يجد، صام ثلاثين يوماً. والطعام : مد مد، شبعهم.
حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد: وسألته عن المحرم يصيب الصيد، فيكون عليه الفدية، شاة أو البقرة أو البدنة، فلا يجد، فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة؟ قال: ثمن ذلك، فإن لم يجد ثمنه، قوم ثمنه طعاماً يتصدق به لكل مسكين مد، ثم يصوم بكل مد يوماً.
القول في تأويل قوله: " ليذوق وبال أمره".
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أوجبت على قاتل الصيد محرماً ما أوجبت من الجزإء والكفارة الذي ذكرت في هذه الآية، كي يذوق وبال أمره وعذابه.
يعني ب أمره ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عز وجل عن قتله في حال إحرامه.
يقول : فألزمته الكفارة التي ألزمته إياها، لأذيقه عقوبة ذنبه ، بإلزامه الغرامة والعمل ببدنه مما يتعبه ويشق عليه.
وأصل الوبال ، الشدة في المكروه ، ومنه قول الله عز وجل : " فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا " [ا لمزمل : 16].
وقد بين تعالى ذكره بقوله : "ليذوق وبال أمره"، أن الكفارات اللازمة الأموال والأبدان، عقوبات منه لخلقه، وإن كانت تمحيصاً لهم، وكفارة لذنوبهم التي كفروها بها.
وبنحو الذي قلنا قي ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: أما "وبال أمره"، فعقوبة أمره.
القول في تأويل قوله: " عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه".
قال أبو جعفر: يقول جل من قائل لعباده المؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: عفا الله، أيها المؤمنون، عما سلف منكم في جاهليتكم، من إصابتكم الصيد وأنتم حرم، وقتلكموه، فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم، ولا يلزمكم له كفارةً في مال ولا نفس. ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم، بعد تحريمه بالمعنى الذي كان يقتله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتله، فينتقم الله منه.
وقد يحتمل أن يكون معناه: من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام، فينتقم الله منه في الآخرة. فأما في الدنيا، فإن عليه من الجزاء والكفارة فيها ما بينت.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء : ما "عفا الله عما سلف"؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال قلت : ما "ومن عاد فينتقم الله منه"؟ قال: من عاد في الإسلام، فينتقم الله منه. وعليه مع ذلك الكفارة.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء، فذكر نحوه، وفي زاد فيه، وقال: وإن عاد فقتل، عليه الكفارة. قلت: هل في العود من حد يعلم؟ قال: لا، قلت: فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه؟ قال: هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، ولكن يفتدي.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج ، عن عطاء: "ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: في الإسلام، وعليه مع ذلك الكفارة. قلت: عليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء: "عفا الله عما سلف"، عما كان في الجاهلية، "ومن عاد"، قال : في الإسلام ، "فينتقم الله منه"، وعليه الكفارة. قال قلت ل"عطاء": فعليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن "عطاء" قال: يحكم عليه في الخطأ والعمد والنسيان ، وكلما أصاب، قال الله عز وجل: "عفا الله عما سلف"، قال : ما كان في الجاهلية، "ومن عاد فينتقم الله منه"، مع الكفارة. قال سفيان ، قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان؟ قال: لا.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: "عفا الله عما سلف"؟ قال : عما كان في الجاهلية.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عطاء بن أبي رباح أنه قال : يحكم عليه كلما عاد.
حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال : كلما أصاب المحرم الصيد ناسيا حكم عليه.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور، عن إبراهيم قال : كلما أصاب الصيد المحرم حكم عليه .
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء قال: من قتل الصيد ثم عاد، حكم عليه.
حدثنا عمرو قال ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال : يحكم عليه ، أفيخلع! أفيترك!.
حدثنا عمرو قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير: الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود؟ قال: يحكم عليه.
حدثنا عمرو قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا الفرات بن سلمان، عن عبد الكريم ، عن عطاء قال : يحكم عليه كلما عاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، بإلزامه الكفارة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن زهير، عن سعيد بن جبير وعطاء في قول الله تعالى ذكره: "ومن عاد فينتقم الله منه"، قالا: ينتقم الله، يعني الجزاء، "عفا الله عما سلف"، في ا لجا هلية.
وقال آخرون في ذلك: عفا الله عما سلف من قتل من قتل منكم الصيد حراماً في أول مرة. ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حراماً، فالله ولي الانتقام منه، دون كفارة تلزمه لقتله إياه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم، حكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله عز وجل. حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه. فإن عاد، لم يحكم عليه، وكان ذلك إلى الله عز وجل: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. ثم قرأ هذه الآية: "ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام".
حدثنا هناد قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا داود، عن عامر قال: جاء رجل إلى شريح فقال: إني أصبت صيداً وأنا محرم! فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئا؟ قال: لا. قال: لو قلت نعم، وكلتك إلى الله يكون هو ينتقم منك، إنه عزيز ذو انتقام! قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: بل يحكم عليه، أفيخلع!.
حدثني أبو السائب وعمرو بن علي قالا، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: إذا أصاب الرجل الصيد وهو محرم قيل له: أصبت صيدا قبل هذا؟ فإن قال: نعم، قيل له: اذهب فينتقم الله منك! وإن قال: لا، حكم عليه.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم ، في الذي يقتل الصيد ثم يعود، قال: كانوا يقولون: من عاد لا يحكم عليه، أمره إلى الله عز وجل.
حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن رجلاً أتى شريحاً فقال: أصبت صيداً، قال: أصبت قبله صيداً؟ قال: لا. قال: أما إنك لو قلت نعم، لم أحكم عليك.
حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا داود، عن الشعبى، عن شريح، مثله.
حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن الأشعث، عن محمد، عن شريح، في الذي يصيب الصيد قال: يحكم عليه، فإن عاد انتقم الله منه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير: "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم"، قال: يحكم عليه في العمد مرة واحدة، فإن عاد لم يحكم عليه، وقيل له: اذهب ينتقم الله منك، ويحكم عليه في الخطأ أبداً.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير قال: رخص في قتل الصيد مرة، فمن عاد لم يدعه الله تعالى ذكره حتى ينتقم منه.
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، جميعا عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، فيمن أصاب صيداً فحكم عليه، ثم عاد، قال: لا يحكم، ينتقم الله منه.
حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنما قال الله عز وجل: "ومن قتله منكم متعمدا"، يقول : متعمداً لقتله، ناسيا لإحرامه، فذلك الذي يحكم عليه. فإن عاد لا يحكم عليه، وقيل له: ينتقم الله منك.
حدثنا عمرو قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا الفرات بن سلمان، عن عبد الكريم، عن مجاهد: إن عاد لم يحكم عليه، وقيل له: ينتقم الله منك.
حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا الأشعث ، عن الحسن، في الذي يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود، قال: لايحكم عليه.
وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذكره ذلك عليكم. ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه، عالماً بتحريمه ذلك عليه، عامداً لقتله، ذاكراً لإحرامه، فإن الله هو المنتقم منه، ولا كفارة لذنبه ذلك، ولا جزاء يلزمه له في الدنيا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: من عاد بعد نهي الله -بعد أن يعرف أنه محرم، وأنه ذاكر لحرمه - لم ينبغ لأحد أن يحكم عليه، ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل. فأما الذي يتعمد قتل الصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أن قتله حرم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمداً بعد نهي الله، وهو يعرف أنه محرم، وأنه حرام، فذلك يوكل إلى نقمة الله، فذلك الذي جعل الله عليه النقمة.
وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وقال آخرون: غني بذلك شخص بعينه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، حدثنا زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم، فتجوز له عنه. ثم عاد، فارسل الله عليه ناراً فاحرقته، فذلك قوله: "ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: في الإسلام.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال: معناه: ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى ذكره عنه، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة، لأن الله عز وجل إذ أخبر أنه ينتقم منه، لم يخبرنا، وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمداً ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله: "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة، بل أعلم عباده ما أوجب من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمداً، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد، ولم يقل: ولا كفارة عليه في الدنيا.
فإن ظن ظان أن الكفارة مزيلة العقاب، ولو كانت الكفارة لازمة له في الدنيا، لبطل العقاب في الآخرة، فقد ظن خطأ. وذلك أن لله عز وجل أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء وأحب، فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقص من بعض، وينقص من بعض مما يزيل في بعض، كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزاني البكر والزاني الثيب المحصن، وبين سارق ربع دينار وبين سارق أقل من ذلك. فكذلك خالف بين عقوبته قاتل الصيد من المحرمين عمداً ابتداءً، وبين عقوبته عوداً بعد بدء. فأوجب على البادىء المثل من النعم، أو الكفارة بالإطعام أو العدل من الصيام، وجعل ذلك عقوبة جرمه بقوله: "ليذوق وبال أمره"، وجعل على العائد بعد البدء، وزاده من عقوبته ما أخبر عباده أنه فاعل به من الانتقام، تغليظاً منه عز وجل للعود يعد البدء. ولو كانت عقوباته على الأشياء متفقة، لوجب أن لا يكون حد في شيء، مخالفاً حداً في غيره، ولا عقاب في الآخره، أغلظ من عقاب. وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان.
وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الإسلام بعد نهي الله عن قتله، لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم، فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم، وذلك قتله على استحلال قتله. قال : فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه، وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال، فعليه الجزاء والكفارة كلما عاد.
وهذا قول لا نعلم قائلاً قاله من أهل التأويل. وكفى خطأ بقوله، خروجه عن أقوال أهل العلم، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبىء عن فساده؟ وذلك أن الله عز وجل عم بقوله: "ومن عاد فينتقم الله منه"، كل عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أول الآية، ولم يخص به عائداً منهم دون عائد. فمن ادعى في التنزيل ما ليس في ظاهره، كلف البرهان على دعواه من الوجه الذي يجب التسليم له.
وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمداً بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه، فينتقم الله منه، كان معنى قوله: "عفا الله عما سلف"، إنما هو: عفا الله عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءاً، فإن في قول الله تعالى ذكره: "ليذوق وبال أمره"، دليلا واضحا على أن القول في ذلك غير ما قال، لأن العفو عن الجرم: ترك المؤاخذة به. ومن أذيق وبال جرمه، فقد عوقب به. وغير جائز أن يقال لمن عوقب: قد عفي عنه. وخبر الله عز وجل أصدق من أن يقع فيه تناقض.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أول مرة، قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة، وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عز وجل أن يعاقبه به؟.
قيل له: فإن كان ذلك جائزاً أن يكون تأويل الآية عندك -وإن كان مخالفاً لقول أهل التأويل - فما تنكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله تعالى ذكره على العود بعد البدء هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة، مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره، فيذيقه في عوده بعد البدء وبال أمره الذي أذاقه المرة الأولى، ويترك عفوه عما عفا عنه في البدء، فيؤاخذه به؟ فلن يقول في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. القول في تأويل قوله : "والله عزيز ذو انتقام".
قال أبو جعفر: يقول عز وجل: والله منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته، مانع. لأن الخلق خلقه والأمر أمره، له العزة والمنعة. وأما قوله: "ذو انتقام" فإنه يعني به معاقبته لمن عصاه على معصيته إياه.
فيه ثلاثون مسألة:
الأولى - قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا " هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر أو أنثى وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد " الآية وروي أن أبا اليسر - واسمه عمرو بن مالك الأنصاري - كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " .
الثانية - قوله تعالى : " لا تقتلوا الصيد " القتل : هو كل فعل يفيت الروح وهو أنواع: منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مفيتاً للروح .
الثالثة -من قتل صيداً أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: عليه جزاء ما أكل، يعني قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شيء عليه سوى الاستغفار لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى، ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه، لأن قتله كان من محظورات الإحرام، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود - محظور إحرامه - موجباً عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى
الرابعة -لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد ، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد ذكاة وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم مضاف إلى محله وهو الأنعام، فأفاد مقصوده من حل الإكل، أصله ذبح الحلال قلنا: قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد إذ الأهلية لا تستفاد عقلاً وإنما يفيدها الشرع وذلك بإذنه في الذبح أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح، والمحرم منهي عن ذبح الصيد لقوله : " لا تقتلوا الصيد " فقد انتفت الأهلية بالنهي وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله وإنما يأكل منه غيره عندكم فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله .
الخامسة -قوله تعالى : " الصيد" مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " فأباح صيد البحر إباحة مطلقة ، على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذه إن شاء الله تعالى .
السادسة- اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه فقال مالك: كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم وإن قتله فداه قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها وهي مثل فراخ الغربان، ولا بأس بقتل كل ما عده على الناس في الأغلب مثل الأسد والذئب والنمر والفهد: وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة قال إسماعيل: إنما ذلك "لقوله عليه السلام:
خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم " الحديث فساهن فساقاً ووصفهن بأفعالهن لأن الفاسق فاعل للفسق والصغار لا فعل لهن ، ووصف الكب بالعقور وأولاده لا تعقر فلا تدخل في هذا النعت قال القاضي إسماعيل: الكلب العقور مما يعظم ضرر على الناس قال: ومن ذلك الحية والعرب لأنه يخاف منهما، وكذلك الحدأة والغراب لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس قال ابن بكير: إنما أذن في قتل العقرب لأنها ذات حمة وفي الفأرة لقرضها السقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر، وفي الغراب لوقوعه على الظهر ونقبه عن لحومها وقد ري عن مالك انه قال: لا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا قال القاضي إسماعيل: اختلف في الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب وقال: ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي قال : فإذا عرض الزنبور لأحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء في قتله وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور وقال مالك: يطعم قاتله شيئاً وكذلك قال مالك فيمن تقل البرغوث والذباب والنمل ونحوه، وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قتال هذه كلها وقال أبو حنيفة: لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة سواء ابتداءآة أو ابتدأهما وإن قتل غيره من السباع فداه قال: فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه قال: ولا شيء عليه في قتل الحية والغراب والحدأة هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر، وبه قال الأوزاعي والثوري والحسن واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها .
قلت: العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله وقال زفر بن الهذيل: لا يقتل إلا الذئب وحده، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية سوءا ابتدأه أو لم يبتدئه لأنه عجماء فكان فعله هدراً وهذا رد للحديث ومخالفة له وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله، وصغار ذلك وكباره سواء إلا السمع وهو المتولد بين الذئب والضبع قال: وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما" فدل أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالاً حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع، فإن قيل: فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل؟ قيل له : ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه، لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته فكأنه أماط بعض شعره فأم إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي قاله أبو عمر .
السابعة - روى الأئمة "عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة الكلب والعقور " اللفظ للبخاري، وبه قال أحمد وإسحاق، وفي كتاب مسلم "عن عائشة عن النبي صلى الله عله وسلم أنه قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا " به قالت طائفة من أهل العلم قالوا: لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة ، لأنه تقييد مطلق وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري "عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ويرمي الغراب ولا يقتله " وبه قال مجاهد وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر والله أعلم وعند أبي داود والترمذي: والسبع العادي وهذا تنبيه على العلة :
الثامنة - قوله تعالى:" وأنتم حرم " عام في النوعين من الرجال والنساء الأحرار العبيد يقال: رجل حرام وامرأة حرام وجمع ذلك حرم كقولهم: قذال وقذل وأحرم الرجل دخل في الحرم كما يقال: أسهل دخل في السهل. وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالإشتراك لا بالعموم يقال: رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحرم أو في الحرم أو تلبس إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبراً وبقي تحريم المكان حالة الإحرام على أصل التكليف قاله ابن العربي.
التاسعة - حرم المكان حرمان، حرم المدينة وحرم مكة - وزاد الشافعي الطائف فلا يجوز عند قطع عنده قطع شجرة ولا صيد صيده ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه -فأما حرم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما وقال ابن أبي ذئب : عليه الجزاء وقال سعد : جزاؤه أخذ سلبه وروى عن الشافعي وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرم وكذلك قطع شجرها واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه " وأخذ سعد سلب من فعل ذلك. قال : وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدنية فدل ذلك على أنه منسوخ واحتج لهم الطحاوي أيضاً بحديث أنس:
ما فعل النغير فلم ينكر صيده وإمساكه وهذا كله لا حجة فيه أما الحديث الأول فليس بالقوي ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم وكذلك حديث عائشة :
أنه كان لرسول الله وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحسن برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض فلم يترمرم كاهية أن يؤذيه ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب "أن أبا هريرة قال:
لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما دغرتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين لا بيتها حرام "فقول أبي هريرة ما دغرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس وهو طائر من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة، دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد ومتعلق ابن أبي ذئب "قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح:
اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها لا ينفر صيدها"، ولأنه حرم منع الاصطياد فيه فتلعق الجزاء به كحرم مكة قال القاضي عبد الوهاب: وهذا قول أقيس عندي على أصولنا، لا سيما أن المدينة عنه أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ومن حجة مالك والشافعي في إلا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب في المشهور من قول الشافعي - عموم "قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح :
المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعيه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلاً" فأرسل الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به لما روى عنه في الصحيح : أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً -أو يخبطه - فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال : معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم فقوله: نفلنيه ظاهرة الخصوص والله أعلم .
العاشرة - قوله تعالى :" ومن قتله منكم متعمدا " ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام والمخطئ هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال : الأول - ما أسنده الدراقطني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا الثاني - أن قوله متعمداً خرج على الغالب فألحق به النادر كأصول الشريعة الثالث - أنه لا شيء على المخطئ والناسي وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه وروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير وبه قال طاوس وأبو ثور وهو قول داود، وتعلق أحمد بأن قال: لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر دل على أن غيره بخلافه وزاد بأن قال : الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل الرابع - أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان قاله ابن عباس وروى عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم قال الزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن وفي الخطأ والنسيان بالسنة، قال ابن العربي : إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي وما أحسنها أسوة الخامس- أن يقتله متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه - وهو قول مجاهد - لقوله تعالى بعد ذلك : " ومن عاد فينتقم الله منه " قال: ولو كان ذكراً لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة قال : فدل على أنه أراد متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه قال مجاهد: فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها قال: ومن خطأ فذلك الذي يجزئه ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد ولا فرق بين أن يكون ذاكراً للإحرام أو ناسياً له ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمداً ويستغفر الله وحجه تام وبه قال ابن زيد ودلينا على داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال:
هي صيد" وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشاً ولم يقل عمداً ولا خطأ وقال ابن بكير من علمائنا : قوله سبحانه : متعمداً لم يرد به التجاوز عن الخطأ وإنما أراد متعمداً ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمداً كفارة وأن الصيد فيه كفارة ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ والله أعلم .
الحادية عشرة- فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكن عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، لقول الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرماً فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له وروي عن ابن عباس قال: لا يحكم عليه مرتين في الإسلام ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له : ينتقم الله منك، لقوله تعالى :" ومن عاد فينتقم الله منه " وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الإحرام ، وتوجه الخطاب عليه في دين الإسلام .
الثانية عشرة - قوله تعالى : " فجزاء مثل ما قتل من النعم " فيه أربع قراءات فجزاء مثل برفع جزاء وتنوينه ومثل على الصفة والخبر مضمر التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه و جزاء بالرفع غير منون ومثل بالإضافة أي فعليه جزاء مثل ما قتل و مثل مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك ونظير هذا قوله تعالى :" أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات "[ الأنعام: 122] التقدير كمن هو في الظلمات وقوله : " ليس كمثله شيء" [ الشورى: 11] أي ليس كهو شيء وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه وقال أبو علي: إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول وهو قول الشافعي على ما يأتي وقوله : من النعم صفة لجزاء على القراءتين جميعاً وقرأ الحسن من النعم بإسكان العين وهي لغة وقرأ عبد الرحمن فجزاء بالرفع والتنوين مثل بالنصب قال أبو الفتح مثل منصوبة بنفس الجزاء والمعنى أن يجزئ مثل ما قتل وقرأ ابن مسعود والأعمش فجزاؤه مثل بإظهار هاء ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصيد القاتل .
الثالثة عشرة- الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى وفي المدونة من اصطاد طائراً فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار قال: لا جزاء عليه قال وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئاً من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه وقيل: عليه من الجزء بقدر ما نقصه ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه ولو زمن الصيد ولم يلحق بالصيد أو تركه مخوفاً عليه فعليه
الرابعة عشرة - ما يجزي من الصيد شيئاً دواب وطير فجزئ ما كان من الدواب بنظيرة في الخلقة والصورة ففي النعامة بدنة وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة وفي الظبي شاة به قال الشافعي وأقل ما يجزى عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة، فإن في الحمامة منه شاة اتباعاً لسلف في ذلك والدبسي والفواخت والقمري وذوات الأطواق كله حمام، وحكي ابن عبد الحكم عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة قال : وكذلك حمام الحرم قال : وفي حمام الحل حكومة وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله، فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من شعير من تمر وأما الشافعي فإنه يرى المثل في النعم ثم يقوم المثل كما في المتلفات يقوم المثل، وتؤخذ قيم المثل كقيمة الشيء فإن المثل هو الأصل في الوجوب، وهذا بين وعليه تخرج قراءة الإضافة فجزاء مثل احتج أبو حنيفة فقال: لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبراً في النعامة بدنة وفي الحمار بقرة وفي الظبي شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه ويضطرب وجه النظر عليه ودليلنا عليه قول الله تعالى :" فجزاء مثل ما قتل من النعم " الآية فالمثل يقتضي بالظاهر المثل الخلقي الصوري دون المعنى ثم قال : " من النعم " فبين جنس المثل، ثم قال: "يحكم به ذوا عدل منكم " وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم لأنه لم يتقدم ذكره لسواه يرجع الضمير عليه ثم قال: " هديا بالغ الكعبة " والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا ولا جرى لها ذكر في نفس الآية فصح ما ذكرناه، والحمد لله وقولهم لو كان الشبة معتبراً لما أوقفه على عدلين، فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص .
الخامس عشرة - من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كبارة وهو قول عطاء ولا يفدى عند مالك شيء بعناق ولا جفرة قال مالك وذلك مثل الدية الصغير والكبير فيها سواء وفي الضب عنده واليربوع قيمتهما طعاماً ومن أهل المدنية من يخالفه في صغار الصيد وفي اعتبار الجذع والثني ويقول بقول عمر: في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة رواه مالك موقوفاً وروى أبو الزبير "عن جابر عن النبي صلى الله لعيه وسلم قال :
في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة "قال: والجفرة التي قد ارتعت وفي طريق آخر قلت لأبي الزبير: وما الجفرة؟ قال : التي قد فطمت ورعت خرجه الدارقطني وقال الشافعي: في النعامة بدنة وفي خرفها فصيل وفي حمار الوحش بقرة، وفي سخله عجل لأن الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات قال ابن العربي: وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا: قالوا: ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيراً لكان المثل على صفته لتتحقق المثلية فلا يلزم المتلف فوق ما أتلف ودليلنا قوله تعالى :" فجزاء مثل ما قتل من النعم " ولم يفصل بين صغير وكبير وقوله : هديا يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحق الطلاق وذك يقتضي الهدي التام والله أعلم .
السادسة عشرة- في بيض النعاة عر ثمن البدنة عند مالك. وفي بيض الحمامة المكية عنده عشر ثمن الشاة قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر فإن استهل فعليه الجزاء كاملاً كجزاء الكبير من ذلك الطير قال ابن المواز: بحكومة عدلين وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه" خرجه الدارقطني وروى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين "
السابعة عشرة - وأما لا مثل له كالعصافير والفيلة فقيمة لحمة أو عدله من الطعام دون ما يراد له من الأغراض لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله فإن عدم المثل فالقية قائمة مقامه كالغصب وغيره ولأن الناس قائلان- أي على مذهبين - معتبر للقيمة في جميع الصيد ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له وأما الفيل فقيل: فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان وهي بض خراسانية فإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاماً فيكون عليه ذلك والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء ثم يخرج الفيل ويعجل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه وهذا عدله من الطعام وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر.
الثامنة عشرة - قوله تعالى :" يحكم به ذوا عدل منكم " روى مالك عن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيا ونحن مرحمان فماذا ترى ؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه : تعال حتى أحكم أنا وأنت فحكما علي بعنز فلوى الرجل وهو يقول: هذا أمر المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلاً يحكم معه فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله هل تقرأ سورة المائدة فقال: لا قال : هل تعرف الرجل الذي حكم معي ؟ فقال: لا .فقال :عمر رضي الله عنه : لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً ثم قال: سبحانه يقول في كتابه " يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة" وهذا عبد الرحمن بن عوف .
التاسعة عشرة- إذا اتفق الحكمان لزم الحكم ، وبه قال الحسن والشافعي وإن اختلفا نظر في غيرهما وقال محمد بن المواز: لا يأخذ بأرفع من قوليهما ، لأنه عمل بغير تحكيم وكذلك لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام لأنه أمر قد لزم قال ابن شعبان وقال ابن القاسم : إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز وقال ابن وهب رحمه الله في العتيبة : من السنة أن يخير الحكمان من أصاب اليد كما خيره الله في أن يخرج " هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما" فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيراً لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوماً وكذلك قال مالك في المدونة .
الموفية عشرين - ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسناً وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة لا بد فيه من الحكومة ويجتزأ في هذه الأربعة بحكومة من مضى من السلف رضي لله عنهم .
الحادية والعشرون - لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه : يكون الجاني أحد الحكمين وهذا تسامح منه فإن ظاهر حكم المرء لنفسه لا يجوز ولو كان ذلك جائزاً لاستغنى بنفسه عن غيره لأنه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين .
الثانية والعشرون - إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة على كل واحد جزاء كامل، وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبد الرحمن رواه الدارقطني
أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها فوقع في أنفسهم فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال: عليكم كلكم، كبش قالوا: أو على كل واحد منا كبش قال : إنكم لمعزز بكم، عليكم كلكم كبش قال اللغويون: لمعزز بكمن أي لمشدد عليكم وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعاً قال : عليهم كبش يتخارجونه بينهم ودليلنا قول سبحانه " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " وهذا خطاب لكل قاتل وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفساً على التمام والكمال بدليل قتل الجماعة بالواحد ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص وقد قلنا بوجوبه إجماعاً فثبت ما قلناه.
الثالثة والعشرون- قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيداً في الحرم وكلهم محلون عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم فإن ذلك لا يختلف وقال مالك : على كل واحد منهم جزاء كامل بناء على أن الرجل يكون محرماً بدخوله الحرم كما يكون محرماً بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي فهو هاتك لها في الحالتين وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال: السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه وإذا قتل المحلون صيداً في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة، قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا وهذا دليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا .
الرابعة والعشرون - قوله تعالى :" هديا بالغ الكعبة " المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد ويرسل من الحل إلى مكة وينحر ويتصدق به فيها لقوله : " هديا بالغ الكعبة " ولم يرد الكعبة بعينه فإن الهدي لا يبلغها إذ هي في لمسجد وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحل بناء على أن الصغر من الهدي يجب في الصغر من الصيد،فإنه يبتاع في الحرم ويهدى فيه .
الخامسة والعشرون - قوله تعالى :" أو كفارة طعام مساكين " الكفرة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي قال ابن وهب: قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أنه يقوم الصيد الذي أصاب فينظر كم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مداً أو يصوم مكان كل مد يوماً وقال ابن القاسم عنه : إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاماً أجزأه والصواب الأول وقال عبد الله بن عبد الحكم مثله قال عنه : وهو في هذه الثلاثة بالخيار أي ذلك فعل أجزأه موسراً كان أو معسراً وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء لأن أو للتخيير قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك أي ذلك أحب أن يفعل فعل وروي عن ابن عباس أنه قال : إذا قتل المحرم ظبياً أو نحوه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد صيام ثلاثة أيام وإن قتل إيلا أو نحوه فعليه بقرة فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً فإن لم يجد صيام عشرين يوماً وإن قتل نعامة أو حماراً فعليه بدنة فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكيناً فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوماً والطعام مد مد لشبعهم وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن سلمة، قالوا: والمعنى " أو كفارة طعام" إن لم يجد الهدي وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدق به وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه بدراهم ثم قومت الدراهم حنظة ثم صام مكان كل نصف صاع يوماً وقال: إنما أريد بالطعام تبيين أمر الصيام فمن لم يجد طعاماً فإنه يجد جزاءه وأسنده أيضاً عن السدي ويعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره.
السادسة والعشرون- اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلف فقال قوم: يوم الإتلاف وقال آخرون: يوم القضاء وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم قال ابن العربي: واختلف علماؤنا كاختلافهم والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف والدليل على ذلك أن الوجود كان حقاً للمتلف عليه فإن أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله وذلك في وقت العدم .
السابعة والعشرون- أما الهدي فال خلاف أنه لا بد له من مكة لقوله تعالى : " هديا بالغ الكعبة " وأما لإطعام اختف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي وقال عطاء: ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء وهو قول مالك في الصوم ولا خلاف فيه قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام، وقال حماد وأبو حنيفة: يكف بموضع الإصابة مطلقا وقال الطبري: يكفر حيث شاء مطلقاً فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر ولا أثر فيه، وأما من قال يصوم حيث شاء فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة فلأنه بدل عن الهدي أو نظير له والهدي حق لمساكين مكة فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره. وأما من قال إنه يكون بكل موضع فاعتبار بكل طعام وفدية فإنها تجوز بكل موضع والله أعلم
الثامنة والعشرون - قوله تعالى :" أو عدل ذلك صياما " العدل والعدل بفتح اليعن وكسرها لغتان وهما المثل قاله الكسائي وقال الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه وبفتح العين مثله من غير جنسه، ويؤثر هذا القول عن الكسائي تقول: عندي عدل دراهمك من الدراهم وعندي عدل دراهمك من الثياب والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان وهو قول البصريين ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من الهدد قال مالك: يصوم عن كل مد يوماً وإن زاد على شهرين أو ثلاثة، وبه قال الشافعي وقال يحيى بن عمر من أصحابنا : إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد فإن شاء أخرج ذلك الطعام وإن شاء صام عدد أمداده وهذا حسن احتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الإطعام ومن أهل العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين قالوا: لأنها أعلى الكفارات واختاره ابن العربي: وقال أبو حنيفة رحمه الله يصوم عن كل مدين يوماً اعتبار بفدية الأذى
التاسعة والعشرون - قوله تعالى :" ليذوق وبال أمره " الذوق هنا مستعار كقوله تعالى : " ذق إنك أنت العزيز الكريم " [ الدخان : 49] وقال " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " [ النحل : 112] وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان وهي في هذا كله مستعارة ومنه الحديث .
"ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا " الحديث والوبال سوء العاقبة والمعرى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله وطعام وبيل إذا كان ثقيلاً ومنه قوله .
عقلية شيخ كالوبيل يلندد
وعبر بأمره عن جميع حاله .
الموفية ثلاثين -قوله تعالى :" عفا الله عما سلف " يعني في جاهليتكم م تقلكم الصيد قاله عطاء بن أبي رباح وجماعة معه وقيل: قبل نزول الكفارة " ومن عاد " يعنى للمنهى " فينتقم الله منه " أي بالكفارة وقيل المعنى " فينتقم الله منه " يعني في الآخرة إن كان مستحلاً ويكفر في ظاهر الحكم وقال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة فإذا عاد لم يحكم عليه وقيل له: اذهب ينتقم الله منك، أي ذنبك أعظم من أن يكفر كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهل العلم لعظم إثمها والمتورعون يتقون النقمة بالتفكير وقد روي عن ابن عباس : يملأ ظهره سوطاً حتى يموت وروي عن زيد بن أبي المعلى : أن رجلاً أصاب صيداً وهو محرم فتجوز عنه ثم عاد فأنزل الله عز وجل ناراً من السماء فأحرقته وهذه عبرة للأمة وكف للمعتدين عن المعصية .
قوله سبحانه : " والله عزيز ذو انتقام " عزيز أي منيع ف ملكه ولا يمتنع عليه ما يريده ذو انتقام ممن عصاه إن شاء .
قال الوالبي عن ابن عباس قوله "ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم" قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره, يبتلي الله به عباده في إحرامهم, حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم, فنهاهم الله أن يقربوه. وقال مجاهد "تناله أيديكم" يعني صغار الصيد وفراخه, "ورماحكم" يعني كباره. وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الاية في عمرة الحديبية, فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم, لم يروا مثله قط فيما خلا, فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون "ليعلم الله من يخافه بالغيب" يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد, يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً, لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره, كما قال تعالى: "إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير" وقوله ههنا "فمن اعتدى بعد ذلك" قال السدي وغيره: يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم, "فله عذاب أليم" أي لمخالفته أمر الله وشرعه .
ثم قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم" وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام, ونهي عن تعاطيه فيه, وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره, فأما غير المأكول من حيوانات البر, فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها, والجمهور على تحريم قتلها أيضاً , ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري عن عروة, عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب, والحدأة, والعقرب, والفأرة, والكلب العقور". وقال مالك, عن نافع, عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب, والحدأة, والعقرب, والفأرة, والكلب العقور" أخرجاه, ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله. قال أيوب: فقلت لنافع: فالحية ؟ قال الحية لا شك فيها. ولا يختلف في قتلها. ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد, لأنها أشد ضرراً منه, فالله أعلم .
وقال زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة: الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها, واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال "اللهم سلط عليه كلبك بالشام" فأكله السبع بالزرقاء, قالوا: فإن قتل ما عداهن فداه, كالضبع والثعلب وهر البر ونحو ذلك, قال مالك: وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها, وصغار الملحق بها من السباع العوادي. وقال الشافعي: يجوز للمحرم قتل كل مالا يؤكل لحمه, ولا فرق بين صغاره وكباره, وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل. وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذئب, لأنه كلب بري, فإن قتل غيرهما فداه إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه وهذا قول الأوزاعي والحسن بن صالح بن حيي. وقال زفر بن الهذيل: يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه .
وقال بعض الناس: المراد بالغراب ههنا الأبقع, وهو الذي في بطنه وظهره بياض دون الأدرع وهو الأسود, والأعصم وهو الأبيض, لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس, عن يحيى القطان, عن شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "خمس يقتلهن المحرم: الحية, والفأرة, والحدأة, والغراب الأبقع, والكلب العقور" والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك, لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه. وقال مالك رحمه الله: لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه. وقال مجاهد بن جبر وطائفة: لا يقتله بل يرميه, ويروى مثله عن علي. وقد روى هشيم: حدثنا يزيد بن أبي زياد: عن عبد الرحمن بن أبي نعم, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال "الحية, والعقرب, والفويسقة, ويرمي الغراب ولا يقتله, والكلب العقور, والحدأة, والسبع العادي" رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل, والترمذي عن أحمد بن منيع, كلاهما عن هشيم وابن ماجه, عن أبي كريم وعن محمد بن فضيل, كلاهما عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن .
وقوله تعالى: "ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن علية عن أيوب قال: نبئت عن طاوس أنه قال: لا يحكم على من أصاب صيداً خطأ, إنما يحكم على من أصابه متعمداً, وهذا مذهب غريب عن طاوس وهو متمسك بظاهر الاية, وقال مجاهد بن جبر: المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد, الناسي لإحرامه, فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه, فذاك أمره أعظم من أن يكفر, وقد بطل إحرامه, ورواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نجيح, وليث بن أبي سليم وغيرهما عنه, وهو قول غريب أيضاً, والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. وقال الزهري: دل الكتاب على العامد, وجرت السنة على الناسي, ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله "ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه" وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ, كما دل الكتاب عليه في العمد, وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف, والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان, لكن المتعمد مأثوم, والمخطىء غير ملوم .
وقوله تعالى: "فجزاء مثل ما قتل من النعم" قرأ بعضهم بالإضافة, وقرأ آخرون بعطفها "فجزاء مثل ما قتل من النعم", وحكى ابن جرير, أن ابن مسعود قرأها " فجزاء مثل ما قتل من النعم ". وفي قوله "فجزاء مثل ما قتل من النعم" على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد والجمهور, من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم, إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله, حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثلياً أو غير مثلي, قال: وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه, وإن شاء اشترى به هدياً, والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع, فإنهم حكموا في النعامة ببدنة, وفي بقرة الوحش ببقرة, وفي الغزال بعنز, وذكر قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب الأحكام, وأما إذا لم يكن الصيد مثلياً فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة, رواه البيهقي .
وقوله تعالى: "يحكم به ذوا عدل منكم" يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من المسلمين, واختلف العلماء في القاتل: هل يجوز أن يكون أحد الحكمين ؟ على قولين (أحدهما) لا, لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه, وهذا مذهب مالك . (والثاني) نعم, لعموم الاية, وهو مذهب الشافعي وأحمد, واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكوماً عليه في صورة واحدة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين, حدثنا جعفر هو ابن برقان عن ميمون بن مهران أن أعرابياً أتى أبا بكر, فقال: قتلت صيداً وأنا محرم, فما ترى علي من الجزاء ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال ؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك, فإذا أنت تسأل غيرك ؟ فقال أبو بكر: وما تنكر ؟ يقول الله تعالى: "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم" فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به, وهذا إسناد جيد, لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق, ومثله يحتمل ههنا, فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابياً جاهلاً, وإنما دواء الجهل التعليم, فأما إذا كان المعترض منسوباً إلى العلم, فقد قال ابن جرير: حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي,قالا: حدثنا وكيع بن الجراح عن المسعودي, عن عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر, قال: خرجنا حجاجاً, فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا, فنتماشى نتحدث. قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح, فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه (وهو العظم الناتى خلف الأذن), فركب ردعه ميتاً. قال: فعظمنا عليه, فلما قدمنا مكة, خرجت معه حتى أتينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقص عليه القصة فقال: وإذا إلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة, يعني عبد الرحمن بن عوف, فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه, قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمداً قتلته أم خطأ ؟ فقال الرجل: لقد تعمدت رميه وما أردت قتله, فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ, اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها, واستبق إهابها, قال: فقمنا من عنده, فقلت لصاحبي: أيها الرجل, عظم شعائر الله, فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه, اعمد إلى ناقتك فانحرها. فلعل ذلك يعني أن يجزىء عنك, قال قبيصة: ولا أذكر الاية من سورة المائدة "يحكم به ذوا عدل منكم" فبلغ عمر مقالتي, فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة, قال: فعلا صاحبي ضرباً بالدرة, أقتلت في الحرم وسفهت في الحكم. قال: ثم أقبل علي, فقلت: يا أمير المؤمنين, لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني, فقال: يا قبيصة بن جابر, إني أراك شاب السن, فسيح الصدر, بين اللسان, وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيء, فيفسد الخلق السيء الأخلاق الحسنة, فإياك وعثرات الشباب .
وروى هشيم هذه القصة عن عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بنحوه. ورواها أيضاً عن حصين, عن الشعبي, عن قبيصة بنحوه. وذكرها مرسلة عن عمر بن بكر بن عبد الله المزني ومحمد بن سيرين بنحوه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا شعبة عن منصور, عن أبي وائل, أخبرني ابن جرير البجلي, قال: أصبت ظبياً وأنا محرم, فذكرت ذلك لعمر, فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك, فأتيت عبد الرحمن وسعداً فحكما علي بتيس أعفر. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا ابن عيينة عن مخارق, عن طارق, قال: أوطأ أربد ظبياً فقتله وهو محرم, فأتى عمر ليحكم عليه, فقال له عمر: احكم معي, فحكما فيه جدياً قد جمع الماء والشجر, ثم قال عمر "يحكم به ذوا عدل منكم", وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين, كما قاله الشافعي وأحمد رحمهما الله. واختلفوا: هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم, فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل, وإن كان قد حكم في مثله الصحابة أو يكتفى بأحكام الصحابة المتقدمة ؟ على قولين, فقال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة, وجعلاه شرعاً مقرراً لا يعدل عنه, ومالم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا, لقوله تعالى: "يحكم به ذوا عدل منكم".
وقوله تعالى: "هدياً بالغ الكعبة" أي واصلاً إلى الكعبة, والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم, وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. وقوله "أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً" أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم, أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال, أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام, كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن, وأحد قولي الشافعي, والمشهور عن أحمد, رحمهم الله, لظاهر "أو" بأنها للتخيير, والقول الاخر أنها على الترتيب, فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة, فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم. وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجوداً, ثم يشترى به طعام فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه, عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز, واختاره ابن جرير, وقال أبو حنيفة وأصحابه: يطعم كل مسكين مدين, وهو قول مجاهد. وقال أحمد: مد من حنطة أو مدان من غيره, فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير, صام عن إطعام كل مسكين يوماً. وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يوماً كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه, فإن الشارع أمر كعب بن عجرة أن يقسم فرقاً بين ستة, أو يصوم ثلاثة أيام, والفرق ثلاثة آصع, واختلفوا في مكان هذا الإطعام, فقال الشافعي: مكانه الحرم, وهو قول عطاء. وقال مالك يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم, وإن شاء أطعم في غيره .
ذكر أقوال السلف في هذا المقام
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن المغيرة, حدثنا جرير عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس في قوله الله تعالى: "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً" قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم, فإن لم يجد, نظر كم ثمنه, ثم قوم ثمنه طعاماً, قال الله تعالى: "أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً", قال: إنما أريد بالطعام والصيام, أنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه, ورواه ابن جرير من طريق جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً", فإذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه, فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة, فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين, فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام, فإن قتل أيلاً أو نحوه, فعليه بقرة, فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً, فإن لم يجد صام عشرين يوماً, وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه, فعليه بدنة من الإبل, فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكيناً, فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً" رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وزاد: الطعام مد مد يشبعهم, وقال جابر الجعفي, عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد "أو عدل ذلك صياماً" قالوا إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي رواه ابن جرير وكذا روى ابن جريج عن مجاهد وأسباط عن السدي أنها على الترتيب. وقال عطاء وعكرمة ومجاهد في رواية الضحاك وإبراهيم النخعي: هي على الخيار, وهي رواية الليث عن مجاهد, عن ابن عباس, واختار ذلك ابن جرير رحمه الله .
وقوله "ليذوق وبال أمره" أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة "عفا الله عما سلف" أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله, ولم يرتكب المعصية, ثم قال "ومن عاد فينتقم الله منه" أي ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه "فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام". قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما "عفا الله عما سلف" ؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال: قلت: وما "ومن عاد فينتقم الله منه" ؟ قال: ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه, وعليه مع ذلك الكفارة. قال: قلت: فهل في العود من حد تعلمه ؟ قال: لا, قال قلت: فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه ؟ قال: لا, هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عز وجل, ولكن يفتدي" رواه ابن جرير. وقيل: معناه فينتقم الله منه بالكفارة, قاله سعيد بن جبير وعطاء, ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء, ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة, وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, قال: من قتل شيئاً من الصيد خطأ وهو محرم, يحكم عليه فيه كلما قتله, فإن قتله عمداً يحكم عليه فيه مرة واحدة, فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك, كما قال الله عز وجل. وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي, جميعاً عن هشام هو ابن حسان, عن عكرمة, عن ابن عباس, فيمن أصاب صيداً يحكم عليه ثم عاد قال: لا يحكم عليه, ينتقم الله منه. وهكذا قال شريح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي, رواهن ابن جرير, ثم اختار القول الأول. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي, حدثنا المعتمر بن سليمان عن زيد بن أبي المعلى, عن الحسن البصري أن رجلاً أصاب صيداً فتجوز عنه, ثم عاد فأصاب صيداً آخر, فنزلت نار من السماء فأحرقته, فهو قوله "ومن عاد فينتقم الله منه". وقال ابن جرير في قوله "والله عزيز ذو انتقام" يقول, عز ذكره: والله منيع في سلطانه, لا يقهره قاهر ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه, ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع, لأن الخلق خلقه, والأمر أمره, له العزة والمنعة. وقوله "ذو انتقام" يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه .
قوله: 95- "لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم" نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام، وفي معناه "غير محلي الصيد وأنتم حرم" وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم، لأنه يقال رجل حرام وامرأة حرام والجمع حرم، وأحرم الرجل: دخل في الحرم. قوله: "ومن قتله منكم متعمداً" المتعمد: هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، والمخطئ: هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً، والناسي: هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه. وقد استدل ابن عباس وأحمد في رواية، وداود عنه باقتصاره سبحانه على العامد بأنه لا كفارة على غيره، بل لا تجب إلا عليه وحده. وبه قال سعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور. وقيل إنها تلزم الكفارة المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد، وجعلوا قيد التعمد خارجاً مخرج الغالب، روي عن عمر والحسن والنخعي والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، وروي عن ابن عباس. وقيل إنه يجب التكفير على العامد الناسي لإحرامه، وبه قال مجاهد، قال: فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها. قوله: "فجزاء مثل ما قتل من النعم" أي فعليه جزاء مماثل لما قتله، و "من النعم" بيان للجزاء المماثل. قيل المراد المماثلة في القيمة، وقيل في الخلقة. وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة، وذهب إلى الثاني مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو الحق لأن البيان للمماثل بالنعم يفيد ذلك، وكذلك يفيده هدياً بالغ الكعبة. وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة ولو وجد المثل، وأن المحرم مخير. وقرئ " فجزاء مثل ما قتل " وقرئ "فجزاء مثل" على إضافة جزاء إلى مثل، وقرئ بنصبهما على تقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل، وقرأ الحسن "النعم" بسكون العين تخفيفاً "يحكم به" أي بالجزاء أو بمثل ما قتل "ذوا عدل منكم" أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين، فإذا حكما بشيء لزم، وإن اختلفا رجع إلى غيرهما، ولا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، وقيل يجوز، وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي في أحد قوليه: وظاهر الآية يقتضي حكمين غير الجاني. قوله: "هدياً بالغ الكعبة" نصب هدياً على الحال أو البدل من مثل، و "بالغ الكعبة" صفة لهدياً، لأن الإضافة غير حقيقية، والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة والنحر هنالك، والإشعار والتقليد، ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها، وإنما أراد الحرم، ولا خلاف في هذا. قوله: "أو كفارة" معطوف على محل من النعم: وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، و "طعام مساكين" عطف بيان لكفارة أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف "أو عدل ذلك" معطوف على طعام، وقيل هو معطوف على جزاء، وفيه ضعف، فالجاني مخير بين هذه الأنواع المذكورة، وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه، و "صياماً" منصوب على التمييز، وقد قرر العلماء عدل كل صيد من الإطعام والصيام، وقد ذهب إلى أن الجاني يخير بين الأنواع المذكورة جمهور العلماء. وروي عن ابن عباس أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي، والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما الميل قاله الكسائي. وقال الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، وبمثل قول الكسائي قال البصريون. قوله: "ليذوق وبال أمره" عليه لإيجاب الجزاء: أي أوجبنا ذلك عليه ليذوق وبال أمره، والذوق مستعار لإدراك المشقة، ومثله "ذق إنك أنت العزيز الكريم" والوبال: سوء العاقبة، والمرعى الوبيل: الذي يتأذى به بعد أكله، وطعام وبيل: إذا كان ثقيلاً. قوله: "عفا الله عما سلف" يعني في جاهليتكم من قتلكم للصيد، وقيل عما سلف قبل نزول الكفارة "ومن عاد" إلى ما نهيتم عنه من قتل الصيد بعد هذا البيان "فينتقم الله منه" خبر مبتدأ محذوف: أي فهو ينتقم الله منه. قيل المعنى: إن الله ينتقم منه في الآخرة فيعذبه بذنبه، وقيل ينتقم منه بالكفارة. قال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه بل يقال له: اذهب ينتقم الله منك: أي ذنبك أعظم من أن يكفر.
96. قوله عز وجل: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة " ، والمراد بالبحر جميع المياه ، قال عمر رضى الله عنه : (صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به ) وعن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة : طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتاً .
وقال قوم : هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة و سعيد بن المسيب و قتادة والنخعي .
وقال مجاهد : صيده : طريه ، وطعامه :مالحة ، متاعاً لكم أي : منفعة لكم ، وللسيارة يعني: المارة وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك وغيره ، أما السمك فميتته حلال على اختلاف أنواعها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان (الميتتان :الحوت والجراد ،والدمان: الكبد والطحال ) "ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب ،وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك.
أما غير السمك فقسمان : قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان ، فلا يحل أكله، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح ، فاختلف القول فيه ،فذهب قوم إلى أنه لا يحل شئ منها إلا السمك ، وهو معنى قول أبي حنيفة رضى الله عنه وذهب قوم إلى أن (ميت الماء كلها حلال ) ، لأن كلها سمك ،وإن اختلفت صورها ، (كالجريث ) يقال له حية الماء ،وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق ، وهو قول أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة . وبه قال شريح والحسن وعطاء وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي .
وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل ، فميتته من حيوانات البحر حلال ، مثل بقر الماء ونحوه ، ومالا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر ، مثل كلب الماء والخنزير والحمار ونحوها .
وقال الأوزاعي كل شئ عيشه في الماء فهو حلال قيل : فالتمساح ؟ قال نعم .
وقال الشعبي : لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم ، وقال سفيان الثوري أرجو أن لا يكون بالسرطان بأساً .
وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر ، وكذلك الحديث . أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن صفوان بن سلمان أنا سعيد بن سلمه من آل بني الأزرق أن المغيرة بن بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله إنا نركب في البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفتتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عمر أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول : "غزوت جيش الخبط وأمر أبو عبيدة ، فجعنا جوعاً شديدا فألقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله ، يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر ، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه ، فمر الراكب تحته" . وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول : "قال أبو عبيدة : كلوا فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال كلوا رزقا أخرجه الله إليكم ، أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بشيء منه فأكلوا" .
قوله تعلى : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون " ، صيد البحر حلال للمحرم ، كما هو حلال لغير المحرم ، أما صيد البر فحرام على المحرم وفي الحرم والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله ، أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام ، وللمحرم أخذه وقتله ،ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين مالا يؤكل لحمه وما يؤكل، كالمتولد بين الذئب والظبي لا يحل أكله ويجب بقتله الجزاء على المحرم ، لأن فيه جزاء من الصيد .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد لله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور"
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " : يقتل المحرم السبع العادي " ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خمس قتلهن حلال في الحرم :الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور "
وقال سفيان بن عيينة : الكلب العقور كل سبع يعقر ، ومثله عن مالك وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل مالا يؤكل لحمه ، من الفهد والنمر والخنزير ونحوها إلا الأعيان المذكورة في الخبر ، وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه الكفار ، وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه لأن الحديث يشتمل على أعيان بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جمله( الهوام ) ، وإنما هي حيوان مستخبث اللحم ، وتحريم الأكل يجمع الكل فاعتبره ورتب الحكم عليه.
95" يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " أي محرمون جمع حرام كرداح وردح، ولعله ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم، وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفاً ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام "خمس يقتلن في الحل والحرم، الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور". وفي رواية أخرى "الحية" بدل "العقرب"، مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ، واختلف في أن هذا النهي هل يلغي حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب. " ومن قتله منكم متعمدا " ذاكراً لإحرامه عالماً بأنه حرام عليه قبل ما يقتله، والأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء فإن إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان، بل لقوله: "ومن عاد فينتقم الله منه" ولأن الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي: أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله. فنزلت. " فجزاء مثل ما قتل من النعم " برفع الجزاء، والمثل قراءة الكوفيين و يعقوب بمعنى فعليه أي فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم.، وعليه لا يتعلق الجار بجزاء للفصل بينهما بالصفة فإن متعلق المصدر كالصلة له فلا يوصف ما لم يتم بها، وإنما يكون صفته وقرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول وإقحام مثلي كما في قولهم مثلي لا يقول كذا، والمعنى فعليه أن يجزى مثل ما قتل. وقرئ فجزاء مثلي ما قتل بنصبهما على فليجز جزاء، أو فعليه أن يجزي جزاء يماثل ما قتل وفجزاؤه مثل ما قتل، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة عند مالك و الشافعي رضي الله تعالى عنهما، والقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال: يقوم الصيد حيث صيد فإن بلغت القيمة ثم هدي تخير بين أن يهدي ما قيمته قيمته وبين أن يشتري بها طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، وبين أن يصوم عن كل مسكين يوماً وإن لم تبلغ تخير بين الإطعام والصوم واللفظ للأول أوفق. "يحكم به ذوا عدل منكم" صفة جزاء ويحتمل أن يكون حالاً من ضميره في خبره أو منه إذا أضفته، أو صفته ورفعته بخبر قدر لمن وكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد يحتاج إلى المماثلة في الخلقة والهيئة إليها، فإن الأنواع تتشابه كثيراً. وقرئ ذو عدل على إرادة الجنس أو الإمام. "هدياً" حال من الهاء في به أو من جزاء وإن نون لتخصصه بالصفة، أو بدل من مثل باعتبار محله أو لفظه فيمن نصبه. "بالغ الكعبة" وصف به هدياً لأن إضافته لفظية ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم والتصدق به، وقال أبو حنيفة يذبح في الحرم ويتصدق به حيث شاء. " أو كفارة " عطف على جزاء إن رفعته وإن نصبته فخبر محذوف. "طعام مساكين" عطف على بيان أو بدل منهن أو خبر محذوف أي هي طعام. وقرأ نافع و ابن عامر كفارة "طعام" بالإضافة للتبيين كقولك: خاتم فضة، والمعنى عند الشافعي أو أن يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي من غالب قوت البلد فيعطي كل مسكين مداً. "أو عدل ذلك صياماً" أو ما سواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وهو في الأصل مصدر أطلق للمفعول. وقرئ بكسر العين وهو ما عدل بالشيء في المقدر كعدل الحمل وذلك إشارة إلى الطعام، وصياماً تمييز للعدل. "ليذوق وبال أمره" متعلق بمح أي فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى وأصل الوبل الثقل ومنه الطعام الوبيل. " عفا الله عما سلف " من قتل الصيد محرماً في الجاهلية أو قبل التحريم، أو في هذه المرة "ومن عاد" إلى مثل هذا. "فينتقم الله منه" فهو ينتقم الله منه وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكي عن ابن عباس وشريح. "والله عزيز ذو انتقام" مما أصر على عصيانه.
95. O ye who believe! Kill no wild game while ye are on the pilgrimage. Whoso of you killeth it of set purpose he shall pay its forfeit in the equivalent of that which he hath killed, of domestic animals, the judge to be two men among you known for justice; (the forfeit) to be brought as an offering to the Ka'bah; or, for expiation, he shall feed poor persons, or the equivalent thereof in fasting, that he may taste the evil consequences of his deed. Allah forgiveth whatever (of this kind) may have happened in the past, but whoso relapseth, Allah will take retribution from him. Allah is Mighty, Able to Requite (the wrong).
95 - O ye who believe kill not game while in the sacred precincts or in pilgrim garb. if any of you doth so intentionally, the compensation is an offering, brought to the kaba, of a domestic animal equivalent to the one who killed, as adjudged by two just men among you; or by way of atonement, the feeding of the indigent; or its equivalent in fasts: that he may taste of the penalty of his deed. God forgives what is past: for repetition God will exact from him the penalty. for God is exalted, and lord of retribution.