ونزل لما مر نفر من الصحابة برجل من بني سليم وهو يسوق غنما فسلم عليهم فقالوا ما سلم علينا إلا تقية ، فقتلوه واستاقوا غنمه (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم) سافرتم للجهاد (في سبيل الله فتبينوا) وفي قراءة {فتثبتوا} في الموضعين (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) بألف أو دونها أي التحية أو الانقياد بكلمة الشهادة التي هي أمارة على الإسلام (لست مؤمنا) وأنما قلت هذا تقية لنفسك ومالك فتقتلوه (تبتغون) تطلبون لذلك (عرض الحياة الدنيا) متاعها من الغنيمة (فعند الله مغانم كثيرة) تغنيكم عن قتل مثله لماله (كذلك كنتم من قبل) تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد قولكم الشهادة (فمن الله عليكم) بالاشتهار بالإيمان والاستقامة (فتبينوا) أن تقتلوا مؤمنا وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فعل بكم (إن الله كان بما تعملون خبيرا) فيجازيكم به
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم الآية روى البخاري والترمذي والحاكم وغيره عن ابن عباس قال مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم الآية
وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير فقال أشهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف لك بلا إله إلا الله غدا وأنزل الله هذه الآية وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم ابن جثامة فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا فحمل عليه محلم فقتله فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله الآية وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر نحوه
وأخرج الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن اسم
المقتول مرداس بن نهيك من أهل فدك وأن اسم القاتل أسامة ابن زيد وان اسم أمير السرية غالب بن فضالة الليثي وأن قوم مرداس لما انهزمو بقي هو وحده وكان ألجأ غنمه بجبل فلما لحقوه قال لا إله الا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد فلما رجعوا نزلت الآية
وأخرج ابن جرير من طريق السدي وعبد من طريق قتادة نحوه وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن ابي الزبير عن جابر قال أنزلت هذه الآية ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام في مرداس وهو شاهد حسن
وأخرج ابن مندة عن جزء بن الحدرجان قال وفد أخي مقداد إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلقيته سرية النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم أنا مؤمن فلم يقبلوا منه وقتلوه فبلغني ذلك فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا فأعطاني النبي صلى الله عليه وسلم دية أخي
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم ، "إذا ضربتم في سبيل الله"، يقول : إذا سرتم مسيراً لله في جهاد أعدائكم ، "فتبينوا"، يقول : فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره ، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره ، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره ، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله ، "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام"، يقول: ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم ، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم ، "لست مؤمنا"، فتقتلوه ابتغاء، "عرض الحياة الدنيا"، يقول : طلب متاع الحياة الدنيا، فإن ، "عند الله مغانم كثيرة"، من رزقه وفواضل نعمه ، فهي خبر لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فأثابكم بها على طاعتكم إياه ، فالتمسوا ذلك من عنده ، "كذلك كنتم من قبل"، يقول : كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلم فقلتم له : "لست مؤمنا" فقتلتموه ، كذلك كنتم أنتم من قبل ، يعني : من قبل إعزاز الله دينه بأتباعه وأنصاره ، تستخفون بدينكم ، كما استخفى هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله ، بدينه من قومه أن يظهره لهم ، حذراً على نفسه منهم . وقد قال إن معنى قوله : "كذلك كنتم من قبل" كنتم كفاراً مثلهم ، "فمن الله عليكم"، يقول: فتفضل الله عليكم بإعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه. وقد قيل: فمن الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلم، "فتبينوا"، يقول: فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه، فلعل الله أن يكون قد من عليه من الإسلام بمثل الذي من به عليكم، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان، "إن الله كان بما تعملون خبيرا"، يقول: إن الله كان بقتلكم من تقتلون، وكفكم عمن تكفون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم، "خبيرا"، يعني: ذا خبرة وعلم به، يحفظه عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم به، يوم القيامة جزاءه، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. وذكر أن هذه الآية نزلت في سبب قتيل قتلته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما قال: إني مسلم، أو بعدما شهد شهادة الحق -أو بعدما سلم عليهم - لغنيمة كانت معه، أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه ذكر الرواية والآثار في ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن محمد بن إسحق، عن نافع، عن ابن عمرقال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم حنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم، فقتله. فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله، سن اليوم وغير غدا! فقال عيينة: لا والله، حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي! فجاء محلم في بردين ، فجلس بين يدي رسول الله ليستغفر له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا غفر الله لك! فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به سابعة حتى مات، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم! ولكن الله جل وعز أراد أن يعظكم. ثم طرحوه بين صدفي جبل، وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له، ووطب من لبن. فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان بينه وبينه فقتله، وأخذ بعيره ومتيعه. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"، الآية.
حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن محمد بن إسحق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه بنحوه.
حدثنا أبوكريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لحق ناس من المسلمين رجلاً في غنيمة له، فقال: السلام عليكم! فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت هذه الآية: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، تلك الغنيمة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس بنحوه.
حدثني سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلاً، ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غنم له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم! فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" إلى آخر الآية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الرجل يتكلم بالإسلام، ويؤمن بالله والرسول، ويكون في قومه، فإذا جاءت سرية محمد صلى الله عليه وسلم أخبر بها حيه -يعني قومه - ففروا، وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم، حتى يلقاهم فيلقي إليهم السلام، فيقول المؤمنون: "لست مؤمنا"، وقد ألقى السلام، فيقتلونه، فقال الله تبارك وتعال : "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، إلى "تبتغون عرض الحياة الدنيا"، يعني: تقتلونه إرادة أن يحل لكم ماله الذي وجدتم معه - وذلك عرض الحياة الدنيا - فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا من فضل الله. وهو رجل اسمه مرداس ، جلا قومه هاربين من خيل بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليها رجل من بني ليث اسمه قليب، ولم يجل معهم، وإذ لقيهم مرداس فسلم عليهم قتلوه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بديته، ورد إليهم ماله، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، الآية، قال: وهذا الحديث في شأن مرداس، رجل من غطفان، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك ، وبه ناس من غطفان، وكان مرداس منهم، ففر أصحابه، فقال مرداس: إني مؤمن، وإني غير متبعكم. فصبحته الخيل غدوة، فلما لقوه سلم عليهم مرداس، فرماه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه، وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل الله جل وعز في شأنه: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"، لأن تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون، وبها يحيي بعضهم بعضاً.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا"، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلاً منهم يدعى مرداس بن نهيك، معه غنيمة له وجمل أحمر. فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة. فلما بلغ مرداس الكهف، وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فشد عليه أسامة فقتله، من أجل جمله وغنيمته. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثنى عليه خير، ويسأل عنه أصحابه. فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله، لو رأيت أسامة ولقيه رجل، فقال الرجل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فشد عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: كيف أنت ولا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله، إنما قالها متعوذاً، تعوذ بها! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ قال: يا رسول الله، إنما قلبه بضعة من جسده! فأنزل الله عز وجل خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول: "تبتغون عرض الحياة الدنيا"، فلما بلغ: "فمن الله عليكم"، يقول: فتاب الله عليكم، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله، بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"، قال: بلغني أن رجلاً من المسلمين أغار على رجل من المشركين فحمل عليه، فقال له المشرك: إني مسلم، أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المسلم بعد أن قالها. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذي قتله: قتلته وقد قال لا إله إلا الله؟ فقال، وهو يعتذر: يا نبي الله، إنما قالها متعوذاً، وليس كذلك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا شققت عن قلبه؟ ثم مات قاتل الرجل فقبر، فلفظته الأرض. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يقبروه، ثم لفظته الأرض، حتى فعل به ذلك ثلاث مرات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الأرض أبت أن تقبله، فألقوه في غار من الغيران. قال معمر: وقال بعضهم: إن الأرض تقبل من هو شر منه، ولكن الله جعله لكم عبره .
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق: أن قوماً من المسلمين لقوا رجلاً من المشركين في غنيمة له، فقال: السلام عليكم ، إني مؤمن، فظنوا أنه يتعوذ بذلك، فقتلوه وأخذوا غنيمته. قال: فأنزل الله جل وعز: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا"، تلك الغنيمة، "كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فمروا برجل في غنيمة له، فقال: إني مسلم، فقتله المقداد. فلما قدموا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، قال: الغنيمة. حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء.
فذكر من قصة أبي الدرداء، نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد، وقد ذكرت في تأويل قوله : "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ"، ثم قال في الخبر: ونزل الفرقان: "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ"، فقرأ حتى بلغ: "لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، غنمه التي كانت، عرض الحياة الدنيا، "فعند الله مغانم كثيرة"، خير من تلك الغنم، إلى قوله: "إن الله كان بما تعملون خبيرا".
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"، قال: راعي غنم، لقيه نفر من المؤمنين فقتلوه، وأخذوا ما معه، ولم يقبلوا منه: السلام عليكم، فإني مؤمن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"، قال: حرم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله: "لست مؤمنا"، كما حرم عليهم الميتة، فهو آمن على ماله ودمه، لا تردوا عليه قوله.
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: "فتبينوا".
فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين:"فتبينوا" بالياء والنون، من التبين بمعنى، التأني والنظر والكشف عنه حتى يتضح. وقرأ ذلك عظم قرأة الكوفيين: فتبينوا، بمعنى التثبت، الذي هو خلاف العجلة.
قال أبو جعفر: والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة المسلمين بمعنى واحد، وإن اختلفت بهما الألفاظ. لأن المتثبت متبين، و المتبين متثبت، فبأي القراءتين قرأ القارىء، فمصيب صواب القراءة في ذلك.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم.
فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين والكوفيين: السلم بغير ألف، بمعنى الاستسلام.
وقرأ بعض الكوفيين والبصريين: "السلام" بألف، بمعنى التحية.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: لمن ألقى إليهم السلم، بمعنى: من استسلم لكم، مذعناً لله بالتوحيد، مقراً لكم بملتكم.
وإنما اخترنا ذلك، لاختلاف الرواية في ذلك: فمن راو روى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحق وقال: إني مسلم، ومن راو روى أنه قال: السلام عليكم، فحياهم تحية الإسلام، ومن راو روى أنه كان مسلماً بإسلام قد تقدم منه قبل قتلهم إياه، وكل هذه المعاني يجمعه السلم، لأن المسلم مستسلم، والمحيي بتحية الإسلام مستسلم، والمتشهد شهادة الحق مستسلم لأهل الإسلام، فمعنى السلم جامع جميع المعاني التي رويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الآية. وليس ذلك في السلام ، لأن السلام لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية. فلذلك وصفنا- السلم، بالصواب.
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "كذلك كنتم من قبل".
فقال بعضهم: معناه: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم، مستخفياً في قومه بدينه خوفاً على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذراً على أنفسكم منهم، فمن الله عليكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن سعيد بن جبير في قوله: "كذلك كنتم من قبل"، تستخفون بإيمانكم، كما استخفى هذا الراعي بإيمانه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: "كذلك كنتم من قبل"، تكتمون إيمانكم في المشركين.
قال آخرون: معنى ذلك: كما كان هذا الذي قتلتموه، بعد ما ألقى إليكم السلم، كافراً، كنتم كفاراً، فهداه كما هداكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم"، كفاراً مثله، "فتبينوا".
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الأول، وهو قول من قال: كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمون بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين مستخفياً بدينه منهم.
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله عز ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلم ولم يقد به قاتلوه، للبس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين، وظنهم أنه ألقى السلم إلى المؤمنين تعوذاً منهم، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركاً فيقال: كما كان كافراً كنتم كفاراً، بل لا وجه لذلك، لأن الله جل ثناؤه لم يعاتب أحداً من خلقه على قتل محارب لله ولرسوله من أهل الشرك، بعد إذنه له بقتله.
اختلف أيضا أهل التأويل في تأويل قوله: "فمن الله عليكم".
فقال بعضهم: معنى ذلك: فمن الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أظهروا الاسلام بعد ما كانوا يكتتمون به من أهل الشرك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: "فمن الله عليكم"، فأظهر الإسلام.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن الله عليكم، أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلم، طلب عرض الحياة الدنيا، بالتوبة من قتلكم إياه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فمن الله عليكم"، يقول: تاب الله عليكم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير، لما ذكرنا من الدلالة على أن معنى قوله: "كذلك كنتم من قبل"، ما وصفنا قبل. فالواجب أن يكون عقب ذلك: "فمن الله عليكم"، فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم، بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده وعبادته، حذاراً من أهل الشرك.
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى- قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" هذا متصل بذلك القتل والجهاد والضرب: السير في الأرض تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزوة أو غيره، مقترنة بفي. وتقول: ضربت الأرض دون في إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه "قول النبي صلى الله عليه وسلم :
لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فروجهما فإن الله يمقت على ذلك " وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبعها فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهما فقتله، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال :
كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله :" عرض الحياة الدنيا " تلك الغنيمة قال: قرأ ابن عباس السلام في غير البخاري وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه المنازل، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البر أن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعاً ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثه فلم تقبله فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك السعاب و"قال عليه السلام:
إن الأرض لتقبل من هو شر منه " قال الحسن: أما إنها تحبس نم هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا وفي سنن ابن ماجة "عن عمران بن حصين قال.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالاً شديداً فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله إني مسلم فطعنه فقتله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت وما الذي صنعت ؟ مرة أو مرتين فأخبره بالذي صنع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قبله فقال : يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال : لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ا في قبله فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يثبت إلا يسيراً حتى مات فدفناه فأصبح على وجه الأرض فقلنا : لعل عدواً نبشه، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض فقلنا: لعل الغلمان نعسوا، فدفناه ثم حرسناه بأنفسها فاصبح على ظهر الأرض فألقيناه في بعض تلك الشعاب" وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك وقاله ابن القاسم عن مالك : وقيل: كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله، ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله وقد تقدم القول فيه. وقيل: القاتل أبو قتادة . وقيل : أبو الدرداء ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات وهو محلم "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغني والجمل وحمل ديته على طريق الأئتلاف" . والله أعلم وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال: له غالب بن فضالة الليثي وقيل: المقداد حكاه السهيلي.
الثانية - قوله تعالى :" فتبينوا" أي تأملوا و تبينوا قراءة الجماعة وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وقالا: من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت يقال: تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه فهو متعد ولازم: وقرأ حمزة فتثبتوا من التثبيت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة وتبينوا في هذا أوكد لأن الإنسان قد يثبت ولا يتبين وفي إذا معنى الشرط فلذلك دخلت الفاء في قوله فتبينوا وقد يجازى بها كما قال :
وإذا تصبك خصاصة فتجمل
والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
والتبين التثبت في القتل واجب حضراً وسفراً ولا خلاف فيه وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر .
الثالثة- قوله تعالى :" ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا " السلم والسلم والسلام واحد قاله البخاري . وقرئ بها كلها واختار أبو عبيد القاسم بن سلام السلام وخالفه أهل النظر فقالوا السلم ههنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم كما قال عز وجل :" فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء "[النحل: 28] فالسلم الاستسلام والانقياد أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمناً. وقيل: السلام قوله السلام عليكم، وهو راجع إلى الأول لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك قال الأخفش :يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً والسلم ( بشد السين وكسرها وسكون اللام ) الصلح
الرابعة -وروي عن أبي جعفر أنه قرأ لست مؤمناً بفتح الميم الثانية من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن .
الخامسة - والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله ، فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله، لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله، فإن قتله بعد ذلك قتل به، وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا لأنه قالها متعوذاً وخوفاً من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئناً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها، ولذلك قال لأسامة: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا " أخرج مسلم أن تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر.
السادسة- فإن قال :سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضاً حتى يعلم ما وراء هذا لأنه موضع إشكال وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمناً أطلب الأمان: هذه أمور مشكلة، وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام، لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله ، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في "قوله :
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "
السابعة- فإن صلى أو فعل فعلاً من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا فقال ابن العربي: نرى أنه لا يكون مسلماً أما أنه يقال له : ما وراء هذه الصلاة؟فإن قال : صلاة مسلم قيل له : قل لا إله إلا الله، فإن قالها تبين صدقه وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب وكانت عند من يرى إسلامه ردة، والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة وكذلك هذا الذي قال: سلام عليكم يكلف الكلمة فإن قالها تحقق رشاده، وإن أبى تبين عناده وقتل . وهذا معنى قوله " فتبينوا" أي الأمر المشكل أو تثبتوا ولا تعجلوا المعنيان سواء. فإن قتله أحد فقد أتى منهياً عنه فإن قيل، فتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم على محلم ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا : لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمداً لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية .
الثامنة- قوله تعالى :" تبتغون عرض الحياة الدنيا " أي تبتغون أخذ ماله: ويسمى متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء ومنه :
" الدنيا عرض حاضراً يأكل منها البر والفاجر " والعرض ( بسكون الراء ) ما سوى الدنانير والدراهم فكل عرض عرض، وليس كل عرض عرضاً وفي صحيح مسلم "عن النبي صلى الله عليه وسلم :
ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس " وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه :
تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنما يكون الغنى والفقر من قبل النفس
وهذا يصحح قول أبي عبيدة: فإن المال يشمل كل ما يتمول وفي كتاب : العين العرض ما نيل من الدنيا ومنه قوله تعالى :" تريدون عرض الدنيا " [ الأنفال :67] وجمعه عرض وفي المجمل لابن فارس : والعرض ما يعترض الإنسان من مرض أو نحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر ، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن والعرض خلاف الطول.
التاسعة- قوله تعالى :" فعند الله مغانم كثيرة " عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجه ومن حله دون ارتكاب محظور، أي فلا تتهافتوا. " كذلك كنتم من قبل " أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفاً منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره وقال ابن زيد: المعنى كذلك كنتم كفره " فمن الله عليكم " بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره .
العاشرة - استدل بهذه الآية من قال: إن الإيمان هو القول لقوله تعالى :" ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا" قالوا: ولمن منع أن يقال لمن قال لا إله إلا لله لست مؤمناً مع من قتلهم بمجرد القول ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم : قلنا: إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذاً فقتلوه والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر، وقد "قال صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط ألا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في البقرة وقد كشف البيان في هذا "قوله عليه السلام: أفلا شققت عن قبله " فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأن حقيقته التصديق بالقلب ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط واستدل بهذا أيضاً من قال : إن الزنديق تقبل توبته إذا أظهر قال : لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام، وقد مضى القول في هذا في أول البقرة وفيها رد على القدرية فإن الله أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق والقدرية تقول: خلقهم كلهم الإيمان ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى .
الحادية عشرة - قوله تعالى :" فتبينوا" أعاد الأمر بالتبيين للتأكيد " إن الله كان بما تعملون خبيرا" تحذير عن مخالفة أمر الله أي احفظوا أنفسكم وجبنوها الزلل الموبق لكم
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكير وخلف بن الوليد وحسين بن محمد قالوا: حدثنا إسرائيل عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم, فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا, فعمدوا إليه فقتلوه, وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا" إلى آخرها, ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد, عن عبد العزيز بن أبي رزمة, عن إسرائيل به, ثم قال: هذا حديث حسن صحيح, وفي الباب عن أسامة بن زيد, ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل به, ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان, كلاهما عن إسرائيل به, وقال في بعض كتبه غير التفسير, وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط, وهذا خبر عندنا صحيح سنده, وقد يجب أن يكون على مذهب الاخرين سقيماً لعلل منها: أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا من هذا الوجه, ومنها أن عكرمة في روايته عندهم نظر, ومنها أن الذي نزلت فيه هذه الاية عندهم مختلف فيه فقال بعضهم: نزلت في محلم بن جثامة, وقال بعضهم: أسامة بن زيد, وقيل غير ذلك, قلت: وهذا كلام غريب وهو مردود من وجوه: أحدها أنه ثابت عن سماك حدث به عنه غير واحد من الأئمة الكبار, الثاني أن عكرمة محتج به في الصحيح, الثالث أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس, كما قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار,عن عطاء, عن ابن عباس "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً" قال: قال ابن عباس كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون, فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته, فأنزل الله في ذلك "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً" قال ابن عباس: عرض الدنيا تلك الغنيمة, وقرأ ابن عباس "السلام", وقال سعيد بن منصور: حدثنا منصور عن عمرو بن دينار, عن عطاء بن يسار, عن ابن عباس, قال: لحق المسلمون رجلاً في غنيمة له, فقال: السلام عليكم, فقتلوه وأخذوا غنيمته, فنزلت "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً". وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة به, وقد في ترجمة: أن أخاه فزاراً, هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن أمر أبيه بإسلامهم وإسلام قومهم, فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم, في عماية الليل, وكان قد قال لهم إنه مسلم, فلم يقبلوا منه فقتلوه فقال أبوه: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأعطاني ألف دينار ودية أخرى وسيرني, فنزل قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله" الاية.
وأما قصة محلم بن جثامة, فقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يعقوب: حدثني أبي عن محمد بن إسحاق, حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه, قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي, ومحلم بن جثامة بن قيس, فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم, مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له, معه متيع له ووطب من لبن, فلما مر بنا سلم علينا, فأمسكنا عنه, وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله, لشيء كان بينه وبينه, وأخذ بعيره ومتيعه, فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا " تفرد به أحمد. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا جرير عن ابن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر, قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً, فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام, وكانت بينهم إحنة في الجاهلية, فرماه محلم بسهم فقتله, فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتكلم فيه عيينة والأقرع: فقال الأقرع يا رسول الله, سر اليوم وغر غداً, فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ماذاق نسائي, فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا غفر الله لك", فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه, فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه, فلفظته الأرض, فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له, فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم, ولكن الله أراد أن يعظكم" ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة فنزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" الاية.
وقال البخاري: قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتلته, فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل" هكذا ذكره البخاري معلقاً مختصراً, وقد روي مطولاً موصولاً, فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا حماد بن علي البغدادي, حدثنا جعفر بن سلمة, حدثنا أبو بكر بن علي بن مقدم, حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود, فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا, وبقي رجل له مال كثير لم يبرح, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله, وأهوى عليه المقداد فقتله, فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله ؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله, إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله, فقتله المقداد, فقال: "ادعوا لي المقداد, يا مقداد: أقتلت رجلاً يقول لا إله إلا الله, فكيف لك بلا إله إلا الله غداً ؟" قال: فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ", فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته, وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل" وقوله: "فعند الله مغانم كثيرة" أي خير مما رغبتم فيه عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام, وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا, فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا.
وقوله: "كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم" أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه, كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً, وكما قال تعالى: "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض" الاية, وهذا مذهب سعيد بن جبير لما رواه الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير في قوله: "كذلك كنتم من قبل" تخفون إيمانكم في المشركين, ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير عن سعيد بن جبير في قوله: "كذلك كنتم من قبل" تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه, وهذا اختيار ابن جرير, وقال ابن أبي حاتم, وذكر عن قيس, عن سالم, عن سعيد بن جبير: قوله "كذلك كنتم من قبل" لم تكونوا مؤمنين "فمن الله عليكم" أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل, وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه, وقوله: "فتبينوا" تأكيد لما تقدم, وقوله: " إن الله كان بما تعملون خبيرا " قال سعيد بن جبير: هذا تهديد ووعيد.
هذا متصل بذكر الجهاد والقتال، والضرب: السير في الأرض، تقول العرب ضربت في الأرض: إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول: ضربت الأرض بدون في: إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخرج رجلان يضربان الغائط". قوله "فتبينوا" من التبين وهو التأمل، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة فإنه قرأ فتثبتوا من التثبت. واختار القراءة الاولى أبو عبيدة وأبو حاتم قالا: لان من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين، مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضراً وسفراً بلا خلاف، لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر كما سيأتي. قوله " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام " وقرئ "السلام". ومعناهما واحد. واختار أبو عبيدة السلام. وخالفه أهل النظر فقالوا، السلم هنا أشبه لانه بمعنى الانقياد والتسليم. والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل: هما بمعنى الإسلام: أي: لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام: أي كلمته وهي الشهادة لست مؤمناً، وقيل: هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً. والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا: إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية، وقرأ أبو جعفر "لست مؤمناً" من أمنه: إذا أجرته فهو مؤمن.
وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به، لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تاولوا، وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح لا يكون مسلماً ولا يصير بها دمه معصوماً وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف، وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول: أنا مسلم أو أنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأول. قوله "تبتغون عرض الحياة الدنيا" الجملة في محل نصب على الحال: أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعاً إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة: يقال: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء، وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرضاً بالسكون. وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى "تريدون عرض الدنيا" وجمعه عروض. وفي المجمل لابن فارس: والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه، وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو أكثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد. قوله "فعند الله مغانم كثيرة" هو تعليل للنهي: أي عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد، واغتنام ماله "كذلك كنتم من قبل" أي: كنتم كفاراً، فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة، أو كذلك كنتم من قبل، تخفون إيمانكم عن قومكم خوفاً على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به، وكرر الأمر بالتبين للتأكد عليهم لكونه واجباً لا فسحة فيه ولا رخصة.
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لحق ناس من المسلمين رجلاً معه غنيمة له فقال السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمة، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن عبد الله بن أبي حدود الأسلمي قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع ووطب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" الآية. وفي لفظ عند ابن إسحاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث أبي حدرد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمحلم: أقتلته بعدما قال آمنت بالله؟ فنزل القرآن. وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر أن محلماً جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال: لا غفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم، ثم طرحوه في جبل وألقوا عليه الحجارة، فنزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم" الآية. وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد والطبراني والضياء في المختارة عن ابن عباس أن سبب نزول الآية: أن المقداد بن الأسود قتل رجلاً بعد ما قال: لا إله إلا الله. وفي سبب النزول روايات كثيرة، وهذا الذي ذكرناه أحسنها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "كذلك كنتم من قبل" قال: تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه: يعني الذين قتلوه بعد أن ألقى إليهم السلام وفي لفظ تكتمون إيمانكم من المشركين "فمن الله عليكم" فأظهر الإسلام فأعلنتم إيمانكم "فتبينوا" قال: وعيد من الله ثان. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله "كذلك كنتم من قبل" قال: كنتم كفاراً حتى من الله عليكم بالسلام وهداكم له.
94-:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله".
يعني إذا سافرتم في سبيل الله ، يعني: الجهاد.
"فتبينوا" قرأ حمزة والكسائي ها هنا في موضعين وفي سورة الحجرات بالتاء والثاء من التثبيت ،أي : قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر، وقرأ الآخرون بالياء والنون من التبين ، يقال: تبينت الأمر إذا تأملته، " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام " هكذا قراءة أهل المدينة وابن عامر وحمزة أي: المقادة ، وهو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقرأ الآخرون السلام ، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين لأنه كان قد سلم عليهم ، وقيل: السلم والسلام واحد ، أي: لا تقولوا لمن سلم عليكم لست مؤمناً،"تبتغون عرض الحياة الدنيا"،يعني: تطلبون الغنم والغنيمة،و"عرض الحياة الدنيا" منافعها ومتاعها،"فعند الله مغانم" أي غنائم،"كثيرة"، وقيل: ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن،"كذلك كنتم من قبل"، قال سعيد بن جبير: كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين"فمن الله عليكم" ،بإظهار الإسلام ، وقال قتادة: كنتم ضلالاً من قل فمن الله عليكم بالإسلام والهداية.
وقيل معناه: كذلك كنتم من قبل تأمنون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة قلا تخيفوا من قالها فمن الله عليكم بالهجرة ، فتبينوا أن تقتلوا مؤمناً.
"إن الله كان بما تعملون خبيراً"، قلت:إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فعليهم أن يكفوا عنهم ،فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً فإن سمع أذاناً كف عنهم،وإن لم يسمع إغار عليهم.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع الشافعي أنا سفيان عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن ابن عصام عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم .
كان إذا بعث سريةً قال:" إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحداً".
94" يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله " سافرتم وذهبتم للغزو. " فتبينوا " فاطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تعجلوا فبه. وقرأ حمزة و الكسائي " فثبتوا " في الموضعين هنا، وفي الحجرات من التثبت. " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام " لمن حياكم بتحية الإسلام. وقرأ نافع و ابن عامر و حمزة السلم بغير الألف أي الاستسلام والانقياد وفسر به السلام أيضاً. " لست مؤمنا " وإنما فعلت ذلك متعوذاً. وقرئ " مؤمنا " بالفتح أي مبذولاً له الأمان. " تبتغون عرض الحياة الدنيا " تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاذ، وهو حال من الضمير في تقولوا مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة وترك التثبت. " فعند الله مغانم " لكم. " كثيرة " نغنيكم عن قتل أمثاله لماله. " كذلك كنتم من قبل " أي أول ما دخلتم في الإسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة فحصنت بها دماؤكم وأموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم. " فمن الله عليكم " بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين. " فتبينوا " وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم، ولا تبادروا إلى قتلهم ظناً بأنهم دخلوا فيه اتقاء وخوفاً، فإن بقاء كافر أهون على الله من قتل امرئ مسلم. وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم. " إن الله كان بما تعملون خبيرا " عالماً به وبالغرض منه فلا تتهافتوا في القتل واحتاطوا فيه. روي "أن سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا به وكبروا كبر ونزل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة واستاق غنمه" وقيل نزلت في المقداد مر برجل في غنيمة فأراد قتله فقال: لا إله إلا الله. فقتله وقال: ود لو فر بأهله وماله. وفيه ذليل على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطئ وأن خطأه مغتفر.
94. O ye who believe! When ye go forth (to fight) in the way of Allah, be careful to discriminate, and say not unto one who offereth you peace: "Thou are not a believer;" seeking the chance profits of this life (so that ye may despoil him). With Allah are plenteous spoils. Even thus (as he now is) were ye before; but Allah hath since then been gracious unto you. Therefore take care to discriminate. Allah is ever informed of what ye do.
94 - O ye who believe when ye go abroad in the cause of God, investigate carefully, and say not to any one who offers you a saluatation: thou art none of a believer coveting the perishable goods of this life: with God are profits and spoils abundant. even thus were ye yourselves before, till God conferred on you his favours: therefore carefully investigate. for God is well aware of all that ye do.