(ومن يقتل مؤمنا متعمدا) بأن يقصد قتله بما يقتل غالبا بإيمانه (فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه) أبعده من رحمته (وأعد له عذابا عظيما) في النار وهذا مؤول بمن يستحله أو بأن هذا جزاؤه إن جوزي ، ولا بدع في خلف الوعيد لقوله {ويغفر ما دون ذلك لم يشاء} وعلى ابن عباس أنها على ظاهرها وأنها ناسخة لغيرها من آيات المغفرة وبينت آية البقرة أن قاتل العمد يقتل به وأن عليه الدية إن عفي عنه وسبق قدَرُها ، وبينت السنة أن بين العمد والخطأ قتلا يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالبا فلا قصاص فيه بل دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو والعمد أولى بالكفارة من الخطأ
قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية أخرج ابن جرير من طريق ابن جريح عن عكرمة أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس ابن صبابة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها ثم وثب على قاتل أخيه فقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا أؤمنه في حل ولا حرم فقتل يوم الفتح قال ابن جريح وفيه نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يقتل مؤمناً عامداً قتله، مريداً إتلاف نفسه، "فجزاؤه جهنم"، يقول: فثوابه من قتله إياه، "جهنم"، يعني: عذاب جهنم، "خالدا فيها"، يعني: باقياً فيها، والهاء والألف في قوله: "فيها" من ذكر"جهنم"، "وغضب الله عليه"، يقول: وغضب الله عليه بقتله إياه متعمداً، "ولعنه" يقول: وأبعده من رحمته وأخزاه، "وأعد له عذابا عظيما"، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره.
واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحق صاحبه أن يسمى متعمداً، بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلاً بحد حديد يجرح بحده، أو يبضع ويقطع، فلم يقلع عنه ضرباً به حتى أتلف نفسه، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه: أنه عامد قتله. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك.
فقال بعضهم: لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال: قال عطاء: العمد، السلاح-أو قال: الحديد- قال: وقال سعيد بن المسيب: هو السلاح.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: العمد ما كان بحديدة، وما كان بدون حديدة، فهو شبه العمد، لا قود فيه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: العمد ما كان بحديدة، وشبه العمد ما كان بخشبة. وشبه العمد لا يكون إلا في النفس.
حدثني أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاووس قال: من قتل في عصبية، في رمي يكون منهم بحجارة، أو جلد بالسياط، أو ضرب بالعصي، فهو خطأ، ديته دية الخطأ. ومن قتل عمداً فهو قود يده.
حدثنا أبن حميد قال، حدثنا جرير، ومغيرة، عن الحارث وأصحابه، في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضاً حتى يموت، قال: أسأل الشهود أنه ضربه، فلم يزل مريضاً من ضربته حتى مات، فإن كان بسلاح فهو قود، وان كان بغير ذلك فهو شبه العمد.
وقال آخرون: كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة، عن عبيد بن عمير أنه قال: وأي عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصاً، ثم لا يقلع عنه حتى يموت؟.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن إبراهيم قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت، أو ضربة بخشبه حتى يموت، فهو القود.
وعلة من قال: كل ما عدا الحديد خطأ، ما:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش؟.
وعلة من قال: حكم كل ما قتل المضروب به من شيء، حكم السيف، في أن من قتل به قتيل عمد!،ما:
حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: إن يهودياً شتل جارية على أوضاح لها بين حجرين، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقتله بين حجرين.
قالوا: فأقاد النبي صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر، وذلك غير حديد. قالوا: وكذلك حكم كل من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: كل من ضرب إنساناً بشيء الأغلب منه أنه يتلفه، فلم يقبع عنه حتى أتلف نفسه به: أنه قاتل عمد، ما كان المضروب به من شيء، للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "فجزاؤه جهنم خالدا فيها"، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه.
فقال بعضهم معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قول: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم"، قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال، حدثنا شعبة، عن يسار، عن أبي صالح: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم" قال: جزاؤه جهنم إن جازاه.
وقال آخرون: عني بذلك رجل بعينه، كان أسلم فارتد عن إسلامه، وقتل رجلاً مؤمناً. قالوا: ومن يقتل مؤمناً متعمداً مستحلاً قتله، فجزاؤه جهنم خالداً فيها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج: وقال غيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار، ثم بعث مقيساً، وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فاحتمل مقيس الفهري -وكان أيداً- فضرب به الأرض، ورضخ رأسه بين حجرين، ثم ألفي يتغنى:
ثأرت به فهراً، وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أظنه قد أحدث حدثاً! أما والله لئن كان فعل، لا أومنه في حل ولا حرم ولا سلم ولا حرب! فقتل يوم الفتح. قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا"، الآية.
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور قال: حدثني سعيد بن جبير-أو: حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير- قال: سألت ابن عباس عن قوله "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم"، قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه جهنم، ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم.
وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمداً، كائناً من كان القاتل، على لا وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبةً من فعله. قالوا: فكل قاتل مؤمن عمداً، فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. وقالوا: نزلت هذه الآية بعد التي في سورة الفرقان.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال: "جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما" قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه! وأنى له التوبة والهدى؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه! رجل قتل رجلاً متعمداً جاء يوم القيامة آخذاً بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دماً، في قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بيده الأخرى يقول: سل هذا فيم قتلني؟ ووالذي نفس عبد الله بيده ، لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن يحيى بن الحارن التيمي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما"، فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحاً؟ فقال: وأنى له التوبة!.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا همام، عن يحيى، عن ربر، عن سالم قال: كنت جالساً مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلاً قتل مؤمناً متعمداً، أين منزل؟ قال: "جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما". قال: أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال : وأنى له الهدى، ثكلته أمه! والذي نفسي بيده لسمعته يقول-يعني النبي صلى الله عليه وسلم -: يجيء يوم القيامة معلقاً رأسه بإحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذاً صاحبه بيده الأخرى، تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن، يقول: يا رب، سل عبدك هذا علام قتلني؟ فما جاء نبي بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا عمار بن رزيق، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس: بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فو الله لقد أنزلت على نبيكم، ثم نسخها شيء، ولقد سمعته يقول: ويل لقاتل المؤمن، يجيء يوم القيامة آخذاً رأسه بيده، ثم ذكر الحديث نحوه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزى: سئل ابن عباس عن قوله: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم"، فقال: لم ينسخها شيء. وقال في هذه الآية: "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما" [الفرقان : 68]. قال: نزلت في أهل الشرك. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتي ، فذكر نحوه.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور قال، حدثني سعيد بن جبير-أو: حدثت عن سعيد بن جبير- أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في النساء: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم" إلى آخر الآية، والتي في الفرقان: "ومن يفعل ذلك يلق أثاما" إلى "ويخلد فيه مهانا" [الفرقان: 68 - 69] قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمناً متعمداً، فلا توبة له. وأما التي في الفرقان، فإنها لما أنزلت نال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق، وأتينا الفواحش، فما ينفعنا الإسلام! قال فنزلت: "إلا من تاب" [الفرقان: 70] الآية.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم"، قال: ما نسخها شيء.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: هي من آخر ما نزلت، ما نسخها شيء. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فدخلت إلى ابن عباس فسألته فقال: لقد نزلت في آخر ما أنزل من القرآن، وما نسخها شيء. حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إياس معاوية بن قرة قال، أخبرني شهر بن حوشب قال، سمعت ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم" بعد قوله: "إلا من تاب وآمن وعمل صالحا" [الفرقان:70]، بسنة.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن ابن عباس قال: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم"، قال: نزلت بعد "إلا من تاب" [الفرقان:75]،بسنة.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إياس قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول في قاتل المؤمن: نزلت بعد ذلك بسنة. فقلت لأبي إياس: من أخبرك؟ فقال: شهر بن حوشب.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا"، قال: ليس لقاتل توبة، إلا أن يستغفر الله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا" الآية، قال عطية: وسئل عنها ابن عباس، فزعم أنها نزلت بعد الآية التي في سورة الفرقان بثمان سنين، وهو قوله: "والذين لا يدعون مع الله! إلها آخر" إلى قوله: "غفورا رحيما" [الفرقان: 68- 70].
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مطرف، عن أبي السفر، عن ناجبة، عن ابن عباس قال: هما المبهمتان: الشرك والقتل.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، لأن الله سبحانه يقول: "فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما".
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه الكوفيين، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود في قوله:" ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم"، قال: إنها لمحكمة، وما تزداد إلا شدة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثني هياج بن بسطام، عن محمد بن عمرو، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت قال: نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر. حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: يأتي المقتول يوم القيامة آخذاً رأسه بيمينه وأوداجه تشخب دماً، يقول: يا رب ، دمي عند فلان! فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضى بينهما. ثم نزع بهذه الآية: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها" الآية. قال ابن عباس : والذي نفسي بيده، ما نسخها الله جل وعز منذ أنزلها على نبيكم عليه السلام. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن أبي الزناد قال سمعت رجلاً يحدث خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت قال، سمعت أباك يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة بستة أشهر، قوله: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا"، إلى آخر الآية، بعد قوله. "والذين لا يدعون مع الله إلها آخر" إلى آخر الآية، [الفرقان: 68].
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد قال: سمعت رجلاً يحدث خارجة بن زيد قال: سمعت أباك في هذا المكان بمنى يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة -قال: أراه: بستة أشهر- يعن : "ومن يقتل مؤمنا متعمدا" بعد: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" [النساء: 48، 116].
حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: ما نسخها شيء منذ نزلت، وليس له توبة.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه إن جزاه جهنم خالدا فيها، ولكنه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا" [الزمر: 53].
فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلا فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عز ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" [النساء : 48 ، 116]، والقتل دون الشرك.
فيه سبع مسائل:
الأولى -قوله تعالى :" ومن يقتل "من شرط وجوابه " فجزاؤه " وسيأتي واختلف العلماء في صفة المعتمد في القتل، فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها. وقالت فرقة المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك وهذا قول الجمهور.
الثانية- ذكر الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به فقال ابن المنذر: أنكر ذلك مالك وقال :ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ وذكره الخطابي أيضاً عن مالك وزاد: وأما شبه العمد فلا نعرفه قال أبو عمر: أنك مالك والليث بن سعد شبه العمد فمن قتل عندهما بمال لا يقتل مثله غالباً كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود قال أبو عمر: وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين: وذهب فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد وقد ذكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين . وقال ابن المنذر: وشبه العمد يعمل به عندنا وممن أثبت العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما .
قلت: وهو الصحيح فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها فلا تستباح إلا بأمر بين لا إشكال فيه وهذا فيه إشكال لأنه لما كان متردداً بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد فالضرب مقصود والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية وبمثل هذا جاءت السنة، روى أبو داود من "حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" وروى الدارقطني عن ابن عباس قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل" وروى أيضاً من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "قال رسول الله صلى الله عله وسلم
عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه " وهذا نص وقال طاوس في الرجل يصاب في الرميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل انه لا يدرى من قاتله وقال أحمد بن حنبل: العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه وقال إسحاق: هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضاً فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس ذكره الدارقطني.
مسألة - واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة، فقال عطاء والشافعي: هي ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفه وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري، وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف وقيل: هي مربعة ربع بنات لبون وربع حقاق، وربع جذاع وربع بنات مخاض هذا قول النعمان ويعقوب وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي: وقيل: هي مخمسة : عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقه وعشرون جذعة هذا قول أبي ثور. وقيل: أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقه، وثلاثون بنات لبون وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري: وقيل: أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها وثلاث وثلاثون حقه وثلاث وثلاثون جذعة وبه قال الشعبي والنخعي وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي
الثالثة- واختلفوا فيمن تلززمه دية شبه العمد فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثورك هو عليه في ماله، وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : هو على العاقلة قال ابن المنذر: قول الشعبي أصح لحديث أبي هريرة :
"أن النبي صلى الله عله وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة" .
الرابعة- أجمع العلماء أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني، وقد تقدم ذكرها في البقرة وقد أجمعوا على أن القاتل خطأ الكفارة، واختلفوا فيها في قتل العمد فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى. وقال: إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ وقد قيل: إن القاتل عمداً إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل، فأما إذا قتل قوداً فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله، وقيل تجب، ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لأن الكفارة عبادات ولا يجوز التمثيل وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضاً يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من فرض على القاتل عمداً كفارة حجة من حيث ذكرت.
الخامسة -واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ فقالت طائفة: على كل واحد منهم الكفارة كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقالت طائفة: عليهم كلهم كفارة واحدة هكذا قال أبو ثور وحكي ذلك عن الأوزاعي وفرق الزهري بين العتق والصوم فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلاً : عليهم كلهم عتق رقبة، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين .
السادسة - روى النسائي: أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي- ثقة قال حدثني خالد بن خداش قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " وروي عن عبد الله قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء " و"روى إسماعيل بن إسحاق بن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه سأله سائل فقال: يا أبا العباس هل للقاتل توبه؟ فقال له ابن عباس كالمعتجب من مسألته: ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثاً ثم قال ابن عباس: ويحك ! أتى له توبة ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول:
يأتي المقتول معلقاً رأسه بإحدى يديه متلبباً قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دماً حتى يوقفا يقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار " و"عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني "
السابعة-واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال:
اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسأتله عنها فقال: نزلت هذا الآية " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " هي آخر ما نزل وما نسخها شيء وروى النسائي عنه قال :
سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمناً متعمداً ن توبة؟ قال : لا وقرأت عليه الآية التي في الفرقان :" والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر " [الفرقان:68] هذه آية مكية نسختها آية مدنية " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه " وروي عن زيد بن ثابت نحوه وأن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر، وفي رواية بثمانية أشهر ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت وإلى عموم هذه الآية مع الأخبار عن زيد بن وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا: هذا مخصص عموم قوله تعالى : " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" ورأوا أن الوعيد نافذ حتماً على كل قاتل فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمداً وذهب جماعة من العلماء منهم عبد بن عمر - وهو أيضاً مروي عن زيد وابن عباس -إلى أن له توبة روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك والأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمناً متعمداً توبة؟ قال: لا إلا النار قال : فلما ذهب قال له جلساؤه : أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا أن لم قتل توبة مقبولة قال إني لأحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً قال فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح وأن هذه الآية مخصوصة ودليل التخصيص آيات وأخبار.
وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن ضبابة .
وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن ضبابة فوجد هشاماً قتيلاً في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلاً من بني فهر، فقال بنو النجار، والله ما نعلم له قاتلاً ولكنا نؤدي الدية فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافراً مرتداً وجعل ينشد :
قتلت به فهراً وحملت عقله شراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثورتي وكنت إلى الأوثان أول راجع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا أؤمنه في حل ولا حرم " وأمر بقلته يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله " إن الحسنات يذهبن السيئات" [هود: 114] وقوله تعالى:" وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " [الشورى:25] وقوله : "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " والأخذ بالظاهرين تناقض فلا بد من التخصيص ثم إن الجمع بين آية الفرقان وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض، وذلك أن يحمل مطلق آية النساء على مقيد آية الفرقان فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب وأما الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه :
"تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه " رواه الأئمة أخرجه الصحيحان.
وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس أخرجه مسلم في سننه وغيرهما إلى ذلك من الأخبار الثابتة. ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل ويقرأ بأنه قتل عمداً ويأتي السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قوداً فهذا غير متبع في الآخرة والوعيد غير نافذ عليه إجماعاً على مقتضى حديث عبادة فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى :" ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة " ودخلة التخصيص بما ذكرناه، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا أو تكون محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال: متعمداً معناه مستحلاً لقتله فهذا أيضاً يقول إلى الفكر إجماعاً وقال جماعة : إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب، قاله أبو حنيفة وأصحابه فإن قيل: إن قوله تعالى :" فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه " دليل على كفره لأن الله تعالى لا يغضب إلى على كافر خارج من الإيمان، قلنا : هذا وعيد والخلف في الوعيد كرم كما قال :
وإني متى أوعدته أو وعدته لمخلف إبعادي ومنجز موعدي
وقد تقدم: جواب ثان- إن جازاه بذلك أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه نص على هذا أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما. و"روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
إذا وعد الله لعبد ثواباً فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشيئة إن شاء عفا عنه " وفي هذين التأويلين دخل أما الأول- فقال القشيري: وفي هذا نظر، لأن كلام الرب لا يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام فهو إذاً جائز في الكلام وأما الثاني - وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس: وهذا الوجه الغلط فيه بين وقد قال الله عز وجل : " ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا" [الكهف:106] ولم يقل أحد : إن جازاهم وهو خطأ في العربية لأن بعده " وغضب الله عليه" وهو محمول على معنى جازاه وجواب ثالث - فجزاؤه إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :" ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة وفي هذا الذي قاله نظر لأنه موضع عموم وتخصيص لا موضع نسخ قاله ابن عطية .
قلت: هذا حسن لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو يجزيه وقال النحاس: في معاني القرآن له : القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب فإن تاب فقد بين أمره بقوله :" وإني لغفار لمن تاب" [طه :82] فهذا لا يخرج عنه والخلود لا يقتضي الدوام قال الله تعالى :" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد" [الأنبياء: 34] وقال تعالى : " يحسب أن ماله أخلده" [الهمزة :3] وقال زهير:
ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
وهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد فإن هذا يزول بزوال الدنيا وكذلك العرب تقول: لأخلدن فلاناً في السجن، والسجن ينقطع ويفنى وكذلك المسجون ومثله قولهم في الدعاء خلد الله ملكه وأبد أيامه وقد تقدم هذا كله لفظاً ومعنى والحمد لله .
يقول تعالى: ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه, وكما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله, إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس, والثيب الزاني, والتارك لدينه المفارق للجماعة" ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث, فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله, وإنما ذلك إلى الإمام أونائبه, وقوله: "إلا خطأ" قالوا: هو استثناء منقطع, كقول الشاعر:
البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ على الأرض إلا ربط برد مرحل
ولهذا شواهد كثيرة. واختلف في سبب نزول هذه, فقال مجاهد وغير واحد: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه وهي أسماء بنت مخرمة, وذلك أنه قتل رجلاً يعذبه مع أخيه على الإسلام وهو الحارث بن يزيد الغامدي, فأضمر له عياش السوء, فأسلم ذلك الرجل وهاجر وعياش لا يشعر, فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل عليه فقتله, فأنزل الله هذه الاية, قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلاً وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف, فأهوى به إليه فقال كلمته, فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, قال: إنما قالها متعوذاً فقال له: هل شققت عن قلبه ؟ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء.
وقوله: "ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله" هذان واجبان في قتل الخطأ, أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ, ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزىء الكافرة, وحكى ابن جرير عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري أنهم قالوا: لا يجزىء الصغير حتى يكون قاصداً للإيمان, وروي من طريق عبد الرزاق عن معمر,عن قتادة, قال: في حرف, فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي, واختار ابن جرير أنه إن كان مولوداً بين أبوين مسلمين أجزأ وإلا فلا, والذي عليه الجمهور أنه متى كان مسلماً صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيراً أو كبيراً قال الإمام أحمد: أنبأنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله, عن رجل من الأنصار: أنه جاء بأمة سوادء, فقال: يا رسول الله: إن علي عتق رقبة مؤمنة, فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها, فقال لها رسول الله: "أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟" قالت: نعم. قال: "أتشهدين أني رسول الله ؟" قالت: نعم. قال: "أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟" قالت: نعم. قال: "أعتقها". وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره, وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من طريق هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار, عن معاوية بن الحكم: أنه لما جاء بتلك الجارية السوادء, قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله ؟ قالت: في السماء. قال: "من أنا" قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "أعتقها, فإنها مؤمنة" وقوله: "ودية مسلمة إلى أهله" هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتليهم, وهذه الدية إنما تجب أخماساً, كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الحجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير, عن خشف بن مالك, عن ابن مسعود, قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض, وعشرين بني مخاض ذكوراً, وعشرين بنت لبون, وعشرين جذعة, وعشرين حقة, لفظ النسائي قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه, وقد روي عن عبد الله موقوفاً, كما روي عن علي وطائفة, وقيل: يجب أرباعاً وهذه الدية على العاقلة لا في ماله, قال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة وهو أكثر من حديث الخاصة, وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث, فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة, وقضى بدية المرأة على عاقلتها وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ المحض في وجوب الدية, لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثاً لشبهة العمد, وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا, فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتهلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرفع يديه وقال "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" وبعث علياً فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب, وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.
وقوله: "إلا أن يصدقوا" أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب, وقوله: "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" أي إذا كان القتيل مؤمناً ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب, فلا دية لهم, وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير, وقوله: "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" الاية, أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم, فإن كان مؤمنا فدية كاملة, وكذا إن كان كافراً أيضاً عند طائفة من العلماء, وقيل: يجب في الكافر نصف دية المسلم وقيل: ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين" أي لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما, فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف, واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا, على قولين, وقوله: "توبة من الله وكان الله عليماً حكيما" أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين , واختلفوا فيمن لا يستطع الصيام, هل يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كما في كفارة الظهار, على قولين أحدهما: نعم كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار, وإنما لم يذكر ههنا, لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص, والقول الثاني لا يعدل إلى الطعام, لأنه لو كان واجباً لما أخر بيانه عن وقت الحاجة " وكان الله عليما حكيما " قد تقدم تفسيره غير مرة,
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بيان حكم القتل العمد, فقال: "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" الاية, وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله, حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق" الاية, وقال تعالى: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " الأية, والايات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً, فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء", وفي الحديث الاخر الذي رواه أبو داود من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري عن عبادة بن الصامت,قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً, فإذا أصاب دماً حراماً بلح" وفي حديث آخر "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم", وفي الحديث الاخر "ومن أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله" وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً, وقال البخاري: حدثنا آدم, حدثنا شعبة, حدثنا المغيرة بن النعمان, قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة, فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها, فقال: نزلت هذه الاية "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم" هي آخر ما نزل, وما نسخها شيء, وكذا رواه هو أيضاً ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي, عن سفيان الثوري, عن مغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله "من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم" فقال: ما نسخها شيء. وقال ابن جرير: حدثنا بن بشار, حدثنا ابن عون, حدثنا شعبة عن سعيد بن جبير, قال: قال عبد الرحمن بن أبزا سئل ابن عباس عن قوله: "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" الاية, قال: لم ينسخها شيء, وقال في هذه الاية "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" إلى آخرها, قال: نزلت في أهل الشرك. وقال ابن جرير أيضاً حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن منصور, حدثني سعيد بن جبير أو حدثني الحكم عن سعيد بن جبير, قال: سألت ابن عباس عن قوله: "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم" قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام, ثم قتل مؤمناً متعمداً, فجزاؤه جهنم ولا توبة له, فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير عن يحيى الجابر عن سالم بن أبي الجعد, قال: كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره, فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس, ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً ؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً فيها, وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن, يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه, يقول: يا رب, سل هذا فيم قتلني" وايم الذي نفس عبد الله بيده, لقد أنزلت هذه الاية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم, وما نزل بعدها من برهان, وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت يحيى بن المجبر يحدث عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس أن رجلاً أتى إليه فقال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً عمداً ؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً فيها, الاية, قال: لقد نزلت من آخر ما نزل, ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال: وأنى له بالتوبة, وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثكلته أمه رجل قتل رجلاً متعمداً يجىء يوم القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو بيساره ـ أو آخذاً رأسه بيمينه أو بشماله ـ تشخب أوداجه دماً من قبل العرش, يقول : يا رب, سل عبدك فيم قتلني" وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجه, عن محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة, عن عمار الدهني ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد, عن ابن عباس فذكره, وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله ابن أبي حاتم, وفي الباب أحاديث كثيرة , فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره: حدثنا دعلج بن أحمد, حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي (ح), وحدثنا عبد الله بن جعفر, وحدثنا إبراهيم بن فهد, قالا: حدثنا عبيد بن عبيدة حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه, عن الأعمش, عن أبي عمرو بن شرحبيل بإسناده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجىء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ قال, فيقول: قتلته لتكون العزة لك, فيقول: فإنها لي, قال ويجىء آخر متعلقاً بقاتله فيقول: رب سل هذا فيم قتلني . قال فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان, قال: فإنها ليست له بؤ بإثمه, قال: فيهوي في النار سبعين خريفاً" وقد رواه النسائي عن إبراهيم بن المستمر العوفي, عن عمرو بن عاصم, عن معتمر بن سليمان به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى, حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون, عن أبي إدريس, قال: سمعت معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً, أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً" وكذا رواه النسائي عن محمد بن المثنى, عن صفوان بن عيسى به, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا سمويه, حدثنا عبد الأعلى بن مسهر, حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا خالد بن دهقان, حدثنا ابن أبي زكريا, قال سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً, أو من قتل مؤمناً متعمداً" وهذا غريب جداً من هذا الوجه, والمحفوظ حديث معاوية المتقدم, فالله أعلم, ثم روى ابن مردويه من طريق بقية بن الوليد عن نافع بن يزيد: حدثني ابن جبير الأنصاري عن داود بن الحصين, عن نافع, عن ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل مؤمناً متعمداً فقد كفر بالله عز وجل" وهذا حديث منكر أيضاً, فإسناده تكلم فيه جداً, قال الإمام أحمد: حدثنا النضر, حدثنا سليمان بن المغيرة, حدثنا حميد, قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي, فقال لنا: هلما فأنتما أشب سناً مني, وأوعى للحديث مني, فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم, فقال له أبو العالية: حدث هؤلاء بحديثك, فقال: حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأغارت على قوم, فشد مع القوم رجل فاتبعه رجل من السرية شاهراً سيفه, فقال الشاد من القوم: إني مسلم فلم ينظر فيما قال, قال: فضربه فقتله, فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال فيه قولاً شديداً, فبلغ القاتل, فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قال القاتل: والله ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل, قال: فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته, ثم قال أيضاً: يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل, فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم لم يصبر حتى قال الثالثة: والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل, فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه, فقال: "إن الله أبى على من قتل مؤمناً ثلاثاً" ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة, والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل, فإن تاب وأناب, وخشع وخضع وعمل عملاً صالحاً بدل الله سيئاته حسنات, وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته, قال الله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " الاية, وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الاية على المؤمنين خلاف الظاهر, ويحتاج حمله إلى دليل, والله أعلم.
وقال تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" الاية, وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك, كل من تاب أي من أي ذلك تاب الله عليه, قال الله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فهذه الاية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك, وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الاية وقبلها لتقوية الرجاء, والله أعلم, وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالماً هل لي من توبة ؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه, فهاجر إليه فمات في الطريق, فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير مرة, وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى, لأن الله وضع عنا الاصار والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية السمحة.
فأما الاية الكريمة وهي قوله تعالى: "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" الاية, فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه, وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعاً من طريق محمد بن جامع العطار عن العلاء بن ميمون العنبري, عن حجاج الأسود, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة مرفوعاً ولكن لا يصح, ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه, وكذا كل وعيد على ذنب, لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والإحباط, وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد, والله أعلم بالصواب, وبتقدير دخول القاتل في النار, أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له, أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به فليس بمخلد فيها أبداً, بل الخلود هو المكث الطويل, وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان", وأما حديث معاوية "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً, أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً" فعسى للترجي, فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا تنفي وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل لما ذكرنا من الأدلة, وأما من مات كافراً فالنص أن الله لا يغفر له البتة, وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الادميين, وهي لا تسقط بالتوبة, ولكن لا بد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه, والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الادميين, فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة, ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة, فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة, لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة, إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها, ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها, ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم, ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الاخرة, فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه, قال الله تعالى: "ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً" الاية, ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا, أو يعفوا, أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثاً, ثلاثون حقة, وثلاثون جذعة, وأربعون خلفة, كما هو مقرر في كتاب الأحكام, واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة, أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام, على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ, على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون نعم, يجب عليه, لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى, فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس واعتذروا بقضاء الصلاة المتروكة عمداً كما أجمعوا على ذلك في الخطأ, وقال أصحابه,الإمام أحمد وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه, وكذا اليمين الغموس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمداً, فإنهم يقولون بوجوب قضائها إذا تركت عمداً, وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عارم بن الفضل, حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن أبي عبلة, عن الغريف بن عياش عن واثلة بن الأسقع, قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا: إن صاحباً لنا قد أوجب, قال: "فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" وقال أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق, حدثنا ضمرة بن ربيعة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الديلمي, قال: أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا له حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب, فقال: "أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار" وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة به, ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان فغضب فقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص, قلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب, يعني النار بالقتل, فقال: "أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار" .
قوله 93- "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم" لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمداً.
وقد اختلف العلماء في معنى العمد، فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو القتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المحدد، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها. وقال الجمهور: إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصى أو بغير ذلك، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عمد، وشبه عمد، وخطأ. واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها. وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين: عمد، وخطأ ولا ثالث لهما. واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان. ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك في السنة. وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمداً، فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له: أي يستحقها بسبب هذا الذنب، وبين كونه خالداً فيها، وبين غضب الله عليه ولعنته له وإعداده له عذاباً عظيماً. وليس وراء هذا التشديد تشديد، ولا مثل هذا الوعيد وعيد. وانتصاب خالداً على الحال. وقوله "وغضب الله عليه" معطوف على مقدر، يدل عليه السياق: أي جعل جزاءه جهنم او حكم عليه أو جازاه وغضب عليه وأعد له.
وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها علماء أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" وهي آخر ما نزل وما نسختها شيء، وقد روى النسائي عنه نحو هذا. وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى "إن الحسنات يذهبن السيئات" وقوله "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده". وقوله "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قالوا أيضاً: والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان، فيكون معناهما: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد السبب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضاً بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم: "قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه" وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره في الذي قتل مائة نفس، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن القاتل عمداً داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. وقد أوضحت في شرحي على المنتقى متمسك كل فريق.
والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً، لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجباً أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجباً وكان القاتل غنياً متمكناً من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد التوبة من القاتل عمداً وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فنحن لا يقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً" يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وما كان لمؤمن" الآية، قال: إن عياش بن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمناً كان يعذبه هو وأبو جهل وهو أخوه لأمه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وعياش يحسب أن ذلك الرجل كافر. وأوضح من هذا السياق ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني الحارث، فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً" الآية، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم قال له: قم فحرر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي بأطول من هذا. وقد روي من طرق غير هذه. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية، فعدل ابو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله فضربه. وأخرج ابن منذه وأبو نعيم نحو ذلك ولكن فيه أن الذي قتل المتعوذ بكلمة الشهادة هو بكر بن حارثة الجهني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "فتحرير رقبة مؤمنة" قال: يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصلى. وكل رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة، فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة، وفي قوله "ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا" قال: عليه الدية مسلمة إلا أن يتصدق بها عليه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: في حرف أبي فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها، فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء: أي أنت رسول الله، فقال أعتقها فإنها مؤمنة". وقد روي من طرق وهو في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي. وقد وردت أحاديث في تقدير الدية، وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد، ودية المسلم ودية الكافر، وهي معروفة فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضع. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله "ودية مسلمة إلى أهله" قال: هذا المسلم الذي ورثته مسلمون "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وليس بينهم وبين رسول الله عقد "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد فيقتل فيكون ميراثه للمسلمين وتكون ديته لقومه لأنهم يعقلون عنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" يقول: فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن فقتله خطأ فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين ولا دية عليه، وفي قوله "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق" يقول: إذا كان كافراً في ذمتكم فقتل فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طريق عطاء بن السائب عن أبي عياش قال: كان الرجل يجيء فيسلم. ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم فتعزوهم جيوش النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل الرجل فيمن يقتل، فأنزل الله هذه الآية "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" وليس له دية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله "توبة من الله" يعني: تجاوزاً من الله لهذه الأمة حيث جعل في قتل الخطا الكفارة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة: أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة. فاعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه، وفيه نزلت الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه، وفيه أن مقيس بن صبابة لحق بمكة بعد ذلك وارتد عن الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" بعد التي في سورة الفرقان بثمان سنين وهي قوله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" إلى قوله: "غفوراً رحيماً". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن زيد بن ثابت أن قوله "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" نزلت بعد قوله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" بستة أشهر. وأخرج ابن المنذر عنه قال: نزلت هذه الآية التي في النساء بعد قوله "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" بأربعة أشهر، والآثار عن الصحابة في هذا كثيرة جداً، والحق ما عرفناك.
93-قوله تعالى:"ومن يقتل مؤمناً متعمداً"الآية: نزلت في مقيس بن صبابة الكناني، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد أخاه هشام قتيلاً في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلاً من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام ابن صبابة ان تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته ، فإبلغهم الفهري ذلك فقالوا : سمعاً وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلاً ولكنا نؤدي ديته ، فاعطوه مائة من الإبل ، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فاتى الشيطان مقيساً فوسوس إليه، فقال : تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة ، اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية ، فتغفل الفهري فرماه بصخرة فشدخه ، ثم ركب بعيراً وساق بقيتها راجعاً إلى مكة كافراً فنزل فيه:"ومن يقتل مؤمناً متعمداً" "فجزاؤه جهنم خالداً فيها"، بكفره وارتداده ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، عمن آمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة.
قوله تعالى:"وغضب الله عليه ولعنه"أي: طرده عن الرحمة،"وأعد له عذاباً عظيماً" اختلفوا في حكم هذه الآية.
فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما:أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له ، فقيل له: ألي قد قال الله في سورة الفرقان:"ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق"إلى أن قال" ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب " (الفرقان 67-70) فقال: كانت هذه في الجاهلية، وذلك ان أناساً من اهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:إن الذي تدعونا إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" إلى قوله" إلا من تاب وآمن" فهذه لأولئك.
وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم.
وقال زيد بن ثابت: لما نزلت التي في الفرقان"والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" عجبنا من لينها فبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية ، وباللينة آية الفرقان.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تلك آية مكية وهذه مدنية نزلت ولم ينسخها شيء.
والذي عليه الأكثرون ، وهو مذهب أهل السنة: أن قاتل المسلم عمداً توبته مقبولة لقوله تعالى: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً" (طه-82) وقال:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"(النساء-48) وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل، كما روي عن سفيان بن عيينة انه قال: إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، وإن قتل ثم جاء يقال: لك توبة، ويروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر، لأن الآية نزلت في قاتل هو كافر، وهو مقيس بن صبابة ، وقيل : إنه وعيد لمن قتل مؤمناً مستحلاً لقتله بسبب إيمانه ، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافراً مخلداً في النار، وقيل في قوله تعالى:"فجزاؤه جهنم خالداً فيها"معناه: هي جزاؤه عن جازاه ، ولكنه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بكرمه، فإنه وعد أن يغفر لمن يشاء.
حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له: هل يخلف الله وعده؟ فقال:لا، فقال : أليس قد قال الله تعالى"ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها" فقال له أبو عمرو ابن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان عن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفاً وذماً ، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفاً وذماً، وأنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة".
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أناأحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه- وكان شهد بدراً وهو أحد النقباء ليلة العقبة- وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه :"بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم/وأرجلكم ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه". فبايعناه على ذلك.
قوله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"الآية، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: " نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك ، وكان من أهل فدك وكان مسلماً لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم، وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي، فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم، فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً ، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :قتلتموه إرادة ما معه ؟ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد، فقال: يا رسول الله استغفر لي، فقال فكيف بلا إله إلا الله ؟قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أسامة: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: اعتق رقبة".
وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال "قلت:يا رسول الله إنما قال خوفاً من السلاح ، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً أم لا"؟
وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلم عليهم، قالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه قأتوابها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية:
93" ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " لما فيه من التهديد العظيم. قال ابن عباس رضي الله عنهم. لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً. ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه. والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى: " وإني لغفار لمن تاب " ونحوه وهو من عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ولم يظهر قاتله، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتداً، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم.
93. Whoso slayeth a believer of set purpose, his reward is Hell for ever. Allah is wroth against him and He hath cursed him and prepared for him an awful doom.
93 - If a man kills a believer intentionally, his recompense is hell, to abide therein (for ever): and the wrath and the curse of God are upon him, and a dreadful penalty is prepared for him.