9 - (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وعداً حسناً (لهم مغفرة وأجر عظيم) هو الجنة
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، وعد الله ، أيها الناس ، الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به من عند ربهم، وعملوا بما واثقهم الله به ، وأوفوا بالعقود التي عاقدهم عليها بقولهم : لنسمعن ولنطيعن الله ورسوله ، فسمعوا أمر الله ونهيه وأطاعوه ، فعملوا بما أمرهم الله به ، وانتهوا عما نهاهم عنه.
ويعني بقوله: "لهم مغفرة"، لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم، "مغفرة"، وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم وتغطيتها، بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها، "وأجر عظيم"، يقول : ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم ، جزاءً على أعمالهم التي عملوها، ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها، "أجر عظيم". والعظيم من خيره غير محدود مبلغه ، ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره.
فإن قال قائل : إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولم يخبر بما وعدهم ، فأين الخبر عن الموعود؟ قيل : بلى، إنه قد أخبر عن الموعود، والموعود هو قوله : "لهم مغفرة وأجر عظيم". فإن قال : فإن قوله :"لهم مغفرة وأجر عظيم"، خبر مبتدأ، ولو كان هو الموعود لقيل : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً، ولم يدخل في ذلك لهم ، وفي دخول ذلك فيه ، دلالة على ابتداء الكلام ، وانقضاء الخبر عن الوعد!
قيل : إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرت ، فإنه مما اكتفي بدلالة ما ظهر من الكلام على ما بطن من معناه ، من ذي بعض قد ترك ذكره فيه. وذلك أن معنى الكلام : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يغفر لهم وبأجرهم أجراً عظيماً، لأن من شأن العرب أن يصحبوا الوعد أن ويعملوه فيها، فتركت أن إذ كان الوعد قولاً. ومن شأن القول أن يكون ما بعده من جمل الأخبار مبتدأ، وذكر بعده جملة الخبر اجتزاءً بدلالة ظاهر الكلام على معناه ، وصرفاً للوعد الموافق للقول في معناه ، وإن كان للفظه مخالفاً، إلى معناه ، فكأنه قيل : قال الله : للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجر عظيم.
وكان بعض نحويي البصرة يقول : إنما قيل : "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم"، في الوعد الذي وعدوا، فكأن معنى الكلام على تأويل قائل هذا القول : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم مغفرة وأجر عظيم ، فيما وعدهم به.
ومعنى " لهم مغفرة وأجر عظيم " أي قال الله في حق المؤمنين " لهم مغفرة وأجر عظيم " أي لا تعرف كنهه أفهام الخلق كما قال : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " [ يس : 11] وإذا قال الله تعالى :" وأجر عظيم " [المائدة :9] و" أجر كريم " [ يس: 11] و" وأجر كبير" [ هود:11] فمن ذا الذي يقدر قدره ؟ ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله : " لهم مغفرة " وهو في موضع نصب لأنه وقع موقع الموعود به على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة إلا أن الجملة وقعت موقع المفرد كما قال الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعينا سلسبيلا
وموضع الجملة نصب ولذلك عطف عليها بالنصب وقيل: هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفاً على تقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما وعدهم به وهذا المعنى عن الحسن .
يقول تعالى مذكراً عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم . وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته, والقيام بدينه وإبلاغه عنه, وقبوله منه, فقال تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا" وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم كما قالوا: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا, وأن لا ننازع الأمر أهله, وقال الله تعالى: " وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ", وقيل: هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه, رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
وقيل: هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم "ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" قاله مجاهد ومقاتل بن حيان, والقول الأول أظهر, وهو المحكي عن ابن عباس والسدي واختاره ابن جرير .
ثم قال تعالى: "واتقوا الله" تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال, ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر, فقال "إن الله عليم بذات الصدور", وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله" أي كونوا قوامين بالحق لله عز وجل, لا لأجل الناس والسمعة, وكونوا "شهداء بالقسط" أي بالعدل لا بالجور, وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلاً فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فجاءه ليشهده على صدقتي, فقال "أكل ولدك, نحلت مثله ؟" قال: لا , فقال "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم". وقال "إني لا أشهد على جور" قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة .
وقوله تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم, بل استعملوا العدل في كل أحد صديقاً كان أو عدواً, ولهذا قال "اعدلوا هو أقرب للتقوى" أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه, ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه, كما في نظائره من القرآن وغيره, كما في قوله "وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم" .
وقوله: هو أقرب للتقوى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء, كما في قوله تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا" وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال تعالى: "واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها, إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, ولهذا قال بعده "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة" أي لذنوبهم "وأجر عظيم" وهوالجنة التي هي من رحمته على عباده, لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل, وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم, وهو تعالى الذي جعلها أسباباً إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه فالكل منه وله, فله الحمد والمنة .
ثم قال: "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم" وهذا من عدله تعالى, وحكمته وحكمه الذي لا يجور فيه, بل هو الحكم العدل الحكيم القدير. وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم". قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري, ذكره عن أبي سلمة, عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً, وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها, وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة, فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذه فسله, ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني ؟ قال: "الله عز وجل". قال الأعرابي, مرتين أو ثلاثاً: من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "الله". قال: فشام الأعرابي السيف, فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه, فأخبرهم خبر الأعرابي, وهو جالس إلى جنبه, ولم يعاقبه, وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا, ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي, وتأول "اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" الآية, وقصة هذا الأعرابي وهو غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح .
وقال العوفي, عن ابن عباس في هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم" وذلك أن قوماً من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاماً ليقتلوهم, فأوحى الله إليه بشأنهم, فلم يأت الطعام وأمر أصحابه فأتوه, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو مالك: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف, رواه ابن أبي حاتم. وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد وعكرمة وغير واحد, أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى, لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين, ووكلوا عمرو بن جحاش ابن كعب بذلك, وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه, فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تمالؤوا عليه, فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه, فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وقوله تعالى: "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه, وحفظه من شر الناس وعصمه, ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم, فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم .
قوله: 9- "لهم مغفرة وأجر عظيم" هذه الجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لقوله: "وعد" على معنى وعدهم أن لهم مغفرة، أو وعدهم مغفرة فوقعت الجملة موقع المفرد فأغنت عنه، ومثله قول الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنـــات وعيناً سلسبيــــلا
9- " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " ، وهذا في موضع النصب ، لأن فعل الوعد واقع على المغفرة ، ورفعها على تقدير أي : وقال لهم مغفرة وأجر عظيم .
9" وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " إنما حذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله " لهم مغفرة " فإنه استئناف يبينه. وقيل الجملة في موضع المفعول فإن الوعد ضرب من القول كأنه قال: وعدهم هذا القول.
9. Allah hath promised those who believe and do good works: Theirs will be forgiveness and immense reward.
9 - To those who believe and do deeds of righteousness hath God promised forgiveness and a great reward.