9 - (وإن طائفتان من المؤمنين) الآية نزلت في قضية هي أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا ومر على ابن ابي فبال الحمار فسد ابن ابي أنفه فقال ابن رواحة والله لبول حماره أطيب ريحا من مسكك فكان بين قوميهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف (اقتتلوا) جمع نظرا إلى المعنى لأن كل طائفة جماعة وقرىء اقتتلا (فأصلحوا بينهما) ثني نظرا إلى اللفظ (فإن بغت) تعدت (إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء) ترجع (إلى أمر الله) الحق (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل) بالانصاف (وأقسطوا) إعدلوا (إن الله يحب المقسطين)
قوله تعالى وإن طائفتان الآية أخرج الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا وانطلق إلى عبد الله بن أبي فقال إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار والله لحماره أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فنزلت فيهم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
ك وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن أبي مالك تلاحى رجلان من المسلمين فغضب قوم هذا لهذا وهذا لهذا فاقتتلوا بالأيدي والنعال وأنزل الله وإن طائفتان الآية
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحبه امرأة يقال لها أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها في علية له وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها وأنزلوها ليطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان بأهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فبعث اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله
ك وأخرج ابن جرير عن الحسن قال كانت تكون الخصومة بين الحيين فيدعون إلى الحكم فيأبون أن يجيبوا فأنزل الله وإن طائفتان من المؤمنون اقتتلوا الآية
وأخرج عن قتادة قال ذكر لنا ان هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر لآخذن عنوة لكثرة عشيرته وان الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى فلم يزل الأمر حتى تدافعوا وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف
يقول تعالى ذكره : إن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا ، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضا بما فيه لهما وعليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل " فإن بغت إحداهما على الأخرى " يقول : فإن أبت هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم الله له وعليه ، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه ، وأجابت الأخرى منهما " فقاتلوا التي تبغي " يقول : فقاتلوا التي تعتدي ، وتأبى الإجابة إلى حكم الله " حتى تفيء إلى أمر الله " يقول : حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه " فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل " يقول : فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه ، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها " بالعدل " يعني بالإنصاف بينهما ، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " فإن الله سبحانه أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله ، وينصف بعضهم من بعض ، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله ، حتى ينصف المظلوم من الظالم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ ،فحق على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم ، حتى يفيئوا إلى أمر الله ،ويقروا بحكم الله .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهيب قال : قال ابن زيد في قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " ... إلى آخر الآية ، قال : هذا أمر من الله أمر به الولاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس ، وأمرهم أن يصلحوا بينهما ، فإن أبوا قاتل الفئة الباغية ، حتى ترجع إلى أمر الله ، فإذا رجعت اصلحوا بينهما ، وأخبروهم أن المؤمنين إخوة ،فأصلحوا بين أخويكم ، قال : ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام .
وذكر أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه ، مما سأذكره إن شاء الله تعالى .
ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا معتمر بن سليمان عن أبيه ، عن أنس قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : " لو أتيت عبد الله بن أبي . قال : فانطلق إليه وركب حمارا ، وانطلق المسلمون ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لنتن حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك ، قال : فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه قال : فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه نزلت فيهم " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " ".
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال : ثنا عبثر قال : ثني حصين عن أبي مالك في قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " قال : رجلان اقتتلا فغضب لذا قومه ، ولذا قومه ، فاجتمعوا حتى اضربوا بالنعال حتى كاد يكون بينهم قتال ـ فأنزل الله هذه الآية .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا هشيم عن حصين عن أبي مالك في قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " قال : كان بينهم قتال بغير سلاح .
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم قال : أخبرنا حصين عن أبي مالك في قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " قال : كانا حيين من أحياء الأنصار ، كان بينهما تنازع بغير سلاح .
حدثنا ابن حميد قال : أخبرنا جرير عن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " قال : كان قتالهم بالنعال والعصي ، فأمرهم أن يصلحوا بينهم .
قال : ثنا مهران قال : ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " قال : كانت تكون الخصومة بين الحيين ، فيدعوهم إلى الحكم ، فيأبون أن يجيبوا ، فأنزل الله : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " يقول : ادفعوهم إلى الحكم ، فكان قتالهم الدفع .
قال : ثنا مهران قال : ثنا سفيان عن السدي " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل ، فكان بينها وبين زوجها شيء ، فرقاها إلى علية ، فقال لهم : احفظوا ، فبلغ ذلك قومها ، فجاءوا وجاء قومه ، فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء ليصلح بينهم ، فنزل القرآن " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى " قال : تبغي : لا ترضى بصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن نجيح عن مجاهد قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " قال : الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصي بينهم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا "..الآية ، ذكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنه عنوة ، لكثرة عشيرته . وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر حتى تدافعوا ، وحتى تناول بعضهم بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف ، فأمر الله أن تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله ، كتاب الله ، وإلى حكم نبيه صلى الله عليه وسلم . وليست كما تأولها أهل الشبهات وأهل البدع ، وأهل الفراء على الله ةعلى كتابه ، أنه المؤمن يحل لك قتله ، فوالله لقد عظم الله حرمة تالمؤمن حتى نهاك أن تظن بأخيك إلا خيرا ، فقال : " إنما المؤمنون إخوة " الحجرات: 10 ... الآية .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن أ، قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي ، فأنزل الله فيهم " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " قال قتادة : كان رجلان بينهما حق ، فتدارءا ، فقال أحدهما : لآخذنه عنوة ، لكثرة عشيرته ، وقال الآخر : بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد قال : ثني عبد الله بن عباس قال : قتل زيد في قول الله تعالى : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " وذلك الرجلان يقتتلان من أهل الإسلام ، أو النفر والنفر ، أو القبيل والقبيلة ، فأمر الله أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحق الذي أنزله في كتابه : إما القصاص والوقد ، وإما العقل والعير ، وإماا العفو ، " فإن بغت إحداهما على الأخرى " بعد ذلك كان المسلمون مع المظلوم على الظالم ، حتى يفيء إلى أمر الله ، ويرضى به .
حدثنا ابن البرقي قال : ثنا ابن أبي مريم قال : أخبرنا نافع بن يزيد قال : أخبرنا ابن جريح قال : ثني أبن شهاب وغيره ، يزيد في الحديث بعضهم على بعض ، قال : " جلس رسول الله صلى الله عليه سلم في مجلس فيه عبد الله بن رواحة ، وعبد الله بن أبي ابن سلول ، فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن أبي ابن سلول : لقد آذانا روث حماره ، وسد علينا الروح . وكان بينه وبين ابن رواحة شيء حتى خرجوا بالسلاح ، فأتى رسول الله صلى الله عيه وسلم ، فأتاهم ، فحجز بينهم" ، فلذلك يقول عبد الله بن أبي :
متى ما يكن مولاك خصمك جاهدا تظلم ويصرعك الذين تصارع
قال : فأنزلت فيهم هذه الآية " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " .
وقوله " وأقسطوا " يقول تعالى ذكره : واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله " إن الله يحب المقسطين " يقول : إن الله يحب العادلين في أحكامهم ، القاضين بين خلقه بالقسط .
فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال : قيل : يا نبي الله ، لو أتيت عبد الله بن ابي ؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني ! فوالله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه ، وغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزل فيها هذه الآية ، وقال مجاهد : نزلت في الأوس والخزرج ، قال مجاهد : تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية ، ومثله عن سعيد بن جبير : أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه ، فأنزل الله هذه الآية فيهم ، وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهم مدارأة في حق بينهما ، فقال أحدهما ، لآخذن حقي عنوة ، لكثرة عشيرته ، ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال والسيوف ، فنزلت هذه الآية ، وقال الكلبي : نزلت في حرب سمير وحاطب ، وكان سمير قتل حاطباً ، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت ، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصلحوا بينهما ، وقال السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد ، تحت رجل من غير الأنصار ، فتخاصمت مع زوجها أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وأن المرأة بعثت إلى قومها ، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها ، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمله ليحولوا بين المرأة وأهلها ، فتدافعوا وتجالدوا بالنعال ، فنزلت الآية ، والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنين ، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس ، وفي قراءة عبد الله ( حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط ) وقرأ ابن أبي عبلة ( اقتتلنا ) على لفظ الطائفتين ، وقد مضى في آخر براءة القول فيه ، وقال ابن عباس في قوله عز وجل : " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " [ النور : 2 ] ، قال : الواحد فما فوقه ، والطائفة من الشيء القطعة منه " فأصلحوا بينهما " بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما " فإن بغت إحداهما على الأخرى " تعدت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه ، والبغي : التطاول والفساد ، " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " أي ترجع إلى كتابه " فإن فاءت " رجعت " فأصلحوا بينهما بالعدل " أي احملوهما على الإنصاف ، " وأقسطوا " أيها الناس فلا تقتتلوا ، وقيل : أقسطوا أي أعدلوا ، " إن الله يحب المقسطين " أي العادلين المحقين .
الثانية : قال العلماء : لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما ، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعاً أو لا فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة ، فإن لم يتحاجزا ولم يصلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلهما ، وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل ، فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق ، فإن ركبنا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين ، والله أعلم .
الثالثة : في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين ، وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين ، واحتج بقوله عليه السلام : " قتال المؤمن كفر " ، ولو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر ، تعالى الله عن ذلك ! وقد قاتل الصديق رضي الله عنه ، من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة ، وأمر ألا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولم تحل أموالهم ، بخلاف الواجب في الكفار ، وقال الطبري : لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم ، بأن يتحزبوا عليهم ، ويكف المسلمون أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله عليه السلام : " خذوا على أيدي سفهائكم " .
الرابعة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين ، وعليها عول الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " تقتل عمارً الفئة الباغية " ، و" قوله عليه السلام في شأن الخوارج : يخرجون على خير فرقة أول على حين فرقة " ، والرواية الأولى أصح ، لقوله عليه السلام : "تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق " ، وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه ، فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن علياً رضي الله عنه كان إماماً ، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح ، لأن عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه ، لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال : لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل ، فصبر على البلاء ، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة ، ثم لم يمكن الناس سدى ، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشورى ، وتدافعوها ، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها ، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل ، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل ، فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام ، فلما بويع له طلب أهل الشام ، في شرط البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه ، فقالوا : لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحاً ومساء ، فكان علي في ذلك أسد رأياً وأصوب قيلاً ، لأن علياً لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حرباً ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة ، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم ، فيجري القضاء بالحق .
ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة ، وكذلك جرى لطلحة والزبير ، فإنهما ما خلعا علياً من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة ، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى .
قلت : فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم ، وقال جلة من أهل العلم : إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة ، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به ، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم ، وتم الصلح والتفرق على الرضا ، فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم ، فاجتمعوا وتشاورا واختلفوا ، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ، ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين ، وتختلف السهام بينهم ، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي : غدر طلحة والزبير ، والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير ، غدر علي ، فتم لهم ذلك على ما دبروه ، ونشبت الحرب ، فكان كل فريق دافعاً لمكرته عند نفسه ، ومانعاً من الإشاطة بدمه ، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى ، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل ، وهذا هو الصحيح المشهور ، والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى : " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " أمر بالقتال ، وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات ، كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم ، وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم ، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه ، ويروى أن معاوية رضي الله عنه لما أفضى إليه الأمر ، عاتب سعداً على ما فعل ، وقال له : لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا ، ولا ممن قاتل الفئة الباغية ، فقال له سعد : ندمت على تركي قتال الفئة الباغية ، فتبين أنه ليس على الكل درك فيما فعل ، وإنما كان تصرفاً بحكم الاجتهاد وإعمالاً بمقتضى الشرع ، والله أعلم .
السادسة : قوله تعالى : " فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل " ومن العدل في صلحهم الا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال ، فإنه تلف على تأويل ، وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي ، وهذا أصل في المصلحة ، وقد قال لسان الأمة : إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل ، إذ كا أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله .
السابعة : إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها ، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو بمن فيه كفاية ، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة ، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا ، ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ولا تسبى ذراريهم ولا أموالهم ،وإذا قتل العادل الباغي ، أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا ، ولا يرث قاتل عمداً على حال ، وقيل : إن العادل يرث الباغي ، قياساً على القصاص .
الثامنة : وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به وقال أبو حنيفة : يضمنون ، ولـ الشافعي قولان ، وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبراً ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيراً ولا ضمنوا نفساً ولا مالاً ، وهو القدوة ، وقال ابن عمر : " قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، فقال : لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها " ، فأما ما كان قائماً رد بعينه ، هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له ، وذكر الزمخشري في تفسيره ، إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت ، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن ، إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت ، وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع ، فحمل الإصلاح بالعدل في قوله " فأصلحوا بينهما بالعدل " [ الحجرات : 9 ] ، على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل ، وعلى قول غيره وجهه أن يحمل علىكون الفئة الباغية قليلة العدد ، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ، ليس بحسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط ، قال الزمخشري : فإن قلت : لم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأول ؟ قلت : لأن المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين أو راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة ، إلا إذا أصرتا فيحينئذ تجب المقاتلة ، وأما الضمان فلا يتجه ، وليس كذلك إذا بغت إحداهما ، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين .
التاسعة : ولو تغلبوا على بلد فأخذوا الصدقات وأقاموا الحدود وحكموا فيهم بالأحكام لم تثن عليهم الصدقات ولا الحدود ، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافاً للكتاب أو السنة أو الإجماع ، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة ، قاله مطرف و ابن الماجشون ، وقال ابن القاسم : لا تجوز بحال ، وروي عن أصبغ أنه جائز ، وروي عنه أيضاً أنه لا يجوز كقول ابن القاسم : وبه قال أبو حنيفة ، لأنه عمل بغير حق ممن لا تجوز توليته ، فلم يجز كما لو لم يكونوا بغاة ، والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم ، لما انجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح ، لم يعرضوا لأحد منهم في حكم ، قال ابن العربي : الذي عندي أن ذلك لا يصلح ، لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي ، ولم يكن هناك من يعترضه والله أعلم .
العاشرة : لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل ، وهم كلهم لنا أئمة ، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بنيهم ، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر ، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم ، وأن الله غفر لهم ، وأخبر بالرضا عنهم ، هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض " فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً ، وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيراً في الواجب عليه ، لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة ، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار وقوله : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بشر قاتل ابن صفية بالنار " ، وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة ، شهيد ، ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار ، وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل بل صواب أراهم الله الاجتهاد ، وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم وإبطال فضائلهم وجهادهم ، وعظيم غنائهم في الدين ، رضي الله عنهم ، وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال : " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " [ البقرة : 134 ] ، وسئل بعضهم عنها أيضاً فقال : تلك دماء قد طهر الله منها يدي ، فلا أخضب بها لساني ، يعني في التحرز من الوقوع في خطأ ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً فيه ، قال ابن فورك : ومن أصحابنا من قال : إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف ، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة ، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة ، وقال المحاسبي : فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا ، قال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن ، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا ، ونتبع ما اجتمعوا عليه ، ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأياً منا ، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل ، إذ كانوا غير متهمين في الدين ونسأل الله التوفيق .
يقول تعالى آمراً بالإصلاح بين الفئتين الباغين بعضهم على بعض: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" فسماهم مؤمنين مع الاقتتال, وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت, لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم, وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً, ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما, فجعل ينظر إليه مرة, وإلى الناس أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". فكان كما قال صلى الله عليه وسلم, أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة, والواقعات المهولة. وقوله تعالى: "فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" أي حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله, وتسمع للحق وتطيعه, كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قلت: يا رسول الله, هذا نصرته مظلوماً, فكيف أنصره ظالماً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم, حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يحدث أن أنساً رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم, لو أتيت عبد الله بن أبي, فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم, وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون, وهي أرض سبخة, فلما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إليه قال: "إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك" فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك. قال: فغضب لعبد الله رجال من قومه, فغضب لكل واحد منهما أصحابه, قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال, فبلغنا أنه أنزلت فيهم "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" ورواه البخاري في الصلح عن مسدد ومسلم في المغازي عن محمد بن عبد الأعلى كلاهما عن المعتمر بن سليمان عن أبيه به نحوه.
وذكر سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال, فأنزل الله تعالى هذه الاية فأمر بالصلح بينهما, وقال السدي: كان رجل من الأنصار يقال له عمران , كانت له امرأة تدعى أم زيد, وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها, فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها, فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها, وإن الرجل كان قد خرج, فاستعان أهل الرجل, فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها, فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم الاية, فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم وفاؤوا إلى أمر الله تعالى. وقوله عز وجل: "فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين" أي اعدلوا بينهما فيما كان أصاب بعضهم لبعض بالقسط وهو العدل "إن الله يحب المقسطين".
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين أيدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا" ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن عبدالأعلى به. وهذا إسناده جيد قوي رجاله على شرط الصحيح, وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد, حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش, الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وماولوا" ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به. وقوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة" أي الجميع إخوة في الدين, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" وفي الصحيح "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" وفي الصحيح أيضاً "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك مثله" والأحاديث في هذا كثيرة, وفي الصحيح "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي الصحيح أيضاً "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج, حدثنا عبد الله, أخبرنا مصعب بن ثابت حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد, يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد في الرأس" تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده, وقوله تعالى: "فأصلحوا بين أخويكم" يعني الفئتين المقتتلتين "واتقوا الله" أي في جميع أموركم "لعلكم ترحمون" وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.
قوله: 9- "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" قرأ الجمهور اقتتلوا باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله "هذان خصمان اختصموا" والضمير في قوله بينهما عائد إلى الطائفتين باعتبار اللفظ. وقرأ ابن أبي عبلة اقتتلتا اعتباراً بلفظ طائفتان، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير [اقتتلا] وتذكير الفعل في هذه القراءة باعتبار الفريقين أو الرهطين. والبغي: التعدي بغير حق والامتناع من الصلح الموافق للصواب، والفيء: الرجوع والمعنى: أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله ويأخذوا على يد الطائفة [الظالمة] حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها للأخرى. ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال: "وأقسطوا إن الله يحب المقسطين" أي واعدلوا إن الله يحب العادلين، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء. قال الحسن وقتادة والسدي "فأصلحوا بينهم" بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضى بما فيه لهما وعليهما "فإن بغت إحداهما" وطلبت ما ليس لها ولم ترجع إلى الصلح "فقاتلوا التي تبغي" حتى ترجع إلى طاعة الله والصلح الذي أمر الله به.
9. قوله عز وجل: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " الآية.
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا مسدد ، حدثنا معتمر قال سمعت أبي يقول: إن أنسأ قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها نزلت: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ".
ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاصطلحوا بعضهم عن بعض.
وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذن حقي منك عنوة، لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل، وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا، وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله عز وجل: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما، " فإن بغت إحداهما "، تعدت إحداهما، " على الأخرى "، وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله، " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء "، ترجع، " إلى أمر الله "، في كتابه، " فإن فاءت "، رجعت إلى الحق، " فأصلحوا بينهما بالعدل "، بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله، " وأقسطوا "، اعدلوا، " إن الله يحب المقسطين ".
9-" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع ." فأصلحوا بينهما " بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى . " فإن بغت إحداهما على الأخرى " تعدت عليها . " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " ترجع إلى حكمه أو ما أمر به ، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس ، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين . " فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل " بفصل ما بينهما على ما حكم الله ، وتقييد الإصلاح بالعدل ها هنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة . " وأقسطوا " واعدلوا في كل الأمور " إن الله يحب المقسطين " يحمد فعلهم بحسن الجزاء . والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال ، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحربت ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى ، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة .
9. And if two parties of believers fall to fighting, then make peace between them. And if one party of them doeth wrong to the other, fight ye that which doeth wrong till it return unto the ordinance of Allah; then, if it return, make peace between them justly, and act equitably. Lo! Allah loveth the equitable.
9 - If two parties among the Believers fall into a quarrel, make ye peace between them: but if one of them transgresses beyond bounds against the other, then fight ye (all) against the one that transgresses until it complies with the command of God; but if it complies, then make peace between them with justice, and be fair: for God loves those who are fair (and just).