9 - (قل ما كنت بدعا) بديعا (من الرسل) أي أول مرسل قد سبق قبلي كثيرون منهم فكيف تكذبونني (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) في الدنيا أأخرج من بلدي أم أقتل كما فعل بالأنبياء قبلي أو ترموني بالحجارة أم يخسف بكم كالمكذبين من قبلكم (إن) ما (أتبع إلا ما يوحى إلي) أي القرآن ولا أبتدع من عندي شيئا (وما أنا إلا نذير مبين) بين الانذار
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك من قريش " ما كنت بدعاً من الرسل " يعني : ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم . يقال منه : هو بدع في هذا ، و بديع فيه ، إذا كان فيه أول . و من البدع قول عدي بن زيد .
فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسى و أسعد
و من البديع قول الأحوص :
فخرت فانتمت فقلت انظريني ليس جهلاً أتيته ببديع
يعني بأول ، يقال : هر بدع من قوم أبداع .
و بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثني معاوية ثني علي عن ابن عباس قوله " ما كنت بدعاً من الرسل " يقول : لست بأول الرسل .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله " ما كنت بدعاً من الرسل " قال : يقول : ما كنت أول رسول أرسل .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا عاصم قال : ثنا عيسى و حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قوله " ما كنت بدعاً من الرسل " قال : ما كنت أولهم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا عبد الوهاب بن معاوية عن أبي هبيرة ، قال : سألت قتادة " قل ما كنت بدعاً من الرسل " قال : أي قد كانت قبلي رسل .
حدثنا بشر قال يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة ، قوله "قل ما كنت بدعاً من الرسل " يقول : أي إن الرسل قد كانت قبلي .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة في قوله " بدعا من الرسل " قال كانت قبله رسل .
وقوله " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " اختلف أهل التأويل في تأويله فقال بعضهم : عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و قيل له : قل للمؤمنين بك ما ادري ما يفعل بي و لا بكم يوم القيامة ، و إلام نصير هنالك ، قالوا ثم بين الله لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم و للمؤمنين به حالهم في الآخرة فقيل له "إنا فتحنا لك فتحاً مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " الفتح 1-2 و قال " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم " الفتح :5
ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي قال : ثنا أبو صالح ، قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم " فأنزل الله بعد هذا " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر "
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح عن الحسين عن يزيد عن عكرمة و الحسين البصري قالا : قال حم الأحقاف " و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي و ما أنا إلا نذير مبين " فنسختها الآية التي في سورة الفتح " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله "الفتح 1-2 ...الآية ، فخرج نبي الله صلى اله عليه و سلم حين نزلت هذه الآية ، فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر فقال : له رجال من المؤمنين هنيئاً لك يا نبي الله ، قد علمنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله عزوجل في سورة الأحزاب فقال " و بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً "الأحزاب:47 و قال " ليدخل المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم و كان ذلك عند الله فوزاً عظيماً * و يعذب المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات الظانين بالله " الفتح 5-6 ... الآية ، فبين الله ما يفعل به و بهم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد عن قتادة " و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم " ثم درى أو علم من الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك ما يفعل به ، يقول " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر " الفتح: 1-2.
حدثنا ابن عبد الاعلى ، قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة في قوله " و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم " قال : قد بين له أنه قد غفر من ذنبه ما تقدم و ما تأخر .
و قال آخرون : بل ذلك أمر من الله جل ثناؤه نبيه عليه الصلاة و السلام أن يقوله للمشركين من قومه و يعلم أنه لا يدري إلام يصير أمره و أمرهم في الدنيا أيصير أمره معهم أن يقتلوه أو يخرجوه من بينهم أو يؤمنوا به فيتبعوه ، و أمرهم إلى الهلاك، كما أهلكت الأمم المكذبة رسلها من قبلهم أو إلى التصديق له فيما جاءهم به من عند الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو بكر الهذلي ، عن الحسن ، في قوله " و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم " فقال : أما في الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، و لكن قال : و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي أو أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي و لا أدري ما يفعل بي و لا بكم ، أمتي المكذبة ، أم أمتي المصدقة ، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفاً ، أم مخسوف بها خسفاً ثم أوحي إليه : " وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس " الإسراء:60 يقول : أحطت لك بالعرب أن يقتلوك ، فعرف أنه لا يقتل ثم أنزل الله عزوجل " هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و كفى بالله شهيداً " التوبة : 33 يقول : أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال له في أمته : " و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " الأنفال : 33 فأخبره الله ما يصنع به ، و ما يصنع بأمته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما أدري ما يفترض علي و عليكم ، أو ينزل من حكم . وليس يعني ما أدري ما يفعل بي و لا بكم غداً في المعاد من ثواب الله من أطاعه و عقابه من كذبه .
و قال آخرون : إنما أمر أن يقول هذا في أمر كان ينتظره من قبل الله عزوجل في غير الثواب و العقاب .
و أولى الأقوال في ذلك بالصحة و أشبهها بما دل عليه التنذيل ، القول الذي قاله الحسن البصري الذي رواه عنه أبو بكر الهذلي .
و إنما قلنا ذلك أولاها بالصواب لأن الخطاب من مبتدإ هذه السورة إلى هذه الآية ، و الخبر خروج من الله عزوجل خطاباً للمشركين و خبراً عنهم ، وتوبيخاً لهم ، و احتجاجاً من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه و سلم عليهم . فإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن هذه الآية أيضاً سبيلها سبيل ما قبلها و ما بعدها في أنها احتجاج عليهم و توبيخ لهم أو خبر عنهم وإذا كان ذلك كذلك ، فمحال أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي و لا بكم في الآخرة و آيات كتاب الله عزوجل في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون و المؤمنون به في الجنان منعمون و بذلك يرهبهم مرة و يرغبهم أخرى ولو قال لهم ذلك ، لقالوا له : فعلام نتبعك إذن و أنت لا تدري إلى أي حال تصير غداً في القيامة ، إلى خفض ودعة ، أم إلى شدة و عذاب ؟ و إنما اتباعنا إياك إن اتبعناك و تصديقنا بما تدعونا إليه رغبة في نعمة و كرامة نصيبها ، أو رهبة من عقوبة و عذاب نهرب منه و لكن ذلك كما قال الحسن ، ثم بين الله لنبيه صلى الله عليه و سلم ماهو فاعل به ، و بمن كذب بما جاء به من قومه و غيرهم .
وقوله " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يقول تعالى ذكره : قل لهم ما أتبع فيما آمركم به ، و فيما افعله من فعل إلا وحي الله الذي يوحيه إلي ، " و ما أنا إلا نذير مبين " يقول : و ما أنا لكم إلا نذير أنذركم عقاب الله على كفركم به " مبين " يقول : قد أبان لكم إنذاره ، و أظهر لكم دعاءه إلى ما فيه نصيحتكم ، يقول : فكذلك أنا .
قوله تعالى : " قل ما كنت بدعا من الرسل " أي أول من أرسل ، قد كان قبلي رسل ، عن ابن عباس وغيره ، والبدع ، الأول ، وقرأ عكرمة وغيره( بدعاً ) بفتح الدال ، على تقدير حذف المضاف ، والمعنى : ما كنت صاحب بدع ، وقيل : بدع وبديع بمعنى ، مثل نصف ونصيف ، وأبدع الشاعر : جاء بالبديع ، وشيء بدع ( بالكسر ) أي مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع وقوم أبداع ، عن الأخفش : وأنشد قطرب قول عدي بن زيد :
فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً غدت من بعد بؤسي بأسعد
" وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " يريد يوم القيامة ، ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعصه بما يفعل به ، فنزلت " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح : 2 ] ، فنسخت هذه الآية ، وأرغم الله أنف الكفار ، وقالت الصحابة ، هنيئاً لك يا رسول الله ، لقد بيذن الله لك ما يفعل بك يا رسول الله ، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا ؟ فنزلت " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار " [ الفتح : 5 ] ، الآية ، ونزلت :" وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " [ الأحزاب : 47 ] ، قاله أنس وابن عباس و قتادة و الحسن و عكرمة و الضحاك ، و" قالت أم العلاء امرأة من الأنصار : اقتسمنا المهاجرين فطاار لنا عثمان بن مظعون بن حذافة بن جمح ، فأنزلناه أبياتنا فتوفي ، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب ! إن الله أكرمك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وما يدريك أن الله أكرمه ؟ فقلت بأبي وأمي يا رسول لاله ! فمن ؟ ! قال : أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيراً فوالله إني لأرجو له الجنة والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، قالت : فوالله لا أركي بعده أحداً ابداً " ، ذكره الثعلبي ، وقال : وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه ، وإنما غفر الله ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين .
قلت : حديث أم العلاء خرجه البخاري ، ورواتي فيه : " وما أدري ما يفعل به " ، ليس فيه " بي ولا بكم " ، وهو الصحيح إن شاء الله ، على ما يأتي بيانه ، والآية ليست بمنسوخة ، لأنها خبر ، قال النحاس : محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتيين ، أحدهما أنه خبر ، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم ، فوجب أن يكون هذا أيضاً خطاباً للمشركين كما كان قبله وما بعده ، ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " ، في الآخرة ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار ، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة ، فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة ، وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أو إلى عذاب وعقاب ، والصحيح في الآية قول الحسن ، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال : حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن : ( وما تدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ) قال أبو جعفر : وهذا أصح قول وأحسنه ، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر ، ومثله ، " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير " [ الأعراف : 188 ] ، وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : " لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجاً مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا ، ثم قال : إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي " ، أي لم يوح إلي ما أخبرتكم به ، قال القشيري : فعلى هذا لا نسخ في الآية ، وقيل : المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض ، واختار الطبري أن يكون المعنى : ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا ، أتؤمنون أم تكفرون ، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون .
قلت : هو معنى الحسن و السدي وغيرهما ، قال الحسن : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أما في الآخرة فمعاذ الله ! قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي ، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي ، ولا أدري ما يفعل بكم ، أأمتي المصدقة أم المكذبة ، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفاً ، أو مخسوف بها خسفاً ، ثم نزلت : " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " [ الصف : 9 ] ، يقول : سيظهر دينه على الأديان ، ثم قال في أمته : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " [ الأنفال : 33 ] ، فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته ، ولا نسخ على هذا كله والحمد لله ، وقال الضحاك أيضاً : ( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) أي ما تؤمرون به وتنهون عنه ، وقيل : أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة ، ثم بين الله تعالى ذلك في قوله " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " وبي، فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بي، حال الكافرين .
قلت : وهذا معنى القول الأول ، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان ، وأنه أ/ر أن يقول ذلك للمؤمنين ، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره و ( ما ) في ( ما يفعل ) يجوز أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة ، " إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين " وقرئ ( يوحي ) أي الله عز وجل ، تقدم في غير موضع .
يقول عز وجل مخبراً عن المشركين في كفرهم وعنادهم: أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها يقولون "هذا سحر مبين" أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا "أم يقولون افتراه" يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: "قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً" أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك لعاقبني أشد العقوبة, ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم, أن يجيرني منه, كقوله تبارك وتعالى: "قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً* إلا بلاغاً من الله ورسالاته" وقال تعالى: "ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين" ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: "قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم" هذا تهديد ووعيد أكيد وترهيب شديد.
وقوله عز وجل وعلا: "وهو الغفور الرحيم" ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة أي ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب عليكم وعفا عنكم وغفر ورحم, وهذه الاية كقوله عز وجل في سورة الفرقان: "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً" وقوله تبارك وتعالى: "قل ما كنت بدعاً من الرسل" أي لست بأول رسول طرق العالم بل جاءت الرسل من قبلي فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم فإنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم, قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة "قل ما كنت بدعاً من الرسل" ما أنا بأول رسول, ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.
وقوله تعالى: "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاية: نزل بعدها "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" وهكذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إنها منسوخة بقوله تعالى: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" قالوا: ولما نزلت هذه الاية قال رجل من المسلمين: هذا قد بين الله تعالى, ماهو فاعل بك يا رسول الله, فما هو فاعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى: "ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار" هكذا قال, والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئاً لك يارسول الله فما لنا ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الاية, وقال الضحاك "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" أي ما أدري بماذا أومر وبماذا أنهى بعد هذا ؟ وقال أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري في قوله تعالى: "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" قال: أما في الاخرة فمعاذ الله وقد علم أنه في الجنة, ولكن قال: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا, أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي ؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة ؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره ولا شك أن هذا هو اللائق به صلى الله عليه وسلم, فإنه بالنسبة إلى الاخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه, وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا, أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد, حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء, وهي امرأة من نسائهم أخبرته وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان رضي الله عنه عندنا فمرضناه, حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله تعالى أكرمه" فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير, والله ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بي".
قالت: والله لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري, فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك عمله" فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم, وفي لفظ له "ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به" وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك, وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة وابن سلام والغميصاء وبلال وسراقة, وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر, والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة, وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم, وقوله " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي إنما أتبع ما ينزله الله علي من الوحي "وما أنا إلا نذير مبين" أي بين النذارة أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل, والله أعلم.
8- "قل ما كنت بدعاً من الرسل" البدع من كل شيء المبدأ: أي ما أنا بأول رسول، قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل. قيل البدع بمعنى البديع كالخف والخفيف، والبديع ما لم ير له مثل، من الابتداع وهو الاختراع، وشيء بدع بالكسر: أي مبتدع، وفلان بدع في هذا الأمر: أي بديع كذا قال الأخفش، وأنشد قطرب:
فما أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً غدت من بعد موسى وأسعدا
وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة "بدعا" بفتح الدال على تقدير حذف المضاف: أي ما كنت ذا بدع، وقرأ مجاهد بفتح الباب وكسر الدال على الوصف "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" أي ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون؟ وهذا إنما هو في الدنيا. وأما في الآخرة فقد علم أنه وأمته في الجنة وأن الكافرين في النار. وقيل إن المعنى: ما أدري ما يفعل بي ولا يكم يوم القيامة، وإنها لما نزلت فرح المشركون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا؟ فنزل قوله تعالى: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" والأول أولى " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " قرأ الجمهور "يوحى" مبينا للمفعول: أي ما أتبع إلا القرآن ولا أبتدع من عندي شيئاً، والمعنى: قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوحي لا قصر اتباعه على الوحي "وما أنا إلا نذير مبين" أي أنذركم عقاب الله وأخوفكم عذابه على وجه الايضاح.
وقد أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريف أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس "أو أثارة من علم" قال: الخط. قال سفيان: ,لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان نبي من الأنبياء يخط، فمن صادف مثل خطه علم" ومعنى هذا ثابت في الصحيح ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة. ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط، وأين السند الصحيح إلى ذلك النبي، أو إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذا الخط هو على صورة كذا، فليس ما يفعله أهل الرمل إلا جهالات وضلالات. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أو أثارة من علم" قال: حسن الخط. وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم من طريق الشعبي عن ابن عباس: "أو أثارة من علم" قال: خط كان يخطه العرب في الأرض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "أو أثارة من علم" يقول: بينة من الأمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله: "قل ما كنت بدعا من الرسل" يقول لست بأول الرسل "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" فأنزل الله بعد هذا "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" وقوله: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية، فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين جمياً. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضاً أن هذه الآية منسوخة بقوله: "ليغفر لك الله" وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم العلاء قالت: "لما مات عثمان بن مظعون قلت: رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي بعده أحداً".
9. " قل ما كنت بدعاً من الرسل "، أي بديعاً، مثل: نصف ونصيف، وجمع البدع أبداع، لست بأول مرسل، قد بعث قبلي كثير من الأنبياء، فكيف تنكرون نبوتي. " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم "، اختلف العلماء في معنى هذه الآية:
فقال بعضهم: معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون، فقالوا: واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحداً، وما له علينا من مزية وفضل، ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فأنزل الله: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر "، (الفتح-2) فقالت الصحابة: هنيئاً لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية، (الفتح-5) وأنزل: " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً " (الأحزاب-47)، فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. وهذا قول أنس و قتادة و الحسن و عكرمة ،قالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه [وإنما أخبر بغفران ذنبه] عام الحديبية، فنسخ ذلك.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا احمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، عن خارجة بن زيد قال: كانت أم العلاء الأنصارية تقول: " لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكنتهم، قالت [فطار لنا] عثمان بن مظعون في السكنى، فمرض فمرضناه، ثم توفي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي قد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:وما يدريك أن الله قد أكرمه ؟ فقلت: لا والله لا أدري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم قالت: فوالله لا أزكي بعده أحداً أبداً، قالت: ثم رأيت لعثمان بعد في النوم عيناً تجري فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذاك عمله ".
وقال جماعة: قوله (( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم )) في الدنيا، أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة، وأن من كذبه فهو في النار، ثم اختلفوا فيه:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم وهو بمكة أرضاً ذات سباخ ونخل رفعت له، يهاجر إليها، فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت؟ فسكت، فأنزل الله تعالى هذه الآية: " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم "، أأترك في مكاني أم أخرج وإياكم إلى الأرض التي رفعت لي.
وقال بعضهم: (( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ))إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا، إما أن أخرج كما أخرجت الأنياء من قبلي، أم أقتل كما قتل من قبلي من الأنبياء، وأنتم أيها المصدقون لا أدري تخرجون معي ام تتركون، أم ماذا يفعل بكم، [وأنتم] أيها المكذبون، أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم، أم أي شيء يفعل بكم، مما فعل بالأمم المكذبة؟
ثم أخبر الله عز وجل أنه يظهر دينه على الأديان، فقال: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " (الصف-9) وقال في أمته: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " (الأنفال-33)، فأخبر الله ما يصنع به وبأمته، هذا قول السدي .
" إن أتبع إلا ما يوحى إلي "، أي ما أتبع إلا بالقرآن، ولا أبتدع من عندي شيئاً، " وما أنا إلا نذير مبينً ".
9-" قل ما كنت بدعاً من الرسل " بديعاً منهم أدعوكم إلى ما لا يدعون إليه ، أو أقدر على ما لم يقدروا عليه ، وهو الإتيان بالمقترحات كلها ونظيره الخف بمعنى الخفيف . وقرئ بفتح الدال على أنه كقيم أو مقدر بمضاف أي ذا بدع . " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " في الدارين على التفضيل إذ لا علم لي بالغيب ، و " لا " لتأكيد النفي المشتمل على ما يفعل بي " وما " إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة . وقرئ " يفعل " الله . " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " لا أتجاوزه ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب ، أو استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين . " وما أنا إلا نذير " من عقاب . " مبين " بين الإنذار بالشواهد المبينة والمعجزات المصدقة .
9. Say: I am no new thing among the messengers (of Allah), nor know I what will be done with me or with you. I do but follow that which is inspired in me, and I am but a plain warner.
9 - Say: I am no bringer of new fangled doctrine among the apostles, nor do I know what will be done with me or with you. I follow but that which is revealed to me by inspiration; I am but a Warner open and clear.