89 - (لا يؤاخذكم الله باللغو) الكائن (في أيمانكم) هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف كقول الإنسان: لا والله ، وبلى والله (ولكن يؤاخذكم بما عَقَدْتُم) بالتخفيف والتشديد وفي قراءة {عاقدتم} (الأيمان) عليه بأن حلفتم عن قصد (فكفارته) أي اليمين إذا حنثتم فيه (إطعام عشرة مساكين) لكل مسكين مد (من أوسط ما تطعمون) منه (أهليكم) أي أقصده وأغلبه لا أعلاه ولا أدناه (أو كسوتهم) بما يسمى كسوة كقميص وعمامة وإزار ولا يكفي دفع ما ذكر إلى مسكين واحد وعليه الشافعي (أو تحرير) عتق (رقبة) أي مؤمنة كما في كفارة القتل والظهار حملا للمطلق على المقيد (فمن لم يجد) واحدا مما ذكر (فصيام ثلاثة أيام) كفارته وظاهره أنه لا يشترط التتابع وعليه الشافعي (ذلك) المذكور (كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وحنثتم (واحفظوا أيمانكم) أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس كما في سورة البقرة (كذلك) أي مثل ما بين لكم ما ذكر (يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرونـه) على ذلك
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، للذين كانوا حرموا على أنفسهم الطيبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حرموا ذلك بأيمان حلفوا بها، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم "، كما:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، الآية.
فهذا يدل على ما قلنا، من أن القوم كانوا حرموا ما حرموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم.
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، بتشديدالقاف، بمعن : وكدتم الأيمان ورددتموها.
وقرأ قرأة الكوفيين: "بما عقدتم الأيمان"، بتخفيف القاف، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعزمت عليها قلوبكم.
فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. وأما قوله: "بما عقدتم الأيمان"، فإن هناداً:
حدثنا قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، قال: بما تعمدت.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة عن الحسن: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، يقول: ما تعمدت فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: "فكفارته"، على ما هي عائدة، ومن ذكر ما؟ فقال بعضهم: هي عائدة على ما التي في قوله: "بما عقدتم الأيمان".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة. ولكن المؤاخذة والكفارة، فيما حلف عليه على علم.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو ليس فيه كفارة، "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، قال: ما عقدت فيه يمينه، فعليه الكفارة.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاث: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها. فأما اليمين التي تكفر، فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله، ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر، فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة. وهواللغو.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: قالت عائشة: لغو اليمين، ما لم يعقد عليه الحالف قلبه.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: ليس في لغو اليمين كفارة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدثه. أن عائشة قالت: أيمان الكفارة، كل يمين حلف فيها الرجل على جد من الأمور في غضب أو غيره: ليفعلن، ليتركن، فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة، وقال تعالى ذكره: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان".
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن علي بن أبي طلحة قالا: ليس في لغو اليمين كفارة.
حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، يقول: ما تعمدت فيه االمأثم ، فعليك فيه الكفارة. قال، وقال قتادة: أما اللغو، فلا كفارة فيه.
حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: لا كفارة في لغو اليمين.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزي، عن أسباط، عن السدي: ليس في لغو اليمين كفارة.
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام على هذا التأويل: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، فكفارة ما عقدتم منها إطعام عشرة مساكين. وقال آخرون: الهاء في قوله: "فكفارته"، عائدة على اللغو، وهى كناية عنه. قالوا: وإنما معنى الكلام: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" إذا كفرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان، فأقمتم على المضي عليه بترك الحنث والكفارة فيه. والإقامة على المضي عليه، غير جائزة لكم. فكفارة اللغو منها إذا حنثتم فيه، إطعام عشرة مساكين.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فهو الرجل يحلف على أمر ضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. وقال مرة أخرى: قوله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" إلى قوله: "بما عقدتم الأيمان"، قال: واللغو من الأيمان، هي التي تكفر، لا يؤاخذ الله بها. ولكن من أقام على تحريم ما أحل الله له، ولم يتحول عنه، ولم يكفرعن يمينه، فتلك التي تؤخذ بها.
حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قوله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفر.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله تعالى ذكره، يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير، "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها، فكفارته إطعام عشرة مساكين.
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، فقال: ولا تقرأ فتفهم؟ قال: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان". قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها. قال وقال: "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" [البقرة: 224]،.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: وكيف يصنع؟ قال: يكفر يمينه ويترك المعصية.
حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: اللغو، يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة.
حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اليمين المكفرة.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون الهاء في قوله: "فكفارته" عائدة على ما التي في قوله: "بما عقدتم الأيمان"، لما قدمنا فيما مضى قبل: أن من لزمته في يمينه كفارته وأوخذ بها، غير جائز أن يقال لمن قد أوخذ: لا يؤاخذه الله باللغو. وفي قوله تعال : "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، دليل واضح أنه لا يكون مؤاخذاً بوجه من الوجوه، من أخبرنا تعالى ذكره أنه غير مؤاخذه. فإن ظن ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثتم وكفرتم -إلا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير- فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمره ونهيه في كتابه، على الظاهر العام عندنا - بما قد دللنا على صحة القول به في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته -دون الباطن العام الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر. ولا دلالة من عمل ولا خبر أنه عنى تعالى ذكره بقوله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، بعض معاني المؤاخذة دون جميعها.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفارة في يمين حنث فيها مؤاخذاً بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلوماً أنه غير الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها.
وإذ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذا: لا يؤاخذكم الله، أيها الناس، بلغو من القول والأيمان، إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ذكره ولا خلاف أمره، ولم تقصدوا بها إثما، ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم به الإثم، وأوجبتموه على أنفسكم، وعزمت عليه قلوبكم، ويكفر ذلك عنكم، فيغطي على سيىء ما كان منكم من كذب وزور قول، ويمحوه عنكم فلا يتبعكم به ربكم، "إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أعدله، كما:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول في هذه الآية: "من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم"، قال عطاء: أوسطه، أعدله.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم". فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفر، أهاليهم. ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد قال، أخبرنا شريك، عن عبد الله بن حنش، عن الأسود قال: سألته عن: "أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز، والتمر، والزيت، والسمن، وأفضله اللحم.
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد عن ذلك فقال: الخبز والتمر. زاد هناد في حديثه: والزيت. قال: وأحسبه، والخل.
حدثنا هناد وابن وكيع قالا، حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من أوسط ما يطعم أهله: الخبز والتمر، والخبز والسمن، والخبز والزيت. ومن أفضل ما تطعمهم: الخبز واللحم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن ابن سيرين، عن ابن عمر: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز واللحم، والخبز والسمن، والخبز والجبن، والخبز والخل.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن حنش، قال: سألت الأسود بن يزيد عن "أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز والتمر
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد، فذكر مثله.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، عن محمد ابن سيرين، عن عبيدة السلمان: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز والسمن.
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك، فذكر مثله.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أزهر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز والسمن.
حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أب ، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين قال: كانوا يقولون: أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسه الخبز والتمر.
حدثنا هناد قال: حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي. عن الربيع، عن الحسن قال: خبز ولحم، أو خبز وسمن، أو خبز ولبن.
حدثنا هناد وابن وكيع قالا، حدثنا عمر بن هارون، عن أبي مصلح، عن الضحاك في قوله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز واللحم والمرقة. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا زائدة، عن يحيى بن حيان الطائي قال : كنت عند شريح ، فأتاه رجل فقال : إني حلفت على يمين فأثمت؟ قال شريح : ما حملك على ذلك؟ قال قدر علي ، فما أوسط ما أطعم أهلي؟ قال له شريح : الخبز والزيت ، والخل طيب . قال : فأعاد عليه ، فقال له شريح ذلك ثلاث مرار، لا يزيده شريح على ذلك . فقال له : أرأيت إن أطعمت الخبز واسم؟ قال : ذاك أرفع طعام أهلك وطعام الناس.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج ، عن أبي اسحق ، عن الحارث ، عن علي قال ، في كفارة اليمين : يغديهم ويعشيهم خبزاً وزيتاً أو خبزاً وسمناً، أو خلًا وزيتاً.
حدثنا هناد وابن وكيع قالا، حدثنا أبو أسامة، عن زبرقان ، عن أبي رزين: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، خبز وزيت وخل .
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام بن محمد قال : أكلة واحدة، خبز ولحم . قال وهو "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وإنكم لتأكلون الخبيص والفاكهة .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة، عن هشام ، عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عشرة مساكين أكلة واحدة، خبزاً ولحماً. فإن لم تجد، فخبزاً وسمناً ولبناً. فإن لم تجد، فخبزاً وخلاً وزيتاً حتى يشبعوا.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن زبرقان قال : سألت أبا رزين عن كفارة اليمين ، ما يطعم ؟ قال : خبزاً وخلاً وزيتاً: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وذلك قدر قوتهم يوماً واحداً.
ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه.
فقال بعضهم : مبلغ ذلك ، نصف صاع من حنطة، أو صاع من سائر الحبوب غيرها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عبد الله بن عمرو ابن مرة، عن أبيه ، عن إبراهيم ، عن عمر قال : إني أحلف على اليمين ، ثم يبدو لي ، فإذا رأيتني قد فعلت ذلك ، فأطعم عشرة مساكين ، لكل مسكين مدين من حنطة.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية وبعلى، عن الأعمش عن شقيق ، عن يسار بن نمير قال قال عمر: إني أحلف أن لا أعطي أقواماً، ثم يبدو لي أن أعطيهم . فإذا رأيتني فعلت ذلك ، فأطعم عني عشرة مساكين ، بين كل مسكينين صاعاً من بر، أوصاعاً من تمر.
حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال : كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من حنطة.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة، عن إبراهيم : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، نصف صاع بر، كل مسكين .
حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص ، عن عبد الكريم الجزري قال : قلت لسعيد بن جبير: أجمعهم ؟ قال : لا، أعطهم مدين مدين من حنطة، مداً لطعامه ، ومداً لإدامه .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الكريم الجزري قال : قلت لسعيد، فذكر نحوه.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو زبيد، عن حصين قال : سألت الشعبي عن كفارة اليمين فقال : مكوكين ، مكوكاً لطعامه ، ومكوكاً لإدامه .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا هشام ، عن عطاء، عن ابن عباس قال : لكل مسكين مدين .
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة، عن هشام ، عن عطاء، عن ابن عباس قال : لكل مسكين مدين من بز، في كفارة اليمين .
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : مدان من طعام لكل مسكين . حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا سعيد بن يزيد أبو مسلمة قال : سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين ، فقال : أكلة. قلت : فإن الحسن يقول : مكوك بر ومكوك تمر، فما ترى في مكوك بر؟ فقال : إن مكوك بر!! قال يعقوب قال ابن علية : وقال أبو مسلمة بيده ، كأنه يراه حسناً، وقلب أبو بشر يده .
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة، عن هشام ، عن الحسن : أنه كان يقول في كفارة اليمين : فيما وجب فيه الطعام ، مكوك تمر ومكوك بر لكل مسكين . حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن قال ، قال : إن جمعهم أشبعهم إشباعةً واحدة ، وإن أعطاهم ، أعطاهم مكوكاً مكوكاً .
حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن يونس قال : كان الحسن يقول: وحسبه ، فإن أعطاهم في أيديهم ، فمكوك بر ومكوك تمر.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك في كفارة اليمين : نصف صاع لكل مسكين .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن أبيه ، عن الحكم في قوله : " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم "، قال : طعام نصف صاع لكل مسكين .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قالع ، حدثنا زائدة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : "أوسط ما تطعمون أهليكم"، نصف صاع .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " فكفارته إطعام عشرة مساكين "، قال : الطعام ، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو بر.
وقال آخرون : بل مبلغ ذلك من كل شيء من الحبوب ، مد واحد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت أنه قال في كفارة اليمين : مد من حنطة لكل مسكين .
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال في كفارة اليمين : مد من حنطة لكل مسكين ، ربعه إدامه .
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس ، نحوه .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن ابن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر: " إطعام عشرة مساكين "، لكل مسكين مد.
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع قال ، حدثنا العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : مد من حنطة لكل مسكين .
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن يحيى بن سعيد، عن نافع ، عن ابن عمر: أنه كان يكفر اليمين بعشرة أمداد، بالمد الأصغر.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله ، عن القاسم وسالم في كفارة اليمين ، ما يطعم ؟ قالا: مد لكل مسكين. -حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال : كان الناس إذا كفر أحدهم ، كفر بعشرة أمداد بالمد الأصغر.
حدثنا هناد قال ، حدثنا عمر بن هارون ، عن ابن حجاج ، عن عطاء في قوله : " إطعام عشرة مساكين "، قال : عشرة أمداد لعشرة مساكين .
حدثنا بشر قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن : "إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال : كان يقال : البر والتمر، لكل مسكين مد من تمر، ومد من بر.
حدثنا أبو كريب وهناد قالا، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مالك ابن مغول ، عن عطاء قال : مد لكل مسكين.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم "، قال : من أوسط ما تعولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك : مداً بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة . قال ابن زيد: هو الوسط مما يقوت به أهله ، ليس بأدناه ولا بأرفعه.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن المسيب : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال : مد.
وقال آخرون : بل ذلك غداء وعشاء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج ، عن أبي إسحق، عن الحارث ، عن علي قال ، في كفارة اليمين: يغديهم ويعشيهم.
حدثنا هناد قال ، حدثنا عمر بن هرون ، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في كفارة اليمين قال : غداء وعشاء.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن قال : يغديهم ويعشيهم.
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أوسط ما يطعم المكفر أهله. قال : إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين العشرة. وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك، أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عسره ويسره.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال : إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين ، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقدره.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلك من الشبع ، أو نصف صاع من بر.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس قال : من عسرهم ويسرهم.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر، عن عامر قال : من عسرهم ويسرهم.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال : قوتهم.
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سليمان العبسي ، عن سعيد بن جبير في قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال : قوتهم.
حدثنا أبو حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم قال ، حدثنا عنبسة، عن سليمان بن عبيد العبسي ، عن سعيد بن جبير في قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال : كانوا يفضلون الحر على العبد، والكبير على الصغير، فنزلت : "من أوسط ما تطعمون أهليكم".
حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال ، كانوا يطعمون الكبير مالا يطعمون الصغير، ويطعمون الحر ما لا يطعمون العبد، فقال : "من أوسط ما تطعمون أهليكم".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال : إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم . وإن كنت لا تشبعهم ، فعلى قدر ذلك.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا شيبان النحوي ، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال : من عسرهم ويسرهم.
حدثنا يونس قال ، حدثنا سفيان ، عن سليمان ، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس : كان الرجل يقوت بعض أهله قوتاً دوناً، وبعضهم قوتاً فيه سعة، فقال الله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز والزيت.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل قوله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، عندنا، قول من قال : من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة. وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات كلها بذلك وردت . وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفارة الحلق من الأذى بفرق من طعام بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعاً بين ستين مسكيناً، لكل مسكين ربع صاع . ولا يعرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات ، أمر بإطعام خبز وإدام ، ولا بغداء وعشاء.
فإذ كان ذلك كذلك ، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته ، كان سبيلها سبيل ما تولى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم: من أن الواجب على مكفرها من الطعام ، مقدراً للمساكين العشرة محدوداً بكيل ، دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم ، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك.
فإذ كان صحيحاً ما قلنا بما به استشهدنا، فبين أن تأويل الكلام : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم ، وأن ما التي في قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، بمعنى المصدر، لا بمعنى الأسماء.
وإذا كان ذلك كذلك ، فأعدل أقوات الموسع على أهله مدان ، وذلك نصف صاع في ربعه إدامه ، وذلك أعلى ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين. وأعدل أقوات المقتر على أهله ، مد، وذلك ربع صاع ، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين.
وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين ، الخبز واللحم وما ذكرنا عنهم قبل ، والذين رأوا أن يندوا أو يعشوا ، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا ، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم ، فجعلوا ما التي في قوله : "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، اسماً لا مصدراً، فأوجبوا على المكفر إطعام المساكين من أعدل ما يطعم أهله من الأغذية . وذلك مذهب ، لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات غيرها، التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها.
القول في تأويل قوله : "أو كسوتهم".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك : فكفارة ما عقدتم من الأيمان : إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم، يقول : إما أن تطعموهم أو تكسوهم . والخيار في ذلك إلى المكفر.
واختلف أهل التأويل في الكسوة التي عنى الله تعالى ذكره بقوله : "أو كسوتهم".
فقال بعضهم : عنى بذلك : كسوة ثوب واحد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين : أدناه ثوب.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئت.
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع ، عن الربيع ، عن الحسن قال في كفارة اليمين في قوله : "أو كسوتهم"، ثوب لكل مسكين.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن وهيب ، عن ابن طاوس، عن أبيه : "أو كسوتهم"، قال : ثوب.
حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير، جميعاً، عن منصور، عن مجاهد في قوله : "أو كسوتهم"، قال : ثوب.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله : "أو كسوتهم"، قال : ثوب ثوب . قال منصور: القميص ، أو الرداء، أو الإزار.
حدثنا أبو كريب وهناد قالا، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله : "أو كسوتهم"، قال : كسوة الشتاء والصيف ، ثوب ثوب.
حدثنا هناد قال، حدثنا عمر بن هرون ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : "أو كسوتهم"، قال: ثوب ثوب لكل مسكين.
حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم"، قال: إذا كساهم ثوباً ثوباً أجزأ عنه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحق بن سليمان الرازي ، عن أبي سنان ، عن حماد قال : ثوب أو ثوبان ، وثوب لا بد منه.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قال : ثوب ثوب لكل إنسان. وقد كانت العباءة تقضي يومئذ من الكسوة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "أو كسوتهم"، قال : الكسوة، عباءة لكل مسكين ، أو شملة.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : ثوب ، أو قميص ، أو رداء ، أو إزار.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن اختار صاحب اليمين الكسوة، كسا عشرة أناسي ، كل إنسان عباءة.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، سمعت عطاء يقول في قوله : "أو كسوتهم"، الكسوة ثوب ثوب.
وقال بعضهم : عنى بذلك : الكسوة، ثوبين ثوبين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، جميعاً، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله: "أو كسوتهم"، قال: عباءة وعمامة.
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أشعث ، عن الحسن وابن سيرين قالا : ثوبين ثوبين.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس ، عن الحسن قال: ثوبين.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن، مثله.
حدثنا أبو كريب وهناد قالا، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال : ثوبان ثوبان لكل مسكين.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين، عن أبي موسى، أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من معقدة البحرين.
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن سيرين : أن أبا موسى كسا ثوبين من معقدة البحرين.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة، عن هشام ، عن محمد بن عبد الأعلى: أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين ، فرأى أن يكفر ففعل ، وكسا عشرة ثوبين ثوبين.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام ، عن محمد: أن أبا موسى حلف على يمين فكفر، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال : عباءة وعمامة لكل مسكين.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب : أو كأسوتهم ، فقال سعيد : لا، إنما هي : "أو كسوتهم"، قال قلت : يا أبا محمد، ما كسوتهم؟ قال : لكل مسكين عباءة وعمامة : عباءة يلتحف بها، وعمامة يشد بها رأسه.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "أو كسوتهم"، قال: الكسوة، لكل مسكين رداء وإزار، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة.
وقال آخرون : بل عني بذلك كسوتهم ثوب جامع، كالملحفة والكساء، والشيء الذي يصلح للبس والنوم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم قال : الكسوة ثوب جامع.
حدثنا هناد وابن وكيع قالا، حدثنا ابن فضيل ، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم"، قال : ثوب جامع. قال وقال مغيرة: و الثوب الجامع: الملحفة أو الكساء أو نحوه ، ولا نرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعاً.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : ثوب جامع.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : ثوب جامع.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة، عن إبراهيم : "أو كسوتهم"، قال : ثوب جامع لكل مسكين.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان وشعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله : "أو كسوتهم"، قال : ثوب جامع.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، مثله.
وقال آخرون : عني بذلك : كسوة إزار ورداء وقميص.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى، عن بردة، عن رافع ، عن ابن عمر قال في الكسوة : في الكفارة إزار ورداء وقميص.
وقال آخرون : كل ما كسا فيجزئ، والآية على عمومها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن ليث ، عن مجاهد قال : يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التبان.
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أشعث ، عن الحسن قال : يجزئ عمامة في كفارة اليمين.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أويس الصيرفي ، عن أبي الهيثم ، قال قال سلمان : نعم الثوب التبان.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الشيباني، عن الحكم قال : عمامة يلف بها رأسه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن ، قول من قال : عني بقوله : "أو كسوتهم"، ما وقع عليه اسم كسوة، مما يكون ثوباً فصاعداً، لأن ما دون الثوب ، لا خلاف بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك، خارجاً من أن يكون الله تعالى عناه ، بالنقل المستفيض. والثوب وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى ذكره وحي ، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها. وغير جائز إخراج ما كان ظاهر الآية محتمله من حكم الآية، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة بذلك.
القول في تأويل قوله: "أو تحرير رقبة".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو فك عبد من أسر العبودة وذلها.
وأصل (التحرير)، الفك من الأسر، ومنه قول الفرزدق بن غالب:
أبني غدانة، إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
يعني بقوله : (حررتكم )، فككت رقابكم من ذل الهجاء ولزوم العار.
وقيل "تحرير رقبة"، والمحرر ذو الرقبة، لأن العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيراً أن تجمع يديه إلى عنقه بقد أو حبل أو غير ذلك ، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة . فجرى الكلام عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فك يديه عن رقبته ، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره ، كما يقال : (قبض فلان يده عن فلان )، إذا أمسك يده عن نواله - (وبسط فيه لسانه )، إذا قال فيه سوءاً- فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله ، لاستعمال الناس ذلك بينهم ، وعلمهم بمعنى ذلك.
فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره : "أو تحرير رقبة"، أضيف (التحرير) إلى (الرقبة) ، وإن لم يكن هنالك غل في رقبته ولا شد يد إليها، وكان المراد بالتحرير نفس العبد، بما وصفنا، من جراء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه.
فإن قال قائل: أفكل الرقاب معني بذلك أو بعضه؟
قيل : بل معني بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد، والعمى والخرس ، وقطع اليدين أو شللهما، والجنون المطبق ، ونظائر ذلك . فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب ، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين . فكان معلوماً بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد... قال ، حدثنا مغيرة، عن إبراهيم : أنه كان يقول : من كانت عليه رقبة واجبة، فاشترى نسمة، قال : إذا أنقذها من عمل أجزأته ، ولا يجوز عتق من لا يعمل. فأما الذي يعمل ، فالأعور ونحوه . وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ، الأعمى والمقعد.
حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : كان يكره عتق المختل في شيء من الكفارات.
حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى عتق المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات.
وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح ، ويجزئ الصغير فيها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : يجزئ المولود في الإسلام من رقبة.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش عن إبراهيم قال. ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة" [النساء: 92]، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى. وما كان ليس بمؤمنة، فالصبي يجزئ.
وقال بعضهم : لا يقال للمولود "رقبة"، إلا بعد مدة تـأتي عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان بن المنذر، عن سليمان قال : إذا ولد الصبي فهو نسمة، وإذا انقلب ظهراً لبطن فهو رقبة، وإذا صلى فهو مؤمنة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى عم بذكر (الرقبة) كل رقبة، فأي رقبة حررها المكفر يمينه في كفارته ، فقد أدى ما كلف ، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره ، لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفارة بظاهر التنزيل.
والمكفر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه ، وذلك : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة، بإجماع من الجميع ، لا خلاف بينهم في ذلك.
فإن ظن ظان أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ، ليس كما قلنا، لما:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا سليمان الشيباني قال ، حدثنا أبو الضحى، عن مسروق قال : جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال : إني آليت من النساء والفراش ! فقرأ عبد الله هذه الآية : "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" [المائدة: 87]. قال فقال معقل : إنما سألتك أن أتيت على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله : ائت النساء ونم ، وأعتق رقبة، فإنك موسر.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني جرير بن حازم : أن سليمان الأعمش حدثه، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن همام بن الحارث: أن نعمان بن مقرن سأل عبد الله بن مسعود فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" [المائدة: 87]، كفر عن يمينك ، ونم على فراشك ! قال : بم أكفر عن يميني ؟ قال : أعتق رقبة ، فإنك موسر.
ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من الرقاب ، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة، لأنه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه لمال : لا يجزئ الموسر التكفير إلا بالرقبة . والجميع من علماء الأمصار، قديمهم وحديثهم ، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر. ففي ذلك مكتفىً عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره.
القول في تأويل قوله: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : "فمن لم يجد"، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، "فصيام ثلاثة أيام"، يقول : فعليه صيام ثلاثة أيام.
ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله : "فمن لم يجد"، ومتى يستحق الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة، اسم (غير واجد)، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك.
فقال بعضهم : إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، فإن له أن يكفر بالصيام . فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم ، لزمه التكفير بالإطعام أو الكسوة، ولم يجزه الصيام حينئذ.
وممن قال ذلك الشافعي:
حدثنا بذلك عنه الربيع.
وهذا القول قصد إن شاء الله -من أوجب الطعام على من كان عنده درهمان - من أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم. وبنحو ذلك:
حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير قال : إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم ، قال : يعني في الكفارة.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني معتمر بن سليمان قال : قلت لعمر بن راشد: الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر، قال : كان قتادة يقول : يصوم ثلاثة أيام.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن قال : إذا كان عنده درهمان.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر، عن حماد، عن عبد الكريم أبي أمية، عن سعيد بن جبير قال : ثلاثة دراهم.
وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم ، وهو ممن لا يجد.
وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام ، أن يصوم إلا أن يكون له كفاية، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه . وهذا قول كان يقوله بعضن متأخري المتفقهة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، لا فضل له عن ذلك ، يصوم ثلاثة أيام ، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق . وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقت عياله يومه وليلته ، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين ، أو يعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم ، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق ، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوب الدين . وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرق ماله بين غرمائه : أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بد له من قوته وقوت عياله يومه وليلته. فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله.
واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين.
فقال بعضهم : صفته أن يكون مواصلاً بين الأيام الثلاثة غير مفرقها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن العلاء قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : كل صوم في القرآن فهو متتابع ، إلا قضاء رمضان ، فإنه عدة من أيام أخر.
حدثنا أبو كريب وهناد قالا، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال : كان أبي بن كعب يقرأ: فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: أنه كان يقرأ: فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هرون، عن قزعة، عن سويد، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد، قال : في قراءة عبد الله : فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال : في قراءتنا: فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله : فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر، عن عامر قال : في قراءة عبد الله : فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أبي إسحق في قراءة عبد الله : فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأون : فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، قال ، سمعت سفيان يقول : إذا فرق صيام ثلاثة أيام لم يجزه. قال : وسمعته يقول في رجل صام في كفارة يمين ثم أفطر، قال : يستقبل الصوم.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "فصيام ثلاثة أيام"، قال : إذا لم يجد طعاماً، وكان في بعض القراءة فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وبه كان يأخذ قتادة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال : هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأول فالأول ، فإن لم يجد من ذلك شيئاً فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
وقال آخرون : جائز لمن صامهن أن يصومهن كيف شاء، مجتمعات ومفترقات.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب قال ، قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فإن يصام تباعاً أعجب. فإن فرقها رجوت أن تجزئ عنه.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أوجب على من لزمته كفارة يمين ، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلاً، أن يكفرها بصيام ثلاثة أيام ، ولم يشرط في ذلك متتابعة . فكيفما صامهن المكفر مفرقة ومتتابعة، أجزأه . لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام ، فيكفما أتى بصومهن أجزأ.
فأما ما روي عن أبي وابن مسعود من قراءتهما: فصيام ثلاثة أيام متتابعات، فذلك خلاف ما في مصاحفنا. وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. غير أني أختار للصائم في كفارة اليمين أن يتابع بين الأيام الثلاثة، ولا يفرق . لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته ، وهم في غير ذلك مختلفون . ففعل ما لا يختلف في جوازه ، أحب إلي ، بان كان الآخر جائزاً.
القول في تأويل قوله: "ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ذلك"، هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم ، من إطعام العشرة المساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئاً - هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم- "واحفظوا"، أيها الذين آمنوا "أيمانكم" أن تحنثوا فيها ، ثم تضيعوا الكفارة فيها بما وصفته لكم، "كذلك يبين الله لكم آياته"، كما بين لكم كفارة أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم جميع آياته -يعني أعلام دينه فيوضحها لكم- لئلا يقول المضيع المفرط فيما ألزمه الله : لم أعلم حكم الله في ذلك، "لعلكم تشكرون"، يقول : لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم.
فيه سبع وأربعون مسألة:
الأولى- قوله تعالى :" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " تقدم معنى اللغو في البقرة ومعنى " في أيمانكم " أي من أيمانكم، والأيمان جمع يمين وقيل: ويمين فعيل من اليمن وهو البركة سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أيمان وأيمن قال زهير:
فتجمع أيمن منا ومنكم
الثانية -واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: سبب نزولها القوم الذين حرموا الطيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم حلفوا على ذلك فلما نزلت " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية والمعنى على هذا القول إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها أي أسقطتم حكمها بالتكفير وكفرتم - فلا يؤاخذكم الله بذلك وإن يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه أي فلم تكفروا فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا وهو دليل الشافعي على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر،فتقضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغواً في أنه لا يحرم فقال: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " أي بتحريم الحلال.
و"روي أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل فقال : أعشيتم ضيفي ؟ فقالوا انتظرناك : فقال: لا والله لا آكله الليلة،فقال ضيفة: وما أنا بالذي يأكل وقال أيتامه : ونحن ما نأكل، فلما رأى ذلك أكل وأكلوا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له : أطعت الرحمن وعصيت الشيطان" فنزلت الآية .
الثالثة -الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة وقسمان لا كفارة فيهما خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا خلف بن هشام حدثنا عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: الأيمان أربعة يمينان يكفران ويمينان لا يكفران فاليمينان اللذان يكفران فالرجل الذي يحلف الله لا أفعل كذا وكذا فيفعل والرجل يقول والله لأفعلن كذا وكذا فلا يفعل واليمينان اللذان لا يكفران فالرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل والرجل يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله قال ابن عبد البر: وذكر سفيان الثوري في جامعة وذكره المروزي عنه أيضاً قال سفيان : الأيمان أربعة يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل ويمينان لا يكفران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل أو يقول والله لقد فعلت وما فعل قال المروزني : أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف بين العلماء على ما قال سفيان وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقاً يرى أنه على ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان والثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد: وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفارة قال المروزي: وليس قول الشافعي في هذا بالقول قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا وقد فعل متعمداً للكذب فهو آثم ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء: مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد: وكان الشافعي يقول يكفر، قال : وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي قال المروزي: أميل إلى قول مالك وأحمد قال فأما يمين اللغو الذي اتفق عامة العلماء على أنها لغو فهو قول الرجل: لا والله وبلى والله في حديثه وكلامه غير منعقد لليمين ولا مريدها قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.
الرابعة -قوله تعالى :" ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" مخفف القاف من العقد والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع قال الشاعر:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شذوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فاليمين المنعقدة منفعلة من العقد، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل أو ليفعلن كما تقدم فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي وقرئ عاقدتم بألف بعد العين على وزن فاعل وذلك لا يكون إلا من اثنين في الأكثر وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه، أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان لأن عاقد قريب من معنى عاهد فعدى بحرف الجر لما كان في معنى عاهد وعاهد يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر قال الله تعالى :" ومن أوفى بما عاهد عليه الله " [الفتح : 10] وهذا كما عديت " ناديتم إلى الصلاة " بإلى وبابها أن تقول ناديت زيداً " وناديناه من جانب الطور الأيمن " [مريم :52] لكن لما كانت بمعنى دعوت عدي بإلى ، قال الله تعالى : " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله " [فصلت: 33] ثم اتسع في قوله تعالى عاقدت عليه الأيمان فحذف حرف الجر فوصل الفعل إلى المفعول فصار عاقدتموه ثم حذفت الهاء كما حذفت من قوله تعالى : " فاصدع بما تؤمر " [الحجر: 94] أو يكون فاعل بمعنى فعل كما قال تعالى :" قاتلهم الله " [التوبة:30] أي قتلهم وقد تأتي المفاعلة في كلام العرب من واحد بغير معنى فاعلت كقولهم : سافرت وظاهرت وقرئ عقدتم بتشديد القاف قال مجاهد: معناه تعمدتم أي قصدتم وروي عن ابن عمر أن التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر وهذا يرده ما "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر، قال عبيد : التشديد التكرير مرة بعد مرة ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مراراً وهذا قول خلاف الإجماع روى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين فإذا وكد اليمين أعتق رقبة . قيل: لنافع ما معنى وكد اليمين؟قال : أن يحلف على الشيء مراراً
الخامسة -اختلف في اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا ؟ فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها وقال الشافعي: هي يمين منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر،مقرونة باسم الله تعالى وفيها الكفارة . والصحيح الأول قال ابن المنذر: وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام وهو قول الثوري وأهل العراق وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة قال أبو بكر: و"قول النبي صلى الله عليه وسلم :
من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وقوله : "فليكفر عن يمين ويأتي الذي هو خير " يدل على أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله يستقبل فيفعله وفي المسألة قول ثان وهو أن يكفر وإن أثم عمد الحلف بالله كاذباً هذا قول الشافعي قال أبو بكر: ولا نعلم خبراً يدل على هذا القول والكتاب والسنة دالان على القول الأول قال الله تعالى :" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " [البقرة: 224] قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته فجعل الله له مخرجاً في التكفير وأمره ألا يعتل بالله وليفكر عن يمينه والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالاً حرامً هي أعظ من أن يكفرها ما يكفر اليمين، قال ابن العربي: الآية وردت بقسمين: لغو ومنعقدة وخرجت على الغالب في أيمان الناس فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإنه لم تعلق عليه كفارة.
قلت: خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال:
"جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله قال: ثم ماذا قال: عقوق الوالدين قال: ثم ماذا؟ قال : اليمين الغموس قلت وما اليمين الغموس قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب" خرج عن مسلم عن أبي أمامة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك" ومن حديث عبد الله بن مسعود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان " فنزلت " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا" [آل عمران:77] إلى آخر الآية ولم يذكر كفارة فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه ولقي الله وهو عنه راض ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه،وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب واستحال مال الغير والاستخفاف باليمين بالله تعالى ، والتهاون بها وتعظيم الدنيا؟ فأهان ما عظمه الله وعظم ما حقره الله وحسبك ولهذا قيل: إنما سميت اليمين الغموس غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار.
السادسة -الحالف بألا يفعل على بر ما لم يفعل فإن فعل حنث ولزمته الكافرة لوجود المخالفة منه وكذلك إذا قال إن فعلت وإذا حلف بأن ليفعلن فإنه في الحال على حنث لوجود المخالفة فإن فعل بر وكذلك إن قال إن لم يفعل .
السابعة -قول الحالف : لأفعلن وإن لم أفعل بمنزلة الأمر وقوله : لا أفعل وإن فعلت بمنزلة النهي ففي الأول لا يبر حتى يفعل جميع المحلوف عليه: مثاله لآكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبر حتى يأكل جميعه: لأن كل جزء منه محلوف عليه فإن قال: والله لأكلن مطلقاً - فإنه يبر بأقل جزء ما يقع عليه الاسم لإدخال ماهية الأكل في الوجود وأما في النهي فإنه يحنث بأقل ما ينطلق عليه الاسم لأن مقتضاه ألا يدخل فرد من أفراد المنهي عنه في الوجود فإن حلف ألا يدخل داراً فأدخل إحدى رجليه حنث والدليل عليه أنا وجدنا الشارع غلظ جهة التحريم بأول الاسم في قوله تعالى : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " [النساء: 22] فمن عقد على امرأة ولم يدخل بها حرمت على أبيه وابنه ولم يكتف في جهة التحليل بأول الاسم فقال :
لا حتى تذوقي عسيلته.
الثامنة- المحلوف به هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرحمن الرحيم والسميع والعليم والحليم ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته، لأنها يمين بقديم غير مخلوق فكان الحالف بها كالحالف بالذات، روى الترمذي والنسائي وغيرهما :
أن جبريل عليه السلام لم نظر إلى الجنة ورجع إلى الله تعالى قال:
وعزتك لا يسمع بها أحدا إلا دخلها وكذلك قال في النار : وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها خرجا أيضاً وغيرهما عن ابن عمر قال :
"كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب " وفي رواية "لا ومصرف القلوب " وأجمع أهل العلم على أن حلف فقال: والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي يقولونك من حلف اسم من أسماء الله وحنث فعليه الكفارة وبه نقول ولا أعلم في ذلك خلافاً .
قلت: قد نقل في باب ذكر الحلف بالقرآن وقال يعقوب : من حلف بالرحمن فحنث فلا كفارة عليه.
قلت: والرحمن من أسمائه سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه .
التاسعة- واختلفوا في وحق الله وعظمة الله وقدرة الله وعلم الله ولعمر الله وايم الله فقال: مالك كلها أيمان تجب فيها الكفارة وقال الشافعي: في وحق الله وجلال الله وعظمه الله وقدرة الله يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين لأنه يحتمل وحق الله واجب وقدرته ماضية وقال في أمانة الله: ليست بيمين، ولعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين وقال أصحاب الرأي: إذا قال وعظمة الله وعزة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله فحنث فعليه الكفارة، وقال الحسن في وحق الله: ليست بيمن ولا كفارة فيها، وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه الرازي: وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست وقال بعض أصحابه : وهي يمين وقال الطحاوي : ليست بيمين، وكذا إذا قال : وعلم الله لم يكن يميناً في قول أبي حنيفة وخالفه صاحبه أبو يوسف فقال: يكون يميناً قال ابن العربي: والذي أوقعه في ذلك أن العلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحدث
فلا يكون يميناً وذهل عن أن القدرة تنطلق على المقدرة فكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم قال ابن المنذر: وثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة " في قصة زيد وابنه أسامة وكان ابن عباس يقول: وايم الله وكذلك قال ابن عمر وقال إسحاق : إذا أراد ب ايم الله يميناً كانت يميناً بالإرادة وعقد القلب
العاشرة- واختلفوا في الحلف بالقرآن فقال ابن مسعود : عليه بكل آية يمين وبه قال الحسن البصري وابن المبارك وقال أحمد: ما أعلم شيئاً يدفعه وقال أبو عبيد: يكون يميناً واحدة وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه وكان قتادة: يحلف بالمصحف وقال أحمد وإسحاق لا نكره ذلك .
الحادية عشرة -لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمنيه لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله ، وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحف بالله أو ليصمت " وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا، ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما "عن أبي هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم :
لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون " ثم ينتقض عليه بمن قال: وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به .
الثانية عشرة- روى الأئمة واللفظ لمسلم "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق" وخرج النسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال:
كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى فقال لي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئس ما قلت: وفي رواية قلت هجراً فأتيت رسول اله صلى الله لعيه وسلم فذكرت ذلك له فقال:" قل إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثاً وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد " قال العلماء: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيراً لتلك اللفظة، وتذكيراً من الغفلة وإتماماً للنعمة وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينهما وكذا من قال لصاحبه: تعالى أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل .
الثالثة عشرة- قال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك باله أو أكفر بالله : إنها يمين تلزم فيها الكفارة ولا تلزم فيما إذا قال اليهودية: والنصرانية والنبي والكعبة وإن كانت على صيغة الأيمان ومتمسكة ما رواه الدارقطني عن أبي نافع :
أن مولاته أرادت أن تفرق بينه بين امرأته فقالت: هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله ، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها : أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماورت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينما وخرج أيضاً عنه قال: قالت مولاتي لأفرقن بينك وبين امرأتك، وكل مال لها في رتاج الكعبة وهي يوماً يهودية ويوماً نصرانية ويوماً مجوسية إن لم أفرق بينك وبين أمرتك قال: فانطلق إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت: إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها: إن هذا لا يحل لك قال فرجعت إليها قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال : هاهنا هاروت وماروت فقالت: إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة قال: فمم تأكلين ؟ قالت: وقلت أنا يوماً يهودية ويوماً نصرانية ويوماً مجوسية، فقال : إن تهودت
قتلت وإن تنصرت قتلت وإن تمجست قتلت، قالت: فما تأمرني؟ قال: تكفري عن يمينك وتجمعين بين فتاك وفتاتك واجمع العلماء على أن الحالف إذا قال : أقسم بالله أنها يمين واختلفوا إذا قال :
أقسم أو أشهد ليكونن كذا وكذا ولم يقل بالله فإنها تكون أيماناً عند مالك إذا أراد بالله وإن لم يرد بالله لم تكن أيماناً تكفر وقال أبو حنيفة والأوزاعي والحسن والنخعي : هي أيمان في الموضعين وقال الشافعي: لا تكون أيماناً حتى يذكر اسم الله تعالى هذه رواية المزني عنه وروى عنه الربيع مثل قول مالك.
الرابعة عشرة- إذا قال: أقسمت عليك لتفعلن ، فإن أراد سؤاله فلا كفارة فيه وليست بيمين وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفاً .
الخامسة عشرة- من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله: وخلق الله ورزقه وبيته لا شيء عليه لأنها أيما غير جائزة وحلف بغير الله تعالى .
السادسة عشرة- إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أو الاستثناء وقال ابن الماجشون: الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلا لليمين قال ابن القاسم: هي حل لليمين وقال ابن العربي: وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح وشرطه أن يكون متصلاً منطوقاً له لفظاً لما رواه النسائي وأبو داود عن ابن عمر "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حنث " فإن نواه من غير نطق أو قطعة من غير عذر لم ينفعه وقال محمد بن المواز: يكون الاستثناء متقرناً باليمن اعتقاداً ولو بآخر حرف قال : فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك لأن اليمين فرغت عارية من الاستثناء فوردوها بعده لا يؤثر كالتراخي وهذا يرده الحديث "من حلف فاستثنى " والفاء للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم، وأيضاً فإن ذلك يؤدي إلى ألا تنحل يمين ابتدئ عقدها وذلك باطل وقال ابن خويز منداد : واختلف أصحابنا متى استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه فقال بعض أصحابنا: يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له وقال بعضهم: لا يصح حتى يسمع المحولف له وقال بعضهم : يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له قال ابن خويز منداد : وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه، فلأن الأيمان تعتبر بالنيات، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه فإن لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلماً والاستثناء من الكلام يقع دون غيره وإنما قلنا لا يصح بحال فلأن ذلك حق للمحلوف له ، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له
الحاكم، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه وجب ألا يكون له فيها حكم، وقال ابن عباس: يدرك الاستثناء اليمين بعد سنة وتابع على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر " [الفرقان: 68] الآية، فلما كان بعد عام نزل " إلا من تاب " [الفرقان: 70] وقال مجاهد: من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه، وقال سعيد بن جبير: إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه وقال طاوس: له أن يستثني ما دام في مجلسه وقال قتادة: إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: يستثنى ما دام في ذلك الأمر . وقال عطاء :له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة .
السابعة عشرة- قال ابن العربي أما ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها لأن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله تعالى وفي لوحه وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله ذلك فيها، أما أنه يتركب عليها فرع حسن، وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار وأنت طالق إن دخلت الدار، واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قبله واستثنى في اليمن الثاني في قلبه أيضاً ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد، لم يظهر شيئا من الاستثناء إرهاباً على المحلوف له ، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة ، فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء وإنما يكون ذلك نافعاً له إذا جاء مستفتياً .
قلت: وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الأولى وأخفى الثانية فكذلك الحالف إذا حلف إرهاباً وأخفى الاستثناء والله أعلم قال ابن العربي: وكان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام وكانت الكتب تأتي إليه من بلده فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحداً مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه، فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضاً من الطلب وعزم على الرحيل، شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل فقرأ فيها ما لو أن واحداً مهنا يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم فحمد الله ورحل على دابة قماشة وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان وتقدمه الكري بالدابة وأقام هو على فامي يبتاع منه سفرته فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر: أما سمعت العلم يقول -يعني الواعظ - أن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة لقد استغل بذلك بالي منذ سمعته فظلت فيه متفكراً ولو كان ذلك صحيحاً لما قال الله تعالى لأيوب:"وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " [ ص : 44] وما الذي يمنعه من أن يقول : قل إن شاء الله فلما سمعه يقول ذلك قال : بلد يكون فيه الفاميون بهذا الحظ من العلم وهذا المرتبة أخرج عنه إلى المراغة ؟لا أفعله أبداً واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وأقام بها حتى مات
الثامنة عشرة -الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذا هي رخصة من الله تعالى ولا خلاف في هذا واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله فقال الشافعي وأبو حنيفة: الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى - قال أبو عمر :ما أجمعوا عليه فهو الحق ، وإنما التوفيق بالاستثناء في اليمين بالله عز وجل لا في غير ذلك ؟
التاسعة عشرة- قوله تعالى :" فكفارته " اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزئ أم لا - بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن وهو عندهم أولى - على ثلاثة أقوال: أحدها يجزئ مطلقاً وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزئ بوجه وهي رواية أشهب عن مالك وجه الجواز ما رواه أبو موسى الأشعري قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير " خرجه أبو داود ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة لقوله تعالى :" ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها وأيضاً فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث ووجه المنع ما رواه مسلم "عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير" زاد النسائي "وليكفر عن يمينه " ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها وكان معنى قوله تعالى " إذا حلفتم " أي إذا حفتم وحنثتم وأيضاً فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتباراً بالصلوات
وسائر العبادات وقال الشافعي: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصوم لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته ويجزئ في غير ذلك تقدير الكفارة ، وهو القول الثالث،
الموفية عشرين- ذكر الله سبحانه في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها، وعقب عند عدمها بالصيام وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شعبهم ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير قال ابن العربي: والذي عندي أنها تكون بحسب الحال،فإن علمت محتاجاً فالطعام أفضل، لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجاً حادى عشر إليهم، وكذلك الكسوة تليه، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم المهم .
الحادية والعشرون- قوله تعالى:" إطعام عشرة مساكين" لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه لقوله تعالى:" وهو يطعم ولا يطعم " [ الأنعام: 14] وفي الحديث "أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس " ولأنه أحد نوعي الكفارة فلم يجز فيها إلا التمليك ، أصله الكسوة وقال أبو حنيفة لو غداهم وعشاهم جاز وهو اختيار ابن الماجشون من علمائنا قال ابن الماجشون : إن التمكين من الطعام إطعام قال الله تعالى:" ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " [الإنسان] فبأي وجه أطعمه دخل في الآية .
الثانية والعشرون -قوله تعالى:" من أوسط ما تطعمون أهليكم" قد تقدم في البقرة أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصفاً بين طرفين ومنه الحديث .
"خير الأمور أوسطها " وخرج ابن ماجة حثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه شدة فنزلت : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين
الثالثة والعشرون- الإطعام عند مالك مد لكل واحد من المساكين العشرة، إن كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال الشافعي وأهل المدينة قال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مداً من حنطة بالمد الأصغر، ورأوه ذلك مجزئاً عنهم وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وبه قال عطاء بن أبي رباح واختلف إذا كان بغيرها فقال ابن القاسم: يجزئه المد بكل مكان وقال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف، وأشهب بمد وثلث قال: وإن مداً وثلثا لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء وقال أبو حنيفة: يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعاً، على حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه قال:
"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر، أو صاع من شعير من كل رأس، أو صاع بر بين اثنين" وبه أخذ سفيان وابن المبارك وروى عن علي وعمرو ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب، وهو قول عامة فقهاء العراق، لما رواه ابن عباس قال: "كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع تمر وأمر الناس بذلك فمن لم يجد فنصف صاع من تمر" " من أوسط ما تطعمون أهليكم " خرجه ابن ماجة في سننه .
الرابعة والعشرون -لا يجوز أن يطعم غنياً ولا ذا رحم تلزمه نفقته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال مالك: لا يعجبني أن يطعمه ولكن إن فعل وكان فقيراً أجزأه فإن أطعم غنياً جاهلاً بغناه ففي المدونة وغير كتاب : لا يجزئ وفي الأسيدة أنه يجزئ .
الخامسة والعشرون- ويخرج الرجل ما يكل، قال ابن العربي: وقد زلت هنا جماعة من العلماء فقالوا: إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج ما يأكل الناس وهذا سهو بين ، فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه، وقد "قال صلى الله عليه وسلم : صاعاً من طعام صاعاً من شعير " ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل، وهذا مما لا خفاء فيه .
السادسة والعشرون- قال مالك: إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مسكين مداً، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء، حتى يغديهم ويعشيهم قال عمر:وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار .
السابعة والعشرون- قال ابن حبيب: ولا يجزئ الخبز قفارا بل يعطي معه إدامة زيتاً أو كشكاً أو كامخاً أو ما تيسر، قال ابن العربي: هذه زياد ما أراها واجبة أما أنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر - نعم - واللحم وأما تعيين الإدام للطعام فلا سبيل إليه لأن اللفظ لا يتضمنه
قلت: نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخل، وما كان في معناه من الجبن والكشك كما قال ابن حبيب والله أعلم. "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
نعم الإدام الخل " وقال الحسن البصري: إن أطعمهم خبزاً ولحماً، أو خبزاً وزيتاً مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وري ذلك عن أنس بن مالك .
الثامنة والعشرون- لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد، وبه قال الشافعي وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، فمنهم من أجاز ذلك وأنه إذا تعدد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يمنع من الذي دفعت إليه أولاً، فإن اسم المسكين يتناوله وقال آخرون: يجوز دفع ذلك إليه في أيام وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين، وقال أبو حنيفة: يجزئه ذلك لأن المقصود الآية التعريف بقدر ما يطعم فلو دفع ذلك بقدر لواحد أجزأه، ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم وأيضاً فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوماً واحداً فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه، فيغفر للمكفر بسبب ذلك والله أعلم .
التاسعة والعشرون - قوله تعالى :" فكفارته " الضمير على الصناعة النحوية عائد على ما ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي ويحتمل أن تكون مصدرية أو يعود على إثم الحث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه .
الموفية ثلاثين - قوله تعالى:" أهليكم " هو جمع أهل على السلامة وقرأ جعفر بن محمد الصادق: أهاليكم وهذا جمع مكسر، قال أبو الفتح: أهال بمنزلة أهال بمنزلة ليال واحدها أهلات وليلات: والعرب تقول: أهل وأهلة قال الشاعر:
وأهله ود قد تبريت ودهم وأبليتهم في الجهد حمدي ونائلي
يقول: تعرضت لودهم قاله ابن السكيت.
الحادية والعشرون- قوله تعالى :" أو كسوتهم " قرئ بكر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأسوة وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن المسيقع اليماني: أو كإسوتهم كإسوة أهلك، والكسوة في حق الرجال والثوب الواحد الساتر لجميع الجسد، فأما في حق النساء فأقل ما يجزئهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار، قال ابن القاسم في العتبية تكسى الصغيرة كسوة كبيرة، والصغير كسوة كبير، قياساً على الطعام وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي : أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد، وفي رواية أبي الفرج عن مالك وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة: ما يستر جميع البدن بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال : نعم الثوب التبان أسنده الطبري وقال الحكم بن عتيبة تجزئ عمامة يلف بها رأسه وهو قول الثوري قال ابن العربي: وما كان أحرصني على أن يقال: إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبر كما أن عليه طعاماً يشبعه من الجوع فأقول به وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه .
قلت: قد راعى قوم عهود الزي والكسوة المتعارفة فقال بعضهم : لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً مما قد يتزيا به كالكساء والمحلفة. وقال أبو حنيفة وأصحابه : الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزاراً، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه أمر أن يكسى عنه ثوبين ثوبين، وبه قال الحسن وابن سرين وهذا معنى ما اختاره ابن العربي والله أعلم .
الثانية والثلاثون -لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: تجزئ وهو يقو تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة قال ابن العربي: وعمدته أن الغرض سد الخلة، ورفع الحاجة، فالقيمة تجزئ فيه.قلنا: إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العباد؟ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة ، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع ؟
الثالثة والثلاثون- إذا دفع الكسوة إلى ذمي أو إلى عبد لم يجزه وقال أبو حنيفة: يجزئه لأنه مسكين يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية. قلنا هذا يخصه بأن يقول جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر أصله الزكاة، وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعة للمرتد فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني
الرابعة والثلاثون- قوله تعالى :" أو تحرير رقبة " التحرير الإخراج من الرق ويستعمل في الأسر والمشتقات وتعب الدنيا ونحوها ومنه قول أم مريم : " إني نذرت لك ما في بطني محررا "[آل عمران: 35] أي من شغوب الدنيا ونحوها، ومن ذلك قول الفرزدق بن غالب .
أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
أي حررتكم من الهجاء وخص الرقبة من الإنسان، إذ هو العضو الذي يكون فيه الغل والتوثق غالباً من الحيوان، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها .
الخامسة والثلاثون -لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره ولا عتاقة بعضها ولا عتق إلى أجل، ولا كتابة ولا تدبير، ولا تكون أم ولد لولا من يعتق عليه إذا ملكه، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضرب بها في الاكتساب، سليمة غير معيبة، خلافاً لداود في تجويزه إعتاق المعيبة وقال أبو حنيفة : يجوز عتق الكافرة لأن مطلق اللفظ يقتضيها ودليلنا أنها قرية واجبة فلا يكون الكافر محلاً لها كالزكاة وأيضاً فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ .
وإنما قلنا: لا يكون فيها شرك لقوه تعالى :" فتحرير رقبة " وبعض الرقبة ليس برقبة وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق، لأن التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم وإنما قلا: سليمة لقوله تعالى: " فتحرير رقبة " والإطلاق يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة وفي الصحيح "عن النبي صلى الله عليه وسلم :
ما من مسلم يعتق امرءاً مسلماً إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضو منا حتى الفرج بالفرج " وهذا نص وقد روى في الأعور قولان ي المذهب، وكذلك في الأصم والخصي .
السادسة والثلاثون- من أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف كانت الكفارة باقية عليه بخلاف مخرج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء أو ليشتري به رقبة فتلف لم يكن عليه غيره لامتثال الأمر .
السابعة والثلاثون -اختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف، فقال الشافعي، وأبو ثور: كفارات الأيمان تخرج من رأس مال الميت، وقال أبو حنيفة: تكون في الثلث، وكذلك قال مالك إن أوصى بها.
الثامنة والثلاثون - من حلف وهو موسر فلم يكفر حتى أعسر، أو حنث وهو معسر فلم يكفر حتى أيسر، أو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحنث.
التاسعة والثلاثون- روى مسلم "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله " اللجاج في اليمين هو المضي على مقتضاه، وإن لزم من ذلك حرج ومشقة وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة، فإن كان شيء من ذلك فالأولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة ولا يعتل باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى :" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " [البقرة: 224] و"قال عليه السلام: من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير " أي الذي هو أكثر خيراً.
الموفية أربعين- روى مسلم "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
اليمين على نية المستحلف " قال العلماء: معناه أن من وجبت عليه يمين في حق وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره لم تنفعه نيته، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين وهو معنى قوله في الحديث الآخر:
"يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك " وروي "يصدقك به صاحبك " خرج مسلم أيضاً قال مالك: من حلف لطالبه في حق له عليه ، واستثنى في يمينه أو حرك لسانه أو شفتيه أو تكلم به، لم ينفعه استثناؤه ذلك لأن النية نية المحلوف له لأن اليمين حق له ، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف لأنها مستوفاة منه هذا تحصيل مذهبه وقوله :
الحادية والأربعون- قوله تعالى :" فمن لم يجد" معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة ، من الإطعام الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع، فإذا عدم هذه الثلاثة الأشياء صام والعدم يكون بوجهي إما بمغيب المال عنه أو عدمه، فالأول أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه فقيل: ينتظر إلى بلده قال ابن العربي: وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام لأن الوجوب قد تقرر في الذمة والشرط من العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة لقوله تعالى :" فمن لم يجد " وقيل: من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد وقيل: هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته، وليس عنده فضل يطعمه، وبه قال الشافعي واختاره الطبري وهو مذهب مالك وأصحابه، وروى عن ابن القاسم أن من تفضل عنه ونفقة يومه فإنه لا يصوم قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إنه إن كان للحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن عنده نصب فهو يغر واجد. وقال أحمد وإسحاق: إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه وقال أبو عبيد: إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله وكسوة تكون لكفايتهم ثم يكون بعد ذلك مالكاً لقدر الكفارة فهو عندنا واجد قال ابن المنذر: قول أبي عبيد حسن .
الثانية والأربعون- قوله تعالى :" فصيام ثلاثة أيام " قرأها ابن مسعود متتبعات فيقيد بها المطلق وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وهو أحد قولي الشافعي واختاره المزني قياساً على الصوم في كفارة الظهار واعتباراً بقراءة عبد الله وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئه التفريق ، لأن التتابع صفة لا تجب إلا نص أو قياس على منصوص وقد عدما.
الثالثة والأربعون- من أفطر في يوم من أيام الصيام ناسياً فقال مالك : عليه القضاء وقال الشافعي: لا قضاء عليه على ما تقدم بيانه في الصيام في البقرة .
الرابعة والأربعون- هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث فكان سفيان الثوري والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: ليس عليه إلا الصوم لا يجزئه غير ذلك واختلف فيه قول مالك فحكى عنه ابن نافع أنه قال : لا يكفر العبد بالعتق ، لأنه لا يكون له الولاء، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده وأصوب ذلك أن يصوم .
وحكى ابن القاسم عنه أنه قال: إن أطعم أو كسا بإذن السيد فما هو بالبين،وفي قلبي منه شيء .
الخامسة والأربعون-قوله تعالى :" ذلك كفارة أيمانكم " أي تغطية أيمانكم وكفرت الشيء غطيته وسترته وقد تقدم ولا خلاف أن هذه الكفارة في اليمين بالله تعالى وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفارة اليمين فعل الخير الذي حلف على تركه وترجم ابن ماجة في سننه من قال كفارتها تركها حدثنا علي بن محمد حدثنا عبد الله بن نمير عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة "عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من حلف في قطيعة رحم أو فيما لا يصلح فبره ألا يتم على ذلك " وأسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليتركها فإن تركها كفارتها "
قلت: ويعتضد هذا بقصة الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا يطعم الطعام وحلفت امرأته ألا تطعمه حتى يطعمه ، وحلف الضيف - أو الأضياف- ألا يطعمه أو لا يطمعوه حتى يطعمه فقال أبو بكر : كان هذا من الشيطان ، فدعا بالطعام فأكل وأكلوا خرجه البخاري وزاد مسلم قال : فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله بروا وحنثت قال: فأخبره قال:
بل أنت أبرهم وأخيرهم " قال: ولم تبلغني كفارة .
السادسة والأربعون- واختلفوا في كفارة غير اليمين بالله عز وجل ، فقال مالك : من حلف بصدقة ماله أخرج ثلثه، وقال الشافعي: عليه كفارة يمين وبه قال إسحاق وأبو ثور وري عن عمر وعائشة رضي الله عنهما، وقال الشعبي وعطاء وطاوس: لا شيء عليه وأما اليمن بالمشي إلى مكة فعليه أن يفي به عند مالك وأبي حنيفة وتجزئه كفارة يمين عند الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور، وقال ابن المسيب والقاسم بن محمد: لا شيء عليه قال ابن عبد البر : أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمن بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عز وجل، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء المسلمين وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبد الصمد وذكر له أنه قول الليث بن سعد والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة إلا بالمشي لمن قدر عليه وهو قول مالك وأما الحالف بالعتق فعليه عتق من حلف عليه بعتقه في قول مالك والشافعي وغيرهما. وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة أنه يكفر كفارة يمين ولا يلزمه العتق وقال عطاء: يتصدق بشيء قال المهدوي: وأجمع من يعتمد على قوله من العلماء على أن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث .
السابعة والأربعون- قوله تعالى :" واحفظوا أيمانكم " أي بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم، وقيل: أي بترك الحلف فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوج عليكم هذه التكليفات " لعلكم تشكرون " تقدم معنى الشكر ولعل في البقرة والحمد لله.
وقد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا, ولله الحمد والمنة, وأنه قول الرجل في الكلام من غير قصد: لا والله وبلى والله. وهذا مذهب الشافعي. وقيل هو في الهزل. وقيل: في المعصية. وقيل: على غلبة الظن, وهو قول أبي حنيفة وأحمد. وقيل: اليمين في الغضب وقيل: في النسيان. وقيل: هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك, واستدلوا بقوله "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها, "فكفارته إطعام عشرة مساكين" يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه.
وقوله "من أوسط ما تطعمون أهليكم" قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة: أي من أعدل ما تطعمون أهليكم. وقال عطاء الخراساني: من أمثل ما تطعمون أهليكم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج, عن أبي إسحاق السبيعي, عن الحارث, عن علي قال: خبز ولبن, وخبز وسمن. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان يعني ابن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون, وبعضهم قوتاً فيه سعة, فقال الله تعالى: "من أوسط ما تطعمون أهليكم" أي من الخبز والزيت, وحدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا وكيع, حدثنا إسرائيل عن جابر, عن عامر, عن ابن عباس "من أوسط ما تطعمون أهليكم" قال: من عسرهم ويسرهم وحدثنا عبد الرحمن بن خلف الحمصي, حدثنا محمد بن شعيب يعني ابن شابور, وحدثنا شيبان بن عبد الرحمن التميمي عن ليث بن أبي سليم عن عاصم الأحول, عن رجل يقال له عبد الرحمن التميمي, عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال "من أوسط ما تطعمون أهليكم", قال: الخبز واللحم, والخبز والسمن, والخبز واللبن, والخبز والزيت, والخبز والخل.
وحدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا أبو معاوية عن عاصم, عن ابن سيرين, عن ابن عمر في قوله "من أوسط ما تطعمون أهليكم" قال: الخبز والسمن, والخبز واللبن, والخبز والزيت, والخبز والتمر, ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم, ورواه ابن جرير عن هناد وابن وكيع, كلاهما عن أبي معاوية, ثم روى ابن جرير عن عبيدة والأسود وشريح القاضي ومحمد بن سيرين والحسن والضحاك وأبي رزين, أنهم قالوا نحو ذلك, وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول أيضاً.
واختار ابن جرير أن المراد بقوله "من أوسط ما تطعمون أهليكم" أي في القلة والكثرة, ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد, حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج, عن حصين الحارثي, عن الشعبي, عن الحارث, عن علي رضي الله عنه في قوله "من أوسط ما تطعمون أهليكم" قال: يغديهم ويعشيهم. وقال الحسن ومحمد بن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزاً ولحماً, زاد الحسن: فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً, فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً, حتى يشبعوا. وقال آخرون: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما, فهذا قول عمر وعلي وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبي مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبي قلابة ومقاتل بن حيان. وقال أبو حنيفة: نصف صاع بر وصاع مما عداه.
وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي, حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف, حدثنا محمد بن معاوية, حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل بن سخبرة بن أخي عائشة لأمه, حدثنا عمر بن يعلى عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر, وأمر الناس به, ومن لم يجد فنصف صاع من بر. ورواه ابن ماجه عن العباس بن يزيد, عن زياد بن عبد الله البكاء, عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي, عن المنهال بن عمرو به, لا يصح هذا الحديث لحال عمر بن عبد الله هذا, فإنه مجمع على ضعفه, وذكروا أنه كان يشرب الخمر. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن إدريس عن داود يعني ابن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس, أنه قال: مد من بر يعني لكل مسكين ومعه إدامه, ثم قال: وروي عن ابن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وعكرمة وأبي الشعثاء والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والحسن ومحمد بن سيرين والزهري, نحو ذلك.
وقال الشافعي: الواجب في كفارة اليمين مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين ولم يتعرض للأدم. واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكيناً من مكتل يسع خمسة عشر صاعاً, لكل واحد منهم مد. وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك, فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري, حدثنا محمد بن إسحاق السراج, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا النضر بن زرارة الكوفي عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مداً من حنطة بالمد الأول, إسناده ضعيف لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بلخ, قال فيه أبو حاتم الرازي: هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد, وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة, فالله أعلم, ثم إن شيخه العمري ضعيف أيضاً. وقال أحمد بن حنبل: الواجب مد من بر أو مدان من غيره, والله أعلم.
وقوله تعالى: "أو كسوتهم" قال الشافعي رحمه الله: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة, أجزأه ذلك, واختلف أصحابه في القلنسوة: هل تجزىء أم لا ؟ على وجهين, فمنهم من ذهب إلى الجواز احتجاجاً بما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وعمار بن خالد الواسطي: قالا: حدثنا القاسم بن مالك عن محمد بن الزبير, عن أبيه, قال: سألت عمران بن الحصين عن قوله "أو كسوتهم" قال: لو أن وفداً قدموا على أميركم فكساهم قلنسوة, قلنسوة قلتم قد كسوا, ولكن هذا إسناد ضعيف لحال محمد بن الزبير هذا, والله أعلم. وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني: في الخف وجهين أيضاً, والصحيح عدم الإجزاء وقال مالك وأحمد بن حنبل: لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه, إن كان رجلاً أو امرأة كل بحسبه, والله أعلم .
وقال العوفي عن ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة, وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت. وقال ليث عن مجاهد: يجزىء في كفارة اليمين كل شيء إلا التبان. وقال الحسن وأبو جعفر الباقر وعطاء وطاوس وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو مالك. ثوب ثوب. وعن إبراهيم النخعي أيضاً: ثوب جامع كالملحفة والرداء, ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعاً, وقال الأنصاري عن أشعث عن ابن سيرين: والحسن ثوبان ثوبان. وقال الثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب: عمامة يلف بها رأسه, وعباءة يلتحف بها. وقال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول, عن ابن سيرين, عن أبي موسى أنه حلف على يمين, فكسا ثوبين من معقدة البحرين. وقال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا أحمد بن المعلى, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا إسماعيل بن عياش, عن مقاتل بن سليمان, عن أبي عثمان, عن أبي عياض, عن عائشة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "أو كسوتهم" قال "عباءة لكل مسكين", حديث غريب .
وقوله "أو تحرير رقبة" أخذ أبو حنيفة بإطلاقها فقال: تجزىء الكافرة كما تجزىء المؤمنة. وقال الشافعي وآخرون: لا بد أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب. ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم أنه ذكر أن عليه عتق رقبة, وجاء معه بجارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "أين الله ؟". قالت: في السماء. قال "من أنا ؟" قالت: رسول الله. قال "أعتقها فإنها مؤمنة" الحديث بطوله. فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين, أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع, وقد بدأ بالأسهل, فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة, كما أن الكسوة أيسر من العتق, فترقى فيها من الأدنى إلى الأعلى, فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام, كما قال تعالى: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام".
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري, أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام, وقال ابن جرير حاكياً عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه جائز لمن لم يكن له فضل عن رأس مال يتصرف فيه لمعاشه, ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه, ثم اختار ابن جرير أنه الذي لا يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين, واختلف العلماء: هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب, ويجزىء التفريق ؟ قولان: أحدهما لا يجب وهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان, وهو قول مالك لإطلاق قوله "فصيام ثلاثة أيام" وهو صادق على المجموعة والمفرقة, كما في قضاء رمضان لقوله " فعدة من أيام أخر " ونص الشافعي في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع, كما هو قول الحنفية والحنابلة, لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيره أنهم كانوا يقرؤونها " فصيام ثلاثة أيام ". قال أبو جعفر الرازي, عن الربيع, عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها " فصيام ثلاثة أيام " وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود, وقال إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله بن مسعود " فصيام ثلاثة أيام ". وقال الأعمش كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك, وهذه إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً, فلا أقل أن يكون خبراً واحداً أو تفسيراً من الصحابة وهو في حكم المرفوع. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي, حدثنا محمد بن جعفر الأشعري, حدثنا الهيثم بن خالد القرشي, حدثنا يزيد بن قيس عن إسماعيل بن يحيى, عن ابن جريج, عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله نحن بالخيار ؟ قال "أنت بالخيار إن شئت أعتقت, وإن شئت كسوت, وإن شئت أطعمت, فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وهذا حديث غريب جداً. وقوله "ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم" أي هذه كفارة اليمين الشرعية "واحفظوا أيمانكم". قال ابن جرير: معناه لا تتركوها بغير تكفير "كذلك يبين الله لكم آياته" أي يوضحها ويفسرها "لعلكم تشكرون".
قد تقدم تفسير اللغو، والخلاف فيه، في سورة البقرة، و 89- "في أيمانكم" صلة "يؤاخذكم"، قيل و "في" بمعنى من والأيمان جمع يمين. وفي الآية دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها ولا تجب بها الكفارة. وقد ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل: لا والله وبلى والله في كلامه غير معتقد لليمين، وبه فسر الصحابة الآية وهم أعرف بمعاني القرآن. قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة. قوله: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" قرئ بتشديد "عقدتم" وبتخفيفه، وقرئ " عقدتم ". والعقد على ضربين: حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع، واليمين والعهد. قال الشاعر:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فاليمين المعقدة من عقد القلب ليفعلن أو لا يفعلن في المستقبل: أي ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المعقدة الموثقة بالقصد والنية إذا حنثتم فيها. وأما اليمين الغموس: فهي يمين مكر وخديعة وكذب قد باء الحالف بإثمها، وليست بمعقودة ولا كفارة فيها كما ذهب إليه الجمهور، وقال الشافعي: هي يمين معقودة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر مقرونة باسم الله، والراجح الأول وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين متوجهة إلى المعقودة ولا يدل شيء منها على الغموس، بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب، وإنها من الكبائر، بل من أكبر الكبائر، وفيها نزل قوله تعالى: "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً" الآية. قوله: "فكفارته" الكفارة: هي مأخوذة من التكفير وهو التستير، وكذلك الكفر هو الستر، والكافر هو الساتر، لأنها تستر الذنب وتغطيه، والضمير في كفارته راجع إلى ما في قوله: "بما عقدتم". " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " المراد بالوسط هنا المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، وليس المراد به الأعلى كما في غير هذا الموضع: أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام أهليكم منه، ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه، ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه، وظاهره أنه يجزئ إطعام عشرة حتى يشبعوا. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: لا يجزئ إطعام العشرة غداء دون عشاء حتى يغديهم ويعشيهم. قال أبو عمر: هو قول أئمة الفتوى بالأمصار. وقال الحسن البصري وابن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزاً وسمناً أو خبزاً ولحماً. وقال عمر بن الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبو مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبو قلابة ومقاتل: يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر. وروي ذلك عن علي. وقال أبو حنيفة نصف صاع بر وصاع مما عداه. وقد أخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن عباس قال: كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وكفر الناس به، ومن لم يجد فنصف صاع من بر، وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي وهو مجمع على ضعفه. وقال الدارقطني: متروك. قوله: "أو كسوتهم" عطف على إطعام. قرئ بضم الكاف وكسرها وهما لغتان مثل أسوة وإسوة. وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني أو كأسوتهم: يعني كأسوة أهليكم والكسوة في الرجال تصدق على ما يكسو البدن ولو كان ثوباً واحداً، وهكذا في كسوة النساء، وقيل الكسوة للنساء درع وخمار، وقيل المراد بالكسوة ما تجزئ به الصلاة. قوله: "أو تحرير رقبة" أي إعتاق مملوك، والتحرير: الإخراج من الرق، وتستعمل التحرير في فك الأسير وإعفاء المجهود يعمل عن عمله وترك إنزال الضرر به، ومنه قول الفرزدق:
أبني غدانة أنني حررتــــكم فوهبتكم لعطية بن جعال
أي حررتكم من الهجاء الذي كان سيضع منكم ويضر بأحسابكم.
ولأهل العلم أبحاث في الرقبة التي تجزئ في الكفارة، وظاهر هذه الآية أنها تجزئ كل رقبة على أي صفة كانت. وذهب جماعة منهم الشافعي إلى اشتراط الإيمان فيها قياساً على كفارة القتل "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" أي فمن لم يجد شيئاً من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام، وقرئ متتابعات حكي ذلك عن ابن مسعود وأبي، فتكون هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم. وبه قال أبو حنيفة والثوري وهو أحد قولي الشافعي. وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئ التفريق "ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم" أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم، ثم أمرهم بحفظ الأيمان وعدم المسارعة إليها أو إلى الحنث بها، والإشارة بقوله: "كذلك" إلى مصدر الفعل المذكور بعده، أي مثل ذلك البيان "يبين الله لكم" وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز "لعلكم تشكرون" ما أنعم به عليكم من بيان شرائعه وإيضاح أحكامه.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم". وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير في اللغو قال: هو الرجل يحلف على الحلال. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: هما الرجلان يتبايعان، يقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن النخعي قال: اللغو أن يصل كلامه بالحلف: والله لتأكلن والله لتشربن ونحو هذا لا يريد به يميناً ولا يتعمد حلفاً، فهو لغو اليمين ليس عليه كفارة، وقد تقدم الكلام في البقرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" قال: بما تعبدتم. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مداً من حنطة، وفي إسناده النضر بن زرارة بن عبد الكريم الذهلي الكوفي. قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات. وقد تقدم حديث ابن عباس وتضعيفه. وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنا نعطي في كفارة اليمين بالمد الذي نقتات به. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: إني أحلف لا أعطي أقواماً، ثم يبدو لي فأعطيهم، فأطعم عشرة مساكين كل مسكين صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو نصف صاع من قمح. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: في كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق قال: في كفارة اليمين مد من حنطة لكل مسكين. وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت مثله. وأخرج هؤلاء أيضاً عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: تغديهم وتعشيهم إن شئت خبزاً ولحماً أو خبزاً وزيتاً أو خبزاً وسمناً أو خبزاً تمراً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم" قال: من عسركم ويسركم. وأخرج ابن ماجه عنه قال: الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه شدة، فنزلت: "من أوسط ما تطعمون أهليكم". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه نحو ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أو كسوتهم" قال: عباءة لكل مسكين، قال ابن كثير: حديث غريب. وأخرج ابن مردويه "عن حذيفة قال: قلت يا رسول الله "أو كسوتهم" ما هو؟ قال: عباءة عباءة". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: عباءة لكل مسكين أو شملة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: الكسوة ثوب أو إزار. وأخرج ابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: في كفارة اليمين هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة الأول فالأول فإن لم يجد من ذلك شيئاً فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وأخرج ابن مردويه عنه نحوه.
90- قوله عز و جل : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " ، أي : القمار " والأنصاب " ، يعني : الاوثان ، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ، واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد ، ونصب بضم النون مخففاً ومثقلاً ، " والأزلام" ، يعني : القداح التي كانوا يستقسمون بها واحدها زلم " رجس " ، خبيث مستقذر ، " من عمل الشيطان " ، من تزيينه ، " فاجتنبوه " ، رد الكناية إلى الرجس ، " لعلكم تفلحون " .
89" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " هو ما يبدوا من المرء بلا قصد كقول الرجل: لا والله وبلى والله، وإليه ذهب الشافعي رضي تعالى عنه، وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه. " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به. وقرأ حمزة و الكسائي و ابن عياش عن عاصم "عقدتم" بالتخفيف، و ابن عامر برواية ابن ذكوان " عقدتم " وهو من فاعل بمعنى فعل. " فكفارته " فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب اثمه وتستره، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافاً للحنفية لقوله عليه الصلاة والسلام "من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير". "إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم" من أقصده في النوع والقدر، وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية، وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره: أن تطعموا عشرة مساكين طعاماً من أوسط ما تطعمون، أو الرفع على البدل من إطعام، وأهلون كأرضون.
قرئ " أهليكم " بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف، وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض. وقيل هو جمع اهلاة. "أو كسوتهم" عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلاً وهو ثوب يغطي العورة. وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار. وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط، والكاف في محل الرفع وتقديره: أو إطعامهم كأسوتهم. "أو تحرير رقبة" أو إعتاق إنسان، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأيمان قياساً على كفارة القتل، ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقاً وتخيير المكفر في التعيين. "فمن لم يجد" أي واحدة منها. " فصيام ثلاثة أيام " فكفارته صيام ثلاثة أيام، وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ " ثلاثة أيام "، والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتاباً ولم ترو سنة. "ذلك" أي المذكور. " كفارة أيمانكم إذا حلفتم " وحنثتم. "واحفظوا أيمانكم" بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير، أو بأن تكفروها إذا حنثتم. "كذلك" أي مثل ذلك البيان. " يبين الله لكم آياته " أعلام شرائعه. " لعلكم تشكرون " نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه.
89. Allah will not take you to task for that which is unintentional in your oaths, but He will take you to task for the oaths which ye swear in earnest. The expiation thereof is the feeding of ten of the needy with the average of that wherewith ye feed your own folk, or the clothing of them, or the liberation of a slave, and for him who findeth not (the wherewithal to do so) then a three day fast. This is the expiation of your oaths when ye have sworn; and keep your oaths. Thus Allah expoundeth unto you His revelations in order that ye may give thanks.
89 - God will not call you to account for what is futile in your oaths, but he will call you to account for you deliberate oaths: for expiation, feed ten indigent persons, on a scale of the average for the food of your families; or clothe them; or give a slave his freedom. if that is beyond your means, fast for three days. that is the expiation for the oaths ye have sworn. but keep to your oaths. thus doth God make clear to you his sign, that ye may be grateful.