88 - (فاستجبنا له ونجيناه من الغم) بتلك الكلمات (وكذلك) كما نجيناه (ننجي المؤمنين) من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين
يقول تعالى ذكره : " فاستجبنا " ليونس دعاءه إيانا ، إذ دعانا في بطن الحوت ، و نجيناه من الغم الذي كان فيه بحبسناه في بطن الحوت ، وغمه يخطيئته وذنبه " وكذلك ننجي المؤمنين " يقول جل ثناؤه : وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا ، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن بكار الكلاعي ، قال : ثنا يحيى بن صالح ، قال : ثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن ، قال : ثني بشر بن منصور ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال سمعت سعد بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اسم الله الذي دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى . قال : فقلت : يا رسول الله ، هي ليونس بن متى خاصة ، أم لجماعة المسلمين ؟ قال : هي ليونس بن متى خاصة ، وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى : " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " ، فهو شرط الله لمن دعاه بها " .
واختلفت القراء في قوله "ننجي المؤمنين " فقرأت ذلك قراء الأمصار ، سوى عاصم ، بنونين الثانية منهما ساكنة، من أنجيناه ، ننجيه . وإنما قرءوا ذلك كذلك ، وكتابته في المصاحف بنون واحدة ، لأنه لو قرئ بنون واحدة وتشديد الجيم ، بمعنى ما لم يسم فاعله ، كان (( المؤمنون )) رفعا ، وهم في المصاحف منصوبون ، ولو قرئ بنون واحدة ، وتخفيف الجيم ، كان للمؤمنين ، وكانوا رفعا ، ووجب مع ذلك أن يكون قوله :
(( نجى)) مكتوبا بالألف ، لأنه من ذوات الواو وهو في المصاحف بالياء .
فإن قال قائل : فكيف كتاب ذلك بنون واحدة ، وقد علمت أن حكم ذلك إذا قرئ " ننجي " أن يكتب بنونين ؟ قيل : لأن النون الثانية لما سكنت ، وكان الساكن غير ظاهر على اللسان ، حذفت كما فعلوا ذلك بإلا ، فحذفوا النون من إن لخفائها ، إذ كانت مندغمة في اللام من لا ، و قرأ ذلك عاصم (نجي المؤمنين بنون واحدة ، و تثقيل الجيم ، و تسكين الياء ، فإن يكن عاصم وجه قراءته ذلك إلى قول العرب : ضرب الضرب زيدا ، فكنى عن المصدر الذي هو النجاء ، و جعل الخبر ، أعني خبر ما لم يسم فاعله المؤمنين ،كأنه أراد : و كذلك نجى النجاء المؤمنين ، فكنى عن النجاء ، فهو وجه ، و إن كان غيره أصوب ، و إلا فإن الذي قرأ من ذلك على ما قرأه إياه على ما عليه قراءة القراء إلحاق نون أخرى ليست في المصحف ، فظن أن ذلك زيادة ما ليس في المصحف ، و لم يعرف لحذفها وجها يصرفه إليه .
قال أبو جعفر : و الصواب من القراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار ، من قراءته بنونين ، و تخفيف الجيم ، لإجماع الحجة من القراء عليها ، و تخطئتها خلافه .
قوله تعالى: " وكذلك ننجي المؤمنين " أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله: " فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاد أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياماً قلائل فإلى يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. " من الغم " أي من بطن الحوت.
قوله تعالى: " وكذلك ننجي المؤمنين " قراءة العامة بنونين من أنجى ينجي. وقرأ ابن عامر نجي بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وأضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب زيداً بمعنى ضرب الضرب زيداً وأنشد:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن وذعروا ما بقي من الربا [البقرة: 278] استثقالاً لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد:
خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذا القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا
سكن الياء في دعي استثقالاً لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب، أي وجدا المشيب البعير، ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم و الزجاج وقالوا: هو لحن، لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيداً بمعنى ضرب الضرب زيداً، لأنه لا فائدة [فيه] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقاله القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس : وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين، لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في " من جاء بالحسنة " [الأنعام: 160] مجاء بالحسنة قال النحاس : ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين، لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين، لاجتماعهما نحو قوله عز وجل: " ولا تفرقوا " [آل عمران: 103] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية " وكذلك ننجي المؤمنين " أي نجى الله المؤمنين، وهي حسنة.
هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة الصافات وفي سورة "ن",و ذلك أن يونس بن متى عليه السلام, بعثه الله إلى أهل قرية نينوى, وهي قرية من أرض الموصل, فدعاهم إلى الله تعالى, فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم, فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم, ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث, فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب, خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم, وفرقوا بين الأمهات وأولادها, ثم تضرعوا إلى الله عز وجل وجأروا إليه, ورغت الإبل وفصلانها, وخارت البقر وأولادها, وثغت الغنم وسخالها, فرفع الله عنهم العذاب, قال الله تعالى: " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ".
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم, وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه, فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً, قال الله تعالى: "فساهم فكان من المدحضين" أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه, ثم ألقى نفسه في البحر, وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر ـ فيما قاله ابن مسعود ـ حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة, فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً, فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً.
وقوله: "وذا النون" يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله: "إذ ذهب مغاضباً" قال الضحاك لقومه: "فظن أن لن نقدر عليه" أي نضيق عليه في بطن الحوت, يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم, واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: " ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا " وقال عطية العوفي : "فظن أن لن نقدر عليه", أي نقضي عليه, كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير, فإن العرب تقول: قدر وقدر بمعنى واحد, وقال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يكن فلك الأمر
ومنه قوله تعالى: "فالتقى الماء على أمر قد قدر" أي قدر. "فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل, وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة . وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر, قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر, فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره, فعند ذلك وهنالك قال: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" وقال عوف الأعرابي : لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات, ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه, ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس. وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يوماً. رواهما ابن جرير .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة : سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت, أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً, فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا ؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر, قال: وسبح وهو في بطن الحوت, فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة, قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر, قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال: نعم, قال: فشفعوا له عند ذلك, فأمر الحوت فقذفه في الساحل, كما قال الله تعالى: "وهو سقيم" " رواه ابن جرير , ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة فذكره بنحوه, ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب , حدثنا عمي , حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي قال: سمعت أنس بن مالك , ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم لا إله إلا أنت, سبحانك إني كنت من الظالمين, فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش, فقالت الملائكة: يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة, فقال: أما تعرفون ذاك ؟ قالوا: لا يا رب ومن هو ؟ قال: عبدي يونس, قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة, قالوا: يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال: بلى, فأمر الحوت فطرحه في العراء " .
وقوله: "فاستجبنا له ونجيناه من الغم" أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات "وكذلك ننجي المؤمنين" أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء, فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء. قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عمر , حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني , حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد , حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد, فسلمت عليه, فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام, فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء, مرتين قال: لا وما ذاك ؟ قلت لا, إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام, قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه, فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام ؟ قال: ما فعلت, قال سعد : قلت بلى حتى حلف وحلفت, قال: ثم إن عثمان ذكر فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إليه, إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة, قال سعد : فأنا أنبئك بها, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة, ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته, فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض, فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا, أبو إسحاق ؟ قال: قلت نعم يا رسول الله, قال: فمه قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة, ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك, قال: نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له" ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سيعد الأشج , حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب , قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا بدعاء يونس استجيب له" قال أبو سعيد : يريد به "وكذلك ننجي المؤمنين". وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي , حدثنا يحيى بن صالح , حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن , حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اسم الله الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى" قال قلت يا رسول الله. هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال: "هي ليونس بن متى خاصة, ولجماعة المؤمنين عامة, إذا دعوا بها, ألم تسمع قول الله عز وجل " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " فهو شرط من الله لمن دعاه به".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أحمد بن أبي سريج , حدثنا داود بن المحبر بن قحذم المقدسي عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ؟ قال: ابن أخي أما تقرأ القرآن قول الله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " ابن أخي, هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى.
ثم أخبر الله سبحانه بأنه استجاب له فقال: 88- "فاستجبنا له" دعاءه الذي دعانا به في ضمن اعترافه بالذنب على ألطف وجه "ونجيناه من الغم" بإخراجنا له من بطن الحوت حتى قذفه إلى الساحل "وكذلك ننجي المؤمنين" أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم وما أعددناه لهم من الرحمة، وهذا هو معنى الآية الأخرى، وهو قوله: " فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " قرأ الجمهور "ننجي" بنونين. وقرأ ابن عامر "نجي" بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر، وكذلك نجى النجاة المؤمنين كما تقول ضرب زيداً: أي ضرب الضرب زيداً، ومنه قول الشاعر:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
هكذا قال في توجيه هذه القراءة الفراء وأبو عبيد وثعلب، وخطأهم أبو حاتم والزجاج وقالا: هي لحن لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال نجي المؤمنون. ولأبي عبيدة قول آخر، وهو أن أدغم النون في الجيم وبه قال القتيبي. واعترضه النحاس فقال: هذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا يدغم فيها، ثم قال النحاس: لم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان الأخفش قال: الأصل ننجي، فحذف إحدى النوتين لاجتماعهما كما يحذف إحدى التاءين لاجتماعهما نحو قوله تعالى: "ولا تفرقوا" والأصل ولا تتفرقوا. قلت: وكذا الواحدي عن أبي علي الفارسي أنه قال: إن النون الثانية تخفى مع الجيم، ولا يجوز تبيينها، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام، فظن أنه إدغام، ويدل على هذا إسكانه الياء من نجى ونصب المؤمنين، ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء ولوجب أن يرفع المؤمنين. قلت: ولا نسلم قوله إنه لا يجوز تبيينها فقد بينت في قراءة الجمهور، وقرأ محمد بن السميفع وأبو العالية وكذلك نجى المؤمنين على البناء للفاعل: أي نجى الله المؤمنين.
وقد أخرج ابن جرير عن مرة في قوله: "إذ يحكمان في الحرث" قال: كان الحرث نبتاً فنقشت فيه ليلاً فاختصموا فيه إلى داود، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث، فمروا على سليمان فذكروا ذلك له، فقال: لا، تدفع الغنم فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم، فإذا كان كما كان ردوا عليهم فنزلت "ففهمناها سليمان" وقد روي هذا عن مرة عن ابن مسعود. وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله: "وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث" قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها، حتى إذا عاد الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه والغنم إلى صاحبيها، فذلك قوله: "ففهمناها سليمان". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مسروق نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه، ولكنه لم يذكر الكرم. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "نفشت" قال: رعت. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حرام بن محيصة: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وقد علل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في شرح المنتقي. وأخرج ابن مردويه من حديث عائشة نحوه. وزاد في آخره، ثم تلا هذه الآية "وداود وسليمان" الآية. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابنان جاء الذئب فأخذ أحد الاثنين، فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: رحمك الله، هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى". وهذا الحديث وإن لم يكن داخلاً فيما حكته الآية من حكمهما لكنه من جملة ما وقع لهما. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة في قوله: "وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير" قال: يصلين مع داود إذا صلى "وعلمناه صنعة لبوس لكم" قال: كانت صفائح، فأول من سردها وحلقها داود عليها السلام. وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان سليمان يوضع له ستمائة ألف كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي أشراف الإنس ثم يدعوا الطير فتظلم، ثم يدعو الريح فتحملهم تسير مسيرة شهر في الغداة الواحدة. وأخرج ابن عساكر والديلمي وابن النجار عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لأيوب: تدري ما جرمك علي حتى ابتليتك؟ قال: لا يا رب، قال: لأنك دخلت على فرعون فداهنت عنده في كلمتين". وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: إنما كان ذنب أيوب أنه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه فلم يعنه، ولم يأمر بالمعروف، ولم ينه الظالم عن ظلم المسكين فابتلاه الله. وفي إسناده جويبر. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب أخوان جاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما للآخر: لو كان علم الله من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط مثله، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان، وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أي لم ألبس قميصاً قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان ثم خر ساجداً وقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني، فلما رفع رأسه حتى كشف الله عنه. وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعاً بنحو هذا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وآتيناه أهله ومثلهم معهم" قال: قيل له يا أيوب إن أهلك لك في الجنة، فإن شئت أتيناك لهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن الضحاك قال: بلغ ابن مسعود أن مروان قال في هذه الآية "وآتيناه أهله ومثلهم معهم" قال: أوتي أهلاً غير أهله، فقال ابن مسعود: بل أوتي أهله بأعيانهم ومثلهم معهم. وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد، قال: وما ذاك؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف عنه ما به، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر له ذلك، فقال أيوب: لا أدري ما يقول غير أن الله يعلم أني أمر بالرجلين يتنازعان يذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهة أن يذكر الله إلا في حق وكان يخرج لحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن "اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله المبتلى، والله على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً؟ قال: فإني أنا هو، قال: وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وذا الكفل" قال: رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم به ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمي ذا الكفل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل قاض فحضره الموت، فقال: من يقوم مقامي على أن لا يغضب، فقال رجل: أنا، فسمي ذا الكفل، فكان ليله جميعاً يصلي، ثم يصبح قائماً فيقضي بين الناس، وذكر القصة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: ما كان ذو الكفل نبياً، ولكن كان في بني إسرائيل رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سعد مولى طلحة عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت، فقال: ما يبكيك أكرهتك؟ قالت: لا ولكنه عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك، وقال: والله لا أعصي الله بعدها أبداً، فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه: إن الله قد غفر للكفل". وأخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وابن مردويه من طريق سعد مولى طلحة. وأخرجه ابن مردويه من طريق نافع عن ابن عمرو قال: فيه ذو الكفل. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "وذا النون إذ ذهب مغاضباً" يقول: غضب على قومه "فظن أن لن نقدر عليه" يقول: أن لن نقضي عليه عقوبة ولا بلاءً فيما صنع بقومه في غضبه عليهم وفراره، قال: وعقوبته أخذ النون إياه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "فظن أن لن نقدر عليه" قال: ظن أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه. وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود "فنادى في الظلمات" قال: ظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له". وأخرج ابن جرير عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى، قلت: يا رسول الله، هل ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به، ألم تسمع قول الله "وكذلك ننجي المؤمنين" فهو شرط من الله لمن دعاه". وأخرج الحاكم من حديثه أيضاً نحوه، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى". وروي أيضاً في الصحيح وغيره من حديث ابن مسعود، وروي أيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة.
88. فذلك قوله تعالى: " فاستجبنا له "، يعني: أجبناه، " ونجيناه من الغم "، من تلك الظلمات، " وكذلك ننجي المؤمنين "، من كل كرب إذا دعونا واستغاثوا بنا، قرأ ابن عامر وعاصم برواية أبي بكر: " نجي " بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء لأنها مكتوبة في المصحف بنون واحدة، واختلف النحاة في هذه القراءة، فذهب أكثرهم إلى أنها لحن لأنه لو كان على ما لم يسم فاعله لم تسكن الياء ورفع المؤمنون، ومنهم من صوبها، وذكر الفراء أن لها وجهاً آخر وهو إضمار المصدر، أي نجا النجاء المؤمنين، ونصب المؤمنين كقولك: ضرب الضرب زيداً، ثم تقول ضرب زيداً بالنصب على إضمار المصدر، وسكن الياء في " نجي " كما يسكنون في بقي ونحوها، قال القتيبي : من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنما أراد ننجي من التنجية إلا أنه أدغم وحذف نوناً طلباً للخفة ولم يرضه النحويون لبعد مخرج النون من الجيم، والإدغام يكون عند قرب المخرج، وقراءة العامة " ننجي " بنونين من الإنجاء، وإنما كتبت بنون واحدة لأن النون الثانية كانت ساكنة والساكن غير ظاهر على اللسان فحذفت كما فعلوا في إلا حذفوا النون من إن لخفائها، واختلفوا في أن رسالة يونس متى كانت؟ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: كانت بعد أن أخرجه الله من بطن الحوت، بدليل أن الله عز وجل ذكره في سورة الصافات، " فنبذناه بالعراء "(الصافات:145)، ثم ذكر بعده: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " (الصافات:147)، وقال الآخرون: إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى: " وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون " (الصافات:139-140).
88ـ " فاستجبنا له ونجيناه من الغم " بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه . وقيل ثلاثة أيام والغم غم الالتقام وقيل غم الخطيئة . " وكذلك ننجي المؤمنين " من غموم دعوا الله فيها بالإخلاص وفي الإمام : (( نجي )) ولذلك أخفى الجماعة النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم ، وقرأ ابن عامر و أبو بكر بتشديد الجيم على أن أصله " ننجي " فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في " تظاهرون " ، وهي وإن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة التي لمعنى ولا يقدح فيه اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام وامتناع الحذف في تتجافى لخوف اللبس . وقيل هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وسكن آخره تخفيفاً ورد بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخره .
88. Then We heard his prayer and saved him from the anguish. Thus We save believers.
88 - So we listened to him: and delivered him from distress: and thus do we deliver those who have faith.