8 - (والذين كفروا) من أهل مكة مبتدأ خبره تعسوا يدل عليه (فتعسا لهم) هلاكا وخيبة من الله (وأضل أعمالهم) عطف على تعسوا
يقول تعالى ذكره : " والذين كفروا " بالله فجحدوا توحيده ، " فتعساً لهم "يقول : : فخزياً بهم وشقاء وبلاء .
كما حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " الذين كفروا فتعساً لهم " قال : شقاء لهم .
وقوله " وأضل أعمالهم " يقول وجعل أعمالهم معمولة على غير هدى ولا استقامة ، لأنها عملت في طاعة الشيطان لا في طاعة الرحمن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " وأضل أعمالهم " قال : الضلالة التي أضلهم الله لم يهدهم كما هدى الآخرين ، فإن الضلالة التي أخبرك الله : يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، قال : وهؤلاء ممن جعل عمله ضلالاً . ورد قوله " وأضل أعمالهم " على قوله يشاء ، " فتعساً لهم " وهو فعل ماض والتعس اسم لأن التعس وإن كان اسماً ففي معنى الفعل لما فيه من معنى الدعاء ، فهو بمعنى : أتعسهم اللله فلذلك رد أضل عليه ، لأن الدعاء يجري مجرى الأمر والنهي ، وكذلك قوله " حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق " مردودة على أمر مضمر ناصب لضرب .
قوله تعالى : " والذين كفروا " يحتمل الرفع على الابتداء ، والنصب بما يفسره ( فتعساً لهم ) كأنه قال : أتعس الذين كفروا ، و ( تعساً لهم ) نصب على المصدر بسبيل الدعاء ، قاله الفراء ، مثل سقياً له ورعياً ، وهو نقيض لعاً له ، قال الأعشى :
فالتعس أولى لها من أن أقول لعا
وفيه عشرة أقوال : الأول : بعداً لهم ، قاله ابن عباس و ابن جريج ، الثاني : حزناً لهم ، قاله السدي ، الثالث : شقاء لهم ، قاله ابن زيد ، الرابع : شتماً لهم من الله ، قاله الحسن ، الخامس : هلاكاً لهم ، قاله ثعلب ، السادس : خيبة لهم ، قاله الضحاك و ابن زيد ، السابع : قبحاً لهم ، حكاه النقاش ، الثامن : رغماً لهم ، قاله الضحاك أيضاً ، التاسع : شراً لهم ، قاله ثعلب أيضاً ، العاشر : شقوة لهم ، قاله أبو العالية ، وقيل : إن التعس الإنحطاط والعثار ، قال ابن السكيت : التعس أن يخر على وجهه ، والنكس أن يخر على رأسه ، قال : والتعس أيضاً الهلاك ، قال الجوهري : وأصله الكب ، وهو ضد الانتعاش وقد تعس ( بفتح العين ) يتعس تعساً ، وأتعسه الله ، قال مجمع بن هلال :
تقول وقد أفردتها من خليلها تعست كما أتعستني يا مجمع
يقال : تعساً لفلان ، أي ألزمه الله هلاكاً ، قال القشيري : وجوز قوم تعس ( بكسر العين ) .
قلت : ومنه حديث أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض " ، خرجه البخاري ، في بعض طرق هذا الحديث ( تعس وانتكس وإذا شيك فلا أنتفش ) خرجه ابن ماجة .
قوله تعالى : " وأضل أعمالهم " أي أبطلها لأنها كانت في طاعة الشيطان ودخلت الفاء في قوله : ( فتعساً ) لأجل الإبهام الذي في ( الذين ) وجاء ( وأضل أعمالهم ) على الخير حملاً على لفظ الذين ، لأنه خبر في اللفظ ، فدخول الفاء حملاً على اللفظ .
يقول تعالى مرشداً للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب" أي إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصداً بالسيوف "حتى إذا أثخنتموهم" أي أهلكتموهم قتلاً "فشدوا الوثاق" الأسارى الذين تأسرونهم, ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم, إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجاناً, وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه, والظاهر أن هذه الاية نزلت بعد وقعة بدر, فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ, ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل يومئذ فقال: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الاية المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه منسوخة بقوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" الاية, رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وقال الاخرون وهم الأكثرون: ليست بمنسوخة, ثم قال بعضهم: إنما الإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط, ولا يجوز له قتله. وقال آخرون منهم: بل له أن يقتله إن شاء لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر. وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: "ما عندك يا ثمامة ؟" فقال إن تقتل تقتل ذا دم, وإن تمنن تمنن على شاكر, وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت. وزاد الشافعي رحمة الله عليه فقال: الإمام مخير بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضاً, وهذه المسألة محررة في علم الفروع وقد دللنا على ذلك في كتابنا الأحكام ولله سبحانه وتعالى الحمد والمنة.
وقوله عز وجل: "حتى تضع الحرب أوزارها" قال مجاهد: حتى ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال". وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا إسماعيل بن عياش عن إبراهيم بن سليمان, عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال: إن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني سيبت الخيل وألقيت السلاح ووضعت الحرب أوزارها وقلت: لا قتال, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الان جاء القتال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يزيغ الله تعالى قلوب أقوام, فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك, ألا إن عقد دار المؤمنين بالشام والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" وهكذا رواه النسائي من طريقين عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل السكوني به.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رشيد, حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر, عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح قالوا يا رسول الله سيبت الخيل ووضعت السلاح ووضعت الحرب أوزارها قالوا لا قتال قال: "كذبوا الان جاء القتال, ولا يزال الله تعالى يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم حتى يأتي أمر الله, وهم على ذلك وعقر دار المسلمين بالشام". وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به, والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم, وهذا يقوي القول بعدم النسخ كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب. وقال قتادة "حتى تضع الحرب أوزارها" حتى لا يبقى شرك, وهذا كقوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله". ثم قال بعضهم: حتى تضع الحرب أوزارها أي أوزار المحاربين وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عز وجل, وقيل أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى. وقوله عز وجل: " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم " أي هذا ولو شاء الله لا نتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده "ولكن ليبلو بعضكم ببعض" أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم, ويبلو أخباركم كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي آل عمران وبراءة في قوله تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين".
وقال تبارك وتعالى في سورة براءة: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم" ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال: "والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم" أي لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها . ومنهم من يجري عليه عمله طول برزخه, كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي, حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي ـ رجل كانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه تكفر عنه كل خطيئة, ويرى مقعده من الجنة, ويزوج من الحور العين, ويأمن من الفزع الأكبر, ومن عذاب القبر, ويحلى حلة الإيمان" تفرد به أحمد رحمه الله.
(حديث آخر) قال أحمد أيضاً: حدثنا الحكم بن نافع, حدثني إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه, ويرى مقعده من الجنة, ويحلى حلة الإيمان, ويزوج الحور العين ويجار من عذاب القبر, ويأمن من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت, الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين, ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه". وقد أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين" وروي من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" ورواه أبو داود والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جداً.
وقوله تبارك وتعالى: "سيهديهم" أي إلى الجنة كقوله تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم". وقوله عز وجل "ويصلح بالهم" أي أمرهم وحالهم "ويدخلهم الجنة عرفها لهم" أي عرفهم بها وهداهم إليها. قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم, وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً, وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا, وقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة. وقال مقاتل بن حيان: بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة, فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه, ذكره ابن أبي حاتم رحمه الله. وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضاً رواه البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار, يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا, حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة, والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا ".
ثم قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" كقوله عز وجل: "ولينصرن الله من ينصره" فإن الجزاء من جنس العمل ولهذا قال تعالى: "ويثبت أقدامكم" كما جاء في الحديث "من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها, ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة" ثم قال تبارك وتعالى: "والذين كفروا فتعساً لهم" عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, وقد ثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد القطيفة, تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش!" أي فلا شفاه الله عز وجل. وقوله سبحانه وتعالى: "وأضل أعمالهم" أي أحبطها وأبطلها, ولهذا قال: "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله" أي لا يريدونه ولا يحبونه "فأحبط أعمالهم".
8- "والذين كفروا فتعساً لهم" الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره فتعسوا بدليل ما بعده، ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط، وانتصاب تعساً على المصدر للفعل المقدر خبراً. قال الفراء: مثل سقياً لهم ورعياً، وأصل التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس أن يجر على وجهه، والنكس أن يجر على رأسه، قال: والتعس أيضاً الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكب وهو ضد الانتعاش، ومنه قول مجمع بن هلال:
تقول وقد أفردتها من حليلها تعست كما أتعستني يا مجمع
قال المبرد: أي فمكروهاً لهم، وقال ابن جريح: بعداً لهم، وقال السدي: خزياً لهم. وقال ابن زيد: شقاءً لهم. وقال الحسن: شتماً لهم. وقال ثعلب: هلاكاً لهم، وقال الضحاك: خيبة لهم: وقال أبو العالية: شقوة لهم، حكاه النقاش. وقال الضحاك: رغماً لهم. وقال ثعلب أيضاً: شراً لهم. وقال أبو العالية: شقوة لهم. واللام في لهم للبيان كما في قوله: "هيت لك" وقوله: "وأضل أعمالهم" معطوف على ما قبله داخل معه في خبرية الموصول.
8. " والذين كفروا فتعساً لهم "، قال ابن عباس: بعداً لهم. وقال أبو العالية : سقوطاً لهم. وقال الضحاك : خيبةً لهم. وقال ابن زيد: شقاءً لهم. قال الفراء : هو نصب على المصدر، على سبيل الدعاء. وقيل: في الدنيا العثرة، وفي الآخرة التردي في النار. ويقال للعاثر: تعساً إذا لم يريدوا قيامه، وضده لعاً إذا أرادوا قيامه، " وأضل أعمالهم "، لأنها كانت في طاعة الشيطان.
8-" والذين كفروا فتعساً لهم " فعثوراً لهم ونحطاطاً ونقضه لعا قال الأعشى :
فالتعس أولى بها من أن أقول لعا
وانتصابه بفعله الواجب إضماره سماعاً ، والجملة خبر " الذين كفروا " أو مضمرة لناصبه . " وأضل أعمالهم " عطف عليه .
8. And those who disbelieve, perdition is for them, and He will make their actions vain.
8 - But those who reject (God), for them is destruction, and (God) will render their deeds astray (from their mark).