78 - (وجاهدوا في الله) لإقامة دينه (حق جهاده) باستفراغ الطاقة فيه ونصب حق على المصدر (هو اجتباكم) اختاركم لدينه (وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي ضيق بأن سهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمرض والسفر (ملة أبيكم) منصوب بنزع الخافض الكاف (إبراهيم) عطف بيان (هو) أي الله (سماكم المسلمين من قبل) أي قبل هذا الكتاب (وفي هذا) أي القرآن (ليكون الرسول شهيدا عليكم) يوم القيامة أنه بلغكم (وتكونوا) أنتم (شهداء على الناس) أن رسلهم بلغوهم (فأقيموا الصلاة) داوموا عليها (وآتوا الزكاة واعتصموا بالله) ثقوا به (هو مولاكم) ناصركم ومتولي أموركم (فنعم المولى) هو (ونعم النصير) أي الناصر لكم
يعني تعالى ذكره بقوله : " فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " يقول : فأدوا الصلاة المفروضة لله عليكم بحدودها ، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم " واعتصموا بالله " يقول : وثقوا بالله ، وتوكلوا عليه في أموركم " فنعم المولى " يقول : فنعم الولي الله لمن فعل ذلك منكم ، فأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وجاهد في سبيل الله حق جهاده ، واعتصم به . " ونعم النصير " يقول : ونعم الناصر هو له على من بغاه بسوء .
قوله تعالى: " وجاهدوا في الله حق جهاده " قيل: عنى به جهاد الكفار. وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم. قال ابن عطية : وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: " فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن: 16]. وكذا قال هبة الله: إن قوله " حق جهاده " وقوله في الآية الأخرى: " حق تقاته " [آل عمران: 102] منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير النسخ، فإن هذا هو الراد من أول الحكم، لأن " حق جهاده " ما ارتفع عنه الحرج. وقد روى سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير دينكم أيسره ". وقال أبو جعفر النحاس: وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ، لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل ". وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم:
أي الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين السائل؟ فقال أنا ذا، فقال عليه السلام: كلمة عدل عند سلطان جائر ".
قوله تعالى: " هو اجتباكم " أي اختاركم للذب عن دينه والتزام أمره، وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له.
قوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " من حرج " أي من ضيق. وقد تقدم في ((الأنعام)). وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام، وهي مما خص الله بها هذه الأمة. روى معمر عن قتادة قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: " وما جعل عليكم في الدين من حرج ". والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: " لتكونوا شهداء على الناس " [البقرة: 143]. ويقال للنبي: " سل تعطه "، وقيل لهذه الأمة: " ادعوني أستجب لكم " [غافر: 60].
الثانية: واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله تعالى، فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك. وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء. وروي عن ابن عباس والحسن البصري أن هذا في تقديم الأهلة وأخيرها في الفطر والأضحى والصوم، فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح في الباب. وكذلك الفطر والأضحى، لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون ". خرجه أبو داود و الدارقطني ، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من غير حرج يلحقكم. " وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها:
افعل ولا حرج ".
الثالثة: قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجاً من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى، ومع صحة اليقين وجوده العزم ليس بحرج.
قوله تعالى: " ملة أبيكم " قال الزجاج : المعنى اتبعوا ملة أبيكم. الفراء : انتصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قال كملة. وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة. وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده، لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. " هو سماكم المسلمين من قبل " قال ابن زيد و الحسن : " هو " راجع إلى إبراهيم، والمعنى: هو سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم. " وفي هذا " أي وفي حكمه أن من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فهو مسلم. قال ابن زيد: وهو معنى قوله: " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " [البقرة: 128]. قال النحاس : وهذا القول مخالف لقول عظماء الأمة. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: سماكم الله عز وجل المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، قاله مجاهد وغيره. " ليكون الرسول شهيدا عليكم " أي بتبليغه إياكم. " وتكونوا شهداء على الناس " أن رسلهم قد بلغتهم، كما تقدم في ((البقرة)). " فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " تقدم مستوفى والحمد لله.
اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج: هل هي مشروع السجود فيها, أم لا ؟ على قولين, وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم "فضلت سورة الحج بسجدتين, فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما". وقوله: "وجاهدوا في الله حق جهاده" أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم, كما قال تعالى: "اتقوا الله حق تقاته". وقوله: "هو اجتباكم" أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم, وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع "وما جعل عليكم في الدين من حرج" أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً, فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً, وفي السفر تقصر إلى اثنتين, وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة, كما ورد به الحديث, وتصلى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها, وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها, والقيام فيها يسقط لعذر المرض, فيصليها المريض جالساً, فإن لم يستطع فعلى جنبه, إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات, ولهذا قال عليه السلام: "بعثت بالحنيفية السمحة" وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن "بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا", والأحاديث في هذا كثيرة, ولهذا قال ابن عباس في قوله: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" يعني من ضيق.
وقوله: "ملة أبيكم إبراهيم" قال ابن جرير : نصب على تقدير "ما جعل عليكم في الدين من حرج" أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم, قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم. "قلت" وهذا المعنى في هذه الاية كقوله: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً" الاية, وقوله: "هو سماكم المسلمين من قبل" وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: "هو سماكم المسلمين من قبل" قال: الله عز وجل, وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "هو سماكم المسلمين من قبل" يعني إبراهيم, وذلك قوله: "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال ابن جرير : وهذا لا وجه له, لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين, وقد قال الله تعالى: "هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا" قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر, "وفي هذا" يعني القرآن, وكذا قال غيره. (قلت) وهذا هو الصواب, لأنه تعالى قال: "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج" ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه, بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل, ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان, فقال: "هو سماكم المسلمين من قبل" أي من قبل هذا القرآن "وفي هذا" روى النسائي عند تفسير هذه الاية: أنبأنا هشام بن عمار , حدثنا محمد بن شعيب , أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره, قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صام وصلى ؟ قال نعم وإن صام وصلى فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" , وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" من سورة البقرة, ولهذا قال "ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس" أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولا خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم, لتكونوا يوم القيامة "شهداء على الناس" لأن جيمع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها, فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم, والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك, وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.
وقوله "فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم, ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج, كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة. وقوله "واعتصموا بالله" أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به "هو مولاكم" أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم "فنعم المولى ونعم النصير" يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء. قال وهيب بن الورد يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت, أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق, وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي, فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم , والله اعلم.
آخر تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة.
ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله، فقال: 78- "وجاهدوا في الله" أي في ذاته ومن أجله، والمراد به الجهاد الأكبر، وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين. وقيل المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدمة، أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم، ومعنى "حق جهاده" المبالغة في الأمر بهذا الجهاد، لأنه أضاف الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق: أي جهاداً خالصاً لله، فعكس ذلك لقصد المبالغة، وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعاً، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولاً له ومن أجله. وقيل المراد بحق جهاده هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم، وقيل المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله. وقال مقاتل والكلبي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" كما أن قوله: "اتقوا الله حق تقاته" منسوخ بذلك، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ. ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله: "هو اجتباكم" أي اختاركم لدينه، وفيه تشريف لهم عظيم. ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" أي من ضيق وشدة.
وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله فقيل: هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين. وقيل المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره، وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة، وكذا في الفطر والأضحى. وقيل المعنى: أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجاً بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم مما يقدرون عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج، فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل. وقيل المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجاً بفتح باب التوبة والاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة والأرش، أو القصاص في الجنايات، ورد المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه. والظاهر أن الآية أعم من هذا كله، فقد حط سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده: إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم، أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه، أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله، وما أنفع هذه الآية وأجل موقعها وأعظم فائدتها، ومثلها قوله سبحانه: "فاتقوا الله ما استطعتم" قوله: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وقوله: "ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به". وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال: قد فعلت كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية، والأحاديث في هذا كثيرة، وانتصاب ملة في "ملة أبيكم إبراهيم" على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله: أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم. وقال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم. وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف: أي كملة. وقيل التقدير: وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم، فأقام الملة مقام الفعل، وقيل على الإغراء، وقيل على الاختصاص، وإنما جعل سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة، ولأن له عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن لكونه أباً لنبيهم صلى الله عليه وسلم "هو سماكم المسلمين من قبل" أي في الكتب المتقدمة "وفي هذا" أي القرآن، والضمير لله سبحانه، وقيل راجع إلى إبراهيم. والمعنى هو: أي إبراهيم سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا: أي في حكمه أن من اتبع محمداً فهو مسلم. قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة. ثم علل سبحانه ذلك بقوله "ليكون الرسول شهيداً عليكم" أي بتبليغه إليكم "وتكونوا شهداء على الناس" أن رسلهم قد بلغتهم، وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في البقرة. ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال: "فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما "واعتصموا بالله" أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون، والتجئوا إليه في جميع أموركم، ولا تطلبوا ذلك إلا منه "هو مولاكم" أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها "فنعم المولى ونعم النصير" أي لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم، وقيل المراد بقوله اعتصموا بالله: تمسكوا بدين الله، وقيل ثقوا به تعالى.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الناس ضرب مثل" قال: نزلت في صنم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه "ضعف الطالب والمطلوب" قال: الطالب آلهتهم، والمطلوب الذباب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله: "لا يستنقذوه منه" قال: لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء من الذباب. وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً عن أنس وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اصطفى موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة". وأخرج أيضاً عن أنس وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "موسى بن عمران صفي الله". واخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي عمر: ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ: وجاهدوا في الله جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ قلت بلى: فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو المغيرة الوزراء. وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره. وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان وابن مردويه والعسكري في الأمثال عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله". وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية "وما جعل عليكم في الدين من حرج" قال: الضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد قال: قال أبو هريرة لابن عباس: أما علينا في الدين من حرج في أن تسرق أو نزني؟ قال بلى، قال: فـ "ما جعل عليكم في الدين من حرج"؟ قال: الإصر الذي كان علة بني إسرائيل وضع عنكم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن شهاب أن ابن عباس كان يقول: وما جعل عليكم في الدين من حرج توسعة الإسلام، ما جعل الله من التوبة والكفارات. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن يسار عن ابن عباس "ما جعل عليكم في الدين من حرج" قال: هذا في هلال رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شكوا في الأضحى، وفي الفطر وأشباهه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال: ادع لي رجلاً من هذيل، فجاءه فقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج، فقال ابن عباس: الذي ليس له مخرج. وأخرج سعيد بن جبير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق عبيد الله بن أبي يزيد أن ابن عباس سئل عن الحرج فقال: ها هنا أحد من هذيل، قال رجل أنا، فقال: ما تعدون الحرجة فيكم؟ قال: الشيء الضيق، قال: هو ذاك. وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية "وما جعل عليكم في الدين من حرج" ثم قال لي: ادع لي رجلاً من بني مدلج، قال عمر: ما الحرج فيكم؟ قال: الضيق. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ملة أبيكم". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "سماكم المسلمين من قبل" قال: الله عز وجل: سماكم. وروي نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وصححه، والنسائي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والبغوي والبارودي وابن قانع والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا بدعوة الجاهلية فإنه من جثي جهنم، قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: نعم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله".
78. قوله عز وجل: " وجاهدوا في الله حق جهاده "، قيل: جاهدوا في سبيل الله أعداء الله ((حق جهاده)) هو استفراغ الطاقة فيه، قاله ابن عباس: وعنه أيضاً أنه قال: لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد، كما قال تعالى: " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " (المائدة:54).
قال الضحاك و مقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته.
وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله: " فاتقوا الله ما استطعتم " (التغابن:16)، وقال أكثر المفسرين: ((حق الجهاد)): أن تكون نيته خالصةً لله عز وجل. وقال السدي : هو أن يطاع فلا يعصى.
وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر، وهو حق الجهاد. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "، وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس.
" هو اجتباكم " أي: اختاركم لدينه، " وما جعل عليكم في الدين من حرج "، ضيق، معناه: أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجاً، بعضها بالتوبة، وبعضها برد المظالم والقصاص، وبعضها بأنواع الكفارات، فليس في دين الإسلام ذنب لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه.
وقيل: من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم، وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا.
وقال مقاتل : يعني الرخص عند الضرورات، كقصر الصلاة في السفر، والتيمم، وأكل الميتة عند الضرورة، والإفطار بالسفر والمرض، والصلاة قاعداً عند العجز. وهو قول الكلبي .
وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم، وضعها الله عن هذه الأمة.
" ملة أبيكم إبراهيم "، أي كلمة أبيكم، نصب بنزع حرف الصفة. وقيل: نصب على الإغراء، أي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، [وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم] لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: فما وجه قوله: " ملة أبيكم " وليس كل المسلمين يرجع نسبهم إلى إبراهيم؟.
قيل: خاطب به العرب وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل: خاطب به جميع المسلمين، وإبراهيم أب لهم، على معنى وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب، وهو كقوله تعالى: " وأزواجه أمهاتهم " (الأحزاب:6)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا لكم مثل الوالد [لولده] ".
" هو سماكم "، يعني أن الله تعالى سماكم " المسلمين من قبل "، يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة. " وفي هذا " أي: في هذا الكتاب، هذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن زيد : ((هو)) يرجع إلى إبراهيم أي أن إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه، من قبل هذا الوقت، وفي هذا الوقت، وهو قوله: " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمة لك " (البقرة:127)، " ليكون الرسول شهيداً عليكم "، يوم القيامة أن قد بلغكم، " وتكونوا "، أنتم، " شهداء على الناس "، أن رسلهم قد بلغتهم، " فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله " أي: ثقوا بالله وتوكلوا عليه. قال الحسن : تمسكوا بدين الله. وروي عن ابن عباس قال: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره.
وقيل: معناه ادعوه ليثبتكم على دينه. وقيل: الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة، " هو مولاكم "، [وليكم] وناصركم وحافظكم، " فنعم المولى ونعم النصير "، الناصر لكم.
78ـ " وجاهدوا في الله " أي لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس . " وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " . " حق جهاده " أي جهاداً فيه حقاً خالصاً لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك : هو حق عالم ، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعاً أو لأنه مختص بالله من حيث إنه مفعول لوجه الله تعالى ومن أجله . " هو اجتباكم " اختاركم لدينه ولنصرته ، وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه وفي قوله : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم ، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه ، أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم " لقوله عيه الصلاة والسلام إذا أمرت بشيء فائتوا منه ما استطعتم " وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجاً بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة ، وشرع لهم باب الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد " ملة أبيكم إبراهيم " منتصبة على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، أو على الإغراء أو على الاختصاص ، وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة ، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم . " هو سماكم المسلمين من قبل " من قبل القرآن في الكتب المتقدمة . " وفي هذا " وفي القرآن ، والضمير لله تعالى ويدل عليه أنه قرئ (( الله سماكم )) ، أو لـ " إبراهيم " وتسميتهم بمسلمين في القرآن وإن لم تكن منه كانت بسبب تسميته من قبل في قوله " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " . وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم مسلمين . " ليكون الرسول " يوم القيامة متعلق بسماكم . " شهيداً عليكم " بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتماداً على عصمته ، أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى . " وتكونوا شهداء على الناس " بتبليغ الرسل إليهم . " فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فتقربوا إلى الله تعالى بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف . " واعتصموا بالله " وثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه . " هو مولاكم " ناصركم ومتولي أموركم " فنعم المولى ونعم النصير " هو إذا لا مثل له سبحانه في الولاية والنصرة ، بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة . " عن النبي عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي " .
78. And strive for Allah with the endeavor which is His right. He hath chosen you and hath not laid upon you in religion any hardship; the faith of your father Abraham (is yours). He hath named you Muslims of old time and in this (Scripture), that the messenger may be a witness against you, and that ye may be witnesses against mankind. So establish worship, pay the poor due, and hold fast to Allah. He is your Protecting Friend. A blessed Patron and a blessed Helper!
78 - And strive in His cause as ye ought to strive, (with sincerity and under discipline). He has chosen you, and has imposed no difficulties on you in religion; its the cult of your father Abraham. it is he who has named you Muslims, both before and in this (Revelation) that the Apostle may be a witness for you, and ye be witnesses for mankind? so establish regular prayer, give regular Charity, and hold fast to God? He is your protector, the best to protect and the best to help.