78 - واذكر (وداود وسليمان) أي قصتهما ويبدل منهما (إذ يحكمان في الحرث) هو زرع أو كرم (إذ نفشت فيه غنم القوم) أي رعته ليلا بلا راع بأن انفلتت (وكنا لحكمهم شاهدين) فيه استعمال ضمير الجمع لاثنين قال داوود لصاحب الحرث رقاب الغنم وقال سليمان ينتفع بدرها ونسلها وصوفهاالى أن يعود الحرث كما كان بإصلاح صاحبها فيردها إليه
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم : و اذكر داود و سليمان يا محمد إذ يحكمان في الحرث .
و اختلف أهل التأويل في ذلك الحرث ما كان ؟ فقال بعضهم : كان نبتا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ن عن ابن إسحاق ،عن مرة في قوله : " إذ يحكمان في الحرث " قال : كان الحرث نبتا .
حدثنا بشر ، قال :ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا.
و قال آخرون : بل كان ذلك الحرث كرما .
ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المحاربي ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرة عن ابن مسعود ، في قوله " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " قال : كرم قد أنبت عناقيده .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال أخبرنااسحاق، عن شريك عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، عن شريح ، قال : كان الحرث كرما .
قال أبو جعفر : و أولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك و تعالى : " إذ يحكمان في الحرث " و الحرث : إنما هو الحرث الأرض . ننو جائز أن يكون ذلك كان زرعا ، و جائز أن يكون غرسا ، و غير ضائر الجهل بأي ذلك كان .
وقوله : " إذ نفشت فيه غنم القوم " يقول : حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلا ، فرعته أو أفسدته " وكنا لحكمهم شاهدين " يقول : و كنا لحكم داود و سليمان و القوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث ، شاهدين لا يخفى علينا منه شيء ، و لا يغيب عنا علمه و قوله: " ففهمناها " يقول : ففهمنا القضية في ذلك " سليمان " دون داود ، " وكلا آتينا حكما وعلما " يقول : و كلهم من داود و سليمان و الرسل الذين ذكرهم في أول هذه السورة أتينا حكما و هو النبوة ، و علما : يعني و علما بأحكام الله .
و ينحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب و هارون بن إدريس الأصم قالا : ثنا المحاربي ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، في قوله : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " قال : كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته ، قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان غير هذا يا نبي الله ، قال : و ما ذاك ؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان دفعت إلى الكرم صاحبه ، و دفعت الغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله : " ففهمناها سليمان " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " ... إلى قوله : " وكنا لحكمهم شاهدين " يقول : كنا لما حكما شاهدين . و ذلك أن رجلين دخلا على داود ، أحدهما صاحب حرث ، و الآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي ، فلم يبق من حرثي شيئا ، فقال له داود ، إذهب فإن الغنم كلها لك ، فقضى بذلك داود ، مر صاحب الغنم بسليمان ، فأخبره بالذي قضى به داود ، فدخل سليمان على داود فقال : يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قصيت ،فقال : كيف ؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام ، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها و أصوافها و أشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث ، فإن الغنم لها نسل في كل عام ، فقال داود : قد أصبت ، القضاء كما قضيت . ففهمها الله سليمان .
حدثنا القاسم قال ، ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن علي بن زيد ، قال ك ثني خليفة ، عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرعاة معهم الكلاب ، فقال سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه ، فقال : لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا ، فأخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث ، فيكون لهم أولادها و ألبانها و سلاؤها و منافعها ، نو يبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه ، أخذ أصحاب الحرث الحرث ، و ردوا الغنم إلى أصحابها .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ، قال ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث ، و حكم سليمان بجزة الغنم و ألبانها لأهل الحرث ، و عليهم رعايتها على أهل الحرث ، و يحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أكل ، ثم يدفعونه إلى أهله ، و يأخذون غنمهم .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج بنحوه ، إلا أنه قال : و عليهم رعيها .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن إسحاق ، عن مرة في قوله : " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال : كان الحرث نبتا ، فنفشت فيه ليلا ، فاختصموا فيه إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث ،فمروا على سليمان ، فذكروا ذلك له ، فقال : لا ، تدفع الغنم فيصيبون منها ، يعني أصحاب الحرث ، و يقوم هؤلاء على حرثهم ، فإذا كان ردوا عليهم ، فنزلت : " ففهمناها سليمان " .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال: أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، عن شريح ، في قوله : " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال: كان النفش ليلا ، و كان الحرث كرما ن قال ك فجعل داود الغنم لصاحب الكرم ، قال : فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه ، و أ صل كرمه ، فاجعل له أصوافها و ألبانها ، قال : فهو قول الله : " ففهمناها سليمان " .
حدثنا ابن أبي زياد قال: ثنا يزيد بن هارون ، قال: اخبرنا إسماعيل ، عن عامر ، قال : جاء رجلان إلى شريح ، فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلا لي ، فقال شريح : نهارا أم ليلا ؟ قال : إن كان نهارا فقد برىء صاحب الشياه ، و إن كان ليلا فقد ضمن ، ثم قرأ : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " قال : كان النفش ليلا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن شريح ، بنحوه
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ، عن شريح ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ن قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " ... الآية ، النفش بالليل ، و الهمل بالنهار . و ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا ، فرفع ذلك إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع ، فقال سليمان : ليس كذلك ، و لكن له نسلها و رسلها و عوارضها و جزازها ، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئة يوم أكل ، دفعت الغنم إلى ربها ، و قبض صاحب الزرع زرعه ، فقال الله : " ففهمناها سليمان " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور عن معمر ، عن قتادة و الزهري : " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال :نفشت غنم في حرث قوم . قال الزهري : و النفش لا يكون إلا ليلا ، فقضى داود أن يأخذ الغنم ، ففهمها الله سليمان ، قال : فلما أخبر بقضاء داود ، قال : لا ، و لكن خذوا الغنم ، و لكم ما خرج من رسلها و أولادها و أصوافها إلى الحول .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال : ف حرث قوم . قال معمر : قال الزهري : النفش لا يكون إلا بالليل ، و الهمل بالنهار . قال قتادة : فقضى أن يأخذوا الغنم ، ففهمها الله سليمان ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث ابن عبد الأعلى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، في قوله : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " ... الآيتين ، قال : انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته ، فجاء إلى داود ، فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت ، و كأنه رأى أنه وجه ذلك ، فمروا بسليمان ، فقال : ما قضى بينكم نبي الله ؟ فأخبروه ، فقال : ألا اقضي بينكما عسى أن ترضيا به ؟ فقالا : نعم ، فقال : أما أنت يا صاحب الحرث ، فخذ غنم هذا الرجل فكن فينها كما كان صاحبها ، أصب من لبنها و عارضتها و كذا و كذا ما كان يصيب ، و احرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل ، حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك ، فأعطه حرثه ، و خذ غنمك ، فذلك قول الله تبارك و تعالى : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " و قرأ حتى بلغ قوله : " وكلا آتينا حكما وعلما " .
حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين نقال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخرساني ، عن ابن عباس ، في قوله : " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال : رعت .
حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال: النفش : الرعية تحت الليل .
قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن حرام بن محيصة بن مسعود ، قال: " دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إذ نفشت فيه غنم القوم " فقضى على البراء بما أفسدته الناقة ، و قال على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل ، و على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم بالنهار " .
قال الزهري : و كان قضاء داود و سليمان في ذلك أن رجلا دخلت ماشيته زرعا لرجل فأفسدته ، و لا يكون النفوش إلا بالليل ، فارتفعا إلى داود ، فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع ، فانصرفا ، فمرا بسليمان ، فقال : بماذا قضى بينكما نبي الله ؟ فقالا : قضى بالغنم لصاحب الزرع ، فقال : إن الحكم لعلى عير هذا ، انصرفا معي ، فأتى أباه داود ، فقال : يا نبي الله ، قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع ، قال نعم ، قال : يا نبي الله ، إن الحكم لعلى غير هذا قال : و كيف يا بني ؟ قال : تدفع الغنم إلى صاحب الزرع ، فيصيب من ألبانها و سمونها و أصوافها ، و تدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم عليها ، ردت الغنم على صاحب الغنم ، و رد الزرع إلى صاحب الزرع ، فقال داود : ر يقطع الله فمك ، فقضى بما قضى سليمان ، قال الزهري : فذلك قوله : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " ... إلى قوله : " حكما وعلما " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، و علي بن مجاهد ، عن محمد بن إسحاق ، قال: فحدثني من سمع الحسن يقول : كان الحكم بما قضى به سليمان ، و لم يعنف الله داود في حكمه .
و قوله : " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " يقول تعالى ذكره : و سخرنا مع داود الجبال و الطير ، يسبحن معد إذا سبح . و كان قتادة يقول في معنى قوله : " يسبحن " في هذا الموضع ما :
حدثنا به بشر ، قال: ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " :أي يصلين مع داود إذا صلى .
و قوله : " وكنا فاعلين " يقول : و كنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك ، و مسخرو الجبال و الطير في أم الكتاب ، مع داود عليه الصلاة و السلام .
ا
فيه ست وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان " أي واذكرهما إذ يحكمان، ولم يرد بقوله " إذ يحكمان " الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول، فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز. وإنما حكم كل واحد منهما على انفراده، وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه. " في الحرث " اختلف فيه على قولين: فقيل: كان زرعاً، قاله قتادة . وقيل: كرماً نبتت عناقيده، قاله ابن مسعود و شريح . و " الحرث " يقال فيهما، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة.
الثانية: قوله تعالى: " إذ نفشت فيه غنم القوم " أي رعت فيه ليلاً، والنفش الرعي بالليل. يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار، إذا رعت بلا راع. وأنفشها صاحبها. وإبل نفاش. وفي حديث عبد الله بن عمرو: الحبة في الجنة مثل كرش البعير يبيت نافشاً، أي راعياً حكاه الهروي . وقال ابن سيده: لا يقال الهمل في الغنم، وإنما هو في الإبل.
الثالثة: قوله تعالى: " وكنا لحكمهم شاهدين " دليل على أن أقل الجمع اثنان. وقيل: المراد الحاكمان والمحكوم عليه، فلذلك قال " لحكمهم ".
قال ابن إسحاق عن مرة عن ابن مسعود : كان ذلك الحرث كرماً قد تدلت عناقيده, وكذا قال شريح . وقال ابن عباس : النفش الرعي. وقال شريح والزهري وقتادة : النفش لا يكون إلا بالليل, زاد قتادة : والهمل بالنهار. وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم , قالا حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله: "وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم" قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته, قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم, فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله: قال: وما ذاك ؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان, وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه, ودفعت الغنم إلى صاحبها, فذلك قوله: "ففهمناها سليمان" وكذا روى العوفي عن ابن عباس .
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد : حدثني خليفة عن ابن عباس قال: قضى داود بالغنم لاصحاب الحرث فخرج الرعاء معهم الكلاب, فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه, فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا, فأخبر بذلك داود, فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم ؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث, فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها, ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم, فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه, أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا سعيد بن سليمان , حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم, إنما كان كرماً نفشت فيه الغنم فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته, فأتوا داود فأعطاهم رقابها, فقال سليمان : لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها ونفعها ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم, ثم يعطى أهل الغنم غنمهم, وأهل الكرم كرمهم, وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن أبي زياد , حدثنا يزيد بن هارون , أنبأنا إسماعيل عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلاً لي, فقال شريح : نهاراً أم ليلاً ؟ فإن كان نهاراً فقد برىء صاحب الشياه, وإن كان ليلاً فقد ضمن, ثم قرأ "وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث" الاية, وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث الليث بن سعد عن الزهري , عن حرام بن محيصة , أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحائط حفظها بالنهار, وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها, وقد علل هذا الحديث وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام, وبالله التوفيق.
وقوله: "ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً" قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا موسى بن إسماعيل , حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى, فقال: ما يبكيك ؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار, ورجل مال به الهوى فهو في النار, ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم, قال الله تعالى: "وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين" فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود, ثم قال: ـ يعني الحسن ـ: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً, ولا يتبعوا فيه الهوى, ولا يخشوا فيه أحداً, ثم تلا "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" وقال: " فلا تخشوا الناس واخشون " وقال "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" قلت: أما الأنبياء عليهم السلام, فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل, وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف, وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب, فله أجران, وإذا اجتهد فأخطأ, فله أجر" فهذا الحديث يرد نصاً ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار, والله أعلم.
وفي السنن: القضاة ثلاثة: قاض في الجنة, وقاضيان في النار, رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة, ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار, ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار, وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا علي بن حفص , أخبرنا ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابنان لهما, إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحا كمتا إلى داود, فقضى به للكبرى, فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما: فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها لا تشقه, فقضى به للصغرى" وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما , وبوب عليه النسائي في كتاب القضاء: (باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق).
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح , عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد , عن ابن عباس , فذكر قصة مطولة, ملخصها: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل, راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم, فامتنعت على كل منهم, فاتفقوا فيما بينهم عليها, فشهدوا عليها عند دواد عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلباً لها قد عودته ذلك منها, فأمر برجمها, فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله, فانتصب حاكماً وتزيا أربعة منهم بزي أولئك, وآخر بزي المرأة, وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلباً, فقال سليمان فرقوا بينهم, فسأل أولهم ما كان لون الكلب ؟ فقال أسود, فعزله واستدعى الاخر فسأله عن لونه, فقال: أحمر, وقال الاخر: أغبش, وقال الاخر: أبيض, فأمر عند ذلك بقتلهم, فحكي ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب, فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم.
وقوله: "وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير" الاية, وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور, وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه, وترد عليه الجبال تأويباً, ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت طيب جداً, فوقف واستمع لقراءته, وقال: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود" قال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً. وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه, ومع هذا قال عليه الصلاة والسلام: "لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود".
وقوله: "وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم" يعني صنعة الدروع. قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح: وهو أول من سردها حلقاً, كما قال تعالى: " وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد " أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة, ولهذا قال: "لتحصنكم من بأسكم" يعني في القتال "فهل أنتم شاكرون" أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود, فعلمه ذلك من أجلكم. وقوله: "ولسليمان الريح عاصفة" أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة "تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها" يعني أرض الشام "وكنا بكل شيء عالمين" وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند ثم يأمر الريح أن تحمله, فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به, وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض, فينزل وتوضع آلاته وحشمه, قال الله تعالى: "فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب " وقال تعالى: "غدوها شهر ورواحها شهر".
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي, فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس, ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن, ثم يأمر الطير فتظلهم, ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل, ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها, ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة فيرتفع حتى يصعد على فراشه, ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء, وهو مطأطىء رأسه ما يلتفت يميناً ولا شمالاً, تعظيماً لله عز وجل, وشكراً لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عز وجل, حتى تضعه الريح حيث شاء أن تضعه.
وقوله: "ومن الشياطين من يغوصون له" أي في الماء يستخرجون اللالىء والجواهر وغير ذلك, "ويعملون عملاً دون ذلك" أي غير ذلك, كما قال تعالى: " والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد ". وقوله: "وكنا لهم حافظين" أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء, بل كل في قبضته وتحت قهره, لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه, بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء, ولهذا قال: "وآخرين مقرنين في الأصفاد".
قوله: 78- "وداود" معطوف على نوحاً ومعمول لعامله المذكور، أو المقدر كما مر "وسليمان" معطوف على داود، والظرف في "إذ يحكمان" متعلق بما عمل في داود: أي واذكرهما وقت حكمهما. والمراد من ذكرهما ذكر خبرهما. ومعنى "في الحرث" في شأن الحرث، وقيل كان زرعاً، وقيل كرماً، واسم الحرث يطلق عليهما "إذ نفشت فيه" أي تفرقت وانتشرت فيه "غنم القوم" قال ابن السكيت: النفش بالتحريك أن تنتشر الغنم بالليل من غير راع "وكنا لحكمهم شاهدين" أي لحكم الحاكمين، وفيه جواز إطلاق الجمع على الاثنين، وهو مذهب طائفة من أهل العربي كالزمخشري والرضي، وتقدمهما إلى القول به الفراء. وقيل المراد الحاكمان والمحكوم عليه، ومعنى شاهدين حاضرين، والجملة اعتراضية.
78. قوله عز وجل: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث "، اختلفوا في الحرث، قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وأكثر المفسرين: كان الحرث كرماً قد تدلت عناقيده. وقال قتادة : كان زرعاً، " إذ نفشت فيه غنم القوم "، أي رعته ليلاً فأفسدته، والنفش: الرعي بالليل والهمل بالنهار وهما الرعي بلا راع، " وكنا لحكمهم شاهدين "، أي: كان ذلك بعلمنا ومرأى منا لا يخفى علينا علمه. قال الفراء : جمع اثنين، فقال لحكمهم وهو يريد داود وسليمان لأن الإثنين جمع وهو مثل قوله: " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " (النساء:11)، وهو يريد أخوين.
قال ابن عباس و قتادة و الزهري : وذلك أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاب الزرع: إن هذا انفلتت غنمه ليلاً ووقعت في حرثي فأفسدته فلم يبق منه شيء، فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما فأخبراه فقال سليمان: لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا.
وروى أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود فدعاه فقال كيف تقضي؟ ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله، وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود القضاء ما قضيت وحكم بذلك.
وقيل: إن سليمان يوم حكم كان ابن إحدى عشرة سنة، وأما حكم الإسلام [في هذه المسألة] أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها، وما أفسدت بالليل ضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار، والمواشي تسرح بالنهار وترد بالليل إلى المراح.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك، عن ابن شهاب ، عن حرام بن سعد بن محيصة "أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضمانه على أهلها "، وذهب أصحاب الرأى إلى أن المالك إذا لم يكن معها فلا ضمان عليه فيما أتلفت ماشيته ليلاً كان أو نهاراً.
78ـ " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " في الزرع ، وقيل في كرم تدلت عناقيده " إذ نفشت فيه غنم القوم " رعته ليلاً . " وكنا لحكمهم شاهدين " لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما عالمين .
78. And David and Solomon, when they gave judgment concerning the field, when people's sheep had strayed and browsed therein by night; and We were witnesses to their judgment.
78 - And remember David And Solomon, when they gave judgment in the matter of the field into which The sheep of certain people had strayed by night: we did witness their judgment.