74 - (يحلفون) أي المنافقين (بالله ما قالوا) ما بلغك عنهم من السب (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام (وهموا بما لم ينالوا) من الفتك بالنبي ليلة العقبة عند عوده من تبوك وهم بضعة عشر رجلاً فضرب عمار بن ياسر وجوه الرواحل لما غشوه فردوا (وما نقموا) أنكروا (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) بالغنائم بعد شدة حاجتهم والمعنى لم ينلهم منه إلا هذا وليس مما ينقم (فإن يتوبوا) عن النفاق ويؤمنوا بك (يك خيرا لهم وإن يتولوا) عن الإيمان (يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا) بالقتل (والآخرة) بالنار (وما لهم في الأرض من ولي) يحفظهم منه (ولا نصير) يمنعهم
قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا الآية ك أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كان الجلاس بن سويد بن الصامت ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقال لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فرفع عمير بن سعيد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف الله ما قلت فأنزل الله يحلفون بالله ما قالوا الآية فزعموا انه تاب وحسنت توبته ك ثم أخرج عن كعب بن مالك ونحوه وأخرج ابن سعد في الطبقات نحوه عن عروة
ك وأخرج ابن ابي حاتم عن انس بن مالك قال سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافين يقول والنبي صلى الله عيه وسلم يخطب إن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجحد القائل فأنزل الله يحلفون بالله ما قالوا الآية
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فطلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم فأنزل الله تعالى يحلفون بالله ما قالوا الآية
وأخرج عن قتادة قال إن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار وظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي الأوس أنصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قال فأنزل الله تعالى يحلفون بالله ما قالوا الآية
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال هم رجل يقال له الأسود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت وهموا بما لم ينالوا
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة أن مولى بني عدي بن كعب قتل رجلا من الأنصار فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا وفيه نزلت وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي نزلت فيه هذه الآية، والقول الذي كان قاله، الذي أخبر الله عنه أنه يحلف بالله ما قاله.
فقال بعضهم: الذي نزلت فيه هذه الآية: ((الجلاس بن سويد بن الصامت)).
وكان القول الذي قاله، ما:
حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر "، قال: "نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت،قال: ((إن كان ما جاء به محمد حقاً، لنحن أشر من الحمر!))، فقال له ابن امرأته: والله، يا عدو الله، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت، فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة، وأؤاخذ بخطيئتك! فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس، فقال: يا جلاس، أقلت كذا وكذا؟ فحلف ما قال، فأنزل الله تبارك وتعالى: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله " ".
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: " نزلت هذه الآية: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم "، في الجلاس بن سويد بن الصامت، أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها! فقال مصعب: أما والله، يا عدو الله، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وخشيت أن ينزل في القرآن، أو تصيبني قارعة، أو أن أخلط بخطيئته، قلت: يا رسول الله، أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئته، أو تصيبني قارعة، ما أخبرتك. قال: فدعا الجلاس فقال له: يا جلاس، أقلت الذي قال مصعب؟ قال: فحلف، فأنزل الله تبارك وتعالى: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم "، الآية ".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال: كان الذي قال تلك المقالة، فيما بلغني، الجلاس بن سويد بن الصامت، فرفعها عنه رجل كان في حجره، يقال له: ((عمير بن سعيد))، فأنكرها، فحلف بالله ما قالها. فلما نزل فيه القرآن، تاب ونزع وحسنت توبته، فيما بلغني.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " كلمة الكفر "، قال أحدهم: ((لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير))! فقال له رجل من المؤمنين: إن ما قال لحق، ولأنت شر من حمار! قال: فهم المنافقون بقتله، فذلك قوله: " وهموا بما لم ينالوا ".
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو جذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، بنحوه.
... قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني أيوب بن إسحق بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن رجاء قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل شجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه. فلم يلبث أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله: " يحلفون بالله ما قالوا "، ثم نعتهم جميعاً إلى آخر الآية ".
وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول: قالوا: والكلمة التي قالها ما:
حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " يحلفون بالله ما قالوا "، إلى قوله: " من ولي ولا نصير "، قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة، والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، وظهر الغفاري على الجهني، فقال عبد الله بن أبي للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: ((سمن كلبك يأكلك))، وقال: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " [المنافقون: 8]، فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله تبارك وتعالى: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ".
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر "، قال: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذباً على كلمة كفر تكلموا بها، أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول ما روي عن عروة: أن الجلاس قاله، وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي ابن سلول، والقول ما ذكر قتادة عنه أنه قال. ولا علم لنا بأي ذلك من أي، إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة، ويتوصل به إلى يقين العلم به، وليس مما يدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ".
وأما قوله: " وهموا بما لم ينالوا "، فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان هم بذلك، وما الشيء الذي كان هم به.
فقال بعضهم: هو رجل من المنافقين، وكان الذي هم به، قتل ابن امرأته الذي سمع منه ما قال، وخشي أن يفشيه عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هم المنافق بقتله، يعني قتل المؤمن الذي قال له: ((أنت شر من الحمار))! فذلك قوله: " وهموا بما لم ينالوا ".
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون: كان الذي هم، رجلاً من قريش، والذي هم به، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شبل، عن جابر، عن مجاهد في قوله: " وهموا بما لم ينالوا "، قال: رجل من قريش، هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له: ((الأسود)).
وقال آخرون: الذي هم، عبدالله بن أبي ابن سلول، وكان همه الذي لم ينله، قوله: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل "، [المنافقون: 8]، من قول قتادة ، وقد ذكرناه.
وقوله: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله "، ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قال كلمة الكفر، كان فقيراً فأغناه الله بأن قتل له مولىً، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته. فلما قال ما قال، قال الله تعالى: " وما نقموا "، يقول: ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، " إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله "، وكان الجلاس قتل له مولىً، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته، فاستغنى، فذلك قوله: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ".
... قال، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو، عن عكرمة قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفاً في مولى لبني عدي بن كعب، وفي نزلت هذه الآية: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ".
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله "، قال: كانت بعد الله بن أبي دية، فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان قال، حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة: أن مولى لبني عدي بن كعب قتل رجلاً من الأنصار. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفاً، وفي أنزلت: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله "، قال عمرو: لم أسمع هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من عكرمة، يعني: الدية اثني عشر ألفاً.
حدثنا صالح بن مسمار قال، حدثنا محمد بن سنان العوقي قال، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفاً. فذلك قوله: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله "، قال: بأخذ الدية.
وأما قوله: " فإن يتوبوا يك خيرا لهم "، يقول تعالى ذكره: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه، يك رجوعهم وتوبتهم من ذلك، خيراً لهم من النفاق، " وإن يتولوا ". يقول: وإن يدبروا عن التوبة، فيأتوها ويصروا على كفرهم، " يعذبهم الله عذابا أليما "، يقول: يعذبهم عذاباً موجعاً في الدنيا، إما بالقتل، وإما بعاجل خزي لهم فيها، ويعذبهم في الآخرة بالنار.
وقوله: " وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير "، يقول: وما لهؤلاء المنافقين إن عذبهم الله عاجل الدنيا، " من ولي "، يواليه على منعه من عقاب الله، " ولا نصير "، ينصره من الله فينقذه من عقابه. وقد كانوا أهل عز ومنعة بعشائرهم وقومهم، يمتنعون بهم ممن أرادهم بسوء، فأخبر جل ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم، لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه، إن احتاجوا إلى نصرهم.
وذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية، تاب مما كان عليه من النفاق.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة عن أبيه: " فإن يتوبوا يك خيرا لهم "، قال: قال الجلاس: قد استثنى الله لي التوبة، فأنا أتوب. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: " فإن يتوبوا يك خيرا لهم "، الآية، فقال الجلاس: يا رسول الله، إني أرى الله قد استثنى لي التوبة، فأنا أتوب! فتاب، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
فيه ست مسائل:
الأولى- قوله تعالى: "يحلفون بالله ما قالوا" روي أن هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت، وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمد صادقاً على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس: أجل! والله إن محمداً لصادق مصدق، وإنك لشر من خمار. وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامراً لكاذب. وحلف عامر لقد قال،وقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئاً، فنزلت. وقيل: إن الذي سمعه عاصم بن عدي. وقيل حذيفة. وقيل: بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد، فيما قال ابن إسحاق. وقال غيره: اسمه مصعب. فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره، ففيه نزل: "وهموا بما لم ينالوا". قال مجاهد: وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك. قال، ذلك هي الإشارة بقوله، "وهموا بما لم ينالوا". وقيل: إنها نزلت في عبد الله بن أبي، رأى رجلاً من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغفاري الجهيني.فقال ابن أبي: يا بني الأوس والخزرج، انصروا أخاكم! فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله، قال قتادة وقول ثالث أنه قول جمع المنافقين، قاله الحسن. ابن العربي: وهو الصحيح، لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي.
الثانية- قوله تعالى: "ولقد قالوا كلمة الكفر" قال النقاش: تكذيبهم بما وعد الله من الفتح. وقيل: كلمة الكفر قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن أشر من الحمير. وقول عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال القشيري: كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. "وكفروا بعد إسلامهم" أي بعد الحكم بإسلامهم. فدل هذا على أن المنفقين كفار، وفي قوله تعالى: "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا" [المنافقون: 3] دليل قاطع.
ودلت الآية أيضاً على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة، وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. قال إسحاق بن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع، لأنهم بأجمعهم قالوا: من عرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة، ولم يعلموا منه إقراراً باللسان أنه يحكم له بالإيمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة يمثل ذلك.
الثالثة- قوله تعالى: "وهموا بما لم ينالوا" يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلاً. قال حذيفة:
"سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم كلهم. فقلت: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل بقتلهم [ثم قال: اللهم ارمهم] بالدبيلة. قيل: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه". فكان كذلك. خرجه مسلم بمعناه. وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي أبي ليجتمعوا عليه. وقد تقدم قول مجاهد في هذا.
الرابعة- قوله تعالى: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" أي ليس ينقمون شيئاً، كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ويقال: نقم ينقم، ونقم ينقم، قال الشاعر في الكسر:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم
ينشد بكسر القاف وفتحها. قال الشعبي: كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا: ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفاً: إن القتيل كان مولى الجلاس. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. وهذا المثل مشهور (اتق شر من أحسنت إليه). قال القشيري أبو نصر: قيل: للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه؟ قال نعم، "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله".
الخامسة- قوله تعالى: "فإن يتوبوا يك خيرا لهم" روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب. فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان، وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق. وقد اختلف في ذلك العلماء، فقال الشافعي: تقبل توبته. وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف، لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانهإلا بقوله. وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول: أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر، فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه. فإذا جاءنا تائباً من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته، وهو المراد بالآية. والله أعلم.
السادسة- قوله تعالى: "وإن يتولوا" أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة "يعذبهم الله عذابا أليما" في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. "وما لهم في الأرض من ولي" أي مانع يمنعهم "ولا نصير" أي معين. وقد تقدم.
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم, كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين, وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الاخرة, وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين" وسيف لكفار أهل الكتاب " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " وسيف للمنافقين "جاهد الكفار والمنافقين" وسيف للبغاة "فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: "جاهد الكفار والمنافقين" قال: بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه. وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم, وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم, وعن مقاتل والربيع مثله, وقال الحسن وقتادة مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم, وقد يقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال, والله أعلم. وقوله: "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم" قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي وذلك أنه اقتتل رجلان جهني وأنصاري فعلا الجهني على الأنصاري, فقال عبد الله للأنصار ألا تنصروا أخاكم ؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك, وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله, فأنزل الله فيه هذه الاية, وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة قال: فحدثني عبد الله بن الفضل أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: حزنت على من أصيب بالحرة من قومي فكتب إلي زيد بن أرقم وبلغه شدة حزني يذكر أنه سمع رسول الله يقول: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار" وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار قال ابن الفضل: فسأل أنس بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم فقال: هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوفى الله له بإذنه" قال: وذلك حين سمع رجلاً من المنافقين يقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب: لئن كان صادقاً فنحن شر من الحمير, فقال زيد بن أرقم: فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار. ثم رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجحده القائل فأنزل الله هذه الاية تصديقاً لزيد, يعني قوله: "يحلفون بالله ما قالوا" الاية, رواه البخاري في صحيحه عن إسماعيل بن أبي أويس عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ـ إلى قوله ـ هذا الذي أوفى الله له بإذنه, ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة, وقد رواه محمد بن فليح عن موسى بن عقبة بإسناده: ثم قال قال ابن شهاب فذكر ما بعده عن موسى عن ابن شهاب.
والمشهور في هذه القصة أنه كانت في غزوة بني المصطلق فلعل الراوي وهم في ذكر الاية, وأراد أن يذكر غيرها فذكرها, والله أعلم. قال الأموي في مغازيه: حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذني قومي فقالوا: إنك امرؤ شاعر فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض العلة ثم يكون ذنباً تستغفر الله منه, وذكر الحديث بطوله إلى أن قال: وكان ممن تخلف من المنافقين ونزل فيه القرآن منهم ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس بن سويد بن الصامت, وكان على أم عمير بن سعد, وكان عمير في حجره, فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين قال الجلاس: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول لنحن شر من الحمير ؟ فسمعها عمير بن سعد فقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم بلاء عندي وأعزهم علي أن يصله شيء يكرهه, ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني, ولإحداهما أهون علي من الأخرى, فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس, فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ولقد كذب علي, فأنزل الله عز وجل فيه "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم" إلى آخر الاية, فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع.
هكذا جاء هذا مدرجاً في الحديث متصلاً به وكأنه والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه لا من كلام كعب بن مالك, وقال عروة بن الزبير: نزلت هذه الاية في الجلاس بن سويد بن الصامت, أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء, فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها, فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وخفت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته, فقلت: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك, قال: فدعا الجلاس فقال "يا جلاس أقلت الذي قاله مصعب ؟" فحلف فأنزل الله "يحلفون بالله ما قالوا" الاية وقال محمد بن إسحاق: كان الذي قال تلك المقالة فيما بلغني الجلاس بن سويد بن الصامت فرفعها عليه رجل كان في حجره يقال له عمير بن سعد فأنكرها فحلف بالله ما قالها, فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته فيما بلغني, وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم, حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل شجرة فقال: "إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم ـ بعيني الشيطان ـ فإذا جاء فلا تكلموه" فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك ؟" فانطلق الرجل فجاءه بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم, فأنزل الله عز وجل "يحلفون بالله ما قالوا" الاية, وقوله "وهموا بما لم ينالوا" قيل أنزلت في الجلاس بن سويد وذلك أنه هم بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقيل في عبد الله بن أبي, هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال السدي: نزلت في أناس أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك, في بعض تلك الليالي في حال السير, وكانوا بضعة عشر رجلاً, قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الاية, وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث محمد بن إسحاق عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار يسوق الناقة أو أنا أسوقه وعمار يقوده حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها, قال فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم, فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عرفتم القوم ؟" قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين ولكنا قد عرفنا الركاب قال: "هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل تدرون ما أرادوا ؟" قلنا: لا, قال: "أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها" قلنا: يا رسول الله أفلا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال: "لا, أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ـ ثم قال ـ اللهم ارمهم بالدبيلة" قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال: "شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك ", وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة "قد قد" حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما هبط نزل ورجع عمار فقال يا عمار: "هل عرفت القوم ؟" قال: لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال "هل تدري ما أرادوا ؟" قال: الله ورسوله أعلم قال: "أرادوا أن ينفروا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ راحلته فيطرحوه" قال: فسأل عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال: أربعة عشر رجلاً فقال: إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر قال فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علمنا ما أراد القوم فقال عمار أشهد: أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, وهكذا روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير نحو هذا, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة, فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون وهم متلثمون فأرادوا سلوك العقبة, فأطلع الله على مرادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر حذيفة فرجع إليهم فضرب وجوه رواحلهم ففزعوا ورجعوا مقبوحين, وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة وعماراً بأسمائهم وما كانوا هموا به من الفتك به صلوات الله وسلامه عليه وأمرهما أن يكتما عليهم, وكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق, إلا أنه سمى جماعة منهم, فالله أعلم.
وكذا قد حكي في معجم الطبراني قاله البيهقي, ويشهد لهذه القصة بالصحة ما رواه مسلم: حدثنا زهير بن حرب حدثنا أبو أحمد الكوفي, حدثنا الوليد بن جميع, حدثنا أبو الطفيل قال: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس, فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك ؟ فقال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر, وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, وعذر ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علمنا بما أراد القوم ؟ وقد كان في حرة يمشي فقال: إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد, فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ, وما رواه مسلم أيضاً من حديث قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عباد عن عمار بن ياسر قال: أخبرني حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في أصحابي اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط: ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم" ولهذا كان حذيفة يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من تعيين جماعة من المنافقين وهم هؤلاء قد أطلعه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره, والله أعلم, وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة, ثم روي عن علي بن عبد العزيز عن الزبير بن بكار أنه قال: هم معتب بن قشيرة ووديعة بن ثابت وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف والحارث بن يزيد الطائي وأوس بن قيظي والحارث بن سويد وسعد بن زرارة وقيس بن فهد وسويد بن داعس من بني الحبلى وقيس بن عمرو بن سهل وزيد بن اللصيت وسلالة بن الحمام وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام.
وقوله تعالى: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" أي وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته, ولو تمت عليه السعادة لهداهم الله لما جاء به كما قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: "ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي, وعالة فأغناكم الله بي" كلما قال شيئاً قالوا الله ورسوله أمن. وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب, كقوله: "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله" الاية. وقوله عليه السلام "ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله" ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال " فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة " أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا أي بالقتل والهم والغم, والاخرة أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار "وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير" أي وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم لا يحصل لهم خيراً ولا يدفع عنهم شراً.
ثم ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة، فقال: 74- "يحلفون بالله ما قالوا".
وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية، فقيل: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت، وذلك أنه لما كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم، فقالا: لئن كان محمد صادقاً على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير، فقال له عامر بن قيس: أجل والله إن محمداً لصادق مصدق، وإنك لشر من الحمار، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الجلاس فحلف بالله إن عامراً لكاذب، وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك شيئاً فنزلت. وقيل: إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي، وقيل حذيفة، وقيل بل سمعه ولد امرأته: أي امرأة الجلاس، واسمه عمير بن سعد، فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره. وقيل: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي رأس المنافقين لما قال: ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، و "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله. وقيل: إنه قول جميع المنافقين وأن الآية نزلت فيهم، وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف. ثم رد الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذباً، فقال: "ولقد قالوا كلمة الكفر" وهي ما تقدم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة "وكفروا بعد إسلامهم" أي كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم للإسلام وإن كانوا كفاراً في الباطن. والمعنى: أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم. قوله: "وهموا بما لم ينالوا" قيل: هو همهم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وقيل: هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبي، وقيل: هو هم الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" أي وما عابوا وأنكروا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء، وهو إغناء الله لهم من فضله، والاستثناء مفرغ من أعم العام، وهو من باب قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ومن باب قول الشاعر:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم. وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اتسعت معيشتهم وكثرت أموالهم. قوله: "فإن يتوبوا يك خيراً لهم" أي فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق يكن ذلك الذي فعلوه من التوبة خيراً لهم في الدين والدنيا. وقد تاب الجلاس بن سويد وحسن إسلامه، وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر.
وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق، فمنع من قبولها مالك وأتباعه، لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام "وإن يتولوا" أي يعرضوا عن التوبة والإيمان "يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا" بالقتل والأسر ونهب الأموال "و" في "الآخرة" بعذاب النار "وما لهم في الأرض من ولي" يواليهم "ولا نصير" ينصرهم.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال: لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين. قال الجلاس: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد، فقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثراً وأعزهم علي أن يدخل عليه شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن سكت عنها لتهلكني، ولإحداهما أشد علي من الأخرى، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس، فحلف بالله ما قال ولكن كذب علي عمير، فأنزل الله: "يحلفون بالله ما قالوا" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك قال:" سمع زيد بن أرقم رجلاً من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب: إن كان هذا صادقاً لنحن شر من الحمير، قال زيد: هو والله صادق وأنت شر من الحمار، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجحد القائل، فأنزل الله: "يحلفون بالله ما قالوا" الآية". وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان
ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:علام تشتمني أنت وأصحابك، فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، وأنزل الله: "يحلفون بالله ما قالوا" الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فظهر الغفاري على الجهني، فقال عبد الله بن أبي للأوس: انصروا أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك والله "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله: "يحلفون بالله" الآية، وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب هذه الآية، وفيما ذكرناه كفاية. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وهموا بما لم ينالوا" قال: هم رجل يقال له الأسود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وهموا بما لم ينالوا" قال: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج. وأخرج ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ديته اثني عشر ألفاً، وذلك قوله: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" قال: بأخذهم الدية.
74-قوله تعالى: "يحلفون بالله ما قالوا"، قال ابن عباس:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال:إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله، ما قالوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية".
وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين وسماهم رجسا وعابهم، فقال جلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر حمير. فسمعه عامر بن قيس: أجل إن محمد لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب علي يا رسول الله، وأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر، فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذى لا إله إلا هو ما قاله، ولقد كذب علي عامر، ثم قام عامر فحلف بالله الذى لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: آمين. فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية، حتى بلغ: "فإن يتوبوا يك خيراً لهم"، فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله عز وجل قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله ذلك منه وحسنت توبته
قوله تعالى: "ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم"، أي: أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام. قيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كلمة الكفر قول الجلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير. وقيل: كلمة الكفر قولهم "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، (المنافقين-8) وستأتي تلك القصة في موضعها في سورة المنافقين، "وهموا بما لم ينالوا"، قال مجاهد: هم المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم: لنحن شر من الحمير، لكي لا يفشيه.
وقيل: هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله علي وسلم، فجاء جبريل عليه السلام وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأرسل حذيفة لذلك.
وقال السدي: قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا، فيم يصلوا إليه.
"وما نقموا"، وما كرهوا وما أنكروا منهم، "إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله". وذلك أن مولى الجلاس قتل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم.
"فإن يتوبوا" من نفاقهم وكفرهم "يك خيرًا لهم وإن يتولوا"، يعرضوا عن الإيمان، "يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا"، بالخزي، "والآخرة"، أي: وفى الآخرة بالنار، " وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ".
74."يحلفون بالله ما قالوا""روي أنه صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سو يد: لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقاً لنحن شر من الحمير، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت توبته" . "ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم"وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام."وهموا بما لم ينالوا" من فتك الرسول ، وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلام فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا، أو إخراجه وإخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبدالله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ."وما نقموا"وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم. " إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله "فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش ، فما قدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى . والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو العلل ." فإن يتوبوا يك خيراً لهم "وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في"يك"للتوب ."وإن يتولوا " بالإصرار على النفاق ."يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة "بالقتل والنار ."وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير"فينجيهم من العذاب .
74. They swear by Allah that they said nothing (wrong), yet they did say the word of disbelief, and did disbelieve after their Surrender (to Allah) . And they purposed that which they could not attain, and they sought revenge only that Allah by His messenger should enrich them of His bounty. If they repent it will be better for them; and if they turn away, Allah will afflict them with a painful doom in the world and the Hereafter, and they have no protecting friend nor helper in the earth
74 - They swear by God that they said nothing (evil), but indeed they uttered blasphemy, and they did it after accepting Islam; and they meditated a plot which they were unable to carry out: this revenge of theirs was (their) only return for the bounty with which God and his Apostle had enriched them if they repent, it will be best for them; but if they turn back (to their evil ways), God will punish them with a grievous penalty in this life and in the hereafter: they shall have none on earth to protect or help them.