68 - (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله) قتلها (إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك) واحدا من الثلاثة (يلق أثاما) عقوبة
وأخرج الشيخان عن ابن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال ان تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديقها والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون
وأخرج الشيخان عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا ان الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله غفورا رحيما ونزل قل يا عبادي الذين أسرفوا الآية
يقول تعالى ذكره : والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر ، فيشركون في عبادتهم إياه ، و لكنهم يخلصون له العبادة و يفردونه بالطاعة " ولا يقتلون النفس التي حرم الله " قتلها " إلا بالحق " إما بكفر بالله بعد إسلامها ، أو زنا بعد إحصانها ، أو قتل نفس ، فتقتل بها " ولا يزنون " فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانهم من الفروج " ومن يفعل ذلك " يقول : و من يأت هذه الأفعال ، فدعا مع الله إلها آخر ، و قتل النفس التي حرم الله بغير الحق ، وزنى " يلق أثاما " يقول : يلق من عقاب الله عقوبة ونكالا ، كما وصفه ربنا جل ثناؤه ، وهو أنه " يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا " و من الأثام قول بلعاء بن قيس الكناني :
جزى الله ابن غروة حيث أمسى عقوقا و العقوق له أثام
يعني بالأثام : العقاب .
و قد ذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام ، ممن كان منه في شركه هذه الذنوب ، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام ، فاستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأنزل الله تبارك و تعالى هذه الآية ، يعلمهم أن اله قابل توبه من تاب منهم .
ذكر الرواية بذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن الذي تدعونا إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " ، ونزلت " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " الزمر : 53 ... إلى قوله " من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " الزمر : 55 قال ابن جريج : وقال مجاهد مثل قول ابن عباس سواء .
حدثنا عبد الله بن محمد الفريابي ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي معاوية ، عن أبي عمرو الشيباني ، " عن عبد الله ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : ما الكبائر ؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك ،و أن تزني بحليلة جارك ، و قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان عن الأعمش ، و منصور ، عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل ، " عن عبد الله ، قال : قلت يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، قلت : ثم أي ؟ قال : ثم أن تزاني حليلة جارك ، فأنزل تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " " ... الآية .
حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا علي بن قادم ، قال : ثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن منصور عن أبي وائل ، عن أبي ميسرة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : ثني عمي يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن سفيان ، عن عبد الله قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ " ثم ذكر نحوه .
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : ثنا عامر بن مدرك ، قال : ثنا السري ، يعني ابن إسماعيل ، قال : ثنا الشعبي ، عن مسروق ، قال : " قال عبد الله : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فاتبعته ، فجلس على نشز من الأرض ، و قعدت أسفل منه ، ووجهي حيال ركبتيه ، فاغتنمت خلوته ، و قلت : بأبي و أمي يا رسول الله ، أي الذنوب أكبر ؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك . قلت : ثم مه ؟ قال : - أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك . قلت : ثم مه ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك ، ثم تلا هذه الآية " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " " ... إلى آخر الآية .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو حدثت عن سعيد بن جبير ، أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس ، عن هاتين الآيتين التي في النساء " ومن يقتل مؤمنا متعمدا " النساء : 93 قال ابن عباس : إذا دخل الرجل في الإسلام ، وعلم شرائعه و أمره ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فلا توبة له ، والتي في الفرقان لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة : فقد عدلنا بالله ، وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق ، فما ينفعنا الإسلام ؟ فنزلت " إلا من تاب " قال : فمن تاب منهم قبل منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، قال :ثني سعيد بن جبير ، أو قال : حدثني الحكم عن سعيد بن جبير ، قال : أمرني ابن عباس ، عن هاتين الآيتين ما أمرهما ، عن الآية التي في الفرقان " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله " ... الآية ، و التي في النساء " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " النساء : 93 . فسألت ابن عباس عن ذلك ، فقال : لما أنزل اله التي في الفرقان ، قال مشركو أهل مكة : قد قتلنا النفس التي حرم الله ، و دعونا مع الله إلها آخر ، فقال " إلا من تاب وآمن و عمل عملا صالحا " ... الآية . فهذه لأولئك . وأما التي في النساء " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " النساء : 93 ... الآية ، فإن الرجل إذا عرف الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ، فلا توبة له . فذكرته لمجاهد ، فقال : إلا من ندم .
حدثنا محمد بن عوف الطائي ، قال : ثنا أحمد بن خالد الدهني ، قال : ثنا شيبان ، عن منصور بن المعتمر ، قال : ثني سعيد بن جبير ، قال لي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى : سل ابن عباس عن هاتين الآيتين عن قول الله " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " ... إلى " من تاب " ، و عن قوله " ومن يقتل مؤمنا متعمدا " النساء : 93 إلى آخر الآية . قال : فسألت عنها ابن عباس ، فقال : أنزلت هذه الآية في الفرقان بمكة إلى قوله " ويخلد فيه مهانا " فقال المشركون : فما يغني عنا الإسلام ، و قد عدلنا بالله ، و قتلنا النفس التي حرم الله ، و أتينا ابلفواحش ، قال : فأنزل الله " إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا " ... إلى آخر الآية ، قال : وأما من دخل في الإسلام و عقله ، ثم قتل ، فلا توبة له .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هذه الآية " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق " ... الآية ، قال : نزلت في أهل الشرك .
حدثنا ابن المثني ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هذه الآية " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " ، فذكر نحوه .
حدثني عبد الكريم بن عمير ، قال : ثنا إبراهيم بن المنذر ، قال : ثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان ، مولى لبني الديل من أهل المدينة ، عن فليح الشماس ، عن عبيد بن أبي عبيد ، " عن أبي هريرة ، قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة ، ثم انصرفت ، فإذا امرأة عند بابي ، ثم سلمت ، ففتحت ودخلت فبينا أنا في مسجدي أصلي ، إذا نقرت الباب ،فأذنت لها ، فدخلت فقالت : إني جئتك أسألك عن عمل عملت ، هل لي من توبة ؟ فقالت : إني زينت وولدت ، فقتلته ، فقلت : لا ولا نعمت العين ولا كرامة ، فقامت وهي وتدعو بالحسرة تقول : يا حسرتاه ، أخلق هذا الحسن للنار ؟ قال : ثم صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما لك يا أبا هريرة ، ألك حاجة ؟ فقلت له : يا رسول الله صليت معك البارحة ، ثم انصرفت ، و قصصت عليه ما قالت المرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بئس ما قلت أما كنا تقرأ هذه الآية " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق " ... الآية " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " فقال أبو هريرة : فخرجت ، فلم أترك بالمدينة حصانا ولا دارا إلا وقفت عليها ، فقلت : إن تكن فيكم المرأة التي جاءت أبا هريرة الليلة ، فلتأتي و لتبشر ،فلما صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ، فإذا هي عند بابي فقلت : أبشري ، فإني دخلت على النبي ، فذكرت له ما قلت لي ، وما قلت لك ، فقال : بئس ما قلت لها ، أما كنت تقرأ هذه الآية ؟ فقرأتها عليها ، فخرت ساجدة ، فقالت : الحمد لله الذي جعل مخرجا وتوبة مما عملت ، إن هذه الجارية وابنها حران لوجه الله ، و إني قد تبت مما عملت " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال : اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة ، فما شيء من القرآن إلا سألته عنه ، ورسولي يختلف إلى عائشة ، فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلماء يقول إن الله يقول لذنب لا أغفره .
وقال آخرون : هذه الآية منسوخة بالتي في النساء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن الحراني ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد أنه دخل على أبيه ، وعنده من أهل العراق ، وهو يسأله عن هذه الآية التي في تبارك الفرقان ، والتي في النساء " ومن يقتل مؤمنا متعمدا " النساء : 93 فقال زيد بن ثابت : قد عرفت اغلناسخة من المنسوخة ، نسختها التي في النساء بعدها بستة أشهر .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال الضحاك بن مزاحم : هذه السورة بينها وبين النساء " ومن يقتل مؤمنا متعمدا " النساء : 93 ثمان حج .
وقال ابن جريج : وأخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جبير : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ فقال : لا . فقرأ عليه هذه الآية كلها ، فقال سعيد بن جبير : قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي ، فقال : هذه مكية ، نسختها آية مدنية ، التي في سورة النساء . وقد أتينا على البيان عن الصواب في من القول في هذه الآية التي في سورة النساء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وبنحو الذي قلنا في الأثام من القول ، قال أهل التأويل ، إلا أنهم قالوا : ذلك عقاب يعاقب الله به من أتى هذه الكبائر بواد في جهنم يدعى أثاما .
ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يحدث ، عن قتادة عن أبي أيوب الأزهري ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : الأثام : واد في جهنم .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله " يلق أثاما " قال : واديا في جهنم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله " ومن يفعل ذلك يلق أثاما " قال : واديا في جهنم فيه الزناة .
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا محمد بن زياد ، قال : ثنا شرقي بن قطامي ،" عن لقمان بن عامر الخزاعي ، قال : جئت أبا أمامة صدي بن عدلان الباهلي ، فقلت : حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فدعا لي بطعام ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن صخرة زنة عشر عشراوات قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفا ، ثم تنتهي إلى غي وأثام قلت : وما غي وأثام ؟ قال : بئان في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار ، وهما اللذان ذكر الله في كتابه " أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " " مريم : 59 وقوله في الفرقان ( ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " يلق أثاما " قال : الأثام الشر . وقال : سيكفيك ما وراء ذلك : " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا " .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله " يلق أثاما " قال : نكالا ، وقال : إنه واد في جهنم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن هشيم ، قال : أخبرنا زكريا بن أبي مريم قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا بحجر يهوي فيها أو بصخرة تهوي ، عظمها كعشر عشراوات سمان ، فقال له رجل : فهل تحت ذلك من شيء ؟ قال : نعم غي وأثام .
وقوله " يضاعف له العذاب يوم القيامة " اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة الأمصار سوى عاصم " يضاعف " جزما " ويخلد " جزما . وقرأه عاصم : يضاعف رفعا ويخلد رفعا كلاهما على الابتداء وأن الكلام عنده قد تناهى عند " يلق أثاما " ثم ابتدأ قوله يضاعف له العذاب .
والصواب من القراءة عندنا فيه : جزم الحرفين كليهما : يضاعف ، ويخلد وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له ، ولو كان فعلا له كان الوجه فيه الرفع ، كما قال الشاعر :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد
فرفع تعشو ، لأنه فعل لقوله تأته ، معناه : متى تأته عاشيا .
وقوله " يخلد فيه مهانا " ويبقى فيه إلى ما لا نهاية في هوان . وقوله " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " يقول تعالى ذكره : ومن يفعل هذه الأفعال التي ذكرها جل ثناؤه يلق أثاما " إلا من تاب " يقول : إلا من راجع طاعة الله تبارك وتعالى بتركه ذلك ، وإنابته إلى ما يرضاه الله " وآمن " يقول : وصدق بما جاء به محمد نبي الله " وعمل عملا صالحا " يقول : وعلم بما أمره الله من الأعمال ، وانتهى عما نهاه الله عنه .
قوله " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " اختلف أهل التأويل في تاويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فأولئك يبد الله بقبائح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدله بالشرك إيمانا ، ويقبل أهل الشرك بالله قبل أهل الإيمان به ، وبالزنا عفة وإحصانا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قول " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " قال : هم المؤمنون كانةا قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك ، فحولهم إلى الحسنات ، وأبدلهم مكان السيئات حسنات .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " قال : هم الذين يتوبون فيعملون بالطاعة ، فيبدل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن سعيد ، قال : نزلت " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " ، في وحشي وأصحابه ، قال : كيف لنا بالتوبة ، وقد عبدنا الأوثان ، وقتلنا المؤمنين ، ونكحنا المشركات ؟ فأنزل الله فيهم " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " ، فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين ،قتالا مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس ، في قوله " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " قال : بالشرك إيمانا ، وبالقتل إمساكا ، وبالزنا إحصانا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " وهذه الآية مكية نزلت بمكة " ومن يفعل ذلك " يعني : الشرك ، والقتل ، والزنا جميعا . لما أنزل الله هذه الآية قال المشركون من أهل مكة : يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار ، وليس له عند اله خير ، فأنزل الله " إلا من تاب " من المشركين من أهل مكة ، " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " يقول : يبدل الله مكان الشرك والقتل والزنا : الإيمان بالله ، والدخول في الإسلام ، وهو التبديل في الدنيا . وأنزل الله في ذلك " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " الزمر : 53 يعنيهم بذلك " لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " الزمر : 53 يعني ما كان في الشرك . يقول الله لهم : أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ، يدعوهم إلى الإسلام . فهاتان الآيتان مكيتان ، والتي في النساء ( و من يقتل مؤمنا متعمدا ) النساء : 93 ... الآية ، هذه مدنية ، نزلت بالمدينة ، و بينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين ، وهي مبهمة ليس منها مخرج .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تميلة ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : سئل ابن عباس عن قول الله جل ثناؤه " يبدل الله سيئاتهم حسنات " فقال :
بدلن بعد حره خريفا وبعد طول النفس الوجيفا
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " ... إلى قوله " يخلد فيه مهانا " فقال المشركون : ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا ، قال : فأنزل الله " إلا من تاب وآمن " قال : تاب من الشرك ، قال : وآمن بعقاب الله ورسوله " وعمل عملا صالحا " ، قال : صدق ، " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " قال : يبدل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان .
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، فأولئك يبدل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عمرو البصري ، قال : ثنا قريش بن أنس أبو أنس ، قال : ثني صالح بن رستم ، عن عطاء الخرساني ، عن سعيد بن المسيب " فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " قال : تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا محمد بن حازم أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، " عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار وآخر أهل النار دخولا الجنة ، قال : يؤتى برجل يوم القيامة ، فيقال : نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها ، قال : فيقال له : عملت كذا وكذا ، و عملت كذا وكذا ، قال : فيقول : يا رب لقد عملت أشياء ما أراها ها هنا ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال : فيقال له : لك مكان كل سيئة حسنة " .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأيول من تأوله : فأولئك يبدل الله سيئاتهم أعمالهم في الشرك ، حسنات في الإسلام ، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القبح ، و غير جائز تحويل عين قد مضت بصفة ، إلى خلاف ما كانت عليه ، إلا بتغييلاها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى ، فيجب إن فعل ذلك كذلك ، أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام و معاصيه كلها بأعيانها طاعة ، و ذلك مالا يقوله حجا .
وقوله " وكان الله غفورا رحيما " يقول تعالى ذكره : وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده ، وراجع طاعته ، و ذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها . قوله " و من تاب " يقول : و من تاب من المشركين ، فآمن بالله ورسوله " و عمل صالحا " يقول : وعمل بما أمره الله فأطاعه ، فإن الله فاعل به من إبداله سيء أعماله في الشرك ، بحسنها في الإسلام ، مثل الذي فعل من ذلك ، بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الآية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
و بنحو الذي قلنا في تأويل قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا" قال : هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " ... إلى قوله " وكان الله غفورا رحيما " لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان هؤلاء إلا معنا ، قال " ومن تاب وعمل صالحا " فإن لهم مثل ما لهؤلاء " فإنه يتوب إلى الله متابا " لم تحظر التوبة عليكم .
قوله تعالى : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان ، وقتلهم النفس بوأد البنات ، وغير ذلك من الظلم والاغتيال ، والغارات ، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحاً . وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني : لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاخاتصاص ، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها عنهم لأنها أعلى وأشرف ، فقال : معناها لا يدعون الهوى إلهاً ، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلاً لها . ومعنى " إلا بالحق " أي إلا بسكين لاصبر وسيف المجاهد فلا ينظرون إلى النساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحاً ، بل بالضرورة فيكون كالنحاك . قال شيخنا أبو العباس : وهذا كلام رائق غير أنه عند السبر مائق . وهي نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص الإضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة ، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفاً لهم ، ثم أعقبها بصفات التخلي تبعيداً لها ، والله أعلم .
قلت : ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك الأمور ليست على ظاهرها ما روى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : " أن تدعو لله نداً وهو خلقك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " فأنزل الله تعالى تصديقها : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما " والأثام في كلام العرب العقاب ، وبه قرأ ابن زيد و قتادة هذه الآية .
ومنه قول الشاعر :
جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقاً والعقوق له أثام
أي جزاء وعقوبة . وقال عبد الله بن عمرو و عكرمة و مجاهد : إن " أثاما " واد في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة . قال الشاعر :
لقيت المهالك في حربنا وبعد المهالك تلقى أثاما
وقال السدي : جبل فيها . قال :
وكان مقامنا ندعو عليهم بأبطح ذي المجاز له أثام
وفي صحيح مسلم أيضاً عن ابن عباس : أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما " . ونزل " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " [ الزمر : 53] نزلت في وحشي قاتل حمزة ، قال سعيد بن جبير وابن عباس ، وسيأتي في ( الزمر ) بيانه .
قوله تعالى : " إلا بالحق " أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان ، على ما تقدم بيانه في ( الأنعام ) . " ولا يزنون " فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين . ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى ، ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصناً أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر ؟ قال : أن تجعل لله نداً وهو خلقك قال: ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال: ثم أي ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك" قال عبد الله : وأنزل الله تصديق ذلك "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الاية, وهكذا رواه النسائي عن هناد بن السري عن أبي معاوية به, وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ومنصور زاد البخاري وواصل ثلاثتهم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود به, فالله أعلم, ولفظهما عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ الحديث, طريق غريب.
قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , حدثنا عامر بن مدرك , حدثنا السري يعني ابن إسماعيل , حدثنا الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله , " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته, فجلس على نشز من الأرض, وقعدت أسفل منه ووجهي حيال ركبتيه, واغتنمت خلوته وقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أي الذنب أكبر ؟ قال :أن تدعو لله نداً وهو خلقك قلت: ثم مه ؟ قال :أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك قلت: ثم مه ؟ قال :أن تزاني حليلة جارك ثم قرأ "والذين لا يدعون مع الله" " الاية, وقال النسائي : حدثنا قتيبة بن سعيد , حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سلمة بن قيس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ألا إنما هي أربع فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تزنوا, ولا تسرقوا".
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن المديني رحمه الله, حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان , حدثنا محمد بن سعد الأنصاري , سمعت أبا طيبة الكلاعي , سمعت المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما تقولون في الزنا ؟ قالوا: حرمه الله ورسوله, فهو حرام إلى يوم القيامة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره . قال : فما تقولون في السرقة ؟ قالوا: حرمها الله ورسوله, فهي حرام, قال : لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره . وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر , حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي , " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له".
وقال ابن جريج : أخبرني يعلى عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا, وزنوا فأكثروا, ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن, لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة, فنزلت "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الاية, ونزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الاية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا ابن أبي عمر , حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي فاختة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق, وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك, وينهاك أن تزني بحليلة جارك . قال سفيان : وهو قوله "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الاية.
وقوله تعالى: "ومن يفعل ذلك يلق أثاماً" روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: أثاماً: واد في جهنم. وقال عكرمة "يلق أثاماً" أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد . وقال قتادة "يلق أثاماً" نكالاً, كنا نحدث أنه واد في جهنم.
وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني, إياك والزنا, فإن أوله مخافة وآخره ندامة, وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره عن أبي أمامة الباهلي موقوفاً ومرفوعاً: أن غيا وآثاماً بئران في قعر جهنم, أجارنا الله منهما بمنه وكرمه. وقال السدي "يلق أثاماً" جزاء, وهذا أشبه بظاهر الاية, وبهذا فسره بما بعده مبدلاً منه, وهو قوله تعالى: "يضاعف له العذاب يوم القيامة" أي يكرر عليه ويغلظ "ويخلد فيه مهاناً" أي حقيراً ذليلاً. وقوله تعالى: "إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً" أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر "إلا من تاب" أي في الدنيا إلى الله عز وجل من جميع ذلك, فإن الله يتوب عليه, وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل, ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" الاية, فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة, فتحمل على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة, ثم قد قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" الاية. قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل, كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب, فقبل الله توبته, وغير ذلك من الأحاديث. وقوله تعالى: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً" في معنى قوله "يبدل الله سيئاتهم حسنات" قولان (أحدهما) أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية, قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات, فرغب الله بهم عن ذلك, فحولهم إلى الحسنات, فأبدلهم مكان السيئات الحسنات, وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الاية:
بدلن بعد حره خريفا وبعد طول النفس الوجيفا
يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها, وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا, يكون الرجل على هيئة قبيحة ثم يبدله الله بها خيراً. وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن, وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين, وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح, وأبدلهم بالشرك إخلاصاً, وأبدلهم بالفجور إحصاناً, وبالكفر إسلاماً, وهذا قول أبي العالية وقتادة وجماعة آخرين.
(والقول الثاني) أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات, وما ذلك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر, فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار, فيوم القيامة وإن وجده مكتوباً عليه, فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته, كما ثبتت السنة بذلك, وصحت به الاثار المروية عن السلف رضي الله عنهم, وهذا سياق الحديث. قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار, وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة, يؤتى برجل فيقول نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها, قال: فيقال له: عملت يوم كذا, كذا وكذا, وعملت يوم كذا, كذا وكذا, فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً, فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة, فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه " , انفرد بإخراجه مسلم .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثني هاشم بن يزيد , حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثني أبي , حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك, فيعطيه إياها, فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات, فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثاً وثلاثين تكبيرة, ويحمد أربعاً وثلاثين تحميدة, ويسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة فتلك مائة".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو سلمة وعارم , قالا: حدثنا ثابت يعني ابن يزيد أبو زيد , حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها, فإذا سيئاته, فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته, ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات. وقال أيضاً: حدثنا أبي , حدثنا هشام بن عمار , حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود , حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال: ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات, قيل: من هم يا أبا هريرة ؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات. وقال أيضاً: حدثنا أبي , حدثنا عبد الله بن أبي زياد , حدثنا سيار , حدثنا جعفر , حدثنا أبو حمزة عن أبي الضيف ـ قلت: وكان من أصحاب معاذ بن جبل ـ قال يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم أصحاب اليمين قالت: لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال: لأنهم قد عملوا الحسنات والسيئات, فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرؤوا سيئاتهم حرفاً حرفاً, وقالوا: يا ربنا هذه سيئاتنا, فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات, فعند ذلك قالوا: " هاؤم اقرؤوا كتابيه " فهم أكثر أهل الجنة.
وقال علي بن الحسين زين العابدين "يبدل الله سيئاتهم حسنات" قال: في الاخرة, وقال مكحول : يغفرها لهم فيجعلها حسنات, رواهما ابن أبي حاتم , وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب مثله. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي , حدثنا الوليد بن مسلم , حدثنا أبو جابر , أنه سمع مكحولاً يحدث قال: " جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه, فقال: يا رسول الله, رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه, لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم, فهل له من توبة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أأسلمت ؟ فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, فقال النبي :فإن الله غافر لك ما كنت كذلك, ومبدل سيئاتك حسنات فقال: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي ؟ فقال : وغدراتك وفجراتك فولى الرجل يهلل ويكبر " .
وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة شطب أنه " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة, فهل له من توبة ؟ فقال :أسلمت ؟ فقال: نعم, قال: فافعل الخيرات واترك السيئات, فيجعلها الله لك خيرات كلها قال: وغدراتي وفجراتي ؟ قال :نعم فما زال يكبر حتى توارى " . ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي عن ياسين الزيات , عن أبي سلمة الحمصي عن يحيى بن جابر عن سلمة بن نفيل مرفوعاً. وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة , حدثنا إبراهيم بن المنذر , حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان عن فليح الشماس عن عبيد بن أبي عبيد , عن " أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءتني امرأة فقالت: هل لي من توبة ؟ إني زنيت, وولدت وقتلته, فقلت: لا, ولا نعمت العين ولا كرامة, فقامت وهي تدعو بالحسرة, ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح, فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئسما قلت, أما تقرأ هذه الاية ؟ " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا *إلا من تاب " الاية, فقرأتها عليها, فخرت ساجدة وقالت: الحمد الله الذي جعل لي مخرجاً " , هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي رجاله من لا يعرف, والله أعلم. وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه, وعنده: فخرجت تدعو بالحسرة وتقول: يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار ؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, تطلبها في جميع دور المدينة فلم يجدها, فلما كان من الليلة المقبلة جاءته, فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجاً وتوبة مما عملت, وأعتقت جارية كانت معها وابنتها, وتابت إلى الله عز وجل.
ثم قال تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده, وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيراً, كبيراً أو صغيراً, فقال تعالى: "ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً" أي فإن الله يقبل توبته, كما قال تعالى: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً" الاية, وقال تعالى: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" الاية, وقال تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" الاية, أي لمن تاب إليه.
قوله: 68-"والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي فقال: والذين لا يدعون مع الله سبحانه رباً من الأرباب. والمعنى: لا يشركون به شيئاً، بل يوحدونه ويخلصون له العبادة والدعوة "ولا يقتلون النفس التي حرم الله" أي حرم قتلها "إلا بالحق" أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس "ولا يزنون" أي يستحلون الفروج المحرمة بغير نكاح، ولا ملك يمين "ومن يفعل ذلك" أي شيئاً مما ذكر "يلق" في الآخرة "أثاماً" والأثام في كلام العرب العقاب. قال الفراء: آثمه الله يؤثمه أثاماً وآثاماً: أي جازاه جزاء الإثم. وقال عكرمة ومجاهد: إن أثاماً واد في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة. وقال السدي: جبل فيها. وقرىء يليق بضم الياء وتشديد القاف. قال أبو مسلم: والأثام والإثم واحد، والمراد هنا جزاء الآثام فأطلق اسم الشيء على جزائه.
قوله عز وجل: 68- "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الآية. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف بن جريج أخبرهم قال: قال يعلى وهو يعلى بن مسلم، أن سعيد بن جبير، أخبره "عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة، فنزلت: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر"."
"ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون"، ونزل: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" (الزمر-53).
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قال رجل: يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، فأنزل الله تصديقها: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً"".
قوله عز وجل: "ومن يفعل ذلك"، أي: شيئاً من هذه الأفعال، "يلق أثاماً"، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما يريد جزاء الإثم. وقال أبو عبيدة: الآثام: العقوبة. وقال مجاهد: الآثام: واد في جهنم، يروى ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ويروى في الحديث: "الغي والآثام بئران يسيل فيها صديد أهل النار".
68ـ " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله " أي حرمها بمعنى حرم قتلها . " إلا بالحق " متعلق بالقتل المحذوف ، أو بلا يقتلونه " ولا يزنون " نفى عنهم أمهات المعاصي بعدما أثبت لهم أصول الطاعات إظهاراً لكمال إيمانهم وإشعاراً بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك ، وتعريضاً للكفرة بأضداده ولذلك عقبه بالوعيد تهديداً لههم فقال : " ومن يفعل ذلك يلق أثاماً " جزاء إثم أو إثماً بإضمار الجزاء ، وقرىء (( أياماً )) أي شدائد يقال يوم ذو أيام أي صعب .
68. And those who cry not unto any other god along with Allah, nor take the life which Allah hath forbidden save in (course of) justice, nor commit adultery and whoso doeth this shall pay the penalty;
68 - Those who invoke not, with God, any other god, nor slay such life as God has made sacred, except for just cause, nor commit fornication; and any that does this (not only) meets punishment