67 - (ولو نشاء لمسخناهم) قردة وخنازير أو حجارة (على مكانتهم) وفي قراءة مكاناتهم جمع مكانة بمعنى مكان أي في منازلهم (فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) لم يقدروا على عذاب ولا مجيء
وقوله " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم " يقول تعالى ذكره: ولو نشاء لأقعدنا هؤلاء المشركين من أرجلهم في منازلهم " فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " يقول: لا يستطيعون أن يمضوا أمامهم، ولا أن يرجعوا وراءهم.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم " قال: لو نشاء لأقعدناهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد عن قتادة " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ": أي لأقعدناهم على أرجلهم " فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا يتأخروا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولو نشاء لأهلكناهم في منازلهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " يقول ولو نشاء أهلكناهم في مساكنهم. والمكانة والمكان بمعنى واحد. وقد بينا ذلك فيما مضى قبل.
قوله تعالى : " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " المسخ : تبديل الخلقة وقلبها حجراً أو جماداً أو بهيمة . قال الحسن : أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم . وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر . وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة ، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعاً تقصده فتتحير ، فلا تقبل ولا تدبر ابن عباس رضي الله عنه : المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم . وقيل : المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترءوا فيه على المعصية . ابن سلام : هذه كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط . وقرأ الحسن و السلمي و زر بن حبيش و عاصم وفي رواية أبي بكر : < مكاناتهم > على الجمع ، الباقون بالتوحيد . وقرأ أبو حيوة : < فما استطاعوا مضيا > بفتح الميم . والمضي بضم الميم مصدر يمضي مضيا إذا ذهب .
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً "هذه جهنم التي كنتم توعدون" أي هذه التي حذرتكم الرسل, فكذبتموهم "اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون" كما قال تعالى: " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ". وقوله تعالى: "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون" هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترحوه في الدنيا, ويحلفون ما فعلوه, فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة , حدثنا منجاب بن الحارث التميمي , حدثنا أبو عامر الأزدي , حدثنا سفيان عن عبيد المكتب عن الفضيل بن عمرو عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فضحك حتى بدت نواجذه, " ثم قال صلى الله عليه وسلم: أتدرون مم أضحك ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم , قال صلى الله عليه وسلم: من مجادلة العبد ربه يوم القيامة, يقول رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول: بلى, فيقول: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي, فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً, والكرام الكاتبين شهوداً, فيختم على فيه, ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله, ثم يخلى بينه وبين الكلام, فيقول: بعداً لكن وسحقاً, فعنكن كنت أناضل" وقد رواه مسلم والنسائي , كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر , عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي , عن سفيان هو الثوري به. ثم قال النسائي : لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي , وهو حديث غريب, والله تعالى أعلم, كذا قال. وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي وهو العقدي عن سفيان .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده " عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: إنكم تدعون مفدماً على أفواهكم بالفدام, فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه " , رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به, وقال سفيان بن عيينة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل, قال فيه: ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت ؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك, وصمت وصليت وتصدقت, ويثني بخير ما استطاع ـ قال ـ فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ ـ قال ـ فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه, فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي ـ قال ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق, وذلك ليعذر من نفسه, وذلك الذي سخط الله تعالى عليه" ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان بن عيينة به بطوله.
ثم قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي , حدثنا هشام بن عمار , حدثنا إسماعيل بن عياش , حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه, فخذه من الرجل اليسرى" وروى ابن جرير عن محمد بن عوف عن عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن عياش به مثله. وقد جود إسناده الإمام أحمد رحمه الله, فقال: حدثنا الحكم بن نافع , حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد الحضرمي عمن حدثه, عن عقبة بن عامر رضي الله عنه " أنه سمع رسول الله يقول: إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال".
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم , حدثنا ابن علية , حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة : قال أبو موسى هو الأشعري رضي الله عنه: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة, فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه, فيعترف فيقول: نعم أي رب عملت عملت عملت, قال: فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منها, قال: فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً وتبدو حسناته, فود أن الناس كلهم يرونها, ويدعى الكافر والمنافق للحساب, فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ويقول: أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل, فيقول له الملك: أما علمت كذا يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته, فإذا فعل ذلك ختم الله على فيه, قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى, ثم تلا "اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون".
وقوله تبارك وتعالى: "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: يقول ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى, فكيف يهتدون ؟ وقال مرة : أعميناهم: وقال الحسن البصري : لو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عمياً يترددون. وقال السدي : يقول ولو نشاء أعمينا أبصارهم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والسدي : فاستبقوا الصراط, يعني الطريق. وقال ابن زيد : يعني بالصراط ههنا الحق, فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "فأنى يبصرون" لا يبصرون الحق.
وقوله عز وجل: "ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم" قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أهلكناهم. وقال السدي : يعني لغيرنا خلقهم. وقال أبو صالح : لجعلناهم حجارة. وقال الحسن البصري وقتادة : لأقعدهم على أرجلهم, ولهذا قال تبارك وتعالى: "فما استطاعوا مضياً" أي إلى أمام "ولا يرجعون" إلى وراء بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون و لا يتأخرون.
ثم كرر التهديد لهم فقال: 67- "ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم" المسخ تبديل الخلقة إلى حجر أو غيره من الجماد أو بهيمة، والمكانة المكان: أي لو شئنا لبدلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه. قيل والمكانة أخص من المكان كالمقامة والمقام. قال الحسن: أي لأقعدناهم "فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون" أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء. قال الحسن: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم، وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل المعنى: لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم، وقيل لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية. وقال يحيى بن سلام: هذا كله يوم القيامة. قرأ الجمهور "على مكانتهم" بالإفراد. وقرأ الحسن والسلمي وزر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم " مكانتهم " بالجمع. وقرأ الجمهور مضياً بضم الميم، وقرأ أبو حيوة مضياً بفتحها، وروي عنه أنه قرأ بكسرها ورويت هذه القراءة عن الكسائي. قيل والمعنى: ولا يستطيعون رجوعاً، فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة، يقال مضى يمضي مضياً: إذا ذهب في الأرض، ورجع يرجع رجوعاً: إذا عاد من حيث جاء.
67. " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم "، يعني: مكانهم، يريد: لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير في منازلهم، وقيل: لو نشاء لجعلناهم حجارة، وهم قعود في منازلهم لا أرواح لهم. " فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون "، إلى ما كانوا عليه، وقيل: لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع.
67 -" ولو نشاء لمسخناهم " بتغيير صورهم وإبطال قواهم . " على مكانتهم " مكانهم بحيث يجمدون فيه ، وقرأ أبو بكر (( مكاناتهم )) . " فما استطاعوا مضياً " ذهاباً . " ولا يرجعون " ولا رجوعاً فوضع الفعل موضعه للفواصل ، وقيل " لا يرجعون " عن تكذيبهم ، وقرئ (0 مضياً )) باتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالمعتى والمعتي ومضياً كصبي ، والمعنى أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم واقتضاء الحكمة إمهالهم .
67. And had We willed, We verily could have fixed them in their place, making them powerless to go forward or turn back.
67 - And if it had been Our Will, We could have transformed them (to remain) in their places; then should they have been unable to move about, nor could they have returned (after error).