66 - (وإن لكم في الأنعام لعبرة) اعتبارا (نسقيكم) بيان للعبرة (مما في بطونه) أي الأنعام (من) للابتداء متعلقة بنسقيكم (بين فرث) ثفل الكرش (ودم لبنا خالصا) لا يشوبه شيء من الفرث والدم من طعم أو ريح أو لون وهو بينهما (سائغا للشاربين) سهل المرور في حلقهم لا يغص به
يقول تعالى ذكره : وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام التي نسقيكم مما في بطونه .
واختلف القراء في قراء قوله "نسقيكم" فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة ، سوى عاصم ، ومن أهل المدينة أبو جعفر : "نسقيكم" بضم النون ، بمعنى : أنه أسقاهم شراباً دائماً . وكان الكسائي يقول : العرب تقول : أسقيناهم نهراً ،وأسقيناهم لبناً : إذا جعلته شرباً دائماً ،فإاذ أرادوا أنهم أعطوه شربة قالوا : سقيناهم فنحن نسقيهم بغير ألف . وقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة سوى أبي جعفر ، ومن أهل العراق عاصم نسقيكم بفتح النون من سقاه الله ، فهو يسقيه ، والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السقي غير الدائم ، وتنزعها كان دائماً وإن كان أشهر الكلامين عندها ما قال الكسائي ، يدل على ما قلنا من ذلك ، قول لبيد في صفة سحاب :
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد ، فإذا كان كذلك ، فبأية القراءتين قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إلى قراءة ضم النون لما ذكرت من أن أكثر الكلامين عند العرب فيما كان دائماً من السقي أسقى بالألف فهو يسقي ، وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم لهم غير منقطع عنهم . وأما قوله : "مما في بطونه" وقد ذكر الأنعام قبل ذلك ، وهي جمع ، والهاء في البطون موحدة . فإن لأهل العربية في ذلك أقوالاً ، فكان بعض نحويي الكوفة يقول : النعم والأنعام شيء واحد ، لأنهما جميعاً جمعان ، فرد الكلام في قوله "مما في بطونه" إلى التدبير مراداً به معنى النعم ،إذ كان يؤدي عن الأنعام ، ويستشهد لقوله ذلك برجز بعض الأعراب :
إذا رأيت أنجما من الأسد جبهته أو الخراة والكتد
بال سهيل في الفضيخ ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد
ويقول : رجع بقوله : فبرد إلى معنى اللبن ، لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد ، وفي تذكير النعم قول الآخر :
أكل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه
فذكر النعم ، وكان غيره منهم يقول : إنما قال "مما في بطونه" لأنه أراد : مما في بطون ما ذكرنا ،وينشد في ذلك رجزاً لبعضهم :
مثل الفراخ نتفت حواصله
وقول الأسود بن يعفر :
إن المنية والحتوف كلاهما يوفي المخارم يرقبان سوادي
فقال : كلاهما ، ولم يقل : كلتاهما ،وقول الصلتان العبدي :
إن السماحة والمروءة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح
وقول الآخر :
وعفراء أدنى الناس مني مودة وعفراء عني المعرض المتواني
ولم يقل : المعرضة المتوانية ، وقول الآخر :
إذا الناس ناس والبلاد بغبطة وإذ أم عمار صديق مساعف
ويقول : كل ذلك على معنى هذا الشيء وهذا الشخص والسواد ، وما أشبه ذلك ، ويقول من ذلك قول الله تعالى ذكره ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) بمعنى : هذا الشيء الطالع . وقوله ( إنها تذكرة فمن شاء ذكره ) ولم يقل ذكرها ، لأن معناه : فمن شاء ذكر هذا الشيء . وقوله ( وإني مرسلة إليه يهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان ) ، ولم يقل جاءت .
وكان بعض البصريين يقول : "مما في بطونه" لأن المعنى :نسقيكم من أي الأنعام كان في بطونه ، ويقول فيه : اللبن مضمر ، يعني : انه يسقى من أيها كان ذا لبن ، وذلك أنه ليس لكلها لبن ، وإنما يسقى من ذوات اللبن . والقولان الأولان أصح مخرجاً على كلام العرب من هذا القول الثالث .
وقوله : "من بين فرث ودم لبنا خالصا" يقول : نسقيكم لبناً ، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصاً : يقول : خلص من مخالطة الدم والفرث ، فلم يختلطا به "سائغا للشاربين" يقول : يسوغ لمن شربه فلا يغص به كا يغص الغاص ببعض ما يأكله من الأطعمة . وقيل إنه لم يغص أحد باللبن قط .
فيه عشر مسائل:
الأولى - قوله تعالى: " وإن لكم في الأنعام لعبرة " قد تقدم القول في الأنعام، وهي هنا الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز. " لعبرة " أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه " فاعتبروا ". وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء. ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنباً.
الثانية - قوله تعالى: " نسقيكم " قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ( بفتح النون) من سقى يسقى. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم ( بضم النون) من أسقي يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى نميراً والقبائل من هلال
وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرباً أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته، قاله ابن عزيز، وقد تقدم. وقرأت فرقة ( تسقيكم) بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام. وقريء بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين، ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير.
الثالثة - قوله تعالى: " مما في بطونه " اختلف الناس في الضمير من قوله ( مما في بطونه) على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه : العرب تخير عن الأنعام بخبر الواحد. قال ابن العربي : وما أره عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير، وقاله الزجاج. وقال الكسائي : معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور، وقد قال الله تعالى: " إنها تذكرة * فمن شاء ذكره " ( عبس: 11- 12) وقال الشاعر:
مثل الفراخ نتفت حواصله
ومثله كثير. وقال الكسائي : ( مما في بطونه) أي مما في بطون بعضه، إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء: الأنعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. قال ابن العربي : إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجمعة فقال " نسقيكم مما في بطونها " ( المؤمنون: 21) وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاماً حسناً. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين.
الرابعة - استنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جيء به مذكراً لأنه راجع إلى ذكر النعم، لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ( فللمرأة السقي وللرجل اللقاح) فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى القول في تحريم لبن الفحل في ( النساء) والحمد لله.
الخامسة - قوله تعالى: " من بين فرث ودم لبنا خالصا " نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصاً بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثاً. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون منه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم، فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجربه في العروف، وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش، " حكمة بالغة فما تغن النذر " ( القمر: 5). " خالصا " يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر: خالصاً بياضه. قال النابغة:
بخالصة الأردان خضر المناكب
أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.
السادسة - قال النقاش: في هذا دليل على أن المني ليس بنجس. وقاله أيضاً غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغاً خالصاً كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهراً. قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع. اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة، وليس المني من هذه الحالة حتى يكون محلقاً به أو مقيساً عليه.
قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأي منه أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم، وقد قال تعالى: " يخرج من بين الصلب والترائب " ( الطارق: 7)، وقال: " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة " وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر، وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة، فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قاله العلماء. وقد تقدم في البقرة. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي و أحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: " كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري ". قال الشافعي : فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد بن أبي وقاس يفرك المني من ثوبه. وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: " كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ". قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذاراً كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة، ويكون هذا جمعاً بين الأحاديث. والله أعلم. وقال مالك وأصحابه و الأوزاعي : هو نجس. قال مالك : غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. وأختلف فيه ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون.
السابعة - في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به، لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذاً من وعاء نجس. فاما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حياً وميتاً فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعاً تثبت الحرمة، لأن الصبي قد يتغذى به كما يتغذى من الحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ". ولم يخص، وقد مضى في ( النساء).
الثامنة - قوله تعالى: " سائغا للشاربين " أي لذيذاً هيناً لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغاً أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى ولا يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني، وقال تعالى: " يتجرعه ولا يكاد يسيغه " ( إبراهيم: 17) والسواغ ( بكسر السين) ما أسغت به غصتك. يقال: الماء سواغ الغصص، ومنه قول الكميت:
فكانت سواغا أن جئزت بغصة
وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
التاسعة - في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وقد تقدم هذا المعنى في ( المائدة) وغيرها. وفي الصحيح "عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء". وقد كره بعض القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام، وأباحة عامة العلماء. وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فاتى بفالوذج فامتنع عن أكله فقال له الحسن: كل! فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا.
العاشرة - روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه. وإذا سقي لبناً فليقل اللهم بارك لنا فيه زدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن ". قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمي به الجثث والأبدان، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة، فقال في الصحيح : " فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك ". ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات، فهو مبارك كله.
يقول تعالى: "وإن لكم" أيها الناس"في الأنعام" وهي الإبل والبقر والغنم "لعبرة" أي لاية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه "نسقيكم مما في بطونه" أفردها ههنا عوداً على معنى النعم, أو الضمير عائد على الحيوان, فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان, وفي الاية الأخرى مما في بطونها, ويجوز هذا وهذا, كما في قوله تعالى: " كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره " وفي قوله تعالى: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان " أي المال .
وقوله: "من بين فرث ودم لبناً خالصاً" أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته, ما بين فرث ودم في باطن الحيوان, فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته, فيصرف منه دم إلى العروق, ولبن إلى الضرع, وبول إلى المثانة, وروث إلى المخرج, وكل منها لا يشوب الاخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به. وقوله: "لبناً خالصاً سائغاً للشاربين" أي لا يغص به أحد, ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب, وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه, ولهذا امتن به عليهم فقال: "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً" دل على إباحته شرعا قبل تحريمه, ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب, كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء, وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل, كما جاءت السنة بتفصيل ذلك, وليس هذا موضع بسط ذلك.
كما قال ابن عباس في قوله: "سكراً ورزقاً حسناً" السكر ما حرم من ثمرتيهما, والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما, وفي رواية: السكر حرامه, والرزق الحسن حلاله, يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب, وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ, حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك " إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان, ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها, قال الله تعالى: " وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ".
66- "وإن لكم في الأنعام لعبرة" الأنعام هي الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز، والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة، ومنه "فاعتبروا يا أولي الأبصار" وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، والظاهر أن العبرة هي قوله: "نسقيكم مما في بطونه" فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة. قرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر "نسقيكم" بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، قيل هما لغتان. قال لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
وقرئ بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الأنعام، وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه، وهما ضعيفتان، وجميع القراء على القراءتين الأوليين، والفتح لغة قريش، والضم لغة حمير، وقيل إن بين سقى وأسقى فرقاً، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي فيقال سقيته، وإن كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له قيل أسقاه. والضمير في قوله "مما في بطونه" راجع إلى الأنعام. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. وقال الزجاج لماكان لفظ الجمع يذكر ويؤنث، فيقال هو الأنعام، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير. وقال الكسائي معناه مما في بطون ما ذكرنا فهو على هذا عائد إلى المذكور. قال الفراء: وهو صواب. وقال المبرد: هذا فاش في القرآن كثير مثل قوله للشمس "هذا ربي" يعني هذا الشيء الطالع، وكذلك " وإني مرسلة إليهم بهدية " ثم قال: "فلما جاء سليمان" ولم يقل جاءت لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا انتهى، ومن ذلك قوله: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً" ومثله قول الشاعر:
مثل الفراخ نيفت حواصله
ولم يقل حواصلها، وقول الآخر:
وطاب إلقاح اللبان وبرد
ولم يقل وبردت. وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث، لأن الذكور لا ألبان لها، وبه قال أبو عبيدة وحكي عن الفراء أنه قال: النعم والأنعام واحد يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب: هذه نعم وارد فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام، وهو كقول الزجاج ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة "من بين فرث ودم" الفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً: يقال أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش، وهو الفرث ويكون منه الدم، فيكون أسفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه "لبناً" فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع، ويبقى الفرث كما هو. "خالصاً" يعني من حمرة الدم وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد "سائغاً للشاربين" أي لذيذاً هنيئاً لا يغص به من شربه: يقال ساغ الشراب يسوغ سوغاً أي سهل مدخله في الحلق.
66 - " وإن لكم في الأنعام لعبرةً " ، لعظة ، " نسقيكم " ، بفتح النون هاهنا وفي المؤمنين ، قرأ ابن نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب والباقون بضمها وهما لغتان . " مما في بطونه " ، قال الفراء : رد الكناية إلى النعم ، والأنعام واحد .
ولفظ النعم مذكر ، قال أبو عبيدة ، و الأخفش : النعم يذكر ويؤنث ، فمن أنث فلمعنى الجمع ومن ذكر فحكم اللفظ .
قال الكسائي : رده إلى ما يعني في بطون ما ذكرنا .
وقال المؤرخ : الكناية مردودة إلى البعض والجزء ، كأنه قال : نسقيكم مما في بكونه اللبن ، إذ ليس لكلها لبن ، واللبن فيه مضمر .
" من بين فرث " ،وهو ما في الكرش من الثقل ، فإذا خرج منه لا يسمى فرثاً ،" ودم لبناً خالصاً " ، من الدم والفرث ليس عليه لون دم ولا رائحة الرفث .
" سائغاً للشاربين " ، هنيئاً يجري على السهولة في الحلق .
وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط .
قال ابن عباس : إذا أكلت الدابة العلف واستقر في كرشها وطحنته فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه اللبن ، وأعلاه الدم ،والكبد مسلطة عليها ، تقسمها بتقدير الله تعالى ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ،ويبقى الفرث كما هو .
66." وإن لكم في الأنعام لعبرة " دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم ."نسقيكم مما في بطونه"استئناف لبيان العبرة ، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا للفظ وأنثه في سورة المؤمنين للمعنى ، فإن الأنعام اسم جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأكياس ، ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو لواحده أو له على المعنى ، فإن المراد به الجنس .وقرأنافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب"نسقيكم"بالتفتح هنا وفي المؤمنين."من بين فرث ودم لبناً" فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الإنهضام في الكرش. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً ، ولعله إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن ، لأنهما لا يتكونان في الكرش بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقي ثقله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها هضماً ثانياً فيحدث أخلاطاً أربعة معها مائية ، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها فيجري إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم ، ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها ، فيندفع الزائد أولاً إلى الرحم لجل الجنين فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع ، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض فيصير لبناً ، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به ، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته ، و"من"الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية كقولك: سقيت من الحوض، لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء وهي متعلقة بـ"سقيكم"أو حال من "لبناً" قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة."خالصاً "صافياً لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث ،أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه."سائغاً للشاربين"سهل المرور في حلقهم ، و قرئ سيغاً بالتشديد والتخفيف.
66. And lo! in the cattle there is a lesson for you. We give you to drink of that which is in their bellies, from betwixt the refuse and the blood, pure milk palatable to the drinkers.
66 - And verily in cattle (too) will ye find an instructive sign. from what is within their bodies, between excretions and blood, we produce, for your drink, milk, pure and agreeable to those who drink it.