65 - (ولو أن أهل الكتاب آمنوا) بمحمد صلى الله عليه وسلم (واتقوا) الكفر (لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ولو أن أهل الكتاب"، وهم اليهود والنصارى، "آمنوا" بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فصدقوه واتبعوه وما أنزل عليه ، "واتقوا" ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه ، "لكفرنا عنهم سيئاتهم"، يقول : محونا عنهم ذنوبهم فغطينا عليها، ولم نفضحهم بها، "ولأدخلناهم جنات النعيم"، يقول : ولأدخلناهم بساتين ينعمون فيها في الآخرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا"، يقول: آمنوا بما أنزل الله، واتقوا ما حرم الله، "لكفرنا عنهم سيئاتهم".
قوله تعالى :" ولو أن أهل الكتاب " أن في موضع رفع وكذا " ولو أنهم أقاموا التوراة " "آمنوا " صدقوا " واتقوا " أي الشرك والمعاصي "لكفرنا عنهم " اللام جواب لو وكفرنا غطينا وقد تقدم .
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علواً كبيراً بأنه بخيل, كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا "يد الله مغلولة". قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس "مغلولة" أي بخيلة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "وقالت اليهود يد الله مغلولة" قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة, ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك, وقرأ "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً" يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير, وهو زيادة الإنفاق في غير محله, وعبر عن البخل بقوله "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله, وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنحاص اليهودي, عليه لعنة الله, وقد تقدم أنه الذي قال "إن الله فقير ونحن أغنياء" فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه, وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق, فأنزل الله "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه, فقال "غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" وهكذا وقع لهم, فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم, كما قال تعالى: " أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " الآية, وقال تعالى: "ضربت عليهم الذلة" الآية .
ثم قال تعالى: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" أي بل هو الواسع الفضل, الجزيل العطاء, الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه, وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له, الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه, في ليلنا ونهارنا, وحضرنا وسفرنا, وفي جميع أحوالنا, كما قال "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار" والآيات في هذا كثيرة, وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال ـ: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض. وقال : يقول الله تعالى: أنفق, أنفق عليك" أخرجاه في الصحيحين, البخاري في التوحيد عن علي بن المديني, ومسلم فيه عن محمد بن رافع, كلاهما عن عبد الرزاق به .
وقوله تعالى: "وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً" أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم, فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً, يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً, وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء, وكفراً أي تكذيباً, كما قال تعالى: "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد" وقال تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً", وقوله تعالى: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً, لأنهم لا يجتمعون على حق, وقد خالفوك وكذبوك, وقال إبراهيم النخعي: "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء", قال: الخصومات والجدال في الدين, رواه ابن أبي حاتم .
وقوله "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها, وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها, أبطلها الله ورد كيدهم عليهم, وحاق مكرهم السيء بهم "ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين" أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض, والله لا يحب من هذه صفته, ثم قال جلا وعلا: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا" أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم "لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم" أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود, "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم" قال ابن عباس وغيره: هو القرآن, "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير, لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم, فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة .
وقوله تعالى: "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "لأكلوا من فوقهم" يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً, "ومن تحت أرجلهم" يعني يخرج من الأرض بركاتها, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي, كما قال تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" الآية .
وقال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" الآية, وقال بعضهم معناه "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء. وقال ابن جرير: قال بعضهم: معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل: هو في الخير من فرقه إلى قدمه, ثم رد هذا القول لمخالفته أقوال السلف .
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" حديث علقمة عن صفوان بن عمرو, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يوشك أن يرفع العلم" فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله, وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة, أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى, فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله" ثم قرأ "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل" هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقاً من أول إسناده مرسلاً في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلاً موصولاً, فقال: حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد, عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً, فقال "وذاك عند ذهاب العلم" قال: قلنا: يا رسول الله, وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن, ونقرئه أبناءنا, وأبناؤنا يقرؤونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد, إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة, أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء" هكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن وكيع بإسناده نحوه, هذا إسناد صحيح .
وقوله تعالى: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" كقوله "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" وكقوله عن أتباع عيسى "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" الآية, فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين, كما في قوله عز وجل: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها " الآية, والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة, وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا أحمد بن يونس الضبي, حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر, عن يعقوب بن يزيد بن طلحة, عن زيد بن أسلم, عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال "تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار, وواحدة في الجنة, وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: واحدة في الجنة, وإحدى وسبعون منها في النار, وتعلو أمتي على الفرقتين جميعاً واحدة في الجنة, وثنتان وسبعون في النار" قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال "الجماعات الجماعات". قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً, قال "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم" إلى قوله تعالى: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" وتلا أيضاً قوله تعالى: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه وبهذا السياق, وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة, وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة .
قوله: 65- "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا" أي لو أن المتمسكين بالكتاب، وهم اليهود والنصارى، على أن التعريف للجنس "آمنوا" الإيمان الذي طلبه الله منهم، ومن أهم الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أمروا بذلك في كتب الله المنزلة عليهم "واتقوا" المعاصي التي من أعظمها ما هم عليه من الشرك بالله والجحود لما جاء به رسول الله "لكفرنا عنهم سيئاتهم" التي اقترفوها، وإن كانت كثيرة متنوعة، وقيل المعنى: لوسعنا عليهم في أرزاقهم.
65-" ولو أن أهل الكتاب آمنوا "، بمحمد صلى الله عليه وسلم ، " واتقوا "، الكفر ، " لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم " .
65"ولو أن أهل الكتاب آمنوا" بمحمد وبما جاء به. " واتقوا " ما عددنا من معاصيهم ونحوه. " لكفرنا عنهم سيئاتهم " التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها. " ولأدخلناهم جنات النعيم " وجعلناهم داخلين فيها. وفيه تنبيه على عظم معاصيهم وكثرة ذنوبهم، وأن الإسلام يجب ما قبله، وإن جل وأن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
65. If only the People of the Scripture would believe and ward off (evil), surely We should remit their sins from them and surely We should bring them into Gardens of Delight.
65 - If only the people of the book had believed and been righteous, we should indeed have blotted out their iniquities and admitted them to gardens of bliss.