64 - (والذين يبيتون لربهم سجدا) جمع ساجد (وقياما) بمعنى قائمين يصلون الليل
يقول تعالى ذكره : والذين يبيتون لربهم يصلون لله ، يراوحون بين سجود في صلاتهم و قيام . و قوله " وقياما " جمع قائم ، كما الصيام جمع صائم .
قوله تعالى : " والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " قال الزجاج : بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل ، نام أو لم ينم . قال زهير :
فبتنا قياماً عند رأي جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله
وأنشدوا في صفة الأولياء :
امنع جفونك أن تذوق مناماً واذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه فرضي بهم واختصهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهم باتوا هنالك سجدا وقياما
خمص البطون من التعفف ضمرا لا يعرفون سوى الحلال طعاما
وقال ابن عباس : من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجداً وقائماً . وقال الكلبي : من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء فقد بات ساجداً وقائماً .
هذه صفات عباد الله المؤمنين "الذين يمشون على الأرض هوناً" أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار, كقوله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحاً" الاية, فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح, ولا أشر ولا بطر, وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء, فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب, وكأنما الأرض تطوى له, وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع, حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً, فقال: ما بالك أأنت مريض ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين, فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة, وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون, وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا, وما فاتكم فأتموا".
وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن البصري في قوله "وعباد الرحمن" الاية, قال: إن المؤمنين قوم ذلل, ذلت منهم ـ والله ـ الأسماع والأبصار والجوارح, حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض, وإنهم والله أصحاء, ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم, ومنعهم من الدنيا علمهم بالاخرة, فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس, ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة, ولكن أبكاهم الخوف من النار, إنه من لم يتعز بعزاء الله, تقطع نفسه على الدنيا حسرات, ومن لم ير لله نعمةً إلا في مطعم أو مشرب, فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقوله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله, بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً, كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلماً, وكما قال تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" الاية. وروى الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر , حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي , عن النعمان بن مقرن المزني قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسب رجل رجلاً عنده, فجعل قال: المسبوب يقول: عليك السلام, الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن ملكاً بينكما يذب عنك, كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به, وإذا قلت له وعليك السلام, قال: لا بل عليك وأنت أحق به". إسناده حسن, ولم يخرجوه.
وقال مجاهد "قالوا سلاماً" يعني قالوا سداداً. وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفاً من القول. وقال الحسن البصري : "قالوا سلاماً" حلماء لا يجهلون إن جهل عليهم حلموا, يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون, ثم ذكر أن ليلهم خير ليل, فقال تعالى: "والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً" أي في طاعته وعبادته, كما قال تعالى: " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون " وقوله "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" الاية, وقال تعالى: " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " الاية, ولهذا قال تعالى: "والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً" أي ملازماً دائماً, كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراماً, وإن يعط جزيلاً, فإنه لا يبالي
ولهذا قال الحسن في قوله "إن عذابها كان غراماً" كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه, فليس بغرام, وإنما الغرام الملازم ما دامت السموات والأرض, وكذا قال سليمان التيمي . وقال محمد بن كعب "إن عذابها كان غراماً" يعني ما نعموا في الدنيا, إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه, فأغرمهم فأدخلهم النار "إنها ساءت مستقراً ومقاماً" أي بئس المنزل منظراً, وبئس المقيل مقاماً, وقال ابن أبي حاتم عند قوله "إنها ساءت مستقراً ومقاماً" حدثنا أبي , حدثنا الحسن بن الربيع , حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: إذا طرح الرجل في النار هوى فيها, فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له: مكانك حتى تتحف, قال: فيسقى كأساً من سم الأساود والعقارب, قال: فيميز الجلد على حدة, والشعر على حدة, والعصب على حدة, والعروق على حدة. وقال أيضاً: حدثنا أبي , حدثنا الحسن بن الربيع , حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد , عن عبيد بن عمير قال: إن في النار لجباباً فيها حيات أمثال البخت, وعقارب أمثال البغال الدلم, فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها, فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم, فكشطت لحومهم إلى أقدامهم, فإذا وجدت حر النار رجعت.
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى , حدثنا سلام يعني ابن مسكين , عن أبي ظلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان يا منان, فيقول الله عز وجل لجبريل: اذهب فأتني بعبدي هذا, فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون, فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره, فيقول الله عز وجل, ائتني به, فإنه في مكان كذا وكذا, فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل, فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل, فيقول الله عز وجل, ردوا عبدي, فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها, فيقول الله عز وجل, دعوا عبدي".
وقوله تعالى: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" الاية, أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم, فيصرفون فوق الحاجة, ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم, بل عدلاً خياراً, وخير الأمور أوسطها, لا هذا ولا هذا, "وكان بين ذلك قواماً" كما قال تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" الاية, وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد , حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني , عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من فقه الرجل رفقه في معيشته". ولم يخرجوه. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عبيدة الحداد , حدثنا مسكين بن عبد العزيز العبدي , حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص , عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما عال من اقتصد" لم يخرجوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن يحيى , حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون , حدثنا سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال ـ يعني العبسي ـ عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحسن القصد في الغنى, وأحسن القصد في الفقر, وأحسن القصد في العبادة" ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال الحسن البصري : ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى, فهو سرف. وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله عز وجل.
64- "والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً" البيتوتة: هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم. قال الزجاج: من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم، كما يقال: بات فلان قلقاً، والمعنى: يبيتون لربهم سجداً على وجوههم، وقياماً على أقدامهم، ومنه قوله امرئ القيس:
فبتنا قياماً عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله
قوله تعالى: 64- "والذين يبيتون لربهم"، يقال لمن أدرك الليل: بات، نام أو لم ينم، يقال: بات فلان قلقاً، والمعنى: يبيتون لربهم بالليل في الصلاة، "سجداً"، على وجوههم، "وقياماً" على أقدامهم. قال ابن عباس: من صلى بعد العشاء الآخرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجداً وقائماً.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو نعيم عن سفيان، عن عثمان بن حكيم، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله".
64ـ " والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً " في الصلاة ، وتخصيص البيوتة لأن العبادة بالليل أحمز وأبعد عن الرياء وتأخير القيام لروي وهو جمع قائم أو مصدر أجري مجراه .
64. And who spend the night before their Lord, prostrate and standing,
64 - Those who spend the night in adoration of their Lord prostrate and standing;