60 - (قل هل أنبئكم) أخبركم (بشر من) أهل (ذلك) الذي تنقمونه (مثوبةً) ثوابا بمعنى جزاء (عند الله) هو (من لعنه الله) أبعده عن رحمته (وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) بالمسخ (و) من (عبَد الطاغوت) الشيطان بطاعته ، وراعى في منهم معنى من وفيما قبله لفظها وهم اليهود ، وفي قراءة بضم باء عبد وإضافة إلى ما بعده اسم جمع لعبد ونصبه بالعطف على القردة (أولئك شر مكانا) تمييز لأن مأواهم النار (وأضل عن سواء السبيل) طريق الحق وأصل السواء الوسط وذكر شر وأضل في مقابلة قولهم لا نعلم دينا شراً من دينكم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "قل"، يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار، "هل أنبئكم"، يا معشر أهل الكتاب ، بشر من ثواب ما تنقمون منا من إيماننا بالله وما أنزل إلينا من كتاب الله ، وما أنزل من قبلنا من كتبه ؟
و"مثوبة"، تقديرها (مفعولة)، غير أن عين الفعل لما سقطت نقلت حركتها إلى (الفاء)، وهي (الثاء) من (مثوبة)، فخرجت مخرج (مقولة)، و (محورة)، و (مضوفة)، كما قال الشاعر:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الشاق مئزري
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله"، يقول : ثواباً عند الله .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله"، قال : (المثوبة)، الثواب ، (مثوبة الخير)، و (مثوبة الشر)، وقرأ (خير ثواباً) [الكهف : 44].
وأما "من" في قوله : "من لعنه الله"، فإنه في موضع خفض ، رداً على قوله : "بشر من ذلك". فكان تأويل الكلام ، إذ كان ذلك كذلك : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ، بمن لعنه الله.
ولو قيل : هو في موضع رفع ، لكان صواباً، على الاستئناف ، بمعنى : ذلك من لعنه الله ، أو: وهو من لعنه الله .
ولو قيل : هو في موضع نصب ، لم يكن فاسداً، بمعنى : قل هل أنبئكم من لعنه الله ، فيجعل "أنبئكم" عاملاً في "من"، واقعاً عليه.
وأما معنى قوله : "من لعنه الله"، فإنه يعني : من أبعده الله وأسحقه من رحمته ، "وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير"، يقول : وغضب عليه ، وجعل منهم المسوخ القردة والخنازير، غضباً منه عليهم وسخطاً، فعجل لهم الخزي والنكال في الدنيا.
وأما سبب مسخ الله من مسخ منهم قردة، فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا.
وأما سبب مسخ الله من مسخ منهم خنازير، فإنه كان فيما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن عمر بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ، قال : حدثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل ، وكان فيها ملك بني إسرائيل ، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة، إلا أن تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به ، فجعلت تدعو إلى الله ، حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم : إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله ، وأن تنادوا قومكم بذلك ، فاخرجوا فإني خارجة . فخرجت ، وخرج إليها ذلك الملك في الناس ، فقتل أصحابها جميعاً، وانفلتت من بينهم . قال : ودعت إلى الله حتى تجمع الناس إليها، حتى إذا رضيت منهم ، أمرتهم بالخروج ، فخرجوا وخرجت معهم ، وأصيبوا جميعاً وانفلتت من بينهم . ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها، أمرتهم بالخروج ، فخرجوا وخرجت ، فأصيبوا جميعاً، وانفلتت من بينهم ، فرجعت، وقد أيست وهي تقول : سبحان الله ، لو كان لهذا الدين ولي وناصر، لقد أظهره بعد! قال : فباتت محزونة، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازير، قد مسخهم الله في ليلتهم تلك ، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت : اليوم أعلم أن الله قد أعز دينه وأمر دينه ! قال : فحا كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة.
حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله : "وجعل منهم القردة والخنازير"، قال : مسخت من يهود.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرنا، .سنذكره في موضعه إن شاء الله.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته قرأة الحجاز والشام والبصرة وبعض الكوفيين : "وعبد الطاغوت"، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، بمعنى : (عابد)، فجعل (عبد)، فعلاً ماضياً من صلة المضمر، ونصب (الطاغوت) ، بوقوع (عبد) عليه.
وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين : وعبد الطاغوت بفتح (العين) من (عبد) وضم بائها، وخفض (الطاغوت ) بإضافة (عبد) إليه . وعنوا بذلك : وخدم الطاغوت .
حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ، حدثني حمزة، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ: وعبد الطاغوت ، يقول : خدم ، قال عبد الرحمن : وكان حمزة كذلك يقرأها.
حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا، حدثنا جرير، عن الأعمش : أنه كان يقرأها كذلك . وكان الفراء يقول : إن تكن فيه لغة مثل (حذر) و (وحذر)، و(عجل)، و (وعجل)، فهو وجه ، والله أعلم ، وإلا فإن أراد قول الشاعر:
أبني لبينى إن أمكم أمة وإن أباكم عبد
فإن هذا من ضرورة الشعر، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي ، وأما في القراءة فلا.
وقرأ ذلك آخرون : وعبد الظاغوت ، ذكر ذلك عن الأعمش.
وكأن من قرأ ذلك كذلك ، أراد جمع الجمع من (العبد)، كأنه جمع (العبد) (عبيداً)، ثم جمع (العبيد) (عبداً) ، مثل : (ثمار وثمر).
وذكر عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرأه : وعبد الطاغوت.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال : كان أبو جعفر النحوي يقرأها : وعبد الطاغوت، كما تقول : (ضرب عبد الله).
قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا معنى لها، لأن الله تعالى ذكره ، إنما ابتدأ الخبر بذم أقوام ، فكان فيما ذمهم به عبادتهم الطاغوت . وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عبد، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية، ولا من جنس ما ختمها به ، فيكون له وجه يوجه إليه في الصحة.
وذكر أن بريدة الأسلمي كان يقرأه : وعابد الطاغوت.
حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شيخ بصري : أن بريدة كان يقرأه كذلك.
ولو قرىء ذلك : وعبد الظاغوت ، بالكسر، كان له مخرج في العربية صحيح ، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها. ووجه جوازها في العربية، أن يكون مراداً بها (وعبدة الطاغوت) ، ثم حذفت (الهاء) للإضافة، كما قال الراجز:
قام ولاها فسقوه صرخدا
يريد : قام ولاتها ، فحذف (التاء) من (ولاتها) للإضافة.
قال أبو جعفر: وأما قراءة القرأة، فباحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما، وهو: "وعبد الطاغوت" ، بنصب (الطاغوت) وإعمال (عبد) فيه ، وتوجيه (عبد) إلى أنه فعل ماض من (العبادة) .
والآخر: (وعبد الطاغوت)، على مثال (فعل) ، وخفض (الطاغوت) بإضافة (عبد) إليه.
فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجا في العربية منهما، فأولاهما بالصواب من القراءة، قراءة من قرأ ذلك "وعبد الطاغوت"، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : وجعل منهم القردة والخنازير وعبدوا الظاغوت، بمعنى : والذين عبدوا الطاغوت ، ففي ذلك دليل واضح على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به : ومن عبد الطاغوت ، وأن النصب بـ (الطاغوت) أولى، على ما وصفت في القراءة، لإعمال (عبد) فيه ، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها.
على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في (من) و (الذي) المضمرين مع (من) و (في ) إذا كفت (من) أو (في) منهما ويستقبحونه ، حتى كان بعضهم يحيل ذلك ولا يجيزه . وكان الذي يحيل ذلك يقرأه : وعبد الطاغوت ، فهو على قوله خطأ ولحن غيرجائز.
وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح . فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة . وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام ، قد اختاروا القراءة بها، وإعمال و (جعل) في (من)، وهي محذوفة مع (من).
ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه ، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين ، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضا فيهم لا يتناكرونه ، فلا نستجيز الخروج منه إلى غيره . فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين اللتين ذكرنا أنهم لم يعدوهما.
وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا، فتأويل الآية: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله، من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت.
وقد بينا معنى "الطاغوت" فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.
وأما قوله: "أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل"، فإنه يعني بقوله: "أولئك"، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره ، وهم الذين وصف صفتهم فقال: "من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت"، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل.
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم ، "شر مكانا"، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نقمتم عليهم ، يا معشر اليهود، إيمانهم بالله ، وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب، وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء، "وأضل عن سواء السبيل"، يقول تعالى ذكره : وأنتم مع ذلك ، أيها اليهود، أشد أخذاً على غير الطريق القويم ، وأجور عن سبيل الرشد والقصد منهم.
قال أبو جعفر: وهذا من لحن الكلام. وذلك أن الله تعالى ذكره إنما قصد بهذا الخبر إخبار اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه ، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم ، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير، خطاباً منه لهم بذلك ، تعريضاً بالجميل من الخطاب ، ولحن لهم بما عرفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن، وعلم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له: قل لهم ، يا محمد، أهؤلاء المؤمنين بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم ، شر، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقول ذلك لهم.
قوله تعالى :" قل هل أنبئكم بشر من ذلك " أي بشر من نقمكم علينا وقيل: بشر ما تريدون لنا من المكروه وهذا جواب قولهم: ما نعرف ديناً شراً من دينكم " مثوبة " نصب على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما لذلك ومثله مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر قال الشاعر:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري
وقيل: مفعلة كقولك مكرمة ومعقلة " من لعنه الله " من في موضع رفع كما قال: " بشر من ذلكم النار " [الحج:72] والتقدير : هو لعن من لعنه الله ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى : قل هل أنبئكم بشر من ذلك من لعنه الله يجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من شر والتقدير هل أنبئكم بمن لعنه الله والمراد اليهود وقد تقدم القول في الطاغوت أي وجعل منهم من عبد الطاغوت والموصول محذوف عند الفراء. وقال البصريون: لا يجوز حذف الموصول، والمعنى من لعنه الله وعبد الطاغوت:
وقرأ ابن وثاب والنخعي أنبئكم بالتخفيف وقرأ حمزة : عبد الطاغوت بضم الباء وكسر التاء جعله اسماً على فعل كعضد فهو بناء للمبالغة والكثرة كيقظ وندس وحذر وأصله الصفة ومنه قول النابغة :
من وحش وجرة موشى أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
بضم الراء. ونصبه ب جعل أي جعل منهم عبداً للطاغوت وأضاف عبد إلى الطاغوت فخفضه وجعل بمعنى خلق والمعنى: وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت وقرأ الباقون بفتح الباء والتاء وجعلوه فعلاً ماضياً وعطفوه على فعل ماض وهو غضب ولعن والمعنى عندهم من لعنه الله ومن عبد الطاغوت أو منصوباً ب جعل أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ووحد الضمير في عبد حملاً على لفظ من دون معناها وقرأ أبي وابن مسعود وعبدوا الطاغوت على المعنى، ابن عباس: وعبد الطاغوت فيجوز أن يكون جمع عبد كما قال: رهن ورهن وسقف وسقف، ويجوز أن يكون جمع عباد كما يقال : مثال ومثل ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف ويجوز أن يكون جمع عابد كبازل وبزل والمعنى: وخدم الطاغوت وعن ابن عباس أيضاً وعبد الطاغوت جعله جمع عابد كما يقال: شاهد وشهد وغايب وغيب وعن أبي واقد : وعباد الطاغوت للمبالغة جمع عابد أيضاً كعامل وعمال، وضارب وضراب وذكر محبوب أن البصريين قراءوا: وعباد الطاغوت جمع عابد أيضاً كقائم وقيام ويجوز أن يكون جمع عبد وقرأ أبو جعفر الرؤاسي وعبد الطاغوت على المفعول والتقدير: وعبد الطاغوت فيهم وقرأ عون العقيلي وابن بريدة : وعابد الطاغوت على التوحيد، وهو يؤدى عن جماعة وقرأ ابن مسعود أيضاً وعبد الطاغوت وعنه أيضاً وأبي وعبد الطاغوت على تأنيث الجماعة كما قال تعالى : " قالت الأعراب" [الحجرات : 14] وقرأ عبيد بن عمير: وأعبد الطاغوت مثل كلب وأكلب فهذه أثنا عشرة وجهاً.
قوله تعالى :" أولئك شر مكانا" لأن مكانهم النار وأما المؤمنون فلا شر في مكانهم وقال الزجاج: أولئك شر مكاناً على قولكم النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكاناً في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر :وقيل: أولئك الذين لعنهم الله شر مكاناً من الذين نقموا عليكم وقيل: أولئك الذي نقموا عليكم شر مكاناً من الذين لعنهم الله ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم : إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افتضاحاً وفيهم يقول الشاعر:
فلعنه الله على اليهود إن اليهود إخوة القرود
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهل الكتاب: "هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل" أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة, فيكون الاستثناء منقطعاً, كما في قوله تعالى: "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد", وكقوله: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" وفي الحديث المتفق عليه "ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله", وقوله "وأن أكثركم فاسقون" معطوف على "أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل" أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون, أي خارجون عن الطريق المستقيم .
ثم قال "قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله" أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله "من لعنه الله" أي أبعده من رحمته "وغضب عليه" أي غضباً لا يرضى بعده أبداً "وجعل منهم القردة والخنازير" كما تقدم بيانه في سورة البقرة, وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف, وقد قال سفيان الثوري, عن علقمة بن مرثد, عن المغيرة بن عبد الله, عن المعرور بن سويد, عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ الله ؟ فقال "إن الله لم يهلك قوماً, أو لم يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً, وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك" وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر, كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات, عن محمد بن زيد, عن أبي الأعين العبدي, عن أبي الأحوص, عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود ؟ فقال "لا إن الله لم يلعن قوماً قط فيمسخهم, فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان, فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم", ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا الحسن بن محبوب, حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير" هذا حديث غريب جداً .
وقوله تعالى: "وعبد الطاغوت" قرىء: وعبد الطاغوت على أنه فعل ماض, والطاغوت منصوب به, أي وجعل منهم من عبد الطاغوت, وقرىء: وعبد الطاغوت بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت, أي خدامه وعبيده, وقرىء: وعبد الطاغوت على أنه جمع الجمع عبد وعبيد, وعبد مثل ثمار وثمر, حكاها ابن جرير عن الأعمش, وحكى عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت, وعن أبي وابن مسعود: وعبدوا, وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرؤها: وعبد الطاغوت على أنه مفعول ما لم يسم فاعله, ثم استبعد معناها, والظاهر أنه لا بعد في ذلك, لأن هذا من باب التعريض بهم, أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه, وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه, كيف يصدر منكم هذا, وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال "أولئك شر مكاناً" أي مما تظنون بنا "وأضل عن سواء السبيل" وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة, كقوله عز وجل: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ".
وقوله تعالى: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر, ولهذا قال "وقد دخلوا" أي عندك يا محمد "بالكفر" أي مستصحبين الكفر في قلوبهم, ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم, ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال "وهم قد خرجوا به" فخصهم به دون غيرهم, وقوله تعالى: "والله أعلم بما كانوا يكتمون" أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم, وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك, وتزينوا بما ليس فيهم, فإن الله عالم الغيب و الشهادة أعلم بهم منهم, وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء وقوله "وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت" أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل, "لبئس ما كانوا يعملون", أي لبئس العمل كان عملهم, وبئس الاعتداء اعتداؤهم .
وقوله تعالى: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك, والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم, والأحبار هم العلماء فقط "لبئس ما كانوا يصنعون" يعني من تركهم ذلك, قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا, قال: وذلك الأمر كان, قال: ويعملون ويصنعون واحد, رواه ابن أبي حاتم, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن عطية, حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب, عن خالد بن دينار, عن ابن عباس, قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون" قال: كذا قرأ وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها, إنا لا ننهى, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم, ذكره يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح, حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار, فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم, واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع, ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب" تفرد به أحمد من هذاالوجه, ورواه أبو داود عن مسدد, عن أبي الأحوص, عن أبي إسحاق, عن المنذر بن جرير, عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه, فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا" وقد رواه ابن ماجه عن علي بن محمد, عن وكيع عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيد الله بن جرير, عن أبيه به, قال الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به .
قوله: 60- "قل هل أنبئكم بشر من ذلك" بين الله سبحانه لرسوله أن فيهم من العيب ما هو أولى بالعيب، وهو ما هم عليه من الكفر الموجب للعن الله وغضبه ومسخه، والمعنى: هل أنبئكم بشر من نقمكم علينا أو بشر مما تريدون لنا من المكروه أو بشر من أهل الكتاب أو بشر من دينهم. وقوله: "مثوبة" أي جزاء ثابتاً، وهي مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر. ووضعت هنا موضع العقوبة على طريقة "فبشرهم بعذاب أليم" وهي منصوبة على التمييز من بشر. وقوله: " من لعنه الله " خبر لمبتدأ محذوف مع تقدير مضاف محذوف: أي هو لعن من لعنه الله أو هو دين من لعنه الله، ويجوز أن يكون في محل جر بدلاً من شر. قوله: "وجعل منهم القردة والخنازير" أي مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وهم اليهود، فإن الله مسخ أصحاب السبت قردة وكفار مائدة عيسى منهم خنازير. قوله: "وعبد الطاغوت" قرأ حمزة بضم الباء من عبد وكسر التاء من "الطاغوت" أي جعل منهم عبد الطاغوت بإضافة عبد إلى الطاغوت. والمعنى: وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت، لأن فعل من صيغ المبالغة، كحذر وفطن للتبليغ في الحذر والفطنة. وقرأ الباقون بفتح الباء من "عبد" وفتح التاء من "الطاغوت" على أنه فعل ماض معطوف على فعل ماض وهو غضب ولعن، كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت، أو معطوف على القردة والخنازير: أي جعل منهم القردة والخنازير وجعل منهم عبد الطاغوت حملاً على لفظ من. وقرأ أبي وابن مسعود " وعبد الطاغوت " حملاً على معناها. وقرأ ابن عباس "وعبد" بضم العين والباء كأنه جمع عبد، كما يقال: سقف وسقف. ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف، أو جمع عابد كبازل وبزل. وقرأ أبو واقد وعباد جمع عابد للمبالغة، كعامل وعمال. وقرأ البصريون وعباد جمع عابد أيضاً، كقائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع عبد. وقرأ أبو جعفر الرقاشي وعبد الطاغوت على البناء للمفعول، والتقدير وعبد الطاغوت فيهم. وقرأ عون العقيلي وابن بريدة وعابد الطاغوت على التوحيد. وروي عن ابن مسعود وأبي أنهما قرآ (وعبدة الطاغوت) وقرأ عبيد بن عمير (وأعبد الطغوت) مثل كلب وأكلب. وقرئ "وعبد الطاغوت" عطفاً على الموصول بناء على تقدير مضاف محذوف، وهي قراءة ضعيفة جداً، والطاغوت: الشيطان أو الكهنة أو غيرهما مما قد تقدم مستوفى. قوله: "أولئك شر مكاناً" الإشارة إلى الموصوفين بالصفات المتقدمة، وجعلت الشرارة للمكان، وهي لأهله للمبالغة، ويجوز أن يكون الإسناد مجازياً. قوله: "وأضل عن سواء السبيل" معطوف على شر، أي هم أضل من غيرهم عن الطريق المستقيم، والتفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً أو لكونهم أشر وأضل مما يشاركهم في أصل الشرارة والضلال.
60-ثم قال : " قل "، يا محمد، " هل أنبئكم "، أخبركم، " بشر من ذلك " ، الذي ذكرتم،يعني قولهم لم نر أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم ، فذكر الجواب بلفظ الابتداء ، وإن لم يكن الابتداء شراً كقوله تعالى : " أفأنبئكم بشر من ذلكم النار " ( الحج، 72 )، " مثوبةً " ثواباً وجزاءاً ، نصب على التفسير ، " عند الله من لعنه الله " أي : هو من لعنه الله ، " وغضب عليه "، يعني: اليهود، " وجعل منهم القردة والخنازير " ، فالقردة أصحاب السبت ، والخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام .
وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الممسوخين كلاهما من أصحاب السبت ، فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير . " وعبد الطاغوت " ، أي : جعل منهم من عبد الطاغوت ، أي : أطاع الشيطان فيما سول له ، وتصديقها قراءة ابن مسعود: ومن عبدوا الطاغوت ، وقرأ حمزة " وعبد " بضم الباء " الطاغوت " بجر التاء ، أراد العبد وهما لغتان عبد بجزم الباء وعبد بضم الباء ، مثل سبع وسبع، وقيل هو جمع العباد ، وقرأ الحسن وعبد الطاغوت، على الواحد ، " أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل " أي: عن طريق الحق.
60" قل هل أنبئكم بشر من ذلك " أي من لك المنقوم. " مثوبة عند الله " جزاء ثابتاً عند الله سبحانه وتعالى، والمثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر فوضعت ها هنا موضعها على طريقة قولهم:
تحية بينهم ضرب وجيع
ونصبها عن التمييز عن بشر. " من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير " بدل من بشر على حذف مضاف أي بشر من أهل ذلك من لعنه الله، أو بشر من ذلك دين محمد لعنه الله، أو خبر محذوف أي هو من لعنه الله وهم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات، ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت، وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى عليه الصلاة. وقيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير. " وعبد الطاغوت " عطف على صلة من وكذا " عبد الطاغوت " على البناء للمفعول، ورفع " الطاغوت " و " عبد " بمعنى صار معبوداً، فيكون الراجع محذوفاً أي فيهم أو بينهم، ومن قرأ " وعبد الطاغوت " أو " عبد " على أنه نعت كفطن ويقظ أو عبدة أو " عبد الطاغوت " على أنه جمع كخدم أو أن أصله عبدة فحذف التاء للإضافة عطفه على القردة، ومن قرأ " وعبد الطاغوت " بالجر عطفه على من، والمراد " من " الطاغوت العجل وقيل الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى. " أولئك " أي الملعونون. " شر مكانا " جعل مكانهم شراً ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، وقيل " مكانا " منصرفاً. " وأضل عن سواء السبيل " قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى وقدح اليهود، والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة والضلالة.
60. Shall I tell thee of a worse (case) than theirs for retribution with Allah? Worse (is the case of him) whom Allah hath cursed, him on whom His wrath hath fallen! Worse is he of whose sort Allah hath turned some to apes and swine, and who serveth idols. Such are in worse plight and further astray from the plain road.
60 - Say: shall I point out to you something much worse than this, (as judged) by the treatment it received from God? those who incurred the curse of God and his wrath, those of whom some he transformed into apes and swine, those who worshipped evil; these are (many times) worse in rank, and far more astray from the even path