6 - (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم) أي أردتم القيام (إلى الصلاة) وأنتم محدثون (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) أي معها كما بينته السنة (وامسحوا برؤوسكم) الباء للإلصاق أي ألصقوا المسح بها من غير إسالة ماء وهو اسم جنس فيكفي أقل ما يصدق عليه وهو مسح بعض الشعر وعليه الشافعي (وأرجلكم) بالنصب عطفا على أيديكم وبالجر على الجوار (إلى الكعبين) أي معهما كما بينته السنة وهما العظمان الناتئان في كل رجل عند مفصل الساق والقدم والفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح يفيد وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعي ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات (وإن كنتم جنبا فاطَّهَرُوا) فاغتسلوا (وإن كنتم مرضى) مرضاً يضره الماء (أو على سفر) أي مسافرين (أو جاء أحد منكم من الغائط) أي أحدث (أو لامستم النساء) سبق مثله في آية النساء (فلم تجدوا ماء) بعد طلبه (فتيمموا) اقصدوا (صعيدا طيبا) ترابا طاهرا (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) مع المرفقين (منه) بضربتين والباء للإلصاق ، وبينت السنة أن المراد استيعاب العضوين بالمسح (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم (ولكن يريد ليطهركم) من الأحداث والذنوب (وليتم نعمته عليكم) بالإسلام ببيان شرائع الدين (لعلكم تشكرون) نعمه
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية روى البخاري من طريق عمرو بن الحرث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا وأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال حبست الناس في قلادة ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء قلم يوجد فنزلت يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله لعلكم تشكرون فقال أسيد بن حضير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر وروى الطبراني من طريق عباد بن عبدالله بن الزبير عن عائشة قالت لما كان من أمري عقدي ما كان وقال أهل الافك ما قالوا أخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه فقال لي أبو بكر بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء على الناس فأنزل الله الرخصة في التيمم فقال أبو بكر إنك لمباركة
تنبيهان الاول ساق البخاري هذا الحديث من رواية عمرو بن الحرث وفيه التصريح بأن آية التيمم المذكورة في رواية غيره وهي آية المائدة وأكثر الرواة قالوا فنزلت آية التيمم ولم يبينوها وقد قال ابن عبد البر هذه معضلة ما وجدت لدائها دواء لأنا لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة وقد قال ابن بطال هي آية النساء ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء وأية النساء لا ذكر للوضوء بها فيتجه تخصيصها بأية التيمم وأورد الواحدي هذا الحديث في أسباب النزول عند ذكر آية النساء أيضا ولا شك أن الذي مال اليه البخاري من أنها أية المائدة هو الصواب للتصريح بها في الطريق المذكور
الثاني دل الحديث على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول الآية ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع قال ابن عبد البر معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء ولا يدفع ذلك إلا جاحد أو معاند قال والحكمة في نزول آية الوضوء ما تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل وقال غيره يحتمل أن يكون أول الآية نزل مقدما مع فرض الوضوء ثم نزل بقيتها وهو ذكر التيمم في هذه القصة قلت الأول أصوب فان فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة والآية مدنية
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا، إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء وأيديكم إلى المرافق .
ثم اختلف أهل التأويل في قوله : "إذا قمتم إلى الصلاة"، أمراد به كل حال قام إليها، أو بعضها؟ وأي أحوال القيام إليها؟.
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه ، من أنه معني به بعض أحوال القيام إليها دون كل الأحوال ، وأن الحال التي عني بها، حال ا لقيام إليها على غير طهر.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد الله قال : سئل عكرمة عن قول الله : "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، فكل ساعة يتوضأ؟ فقال : قال ابن عباس : لا وضوء إلا من حدث.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال ، سمعت عكرمة قال : كان سعد بن أبي وقاص يصلي الصلوات بوضوء واحد.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن مسعود بن علي ، عن عكرمة قال : كان سعد بن أبي وقاص يقول : صل بطهورك ما لم تحدث.
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال ، أخبرنا سليم بن أخضر قال ، أخبرنا ابن عون ، عن محمد قال : قلت لعبيدة السلماني : ما يوجب الوضوء؟ قال : الحدث .
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن واقع بن سحبان ، عن يزيد بن طريف -أو: طريف بن يزيد-: أنهم كانوا مع أبي موسى على شاطىء دجلة، فتوضأوا، فصلوا الظهر، فلما نودي بالعصر، قام رجال يتوضأون من دجلة، فقال : إنه لا وضوء إلا على من أحدث.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد، عن قتادة، عن طريف بن زياد -أو: زياد بن طريف - عن واقع بن سحبان : أنه شهد أبا موسى صلى بأصحابه الظهر، ثم جلسوا حلقاً على شاطىء دجلة، فنودي بالعصر، فقام رجال يتوضأون ، فقال أبو موسى: لا وضوء إلا على من أحدث .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت قتادة يحدث ، عن واقع بن سحبان ، عن طريف بن يزيد -أو: يزيد بن طريف - قال : كنت مع أبي موسى بشاطىء دجلة، فذكر نحوه .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن واقع بن سحبان ، عن طريف بن يزيد -أو: يزيد بن طريف -، عن أبي موسى، مثله .
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا أبو خالد قال : توضأت عند أبي العالية الظهر أو العصر، فقلعت : أصلي بوضوئي هذا، فإني لا أرجع إلى أهلي إلى العتمة؟ قال أبو العالية : لا حرج . وعلمنا: إذا توضأ الإنسان فهو في وضوئه حتى يحدث حدثاً.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا ابن هلال ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال : الوضوء من غير حدث اعتداء.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة، عن سعيد، مثله.
حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش قال : رأيت إبراهيم صلى بوضوء واحد ، الظهر والعصر والمغرب.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام قال ، حدثنا الأعمش قال : كنت مع يحيى، فأصلي الصلوات بوضوء واحد. قال : وإبراهيم مثل ذلك.
حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا يزيد بن إبراهيم قال : سمعت الحسن سئل عن الرجل يتوضأ فيصلي الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال : لا بأس به ما لم يحدث.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد، عن الضحاك ، قال : يصلي الصلوات بالوضوء الواحد ما لم يحدث.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا زائدة، عن الأعمش ، عن عمارة قال : كان الأسود يصلي الصلوات بوضوء واحد.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة"، يقول : قمتم وأنتم على غير طهر.
حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ، عن عمارة، عن الأسود: أنه كان له قعب قدر ري رجل ، فكان يتوضأ، ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها.
حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال ، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي قال ، حدثنا الفضل بن المبشر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدث ، توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين . فقلت : أبا عبد الله ، أشيء تصنعه برأيك ؟ قال : بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه ، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع.
وقال آخرون : معنى ذلك : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني من سمع مالك بن أنس ، يحدث عن زيد بن أسلم قوله : "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة"، قال : يعني : إذا قمتم من النوم .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب : أن مالك بن أنس أخبره عن زيد بن أسلم ، بمثله .
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم"، قال فقال : قمتم إلى الصلاة من النوم .
وقال آخرون : بل ذلك معني به كل حال قيام المرء إلى صلاته ، أن يجدد لها طهراً.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن مسعود بن علي قال : سألت عكرمة، قال قلت : يا أبا عبد الله ، أتوضأ لصلاة الغداة، ثم آتي السوق فتحضر صلاة الظهر، فأصلي ؟ قال : كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول : "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق".
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال ، سمعت عكرمة يقول : كان علي رضوان الله عنه يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم"، الآية .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا أزهر، عن ابن عون ، عن ابن سيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضأون لكل صلاة .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد، عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءاً فيه تجوز، خفيفاً، فقال : هذا وضوء من لم يحدث.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، أخبرني شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال قال : رأيت علياً صلى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة، عن إبراهيم : أن علياً اكتال من حبً، فتوضأ وضوءاً فيه تجوز، فقال :هذا وضوء من لم يحدث .
وقال آخرون : بل كان هذا أمراً من الله عز ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به : أن يتوضأوا لكل صلاة، ثم نسخ ذلك بالتخفيف .
ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني قال ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ، ثم المازني ، مازن بني النجار، فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهراً كان أو غير طاهر، عمن هو؟ قال : حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب : "أن عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه ، فأمر بالسواك ، ورفع عنه الوضوء إلا من حدث . فكان عبد الله يرى أن به قوة عليه ، فكان يتوضأ".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال ، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري قال : قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة". فلما كان عام الفتح ، صلى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه ، فقال عمر: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله ! قال : عمداً فعلته.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. فلما كان يوم فتح مكة، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ، فذكر نحوه .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال : "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله ، صنعت شيئاً لم تكن تصنعه ؟ فقال : عمداً فعلته ، يا عمر".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية، عن سفيان ، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة . فلما فتح مكة، صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد".
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا الحكم بن ظهير، عن مسعر، عن محارب بن دثار، "عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد".
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : إن الله عنى بقوله : "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا"، جميع أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمر فرض بغسل ما أمر الله بغسله القائم إلى صلاته ، بعد حدث كان منه ناقض طهارته ، وقبل إحداث الوضوء منه ، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه ، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته . ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة، ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذاً بالفضل ، وإيثاراً منه لأحب الأمرين إلى الله ، ومسارعةً منه إلى ما ندبه إليه ربه ، لا على أن ذلك كان عليه فرضاً واجباً.
فإن ظن ظان أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة، دلالةً على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندباً للنبي عليه السلام وأصحابه -وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب - فقد ظن غير الصواب.
وذلك أن قول القائل : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، محتمل من وجوه لأمر الإيجاب ، والإرشاد، والندب ، والإباحة، والإطلاق . وإذ كان محتملاً ما ذكرنا من الأوجه ، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة، دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقيقة مدعيه . وقد أجمعت الحجة على أن الله عز وجل لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على عباده ، فرض الوضوء لكل صلاة، ثم نسخ ذلك . ففي إجماعها على ذلك ، الدلالة الواضحة على صحة ما قلنا: من أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك ، كان على ما وصفنا، من إيثاره فعل ما ندبه الله عز ذكره إلى فعله وندب إليه عباده المؤمنين بقوله : "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" الآية، وأن تركه في ذلك الحال الذي تركه ، كان ترخيصاً لأمته ، وإعلاماً منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم ، إلا من حدث يوجب نقض الطهر.
وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أخبار:
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، "عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقعب صغير فتوضأ. قال : قلت لأنس : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال : نعم ! قلت : فأنتم؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد".
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ، عن أبي غطيف قال : صليت مع ابن عمر الظهر، فأتى مجلساً في داره فجلس وجلست معه . فلما نودي بالعصر، دعا بوضوء فتوضأ، ثم خرج إلى الصلاة، ثم رجع إلى مجلسه . فلما نودي بالمغرب ، دعا بوضوء فتوضأ، فقلت : أسنة ما أراك تصنع ؟ قال : لا وإن كان وضوئي لصلاة الصبح كافي الصلوات كلها ما لم أحدث ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من توضأ على طهر، كتب له عشر حسنات"، فإنما رغبت في ذلك.
حدثني أبو سعيد البغدادي قال ، حدثنا إسحاق بن منصور، عن هريم ، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف ، عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات".
وقد قال قوم : إن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إعلاماً من الله له بها أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى صلاته ، دون غيرها من الأعمال كلها. وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ، فأذن الله بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عدا الصلاة، توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن شيبان ، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة. فقلنا: يا رسول الله ، نكلمك فلا تكلمنا، ونسلم عليك فلا ترد علينا؟ قال : حتى نزلت آية الرخصة: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة"، الآية .
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في حد الوجه الذي أمر الله بغسله القائم إلى الصلاة بقوله: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم".
فقال بعضهم : هو ما ظهر من بشرة الإنسان ، من قصاص شعر رأسه ، منحدراً إلى منقطع ذقنه طولاً، وما بين الأذنين عرضاً. قالوا : فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين ، فليس من الوجه. وغير واجب غسل ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه ، كالذقن الذي غطاه شعر اللحية، والصدغين اللذين قد غطاهما عذار اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر، مجزىء من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه ، لأن الوجه عندهم : هو ما عن لعين الناظر من ذلك فقابلها، دون غيره .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبوكريب قال ، حدثنا عمرو بن عبيد، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : يجزىء اللحية ما سال محليها من الماء.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا المغيرة، عن إبراهيم قال : يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم ، بنحوه .
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود، عن شعبة ، عن مغيرة، عن إبراهيم ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مغيرة في تخليل اللحية قال : يجزيك ما مر على لحيتك .
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا زائدة، عن منصور قال : رأيت إبراهيم يتوضأ فلم يخلل لحيته.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن سعيد الزبيدي ، عن إبراهيم قال : يجزيك ما سال عليها من أن تخللها.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن يونس قال : كان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا هشام ، عن الحسن: أنه كان لا يخلل لحيته .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن هشام ، عن الحسن : أنه كان لا يخلل لحيته إذا توضأ.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن ، مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن أشعث ، عن ابن سيرين قال : ليس غسل اللحية من السنة .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن : أنه كان إذا توضأ لم يبلغ الماء في أصول لحيته .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن "أبي شيبة سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي" قال : سألت "إبراهيم" : أخلل لحيتي عند الوضوء بالماء؟ فقال : لا، إنما يكفيك ما مرت عليه يدك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فقال : قال المغيرة، قال إبراهيم : يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا حجاج بن رشدين قال ، حدثنا عبد الجبار بن عمر: أن ابن شهاب وربيعة توضآ فأمرا الماء على لحاهما، ولم أر واحداً منهما خلل لحيته .
حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت سعيد بن عبد العزيز، عن عرك العارضين في الوضوء، فقال : ليس ذلك بواجب ، رأيت مكحولاً يتوضأ فلا يفعل ذلك.
حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشي قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن قال : ليس عرك العارضين في الوضوء بواجب.
حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني إبراهيم بن محمد، عن المغيرة، عن إبراهيم قال : يكفيه ما مر من الماء على لحيته.
حدثنا أبو الوليد القرشي قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني ابن لهيعة، عن سليمان بن أبي زينب قال : سألت القاسم بن محمد: كيف أصنع بلحيتي إذا توضأت ؟ قال : لست من الذين يغسلون لحاهم .
حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو: ليس عرك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء.
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بطن من الفم والأنف.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : لولا التلمظ في الصلاة ما مضمضت.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت عبد الملك يقول : سئل عطاء عن رجل صلى ولم يتمضمض ، قال : ما لم يسم في الكتاب يجزئه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : ليس المضمضة والاستنشاق من واجب الوضوء.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الصباح ، عن أبي سنان قال : كان الضحاك ينهانا عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء في رمضان .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت هشاما، عن الحسن قال: إذا نسي المضمضة والاستنشاق ، قال : إن ذكر وقد دخل في الصلاة فليمض في صلاته . وإن كان لم يدخل تمضمض واستنشق .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال : سألت الحكم وقتادة عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق ، فقال : يمضي في صلاته.
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن الأذنين ليستا من الوجه :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطي قال ، حدثنا هشيم ، عن غيلان قال : سمعت ابن عمر يقول : الأذنان من الرأس.
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثنا أبو مطرف قال ، حدثنا غيلان مولى بني مخزوم قال : سمعت ابن عمر يقول : الأذنان من الرأس.
حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا محمد بن يزيد، عن محمد ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : الأذنان من الرأس ، فإذا مسحت الرأس فامسحهما.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرني غيلان بن عبد الله مولى قريش قال : سمعت ابن عمر سأله سائل قال : إنه توضأ ونسي أن يمسح أذنيه ، قال فقال ابن عمر: الأذنان من الرأس . ولم ير عليه بأساً.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أيوب بن سويد، وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن ، جميعاً، عن سفيان ، عن سالم أبي النضر، عن سعيد بن مرجانة، عن ابن عمر، أنه قال : الأذنان من الرأس .
حدثني ابن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة، عن رجل ، عن ابن عمر قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا: الأذنان من الرأس .
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد، عن قتادة قال : الأذنان من الرأس - عن الحسن وسعيد .
حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني أبو عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن عمر قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن ابن عمر، مثله.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن قال : الأذنان من الرأس.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة-أو: عن أبي هريرة، شك ابن بزيع -:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الأذنان من ا لرأس.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معلى بن منصور، عن حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال : الأذنان من الرأس - قال حماد: لا أدري هذا عن أبي أمامة أو: عن النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة قال ، حدثني حماد بن زيد قال ، حدثني سنان بن ربيعة أبو ربيعة، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني ابن جريج وغيره ، عن سليمان بن موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الأذنان من الرأس .
حدثنا الحسن بن شبيب قال ، حدثنا علي بن هاشم بن البريد قال ، حدثنا إسماعيل بن مسلم ، عن عطاء، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأذنان من الرأس .
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن يونس : أن الحسن قال : الأذنان من الرأس .
وقال آخرون : الوجه ، كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ما ظهر من ذلك لعين الناظر وما بطن منه من منابت شعر اللحية النابت على الذقن وعلى العارضين ، وما كان منه داخل الفم والأنف ، وما أقبل من الأذنين على الوجه . كل ذلك عندهم من الوجه الذي أمر الله بغسله بقوله : "فاغسلوا وجوهكم". وقالوا : إن ترك شيئاً من ذلك المتوضىء فلم يغسله ، لم تجزه صلاته بوضوئه ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثني محمد بن بكر وأبو عاصم قالا، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني نافع : أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته ، ويغلغل بيده في أصول شعرها حتى يكثر القطران منها.
حدثنا حميد ين مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن ابن جريج قال ، أخبرني رافع مولى ابن عمر: أن ابن عمركان يغلغل يديه في لحيته حتى يكثر منها القطران.
حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث ، عن سعيد قال ، حدثنا ليث عن نافع ، عن ابن عمر: كان إذا توضأ خلل لحيته حتى يبلغ أصول الشعر.
حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا معلى بن جابر اللقيطي قال ، أخبرني الأزرق بن قيس قال : رأيت ابن عمر توضأ فخلل لحيته .
حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ليث ، عن نافع : أن ابن عمر كان يختل لحيته بالماء حتى يبلغ أصول الشعر.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر قال ، حدثنا ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير: أن أباه عبيد بن عمير كان إذا توضأ غلغل أصابعه في أصول شعر الوجه ، يغلغلها بين الشعر في أصوله ، يدلك بأصابعه البشرة -فأشار لي عبد الله كما أخبره الرجل ، كما وصف عنه .
حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، حدثنا أبو عمرو، عن نافع ، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ، وشبك لحيته بأصابعه أحياناً، ويترك أحياناً.
حدثنا أبو الوليد وعلي بن سهل قالا، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو، وأخبرني عبدة، عن أبي موسى الأشعري ، نحو ذلك .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مسلم قال : رأيت ابن أبي ليلى توضأ، فغسل لحيته ، وقال : من استطاع منكم أن يبلغ أصول الشعر فليفعل .
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : حق عليه أن يبل أصول الشعر.
حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة، عن الحكم قال : كان مجاهد يخلل لحيته.
حدثنا حميد قال ، حدثنا سفيان ، عن شعبة، عن الحكم ، عن مجاهد: أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن الحكم ، عن مجاهد، مثله .
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة، عن الحكم ، عن مجاهد، مثله .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو داود الحفري ، عن سفيان ، عن ابن شبرمة، عن سعيد ابن جبير قال : ما بال اللحية تغسل قبل أن تنبت ، فإذا . نبتت لم تغسل؟
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر: أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عنبسة، عن ليث ، عن طاوس : أنه كان يخذ لحيته .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن إسماعيل ، عن ابن سيرين : أنه كان يخلل لحيته .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك عن هشام ، عن ابن سيرين مثله.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فذكر عن الحكم بن عتيبة: أن مجاهدا كان يخلل لحيته.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عمرو، عن معروف قال : رأيت ابن سيرين توضأ فخلل لحيته.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، مثله .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن الزبير بن عدي ، عن الضحاك قال : رأيته يخلل لحيته .
حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا محمد بن يزيد، عن أبي الأشهب ، عن موسى بن أبي عائشة، عن زيد الخدري ، عن يزيد الرقاشي ، "عن أنس بن مالك قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فخلل لحيته ، فقلت : لم تفعل هذا يا نبي الله ؟ قال : أمرني بذلك ربي".
حدثنا تميم قال ، أخبرنا محمد بن يزيد، عن سلام بن سلم ، عن زيد العمي ، عن معاوية ابن قرة - أو: يزيد الرقاشي - "عن أنس قال : وضأت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأدخل أصابعه من تحت حنكه فخلل لحيته وقال : بهذا أمرني ربي جل وعز".
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال ، حدثنا المحاربي ، عن سلام بن سلم المديني قال ، حدثنا زيد العمي ، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو عبيدة الحداد قال ، حدثنا موسى بن ثروان ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أمرني ربي ! وأدخل أصابعه في لحيته فختلها.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية بن هشام وعبيد الله بن موسى، عن خالد بن إلياس ، عن عبد الله بن رافع ، "عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فخلل لحيته".
حدثنا علي بن الحسين بن الحر قال ، حدثنا محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب ، عن أبي سورة، "عن أبي أيوب قال : رأينا النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وختل لحيته".
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا زيد بن حباب قال ، حدثنا عمر بن سليمان ، عن أبي غالب ، "عن أبي أمامة : أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وخلل لحيته".
حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم أبي أمية : أن حسان بن بلال المزني رأى عمار بن ياسر توضأ وخلل لحيته ، فقيل له : أتفعل هذا؟ فقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، حدثنا أبو عمرو قال ، أخبرني عبد الواحد بن قيس ، عن يزيد الرقاشي وقتادة : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ عرك عارضيه ، وشبك لحيته بأصابعه".
حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني أبو مهدي سعيد بن سنان ، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال ، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي أبو عبد الله قال ، حدثني واصل الرقاشي ، عن أبي سودة- هكذا قال الأحمسي - عن أبي أيوب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء.
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بطن من الأنف والفم:
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح قال : سمعت مجاهداً يقول : الاستنشاق شطر الوضوء.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال : سألت حماداً عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق قال حماد: ينصرف فيتمضمض ويستنشق.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الصباح ، عن أبي سنان قال : قدمت الكوفة فأتيت حماداً فسألته عن ذلك - يعني : عمن ترك المضمضة والاستنشاق وصلى - فقال : أرى عليه إعادة الصلاة.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة قال : كان قتادة يقول : إذا ترك المضمضة، أو الاستنشاق ، أو أذنه ، أو طائفة من رجله ، حتى يدخل في صلاته ، فإنه ينفتل ويتوضأ ويعيد صلاته .
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة، من أن ما أقبل من الأذنين فمن الوجه ، وما أدبر فمن الرأس :
حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا حفص بن غياث قال ، حدثنا أشعث ، عن الشعبي قال : ما أقبل من الأذنين فمن الوجه ، وما أدبر فمن الرأس.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي ، في الأذنين : باطنهما من الوجه ، وظاهرهما من الرأس.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن الحكم ، عن الشعبي قال : مقدم الأذنين من الوجه ، ومؤخرهما من الرأس.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم وحماد، عن الشعبي ، بمثله ، إلا أنه قال : باطن الأذنين.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي ، بمثله ، إلا أنه قال : باطن الأذنين .
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي، بمثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال : باطن الأذنين من الوجه ، وظاهرهما من الرأس.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، قالا جميعاً، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن عباس قال : قال علي بن أبي طالب : ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال قلنا: نعم! فتوضأ، فلما غسل وجهه ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه . قال : ثم لما مسح برأسه ، مسح أذنيه من ظهورهما .
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا، قول من قال : الوجه الذي أمر الله جل ذكره بغسله القائم إلى صلاته : كل ما انحدر عن منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضاً، مما هو ظاهر لعين الناظر، دون ما بطن من الفم والأنف والعين ، ودون ما غطاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين ، ودون الأذنين .
وإنما قلنا ذلك أولي بالصواب ، وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان وجهاً يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين ، على القائم إلى صلاته ، لإجماع جميعهم على أن العينين من الوجه ، ثم هم مع إجماعهم على ذلك مجمعون على أن غسل ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الأجفان منهما، مجزىء .
فإذ كان ذلك منهم إجماعاً بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك ، فنظير ذلك كل ما علاه شيء من مواضع الوضوء من جسد ابن آدم من نفس خلقه ساتره ، لا يصل الماء إليه إلا بكلفة ومؤونة وعلاج ، قياساً لما ذكرنا من حكم العينين في ذلك.
فإذا كان ذلك كذلك ، فلا شك أن مثل العينين في مؤونة إيصال الماء إليهما عند الوضوء ، ما بطن من الأنف والفم وشعر اللحية والصدغين والشاربين ، لأن كل ذلك لا يصل الماء إليه إلا بعلاج لإيصال الماء إليه ، نحو كلفة علاج الحدقتين لإيصال الماء إليهما أو أشد.
وإذا كان ذلك كذلك ، كان بينا أن غسل من غسل من الصحابة والتابعين ما تحت منابت شعر اللحية والعارضين والشاربين ، وما بطن من الأنف والفم ، إنما كان إيثاراً منه لأشق الأمرين عليه : من غسل ذلك ، وترك غسله ، كما آثر ابن عمر غسل ما تحت أجفان العينين بالماء بصبه الماء في ذلك ، لا على أن ذلك كان عليه عنده فرضاً واجباً.
فأما من ظن أن ذلك من فعلهم كان على وجه الإيجاب والفرض ، فإنه خالف في ذلك بقوله منهاجهم ، وأغفل سبيل القياس ، لأن القياس هو ما وصفنا من تمثيل المختلف فيه من ذلك ، بالأصل المجمع عليه من حكم العينين ، وأن لا خبر عن واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على تارك إيصال الماء في وضوئه إلى أصول شعر لحيته وعارضيه ، وتارك المضمضة والاستنشاق ، إعادة صلاته إذا صلى بطهره ذلك . ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا من أن فعلهم ما فعلوا من ذلك ، كان إيثاراً منهم لأفضل الفعلين ، من الترك والغسل .
فإن ظن ظان أن في الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"إذا توضأ أحدكم فليستنثر".
دليلاً على وجوب الاستنثار، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غير فرض واجب ، يجب على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله ، ما يغني عن إكثار القول فيه.
وأما الأذنان ، فإن في إجماع جميعهم على أن ترك غسلهما، أو غسل ما أقبل منهما مع الوجه ، غير مفسد صلاة من صلى بطهره الذي ترك فيه غسلهما، مع إجماعهم جميعاً على أنه لوترك غسل شيء مما يجب عليه غسله من وجهه في وضوئه ، أن صلاته لا تجزئه بطهوره ذلك ، ما ينبىء عن أن القول في ذلك ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ذكرنا قولهم : إنهما ليسا من الوجه ، دون ما قاله الشعبي.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في "المرافق"، هل هي من اليد الواجب غسلها، أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب.
فقال مالك بن أنس ، وسئل عن قول الله : "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء؟ قال : الذي أمر به أن يبلغ المرفقين ، قال تبارك وتعالى : "فاغسلوا وجوهكم"، فذهب هذا يغسل خلفه!! فقيل له : فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال : لا أدري ما لا يجاوزهما، أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا : إلى المرفقين والكعبين -حدثنا يونس، عن أشهب، عنه.
وقال الشافعي: لم أعلم مخالفاً في أن المرافق فيما يغسل، كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى أن تغسل المرافق ، حدثنا بذلك عنه الربيع.
وقال آخرون : إنما أوجب الله بقوله : "وأيديكم إلى المرافق"، غسل اليدين إلى المرفقين ، فالمرفقان غاية لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحد، كما غير داخل الليل فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله : "ثم أتموا الصيام إلى الليل" [البقرة : 187]. لأن الليل غاية لصوم الصائم ، إذا بلغه فقد قضى ما عليه . قالوا : فكذلك المرافق في قوله : "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، غاية لما أوجب الله غسله من اليد. وهذا قول زفر بن الهذيل.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا : أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئاً منه تارك ، لم تجزه الصلاة مع تركه غسله . فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندب إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله :
"أمتي الغر المحجلون من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل".
فلا تفسد صلاة تارك غسلهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبل فيما مضى: من أن كل غاية حدت ب إلى ، فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحد وخروجها منه . وإذا احتمل الكلام ذلك ، لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه ، إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بين وحكم ولا حكم بأن المرافق داخلة فما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه.
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في صفة المسح الذي أمر الله به بقوله : "وامسحوا برؤوسكم".
فقال بعضهم : وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رؤوسكم بالماء، إذا قمتم إلى الصلاة.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال ، حدثنا حماد بن مسعدة، عن عيسى بن حفص قال : ذكر عند القاسم بن محمد مسح الرأس فقال : يا نافع ، كيف كان ابن عمر يمسح ؟ فقال: مسحةً واحدة . ووصف أنه مسح مقدم رأسه إلى وجهه فقال القاسم : ابن عمر أفقهنا وأعلمنا.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني نافع : أن ابن عمر كان إذا توضأ رد كفيه إلى الماء ووضعهما فيه ، ثم مسح بيديه مقدم رأسه.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكير، قال أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني نافع : أن ابن عمر كان يضع بطن كفه اليمنى على الماء، ثم لا ينفضها، ثم يمسح بها ما بين قرنيه إلى الجبين واحدة، ثم لا يزيد عليها. في كل ذلك مسحة واحدة، مقبلةً من الجبين إلى القرن.
حدثنا تميم بن المنتصر قال ، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدم رأسه.
حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا إسحاق قال ، أخبرنا شريك ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : يجزيك أن تمسح مقدم رأسك إذا كنت معتمراً. وكذلك تفعل المرأة.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الله الأشجعي ، عن سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع قال : رأيت ابن عمر مسح بيافوخه مسحةً . وقال سفيان : إن مسح شعرة أجزأه ، يعني واحدةً.
حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال : أي جوانب رأسك أمسست الماء أجزأك.
حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا علي بن ظبيان قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي ، قال : أي جوانب رأسك أمسست الماء أجزأك.
حدثنا الرفاعي قال ، حدثنا وكيع ، عن إسماعيل الأزرق ، عن الشعبي ، مثله.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر يمسح رأسه هكذا، فوضع أيوب كفه وسط رأسه ، ثم أمرها على مقدم رأسه.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن سفيان قال : إن مسح رأسه بإصبع؟ واحدة أجزأه.
حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : قلت لأبي عمرو: ما يجزئ من مسح الرأس ؟ قال : أن تمسح مقدم رأسك إلى القفا أحب إلي.
حدثني العباس بن الوليد، عن أبيه ، عنه ، نحوه.
وقال آخرون : معنى ذلك : فامسحوا بجميع رؤوسكم . قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء، لم تجزه الصلاة بوضوئه ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، حدثنا أشهب قال ، قال مالك : من مسح بعض رأسه ولم يعم ، أعاد الصلاة، بمنزلة من غسل بعض وجهه أو بعض ذراعه . قال : وسئل مالك عن مسح الرأس ، قال : يبدأ من مقدم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ منه.
وقال آخرون : لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع. وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ، ومحمد.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائم إلى صلاته ، مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه ، ولم يحد ذلك بحد لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك ، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحق ذلك أن يقال : مسح برأسه ، فقد أدى ما فرض الله عليه من مسح ذلك ، لدخوله فيما لزمه اسم ماسح برأسه إذا قام إلى صلاته.
فإن قال لنا قائل : فإن الله قد قال في التيمم: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم"[النساء: 43]، أفيجزئ المسح ببعض الوجه واليدين في التيمم؟
قيل له : كل ما مسح من ذلك بالتراب ، فيما تنازعت فيه العلماء، فقال بعضهم : يجزيه ذلك من التيمم ، وقال بعضهم : لا يجزيه ، فهو مجزئه ، لدخوله في اسم الماسحين به.
وما كان من ذلك مجمعاً على أنه غير مجزئه ، فمسلم لما جاءت به الحجة نقلاً عن نبيها صلى الله عليه وسلم. ولا حجة لأحد علينا في ذلك ، إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عاماً في معنى، فالواجب من الحكم أنه على عمومه ، حتى يخصه ما يجب التسليم له . فإذا خص منه شيء ، كان ما خص منه خارجاً من ظاهره وحكم سائره على العموم.
وقد بينا العلة الموجبة صحة القول بذلك في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
و الرأس الذي أمر الله جل وعز بالمسح به بقوله : "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، هو منابت شعر الرأس ، دون ما جاوز ذلك إلى القفا مما استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبل من قبل الوجه إلى الجبهة.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه جماعة من قرأة الحجاز والعراق : "وأرجلكم إلى الكعبين"، نصباً، فتأويله : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين ، وامسحوا برؤوسكم . وإذا قرئ كذلك ، كان من المؤخر الذي معناه التقديم ، وتكون الأرجل منصوبة عطفاً على الأيدي . وتأول قارئو ذلك كذلك ، أن الله جل ثناؤه : إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها.
ذكر من قال : عنى الله بقوله : "وأرجلكم إلى الكعبين"، الغسل.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة أن رجلاً صلى وعلى ظهر قدمه موضع ظفر، فلما قضى صلاته قال له عمر: أعد وضوءك وصلاتك.
حدثنا حميد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا عبد الله بن حسن قال ، حدثنا هزيل بن شرحبيل ، عن ابن مسعود قال : خللوا الأصابع بالماء، لا تخللها النار.
حدثنا عبد الله بن الصباح العطار قال ، حدثنا حفص بن عمر الحوضي قال ، حدثنا مرجى- يعني : ابن رجاء اليشكري - قال ، حدثنا أبو روح عمارة بن أبي حفصة، عن المغيرة بن حنين : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتوضأ وهو يغسل رجليه ، فقال : بهذا أمرت.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن واقد مولى زيد بن خليدة قال : سمعت مصعب بن سعد يقول : رأى عمر بن الخطاب قوماً يتوضأون فقال : خللوا.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال : سمعت يحيى قال ، سمعت القاسم قال : كان ابن عمر يخلع خفيه ، ثم يتوضأ فيغسل رجليه ، ثم يخلل أصابعه.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الزبير بن عدي ، عن إبراهيم قال : قلت للأسود: رأيت عمر يغسل قدميه غسلاً؟ قال : نعم.
حدثني محمد بن خلف قال ، حدثنا إسحاق بن منصور قال ، حدثنا محمد بن مسلم ، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمر بن عبد العزيز: أنه قال لابن أبي سويد: بلغنا عن ثلاثة كلهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه غسلاً، أدناهم ابن عمك المغيرة.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الصباح ، عن محمد- وهو ابن أبان - عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : اغسلوا الأقدام إلى الكعبين.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن أبي قلابة : أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً قد ترك على ظهر قدمه مثل الظفر، فأمره أن يعيد وضوءه وصلاته.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحق ، عن شيبة بن نصاح قال : صحبت القاسم بن محمد إلى مكة، فرأيته إذا توضأ للصلاة يدخل أصابع رجليه يصب عليها الماء، قلت : يا أبا محمد، لم تصنع هذا؟ قال : رأيت ابن عمر يصنعه.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا، حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي ، عن حماد، عن إبراهيم في قوله : "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، قال : عاد الأمر إلى الغسل.
حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا أبي ، عن حفص الغاضري ، عن عامر بن كليب ، عن أبي عبد الرحمن قال : قرأ علي الحسن والحسين رضوان الله عليهما، فقرآ: وأرجلكم إلى الكعبين ، فسمع علي رضي الله عنه ذلك - وكان يقضي بين الناس - فقال : "وأرجلكم"، هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد الأعلى، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس : أنه قرأها : "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم " بالنصب ، وقال : عاد الأمر إلى الغسل.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه : أنه قرأها: "وأرجلكم"، وقال : عاد الأمر إلى الغسل.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن قيس ، عن عاصم ، عن زر، عن عبد الله : أنه كان يقرأ : "وأرجلكم"، بالنصب.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله : "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، أما "وأرجلكم إلى الكعبين"، فيقول : اغسلوا وجوهكم ، واغسلوا أرجلكم ، وامسحوا برؤوسكم. فهذا من التقديم والتأخير.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن شيبان قال : أثبت لي عن علي أنه قرأ: "وأرجلكم".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام بن عروة، عن أبيه : "وأرجلكم"، رجع الأمر إلى الغسل.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خالد، عن عكرمة، مثله.
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن الأعمش قال : كان أصحاب عبد الله يقرأونها : "وأرجلكم"، فيغسلون.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : اغسل القدمين إلى الكعبين.
حدثني عبد الله بن محمد الزهري قال ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي السوداء، عن ابن عبد خير، عن أبيه قال: رأيت علياً توضأ فغسل ظاهر قدميه ، وقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، ظننت أن بطن القدم أحق من ظاهرها.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا عبد الملك ، عن عطاء قال : لم أر أحداً يمسح على القدمين.
حدثني المثنى قال ، حدثني الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن مجاهد أنه قرأ : "وأرجلكم إلى الكعبين"، فنصبها وقال : رجع إلى الغسل.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، سمعت الأعمش يقرأ : "وأرجلكم"، بالنصب.
حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب قال : سئل مالك عن قول الله : "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، أهي : أرجلكم أو: أرجلكم ؟ فقال : إنما هو الغسل ، وليس بالمسح ، لا تمسح الأرجل ، إنما تغسل . قيل له : أفرأيت من مسح ، أيجزيه ذلك ؟ قال : لا.
حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سلمة، عن الضحاك: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم"، قال : اغسلوها غسلاً.
وقرأ ذلك آخرون من قرأة الحجاز والعراق : "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم"، بخفض الأرجل. وتأول قارئو ذلك كذلك : أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها، وجعلوا الأرجل عطفاً على الرأس ، فخفضوها لذلك.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن قيس الخراساني ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : الوضوء غسلتان ومسحتان.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل ، عن حميد ، وحدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا حميد قال ، قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ؟ وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس : صدى الله وكذب الحجاج ، قال الله : "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم"، قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما.
حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا حماد قال ، حدثنا عاصم الأحول ، عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة الغسل.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن موسى بن أنس قال : خطب الحجاج فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم ، ظهورهما وبطونهما وعراقيبهما، فإن ذلك أدنى إلى أخبثيكم . قال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله : "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين".
حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا عبيد الله العتكي ، عن عكرمة قال : ليس على الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هرون ، عن عنبسة، عن جابر، عن أبي جعفر قال : امسح على رأسك وقدميك.
حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح. قال : ثم قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم ، أن يمسح ما كان غسلاً، ويلغي ما كان مسحاً؟
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال : أمر بالتيمم فيما أمر به بالغسل.
حدثني يعقوب قال ، حدثني ابن علية، عن داود، عن الشعبي أنه قال : إنما هو المسح على الرجلين ، ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل ، جعل عليه المسح ، وما كان عليه المسح أهمل؟
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر أنه قال : أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء: الرأس والرجلان.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود، عن الشعبي قال : أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم ما أمر أن يغسل بالماء، وأهمل ما أمر أن يمسح بالماء.
حدثنا ابن أبي زياد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا إسماعيل قال : قلت لعامرة إن ناساً يقولون إن جبريل صلى الله عليه وسلم نزل بغسل الرجلين ! فقال : نزل جبريل بالمسح.
حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن يونس قال ، حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال : فما رأيته غسل رجليه ، إنما يمسح عليهما، حتى خرج منها.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، افترض الله غسلتين ومسحتين.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن علقمة : أنه قرأ : "وأرجلكم"، مخفوضة اللام.
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن الأعمش ، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو الحسين العكلي ، عن عبد الوارث ، عن حميد، عن مجاهد : أنه كان يقرأ : وأرجلكم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال ، كان الشعبي يقرأ : وأرجلكم، بالخفض.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الحسن بن صالح ، عن غالب ، عن أبي جعفر: أنه قرأ : وأرجلكم ، بالخفض.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة، عن الضحاك : أنه قرأ: وأرجلكم، بالكسر.
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك ، أن الله عز ذكره أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم . وإذا فعل ذلك بهما المتوضىء، كان مستحقاً اسم ماسح غاسل ، لأن غسلهما ، إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء، و مسحهما ، إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهوغاسل ماسح.
ولذلك - من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص ، اللذين أحدهما مسح ببعض ، والآخر مسح بالجميع - اختلفت قراءة القرأة في قوله : "وأرجلكم"، فنصبها بعضهم ، توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل ، وإنكاراً منه المسح عليهما، مع تظاهر الأخبار عن رسون الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما بالماء.
وخفضها بعضهم ، توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح.
ولما قلنا في تأويل ذلك -إنه معني به عموم مسح الرجلين بالماء- كره من كره للمتوضئ الاجتزاء بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده أو بما قام مقام اليد، توجيهاً منه قوله: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، إلى مسح جميعهما عاماً باليد، أو بما قام مقام اليد، دون بعضهما، مع غسلهما بالماء، كما:
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان قال -حدثنا نافع، عن ابن عمر-عن الأحول، عن طاوس أنه سئل عن الرجل يتوضأ ويدخل رجليه في الماء، قال: ما أعد ذلك طائلاً.
وأجاز ذلك من أجاز، توجيهاً منه إلى أنه معني به الغسل، كما:
حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت هشاماً يذكر، عن الحسن، في الرجل يتوضأ في السفينة، قال : لا بأس أن يغمس رجليه غمساً.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال: أخبرني أبو حرة، عن الحسن، في الرجل إذا توضأ على حرف السفينة، قال : يخضخض قدميه في الماء.
فإذا كان المسح المعنيان اللذان وصفنا: من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به ، وكان صحيحاً بالأدلة الدالة التي سنذكرها بعد، أن مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل و المسح، فبين صواب قرأة القراءتين جميعاً، أعني النصب في الأرجل والخفض. لأن في عموم الرجلين بمسحهما بالماء غسلهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحهما.
فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصباً، لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما.
ووجه صواب قراءة من قرأه خفضاً، لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد، مسحاً بهما.
غير أن ذلك وإن كان كذلك ، وكانت القراءتان كلماهما حسناً صواباً، فأعجب القراءتين إلي أن أقرأها، قراءة من قرأ ذلك خفضاً، لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله: "وامسحوا برؤوسكم"، فالعطف به على الرؤوس مع قربه منه ، أولى من العطف به على الأيدي، وقد حيل بينه وبينها بقوله: "وامسحوا برؤوسكم".
فإن قال قائل : وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم ، دون أن يكون خصوصاً، نظير قولك في المسح بالرأس؟
قيل: الدليل على ذلك ، تظاهر الأخبار "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار". ولو كان مسح بعض القدم مجزئاً من عمومها بذلك، لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه منها بالماء بعد أن يمسح بعضها. لأن من أدى فرض الله عليه فيما لزمه غسله منها، لم يستحق الويل ، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل. وفي وجوب الويل لعقب تارك غسل عقبه في وضوئه، أوضح الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحة ما قلنا في ذلك، وفساد ما خالفه.
ذكر بعض الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا:
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال : كان أبو هريرة يمر ونحن نتوضأ من المطهرة، فيقول: أسبغوا الوضوء، أسبغوا الوضوء! قال أبو القاسم: ويل للعراقيب من النار.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه، إلا أنه قال : ويل للأعقاب من النار.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن محمد بن زياد قال: "كان أبو هريرة يمر بأناس يتوضأون يسيئون الطهور، فيقول: أسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للعقب من النار".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خالد بن مخلد قال ، حدثني سليمان بن بلال قال ، حدثني سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار يوم القيامة".
حدثني إسحق بن شاهين وإسمعيل بن موسى قالا، حدثنا خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار"، وقال إسمعيل في حديثه: "ويل للعراقيب من النار".
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا حسين المعلم ، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي قال : دخلت مع عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة، فدعا بوضوء، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب من النار".
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي قال ، حدثنا عكرمة بن عمار قال ، حدثنا يحيى بن أبي كثير قال ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال ، حدثني أبو سالم مولى المهري -هكذا قال عمر بن يونس- قال: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص ، قال : فمررت أنا وعبد الرحمن على حجرة عائشة أخت عبد الرحمن ، فدعا عبد الرحمن بوضوء، فسمعت عائشة تناديه: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب من النار".
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى دوس قال : سمعت عائشة تقول لأخيها عبد الرحمن: يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب من النار".
حدثني يعقوب وسوار بن عبد الله قالا، حدثنا يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، أن عائشة رأت عبد الرحمن يتوضأ فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب من النار".
حدثت ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة قال: رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ، فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للعراقيب من النار".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال ، أخبرنا أبو الأسود: أن أبا عبد الله مولى شداد بن الهاد حدثه: أنه دخل على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعندها عبد الرحمن ، فتوضأ عبد الرحمن ، ثم قام فأدبر، فنادته عائشة فقالت : يا عبد الرحمن! فأقبل عليها، فقالت له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب من النار".
حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال ، حدثني أبو إسحق، عن سعيد -أو: شعيب- ابن أبي كرب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للعراقيب من النار".
حدثنا خلاد بن أسلم قال ، حدثنا النضر قال ، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحق قال ، سمعت ابن أبي كرب قال ، سمعت جابر بن عبد الله قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للعقب -أو: العراقيب- من النار".
حدثني إسمعيل بن محمود الحجيري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا شعبة، عن أبي إسحق قال ، سمعت سعيداً يقول ، سمعت جابراً يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب من النار".
حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للعراقيب من النار".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سمع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل للعراقيب من النار".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سمع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء".
حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا الوليد بن القاسم ، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: "أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يتوضأ وبقي من عقبه شيء، فقال: ويل للعراقيب من النار".
حدثني علي بن مسلم قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا حفص ، عن الأعمش، عن أبي سفيان ، عن جابر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضأون لم يصب أعقابهم الماء، فقال: ويل للعراقيب من النار".
حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو قال ، حدثنا خلف بن الوليد قال ، حدثني أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للعراقيب من النار".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتوضأون، فرأى أعقابهم تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار! أسبغوا الصلاة".
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو قال: "أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتوضأون لم يتموا الوضوء، فقال: أسبغوا الصلاة، ويل للعراقيب -أو: الأعقاب- من النار".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن رجل من أهل مكة، عن عبد الله بن عمرو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضأون فلم يتموا الوضوء، فقال : ويل للأعقاب من النار".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضأون وأعقابهم تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن منصور، عن هلال، عن أبي يحيى مولى عبد الله بن عمرو، "عن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فسبقنا ناس فتوضأوا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أقدامهم بيضاً من أثر الوضوء فقال: ويل للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء".
حدثني علي بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المحاربي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله ابن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار! قال : فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث قال ، حدثني عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة -أو: أخي أبي أمامة- "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر أقواماً يتوضأون وفي عقب أحدهم -أو: كعب أحدهم- مثل موضع الدرهم -أو: موضع الظفر- لم يمسه الماء، فقال: ويل للأعقاب من النار! فقال: فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئاً، لم يصبه الماء، أعاد وضوءه".
قال أبو جعفر: فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما حدثكم به:
محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه ، "عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام فصلى".
وما حدثك به:
عبد الله بن الحجاج بن المنهال قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا جرير بن حازم قال، سمعت الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال عليها قائماً، ثم دعا بماء، فتوضأ ومسح على نعليه".
وما حدثك به:
الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبيه ، "عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم، فتوضأ ومسح على قدميه".
وما أشبه ذلك من الأخبار الدالة على أن المسح ببعض الرجلين في الوضوء مجزئ؟
قيل له: أما حديث أوس بن أبي أوس، فإنه لا دلالة فيه على صحة ذلك ، إذ لم يكن في الخبر الذي روي عنه ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بعد حدث يوجب عليه الوضوء لصلاته، فمسح على نعليه أو على قدميه. وجائز أن يكون مسحه على قدميه ، الذي ذكره أوس، كان في وضوء توضأه من غير حدث كان منه وجب عليه من أجله تجديد وضوئه، لأن الرواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ لغير حدث، كذلك يفعل ، يدل على ذلك ما:
حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو مالك الجنبي، عن مسلم، عن حبة العرني قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه شرب في الرحبة قائماً، ثم توضأ ومسح على نعليه. وقال : هذا وضوء من لم يحدث ، هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع.
فقد أنبأ هذا الخبر عن صحة ما قلنا في معنى حديث أوس.
فإن قال: فإن حديث أوس، وإن كان محتملاً من المعنى ما قلت ، فإنه محتمل أيضاً ما قاله من قال إنه معني به المسح على النعلين أو القدمين في وضوء توضأه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدث؟
قيل: أحسن حالات الخبر ما حمل ما قلت، إن سلم له ما ادعى من احتماله ما ذكر من المسح على القدم أو النعل بعد الحدث ، وإن كان ذلك غير محتمله عندنا، إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم متنافية متعارضة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء، بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه. وإذ كان ذلك عنه صحيحاً، فغير جائز أن يكون صحيحاً عنه إباحة ترك غسل بعض ما قد أوجب فرضاً غسله ، في حال واحدة ووقت واحد. لأن ذلك إيجاب فرض وإبطاله في حال واحدة. وذلك عن أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم منتف.
غير أنا إذا سلمنا لمن ادعى في حديث أوس ما ادعى من احتماله مسح النبي صلى الله عليه وسلم على قدمه في حال وضوء من حدث ، ثقةً منا بالفلج عليه ، بأنه لا حجة له في ذلك ، قلنا: فإذ كان محتملاً ما ادعيت ، أفمحتمل هو ما قلناه إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم في حال وضوئه من غير حدث؟
فإن قال لا، ثبتت مكابرته ، لأنه لا بيان في خبر أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في وضوء من حدث.
وإن قال: بل هو محتمل ما قلت، ومحتمل ما قلنا.
قيل له: فما البرهان على أن تأوليك الذي ادعيت فيه ، أولى به من تأويلنا؟
فلن يدعي برهاناً على صحة دعواه في ذلك ، إلا عورض بمثله في خلاف دعواه.
وأما حديث حذيفة فإن الثقات الحفاظ من أصحاب الأعمش حدثوا به، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة : "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً، ثم توضأ ومسح على خفيه".
حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي قال، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة.
ح، حدثني المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن حذيفة.
ح، حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا، حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة.
ح، حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة.
ح، حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال ، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة .
ح، حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة.
وكل هؤلاء يحدث ذلك عن الأعمش بالإسناد الذي ذكرنا عن حذيفة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه"، وهم أصحاب الأعمش. ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش غير جرير بن حازم. ولو لم يخالفه في ذلك مخالف ، لوجب التثبت فيه لشذوذه، فكيف والثقات من أصحاب الأعمش يخالفونه في روايته ما روى من ذلك!! ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان جائزاً أن يكون مسح على نعليه وهما ملبوستان فوق الجوربين. وإذا جاز ذلك ، لم يكن لأحد صرف الخبر إلى أحد المعاني المحتملها الخبر إلا بحجة يجب التسليم لها.
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في الكعب.
فقال بعضهم بما:
حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني قال ، قال أبو جعفر: أين الكعبين؟ فقال القوم: ههنا. فقال: هذا رأس الساق ، ولكن الكعبين هما عند المفصل.
حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب قال ، قال مالك: الكعب الذي يجب الوضوء إليه ، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذي العقب ، وليس بالظاهر في ظاهر القدم.
وقال آخرون بما:
حدثنا الربيع قال ، قال الشافعي: لم أعلم مخالفاً في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء، هما الناتئان ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الكعبين، هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم ، تسميهما العرب المنجمين. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : هما عظما الساق في طرفها.
واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء، وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين ، نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين ، وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين . وقد ذكرنا ذلك ، ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "وإن كنتم جنبا"، وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها ، "فاطهروا"، يقول: فتطهروا بالاغتسال منها قبل دخولكم قي صلاتكم التي قمتم إليها.
ووحد الجنب وهو خبر عن الجميع ، لأنه اسم خرج مخرج الفعل ، كما قيل : رجل عدل وقوم عدل ، ورجل زور وقوم زور، وما أشبه ذلك ، لفظ الواحد والجميع والاثنين والذكر والأنثى فيه واحد.
يقال منه : أجنب الرجل و جنب و اجتنب، والفعل الجنابة، و الإجناب.
وقد سمع في جمعه أجناب، وليس ذلك بالمستفيض الفاشي في كلام العرب، بل الفصيح من كلامهم ما جاء به القرآن.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : إن كنتم جرحى أو مجدرين، وأنتم جنب. وقد بينا أن ذلك كذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: "أو على سفر"، فإنه يقول: وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب، "أو جاء أحد منكم من الغائط"، يقول: أو جاء أحدكم من الغائط وقد قضى حاجته فيه وهو مسافر. وإنما عني بذكر مجيئه منه ، قضاء حاجته فيه، "أو لامستم النساء"، يقول أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في اللمس، وبينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله: "أو لامستم النساء"، إن كان معنى اللمس الجماع ، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله: "وإن كنتم جنبا فاطهروا"؟
قيل: وجه تكرير ذلك ، أن المعنى الذي ألزمه تعالى ذكره من فرضه بقوله: "وإن كنتم جنبا فاطهروا"، غير المعنى الذي ألزمه بقوله : "أو لامستم النساء". وذلك أنه بين حكمه في قوله: "وإن كنتم جنبا فاطهروا"، إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهره، ففرض عليه الاغتسال به ، ثم بين حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيل وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا"، فإن لم تجدوا، أيها المؤمنون ، إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون ، أو على سفر أصحاء أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته ، أو جامع أهله في سفره! "ماء فتيمموا صعيدا طيبا"، يقول : فتعمدوا واقصدوا وجه الأرض، "طيبا"، يعني : طاهراً نظيفاً غير قذر ولا نجس، جائزاً لكم حلالاً، "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه"، يقول : فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما علق بأيديكم، "منه"، يعني : من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم ، من ترابه وغباره.
وقد بينا فيما مضى كيفية المسح بالوجوه والأيدي منه، واختلاف المختلفين في ذلك، والقول في معنى الصعيد و التيمم، ودللنا على الصحيح من القول في كل ذلك ، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج"، ما يريد الله ، بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم ، والغسل من جنابتكم ، والتيمم صعيداً طيباً عند عدمكم الماء، "ليجعل عليكم من حرج"، ليلزمكم في دينكم من ضيق ولا ليعنتكم فيه.
وبما قلنا في معنى الحرج قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن خالد بن دينار، عن أبي العالية، وعن أبي مكين، عن عكرمة في قوله: "من حرج"، قالا: من ضيق.
حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "من حرج"، من ضيق.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ولكن يريد ليطهركم"، ولكن الله يريد أن يطهركم، بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث ، والغسل من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظفوا وتطهروا بذلك أجسامكم من الذنوب، كما:
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد قال ، حدثنا قتادة، عن شهر بن حوشب، "عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الوضوء يكفر ما قبله ، ثم تصير الصلاة نافلة. قال قلت: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ، غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس".
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة، عن شهر ابن حوشب، عن أبي أمامة صدي بن عجلان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه.
حدثنا أبو كريب ومحمد بن المثنى ويحيى بن داود الواسطي قالوا، حدثنا إبراهيم بن يزيد بن مردانبه القرشي قال ، أخبرنا رقبة بن مصقلة العبدي، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة قال، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مرة قال، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه ، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه".
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد قال ، حدثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك ، "عن عمرو بن عبسة، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا غسل المؤمن كفيه انتثرت الخطايا من كفيه، وإذا تمضمض واستنشق خرجت خطاياه من فيه ومنخريه ، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه، فإذا مسح رأسه وأذنيه خرجت من رأسه وأذنيه ، فإذا غسل رجليه خرجت حتى تخرج من أظفار قدميه. فإذا انتهى إلى ذلك من وضوئه ، كان ذلك حظه منه. فإن قام فصلى ركعتين مقبلاً فيهما بوجهه وقلبه على ربه، كان من خطاياه كيوم ولدته أمه".
حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال أخبرني مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه ، عن أبي هريرة : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه ، خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخر قطرة من الماء، أو نحو هذا- وإذا غسل يديه ، خرجت من يديه كل خطيئة بطشت بها يداه مع الماء -أو مع آخر قطرة من الماء- حتى يخرج نقياً من الذنوب " .
حدثنا عمران بن بكار الكلاعي قال ، حدثنا علي بن عياش قال ، حدثنا أبو غسان قال: حدثنا زيد بن أسلم، عن حمران مولى عثمان قال ، أتيت عثمان بن عفان بوضوء وهو قاعد، فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كوضوئي هذا، ثم قال: من توضأ وضوئي هذا، كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وكانت خطاه إلى المساجد نافلة.
وقوله: "وليتم نعمته عليكم"، فإنه يقول: ويريد ربكم، مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة، بالماء إن وجدتموه ، وتيممكم إذا لم تجدوه ، أن يتم نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهوراً، رخصةً منه لكم في ذلك ، مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم ، أيها المؤمنون، "لعلكم تشكرون"، يقول: لكي تشكروا الله على نعمه التي أنعمها عليكم ، بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم.
فيه اثنتان وثلاثون مسئلة:
الأولى - ذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع وهي آية الوضوء قال ابن عطية: لكن من حيث كان الوضوء متقرراً عندهم مستعملاً فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم . وقد ذكرنا في الآية النساء خلاف هذا، والله أعلم ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع، وفيما ذكر من إتمام النعمة فإن هذه الرخصة من إتمام النعم .
الثانية- واختلف العلماء في المعنى المراد بقوله:" إذا قمتم إلى الصلاة " على أقوال، فقالت طائفة : هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وكان علي يفعله ويتلوا هذه الآية ذكره أبو محمد الدارمي وفي مسنده وروى مثله عن عكرمة وقال ابن سيرين: كان الخلفاء لكل صلاة .
قلت: فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها وقالت طائفة: الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم "قال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل .
إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء" إلا من حدث وقال عبد الله بن علقمة بن الفغواء عن أبيه وهو أن الصحابة وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك :
نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يعمل عملاً إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو للقيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال وقالت طائفة: المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلباً للفضل، وحملوا الأمر على الندب وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضئون لكل صلاة طلباً للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد ، إرادة البيان لأمته صلى الله عليه وسلم .
قلت: وظاهر هذه القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحباً لا إيجاباً وليس كذلك فإن الأمر إذا ورد مقتضاه الوجوب لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم على ما هو معروف من سيرتهم ، وقال آخرون: إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة وهذا غلط لحديث أنس قال :
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة" وأن أمته كانت على خلاف ذلك وسيأتي ولحديث سويد بن النعمان "أن النبي صلى الله عليه وسلم :صلى وهو بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد وذلك في غزوة خيبر"، وهي سنة ست وقيل: سنة سبع وفتح كما في سنة ثمان وهو حديث صحيح رواه ملك في موطئه وأخرجه البخاري ومسلم فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة فإن قيل: فقد روى مسلم "عن بريدة بن الحصيب :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه" فقال عمر رضي الله عنه : لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه فقال: عمداً صنعته يا عمر فلم سأله عمر واستفهمه ؟ قيل له : إنما سأله لمخالفته عادته صلاته بخيبر والله أعلم ، وروي الترمذي "عن أنس :
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهراً وغير طاهر، قال حميد : قلت لأنس : وكيف كنتم تصنعون أنت ؟ قال : كنا نتوضأ وضوءاً واحداً "قال : حديث حسن صحيح و"روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
الوضوء على الوضوء نور " فكن عليه السلام يتوضأ مجدداً لكل صلاة وقد "سلم عليه رجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد السلام وقال :
إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر " رواه الدارقطني وقال السدي وزيد بن أسلم معنى الآية : " إذا قمتم إلى الصلاة " يريد من المضاجع يعني النوم والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر ولاسيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا ؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير، التقدير: " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " من النوم " أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء" يعين الملامسة الصغرى فاغسلوا فتمت أحكام المحدث حدثاً أصغر ثم قال : " وإن كنتم جنبا فاطهروا " فهذا حكم نوع آخر ثم قال النوعين جميعاً "وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا" وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك - رحمه الله - وغيره وقال جمهور أهل العلم : معنى الآية قمتم إلى الصلاة محدثين وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير بل ترتب في الآية حكمم واجد الماء إلى قوله :" فاطهروا " ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ثم ذكر بعد قوله :" وإن كنتم جنبا فاطهروا " حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد أن يذكر الجنب العادم الماء كما ذكر الواجد وهذا تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري وغيرهم .
قلت: وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية والله أعلم ومعنى " إذا قمتم " إذا أردتم كما قال تعالى :" فإذا قرأت القرآن فاستعذ " [ النحل: 98] أي إذا أردت لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن .
الثالثة -قوله تعالى :" فاغسلوا وجوهكم " ذكر تعالى أربعة أعضاء : الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه السمح اتفاقاً واختلف في الرجلين على ما يأتي لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن، والله أعلم ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه وإمرار اليد عليه، وهذه حقيقة الغسل عندنا، وقد بيناه في النساء وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلك يقال : غسل وجهه ويده، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم فإذا حصل كفى والوجه في اللغة مأخوذ من الموجهة، وهو عضة مشتمل على أعضاء وله طول وعرض فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين ومن الأذن إلى الأذن في العرض وهذا في الأمرد، وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفاً أو كثيفاً فإن كان الأول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليها وإن كان كثيفاً فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس،كشعر الرأس، ثم ما زاد على الذقن من العشر واسترسل من اللحية فقال سحنون عن ابن القاسم: سمعت مالكاً سئل : هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء ؟ قال : نعم وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس وعاب ذلك على من فعله وذكر ابن القاسم أيضاً عن مالك قال : يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها ، قال : وهي مثل أصابع الرجلين، قال ابن عبد الحكم: تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل قال أبو عمر: .
"روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء" من وجوه كلها ضعيفة وذكر ابن خويز منداد: أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء إلا شيء روي عن سعيد بن جبير قوله : ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية، قال الطحاوي: التيمم واجب فيه مسح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جمعيهم فكذلك الوضوء قال أبو عمر من جعل غسل اللحية كلها واجباً جعلها وجهاً لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، والله قد أمر بغسل الوجه أمراً مطلقاً لم يخص صاحب لحية من أمرد فوجب غسلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة.
قلت: واختار هذا القول ابن العربي وقال : وبه أقول لما "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته" خرجه الترمذي وغيره فعين المحتمل بالفعل وحكي ابن المنذر عن إسحاق أن من ترك تخليل لحيته عامداً أعاد وروي الترمذي عن عثمان بن عفان "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته" قال : هذا حديث حسن صحيح قال أبو عمر ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشرة، فوجب غسل ما ظهر فوق البشرة، وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غسله فيكون غسل اللحية بدلاً منه واختلفوا أيضاً في غسل ما وراء العذار إلى الأذن فروى ابن وهب عن مالك قال : ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه، قال أبو عمر: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه: البياض بني العذار والأذن من الوجه، وغسله واجب، ونحو قال الشافعي وأحمد: وقيل: يغسل البياض استحباباً قال ابن العربي: والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله إلا للأمرد لا للمعذر.
قلت: وهو اختيار القاضي عبد الوهاب، وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا والله أعلم وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا ؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل إلا أن أحمد قال : يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة وقال عامة الفقهاء هما سنتان في الوضوء والغسل لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن والعرب لا تسمي وجهاً إلا ما وقعت به المواجهة، ثم إن الله لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما المسلمون ولا اتفق الجميع عليه والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه وقد مضى هذا المعنى في النساء وأما العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله، إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه وإنما سقط غسلهما للتأذي بذلك والحرج به قال ابن العربي: وذلك كان عبد الله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك وإذا تقرر من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر، وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله والله أعلم .
الرابعة - وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية ، "لقوله عليه السلام
إنما الأعمال بالنيات " قال البخاري : فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام وقال الله تعالى :" قل كل يعمل على شاكلته " [ الإسراء: 84] يعني على نيته و"قال النبي صلى الله عليه وسلم :
ولكن جهاد ونية " وقال كثير من الشافعية: لا حاجة إلى نية ، وهو قول الحنفية وقالوا: لا تجب النية إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سبباً لغيرها ، فأما ما كان شرطاً لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه والطهارة شرط فإن من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة كالحائض والنفساء واحتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى :" إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطاً في صحة الفعل، لأن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به، فإذا قلنا: إن النية لا تجب عليه لم تجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى ، ومعلوم أن الذي اغتسلوا تبرداً أو لغرض ما قصد أداء الواجب وصح في الحديث أن الوضوء يكفر فلو صح بغير نية لما كفر وقال تعالى :" وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " [ البينة :5]
الخامسة -قال ابن العربي قال بعض علمائنا: إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه وإن عزبت نيته في الطريق ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه : فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين، وأوردوا فيها نصاً عمن لا يفرق بين الطن واليقين بأنه قال: يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير، ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها، اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء وقد اختلف فيها قول مالك، فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها وهي أصل مقصود فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه هل هذا إلا غاية الغباوة ؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لما كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه:
السادسة - قوله تعالى :" وأيديكم إلى المرافق " واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد فقال قوم: نعم لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه، قاله سيبويه وغيره وقد مضى هذا في البقرة مبيناً وقيل: لا يدخل المرفقان في الغسل والروايتان مرويتان عن مالك الثانية لأشهب والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح لما رواه الدارقطني "عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم.
كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه" وقد قال بعضهم: إن إلى بمعنى مع كقولهم الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في النساء ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف، وكذلك الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ فالمرفق داخل تحت اسم اليد فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد، فما قال : إلى اقتطع من حد المرافق عن الغسل وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأصل لغة ومعنى قال ابن العربي: وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قال : إن قوله إلى المرافق حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما ولذلك تدخل المرافق في الغسل .
قلت: ولما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا "كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول:
تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " قال القاضي عياض والناس مجمعون على خالف هذا وألا يتعدى بالوضوء حدوده "لقوله عليه السلام:
فمن زاد فقد تعدى وظلم " وقال غيره: كان هذا الفعل مذهباً له ومما انفرد به ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من "قوله عليه السلام :
أنتم الغر المحجلون " ومن قوله : "تبلغ الحلية " كما ذكر .
السابعة - قوله تعالى :" وامسحوا برؤوسكم " تقدم في النساء أن المسح لفظ مشترك وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف و الفم وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه فإنه
سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال: أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الأذنين من الرأس وأن حكمهما حكم الرأس خلافاً للزهري حيث قال : هما من الوجه يغسلان معه، وخلافاً للشعبي حيث قال : ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس وهو قول الحسن وإسحاق وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي ، وسيأتي بيان حجتهما وإنما سمي الرأس رأساً لعلوه ونبات الشعر فيه ومنه رأس الجبل وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر:
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري
الثامنة - واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولاً ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي وستة أقوال لعلمائنا، الصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرنا وأجمع العلماء على أن من مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه، والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض والمعنى وامسحوا رؤوسكم وقيل: دخولها هنا كدخولها في التيمم في قوله :" فامسحوا بوجوهكم " فلو كان معناها التبعيض لأفادته في ذلك الموضع وهذا قاطع وقيل: إنما دخلت لتقيد معنى بديعاً وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به فلو قال: وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمراراً من غير شيء على الرأس، فدخلت الباء لتفيد ممسوحاً به وهو الماء فكأنه قال : وامسحوا برؤوسكم الماء، وذلك فصبح في اللغة على وجهين: إما على القلب كما أنشد سيبويه:
كنواح ريش حمامة بخدية ومسحت باللثين عصف الإثمد
واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب: وإما على الاشتراط فل الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر.
مثل القناقد هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء، وقال الشافعي: احتمل قول الله تعالى : " وامسحوا برؤوسكم " بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ وهو "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته"، وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عز وجل "فامسحوا بوجوهكم " في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه قيل له : مسح الوجه في التيمم بدل من غسله فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه ومسح الرأس أصل فهذا فرق ما نبيهما أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الأعذار وموضع الاستعجال والاختصار وحذف كثير من الفرائض لأجل المشتقات والأخطار، ثم هو لم يكتف بالناصية .
حتى مسح على العمامة، أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجباً لما مسح على العمامة والله أعلم .
التاسعة - وجمهور العلماء على أن مسحه واحدة موعبة كاملة تجزئ، وقال الشافعي: يسمح رأسه ثلاثاً وروي عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء وكان ابن سيرين يمسح مرتين قال أبو داود: وأحاديث .
عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً قالوا فيها: ومسح برأسه ولم يذكروا عدداً .
العاشرة - واختلفوا من أين يبدأ بسمح فقال مالك :
يبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب بيديه إلى مؤخرة ثم يردهما إلى مقدمه على حديث عبد الله بن زيد أخرجه مسلم ، وبه يقول الشافعي وابن حنبل وكان الحسن بن حي يقول : يبدأ بمؤخر الرأس على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء وهو حديث يختلف في ألفاظه وهو يدور على عبد الله بن محمد بن عقيل وليس بالحافظ عندهم أخرجه أبو داود بشر بن المفضل عن عبد الله عن الربيع ، ورو بن عجلان عنه عن الربيع .
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته ورويت هذه الصفة عن ابن عمر وأنه كان يبدأ من وسط رأسه وأصح ما في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس، وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك ومسح ابن عمر اليافوخ فقد والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا وعلى الأجزاء إن مسح بيد واحدة، واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس، فالمشهور أن ذلك يجزئ وهو قول سفيان الثوري قال سفيان : إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه وقيل : إن ذلك لا يجزئ لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا يختلف في الأجزاء قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع ، واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة -بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن- فالجمهور على أنه سنة وقيل : هو فرض .
الحادية عشرة - فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي: لا نعلم خلافاً أن ذك يجزئه إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس ابن القاص من أصحابهم قال : لا يجزئه وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من اتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمة الله في قوله :" يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا "[ الروم : 7] وقال تعالى :" أم بظاهر من القول " [ الرعد : 33] وإلا فقد جاء هذا الغاسل بما أمر وزيادة فإن قيل: هذه الزيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به قلنا: ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل وكذلك لو سمح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح .
الثانية عشرة -وأما الأذنان فهما من الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم ثم اختلفوا في تجديد الماء فقال مالك وأحمد: يستأنف لهما ماء جديداً سوى الماء الذي مسح به الرأس به على ما فعل ابن عمر وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء وقال : هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس، لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج، وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي وقال الثوري وأبو حنيفة: يمسحان مع الرأس بماء واحد وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة والتابعين وقال داود : إن سمح أذنيه فحسن وإلا فلا شيء عليه إذ ليستا مذكورتين في القرآن قيل له : اسم الرأس وتضمنهما كما بيناه وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظهرهما وباطنهما وأدخل أصابعه في صماخيه وإنما يدل عدم ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين، وثبتت سنة مسحهما بالسنة وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال : إن ترك مسح أذنيه لم يجزه وقال أحمد: إن تركهما عمداً أحببت أن يعيد وروي عن علي بن زياد من أصحاب مالك أنه قال : من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامداً أعاد وهذا عند الفقهاء ضعيف وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر ولو كان كذلك لم يعرف الفرض الواجب من غيره والله أعلم احتج من قال : هما من الوجه بما ثبتت "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده .
سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره "فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه، وفي مصنف أبي داود من حديث عثمان :
فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة ثم غسل رجليه ثم قال : أين السائلون عن الوضوء هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ احتج من قال : يغسل ظاهرهما مع الوجه وباطنهما يمسح مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس فما واجهك من الأذنين وجب غسله لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم، احتج من قال : هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث النصابجي :
"فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه" الحديث أخرجه مالك.
الثالثة عشرة - قوله تعالى :" وأرجلكم " قرأ نافع ابن عامر والكسائي وأرجلكم بالنصب وروي الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ وأرجلكم بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان وقرأ ابن كثير وأبو عمروا وحمزة وأرجلكم الخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون فمن قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم واللازم من قوله في غير ما حديث وقد رأى قوماً يتوضئون وأعاقبهم تلوح فنادى بأعلى صوته .
"ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء " ثم أن الله حدهما فقال : "إلى الكعبين " كما قال في اليدين " إلى المرافق " فدل على وجوب غسلهما والله أعلم ومن قرأن بالخفض جعل العامل الباء قال ابن العربي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما وما علمت من ورد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم وتعلق الطبري بقراءة الخفض .
قلت: قد روي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان وروى أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجكم فإنه ليس شي من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك انس بن مالك فقال : صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى :" وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم " قال: وكان إذا مسح رجليه بلهما وروى عن ابن أنس أيضاً أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة بمسح رجليه وقال : ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح وقال عامر الشعبي : نزل جبريل بالسمح ألا ترى أن التيمم يسمح فيه ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين وقال النحاس ومن أحسن ما قيل فيه : أن المسح والغسل واجبان جميعاً فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب والقراءتان بمنزلة آيتين، قال ابن عطية: وذهب قول ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل .
قلت :وهو الصحيح فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل قال الهروي : أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال : المسح في كلام العرب يكون غسلاً ويكن مسحاً ومنه يقال : للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه، قد تمسح ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون معنى الغسل فترجح قول من قال : إن المراد بقراءة الخفض الغسل، بقراءة النصب التي لا احتمال فيها وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين التقدير: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم فلما كان الرأس مفعولاً قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قرأ الحسن والحسين رحمة الله عليهما - على وأرجلكم فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال : " وأرجلكم " هذا من المقدم والمؤخر من الكلام وروي أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : اغسلوا الأقدام إلى الكعبين وكذا روى عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرأ وأرجلكم بالنصب وقد قيل : إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيداً لمسحهما لكن إذا عليهما خفان،وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل والحال التي تسمح فيه، وهذا حسن: فإن قيل: إن المسح على الخفين منسوخ بسورة المائدة وقد قاله ابن عباس ورد المسح أبو هريرة وعائشة وأنكره مالك في رواية عنه فالجواب أن من نفى شيئاً وأثبته غيره فلا حجة للنافي وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم وقد قال الحسن: حدثني سبعون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال : بال جرير ثم توضأ وسمح على خفيه ، قال جرير:
و"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه "قال إبراهيم النخعي كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزو المائدة وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن جريراً أسلم في ستة عشر من شهر رمضان وأن المائدة نزلت في ذي الحجة يوم عرفات ، وهذا حديث لا يثبت لوهاه، وإنما نزل منها يوم عرفة " اليوم أكملت لكم دينكم " على ما تقدم قال أحمد بن حنبل: أنا أستحسن حديث جرير في المسح على الخفين، لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح ، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقال :
سلة فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وأما مالك فما روي عنه من الإنكار فهو منكر لا يصح والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال: إني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصراً فيما يجب عليه وعلى هذا حمل أحمد ابن حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال : لا أمسح في حضر ولا سفر قال أحمد كما روى عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع وهو وتوضأ وقال حبب إلي الوضوء ونحوه عن أبي أيوب: وقال أحمد رضي الله عنه : فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبي أيوب ومالك لم أنكره عليه وصلينا خلفه ولم نعبه، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع فلا يصلى خلفه والله أعلم وقد قيل: إن قوله : وأرجلكم معطوف على اللفظ دون المعنى، وهذا أيضاً يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى:" يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس"[الرحمن : 35] بالجر لأن النحاس الدخان وقال : " بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ " [البروج : 21-22] بالجر قال : امرؤ القيس :
كبير أناس في بجاد مزمل
فخفض مزمل بالجوار وأن المزمل الرجل وإعرابه الرفع قال زهير :
لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر
قال أبو حاتم : كان الوجه القطر بالرفع ولكنه جره على جواز المور، كما قالت العرب: هذا حجر ضب خرب فجروه وإنما هو رفع، وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة ورد النحاس وقال: وهذا القول غلط عظيم لأن الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه وإنما هو غلط ونظيره الإقواء .
قلت: والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه وما ثبت من "قوله عليه الصلاة والسلام :
ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " فخوفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب معلوم وأن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسيح ، إذا مدخل لسمح بطونهما عندهم وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح، ودليل آخر من جهة الإجماع وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه واختلفوا فيمن مسح قديمه فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثاً حتى ينقيهما وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه فدق وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا، وأن العامل في قوله : وأرجلكم قوله : " فاغسلوا " والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول : أكلت الخبز، أي وشربت اللبن ومنه قول الشاعر:
علفتها تبناً وماء بارداً
وقال الآخر:
ورأيت زوجك في الوغى متلقداً سيفاً ورمحا
وقال الآخر:
وأطفلت بالجهلتين ظباؤها ونعامها
وقال الآخر :
شراب ألبان وتمر وإقط
التقدير : علفتها تبناً وسقيتها ماء ومتقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً وأطفلت بالجهلتين ظباؤها وفرخت نعامها والنعام لا يطفل إنما يفرخ وأطفلت كان لها أطفال والجلهتان جنبتا الوادي وشراب البان وآكل تمر فيكون قوله " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم " عطف بالغسل على المسح حملاً على المعنى والمراد الغسل والله أعلم .
الرابعة عشرة- قوله تعالى :" إلى الكعبين " روى البخاري: حدثين موسى قال أنبأنا وهبت عن عمرو -هو ابن يحيى - عن أبيه قال :
شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثاً ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً ثم أدخل يده فغسل يديه إلى المرافقين ثلاثًا ثم أدخل يده فسمح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، فهذا الحديث دليل على أن الباء في قوله " وامسحوا برؤوسكم " زائدة لقوله : فمسح رأسه لم يقل برأسه، وإن مسح الرأس مرة وقد جاء مبيناً في كتاب مسلم من حديث عبد الله بن زيد في تفسير قوله : فأقبل بها وأدبر وبدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان النائتان في جنبي الرجل وأنكر الأصمعي قول الناس : إن الكعب في ظهر القدم قاله في الصحاح ورو عن ابن القاسم، وبه قال محمد بن الحسن قال ابن عطية: ولا أعلم أحداً جعل حد الوضوء إلى هذا، ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام، وقال الشافعي رحمه الله : لم أعلم مخالفاً في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم .
قلت : هذا هو صحيح لغة وسنة فإن الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو منه سميت الكعبة وكعبت المرأة إذا فلك ثديها كعب الفتاة أنبوبها وأنبوب ما بين كل عقدتين كعب وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيهاً ومنه الحديث "والله لا يزال كعبك عالياً" وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير .
" والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم " قال: فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم ، ومنه الحديث : "ويل للعراقيب من النار " يعني إذا لم تغسل، كما قال : "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار "
الخامسة عشرة - قال ابن وهب عن مالك : ليس على أحد تخليل أصابع رجليه من الوضوء ولا في الغسل ولا خير في الجفاء والغلو قال ابن وهب: تخليل أصابع الرجلين مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين وقال ابن القاسم عن مالك: من لم يخلل أصابع رجليه فلا شيء عليه وقال محمد بن خال عن ابن القاسم عن مالك فيمن توضأ على نهر فحرك رجله إنه لا يجزئ حتى يغسلها بيديه قال ابن القاسم: وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأه .
قلت : الصحيح أنه لا يجزئه فيها إلا غسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرجل كما أن ما بين أصابع اليد من اليد، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين فإن الإنسان مأمور بغسل الرجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها وقد "روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجله بخنصره" مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه، وهذا يقتضي العموم وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدثه به ابن وهب عن ابن لهيعة والليث بن سعد عن يزيد ن عمرو الغفاري عن أبي عبد الرحمن الحلبي "عن المستورد بن شداد القرشي قال :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيخلل بخنصره ما بين أصابع رجليه" قال ابن وهب فقال لي مالك: إن هذا لحسن، وما سمعته قط إلا الساعة، قال ابن وهب: وسمعته سئل بعد ذلك عن تخليل الأصابع في الوضوء فأمر به وقد روى حذيفة "أن النبي صلى الله عله وسلم قال :
خلوا بين الأصابع لا تخللها النار " وهذا نص في الوعيد على ترك التخليل فثبت ما قلناه، والله الموفق .
السادسة عشرة- ألفاظ الآية تقتضي المولاة بين الأعضاء وهي إتباع المتوضئ الفعل الفعل إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه ، ولا فصل بفعل ليس منه، واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب: ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان فمن فرق بين أعضاء وضوئه متعمداً أو ناسياً لم يجزه. وقال ابن عبد الحكم: يجزئه ناسياً ومتعمداً وقال مالك في المدونة وكتاب محمد: إن المولاة ساقطه، وبه قال الشافعي . وقال مالك وابن القاسم: إن فرقه متعمداً لم يجزئه ويجزئه ناسياً وقال مالك في رواية ابن حبيب: يجزئه في المغسول ولا يجزئه في الممسوح فهذه خمسة أقوال ابتنيت على أصلين: الأول - أن الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقاً فوال أو فرق وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة والثاني - أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة وهذا أصح والله أعلم .
السابعة عشرة- وتتضمن ألفاظ الآية أيضاً الترتيب وقد اختلف فيه فقال الأبهري : الترتيب سنة وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي يجزئ واختلف في العامد فقيل يجزئ ويرتب في المستقبل وقال أبو بكر القاضي وغيره: لا يجزئ لأنه عابث وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه وبه يقول أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق وأبو ثور وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره في مختصره وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرا أن الواو لا توجب التعقيب ولا تعطي رتبة وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والمزني وداود بن علي، قال الكيا الطبري : ظاهر قوله تعالى :" فاغسلوا وجوهكم وأيديكم " يقتضي الإجزاء فرق أو جمع أو والي على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي وهو مذهب الأكثرين من العلماء قال أبو عمر: إلا أن مالكاً يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل من الصلاة ولا يرى ذلك واجباً عليه هذا تحصيل مذهبه قد روى علي بن زياد عن مالك قال : من غسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعية وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة قال علي ثم قال بعد ذلك لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستأنف وسبب الخلاف ما قال بعضهم: إن الفاء توجب التعقيب في قوله : فاغسلوا فإنها لما كانت جوباً للشرط ربطت المشروط به فاقتضت الترتيب في الجميع وأجيب بأنه إنما اقتضت البداءة في الوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه وإنما كانت تقتضي الترتيب في جميع لو كان جواب الشرط معنى واحداً فإذا كانت جملاً لكها جواباً لم تبال بأيها بدأت إذ المطلوب تحصيلها قيل: إن الترتيب إنما جاء من قبل الواو، وليس كذلك لأنك تقول : تقاتل زيد وعمرو وتخاصم بكر وخالد فدخلوها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب والصحيح أن يقال: إن الترتيب متلقى من وجوه أربعة : الأول أن يبدأ بما بدأ الله به كما "قال عليه الصلاة والسلام حين حج :
نبدأ بما بدأ اله به " الثاني من إجماع السلف فإنهم كانوا يرتبون الثالث - من تشبيه الوضوء بالصلاة الرابع- من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك احتج من أجاز ذلك بالإجماع على أن لا ترتيب في غسل أعضاء الجنابة فكذلك غسل أعضاء الوضوء لأن المعنى في ذلك الغسل لا التدبية، وروي عن علي أنه قال : ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت وعن عبد الله بن مسعود قال: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك قال الدارقطني هذا مرسل ولا يثبت : والأول وجوب الترتيب والله أعلم
الثامنة عشرة - إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم يتيمم عند أكثر العلماء ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء احتج الجمهور بقوله تعالى : " فلم تجدوا ماء فتيمموا " وهذا واجد: فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم .
التاسعة عشرة - وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة لأنه قال : " إذا قمتم إلى الصلاة " ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء فلو كانت إزالتها واجب لكانت أول مبدوء به وهو قول أصحاب أبو حنيفة وهي رواية أشهب عن مالك وقال وابن وهب عن مالك : إزالتها واجبة في الذكر والنسيان وهو قول الشافعي: وقال أبن القاسم : تجب إزالتها مع الذكر، وتسقط مع النسيان ، وقال أبو حنيفة : تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال - قياساً على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه والصحيح رواية ابن وهب "لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين :
إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير : أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله " ولا يعذب إلا على ترك الواجب، ولا حجة في ظاهر القرآن ، لأن الله سبحانه وتعالى إنما بين من آية الوضوء صفة الوضوء خاصة ولم يتعرض لإزالة النجاسة ولا غيرها .
الموفية عشرين - ودلت الآية أيضاً على المسح على الخفين كما بينا ولمالك في ذلك ثلاث روايات : الإنكار مطلقاً كما يقول الخوارج وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة قد تقدم الثانية يمسح في السفر دون الحضر لأن أكثر الأحاديث بالمسح إنما هي في السفر وحديث السباطة يدل على جواز المسح في الحضر أخرجه مسلم من حديث حذيفة قال :
فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى فأتى سباطة قوم خلف حائط فقام كما يقول أحدكم فبال فانتبذت منه فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبة حتى فرغ زاد في رواية- فتوضأ ومسح على خفيه، ومثله "حديث شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت:
عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة" وهي الرواية الثالثة - يمسح حضراً وسفراً وقد تقدم ذكرها .
الحادية والعشرون- ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت وهو قول الليث بن سعد قال ابن وهب سمعت مالكاً يقو : عنس عند أهل بلدنا في ذلك وقت وروى أبو داود "من حديث أبي بن عمارة أنه قال :
يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال نعم قال : يوماً ؟ قال : يوما قال : ويومين ؟ قال : ويومين قال: وثلاثة أيام ؟ قال : نعم وما شئت" في رواية "نعم وما بدا لك " قال أبو داود : وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي، وقال الشافعي وأحمد بن حنبل والنعمان والطبري: يسمح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام على حديث شريح وما كان مثله وروي عن مالك في رسالته إلى هارون أو بعض الخلفاء وأنكرها أصحابه .
الثانية العشرون- والمسح عند جمعيهم لمن لبس خفيه على وضوء "لحديث المغيرة بن الشعبة أنه قال :
كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير - الحديث -وفيه فأهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلهما طاهرتين " ومسح عليهما ورأى أصبغ أن هذه طهارة التيمم وهذا بناء منه على أن التيمم يرفع الحدث وشذ داود فقال : داود بالطهارة ههنا هي الطهارة من النجس فقط، فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين وسبب الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة .
الثالثة والعشرون - ويجوز عند مالك والمسح على الخف وإن كان فيه خرق يسير: قال ابن خويز منداد: معناه أن يكون الخرق لا يمنع من الانتفاع به ومن لبسه ، ويكون مثله يمشى فيه وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوري والشافعي والطبري وقد روي عن الثوري والطبري إجازة المسح على الخف المخرق جملة وقال الأوزاعي: يسمح على الخف وعلى ما ظهر من القدم وهو قول الطبري: وقال أبو حنيفة: إذا كان ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح ولا يمسح إذا ظهر ثلاث وهذا تحديد يحتاج إلى توقيف ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت لا تسلم من الخرق اليسير، وذلك متجاوز عند الجمهور منهم وروي عن الشافعي إذا الخرق في مقدم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه وقال الحسن بن حي: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب فإن ظهر شيء من القدم لم يمسح قال أبو عمر: هذا على مذهبه في المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وهي :
الرابعة والعشرون- لا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين وهو أحد قولي مالك وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين وفي كتاب أبي داود "عن المغيرة بن شعبة :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين" قال أبو داود: وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ولا بالمتصل قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وأبو مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، رضي الله عنهم أجمعين.
قلت: وأما المسح على النعلين فروى أبو محمد الدارمي في مسنده، حدثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن عبد خير قال :
رأيت علياً توضأ ومسح على النعلين فوسع قم قال : لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما قال : أبو محمد الدارمي رحمه الله : هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى :" وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ".
قلت : وقول علي رضي الله عنه - لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين، أخرجه أبو داود: عنه قال وكان الدين بالرأي لكان باطن الخلف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه . قال مالك والشافعي فيمن مسح ظهور خفيه دون بطونهما: إن ذلك يجزئه إلا أن مالكاً قال : من فعل ذلك أعاد من الوقت ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما لم يجزه وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده وكذلك قال جميع أصحاب مالك إلا شيء روي عن أشهب أنه قال: باطن الخفين وظاهرهما سواء ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يعد إلا في الوقت وروي عن الشافعي أنه قال يجزئه مسح بطونهما دون ظهورهما والمشهور من مذهب أنه من مسح بطونهما واقتصر عليهما لم يجزه وليس بماسح وقال أبو حنيفة والثوري: يمسح ظاهري الخفين دون باطنهما وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وجماعة والمختار عند مالك والشافعي وأصحابهما مسح الأعلى والأسفل ، وهو قول ابن عمر وابن شهاب لما رواه أبو داود والدراقطني "عن المغيرة بن شعبة قال :
وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله" قال أبو داود: روي أن ثوراً لم يسمع هذا الحديث من رجاء بن حيوة .
الخامسة والعشرون- واختلفوا فيمن نزع خفية وقد مسح عليهم على أقوال ثلاثة : الأول - يغسل رجليه مكانه وإن أخر استأنف الوضوء قاله مالك والليث، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وروي عن الأوزاعي والنخعي ولم يذكور مكانه الثاني - يستأنف الضوء قاله الحسن بن حي وروي عن الأوزاعي والنخعي الثالث - ليس عليه شيء ويصلي كما هو قاله ابن أبي ليلى والحسن البصري وهي رواية عن إبراهيم النخعي رضي الله عنهم .
السادسة والعشرون - قوله تعالى :" وإن كنتم جنبا فاطهروا" وقد مضى في النسب معنى الجنب واطهروا أمر بالاغتسال بالماء ولذلك رأى عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء وقال الجمهور من الناس : بل هذه العبارة هي لواجد الماء وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقول " أو لامستم النساء " والملامسة هنا الجماع، وقد صح عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم وحديث عمران بن حصين نص في ذلك وهو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم فقال:
يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتني جنابة ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك " أخرجه البخاري.
السابعة والعشرون- قوله تعالى :" وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط " تقدم في النساء مستوفى، ونزيد هنا مسألة أصولية أغفلناها هنا وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة فإن الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في النساء فهو عام غير أن جل علمائنا خصصوا ذك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدود، أو خرج المعتاد على وجه السلس والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضاً وإنما صاروا إلى اللفظ، لأن اللفظ مهما تقرر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الإطلاق ، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيداً عن الذهن، فصار غير مدلول له ، وصار الحال فيه كاحل في الدابة، فإنها إذا أطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الأربع، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهراً والمخالف يقول: لا يلزم من سبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد فإن تناول اللفظ لهما واحد وضعاً وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصداً والأصول أصح وتتمته في كتب الأصول .
الثامنة والعشرون -قوله تعالى :" أو لامستم النساء " روى عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: القبلة من اللمس، وكل ما دون الجماع لمس، وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال: لأنه قد ذكر في أول الآية ما يجب على ما جامع في قوله : " وإن كنتم جنبا فاطهروا " وقال عبد الله بن عباس: اللمس والمس والغشيان الجماع ولكنه عز وجل يكني وقال مجاهد في قوله عز وجل : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " [الفرقان: 72] قال : إذا ذكروا النكاح كنوا عنه وقد مضى في النساء القول في هذا الباب مستوفى والحمد لله .
التاسعة والعشرون - قوله تعالى :" فلم تجدوا ماء " قد تقدم في النساء أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط، وهو الذي يقال فيه: إنه إن لم يجد ماء ولا تراباً وخشي خروج الوقت ، اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال: الأول قال ابن خويز منداد: الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يصلي ولا شيء عليه، قال : ورواه المدنيون عن مالك قال : وهو الصحيح من المذهب وقال ابن القاسم: يصلي ويعيد وهو قول الشافعي وقال أشهب : يصلي ولا يعيد وقال أصبغ : لا يصلي ولا يقضي وبه قال أبو حنيفة: قال أبو عمر بن عبد البر: ما أعرف كيف أقدم ابن خويز منداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك قوله : وليسوا على ماء -الحديث - ولم يذكر أنه صلوا وهذا لا حجة فيه وقد ذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء قال أبو ثور: وهو القياس.
قلت: وقد احتج المزني فيما ذكره الكيا الطبري بما ذكر في قصة القلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروا بذلك ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم والتيمم متى لم يكن مشروعاً فقد صلوا بلا طهارة أصلا ومنه قال المزني: ولا إعادة وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقاً عند تعذر الوصول إليها وقال أبو عمر: ولا ينبغي حمله على المغمى عليه، لأن عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله . وقال ابن القاسم وسائر العلماء : الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله فإذا زال المانع له توضأ أو تميم وصلى وعن الشافعي روايتان: المشهور عنه يصلي كما هو ويعيد قال المزني: إذا كان محبوساً لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوري والطبري: وقال زفر بن الهذيل: المحبوس في الحضر لا يصلي وإن وجد تراباً نظيفاً وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدم وقال أبو عمر: من قال يصلي كما هو ويعبد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصلاة بغير طهور،وقالوا: و"قوله عليه السلام :
لا يقبل الله صلاة بغير طهور " لمن قدر على طهور فأما من لم يقدر فليس كذلك لأن الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلي كما قدر في الوقت ثم يعيد فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعاً وذهب الذين قالوا لا يصلي لظاهر هذا الحديث وهو قول مالك وابن نافع وأصبغ قالوا: من عدم الماء والصعيد لم يصل ولم يقض إن خرج وقت الصلاة لأن عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شيء في الذمة فلا يقضي قاله غير أبي عمر وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب .
الموفية ثلاثين - قوله تعالى :" فتيمموا صعيدا طيبا" قد مضى في النساء اختلافهم في الصعيد وحديث عمران بن حصين نص على ما يقوله مالك إذ لو كان بالصعيد أحاله على وجه الأرض والله أعلم " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " تقدم في النساء كالكلام فيه فتأمله هناك .
الحادية والثلاثون- وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب: "قال صلى الله عليه وسلم :
الطهور شطر الإيمان " أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: وقد تقدم في البقرة الكلام فيه قال ابن العربي: والوضوء أصل في الدين وطهارة المسلمين وخصوصاً لهذه الأمة في العالمين وقد "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال :
هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم" و ذلك لا يصح قال غيره، ليس هذا بمعارض "لقوله عليه السلام :
لكم سيماً ليست لغيركم " فإنهم كانوا يتوضئون وإنما الذي خص به هذه الأمة الغرة والتحجيل لا بالوضوء، وهما تفضل من الله تعالى اختص بهما هذه الأمة شرفاً لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الأمم كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء والله أعلم ، قال أبو عمر: وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضئون فيكتسبون بذلك العزة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم كما جاء "عن موسى عليه السلام قال : يا رب أجد أمة كلهم كالأنبياء فاجعلها أمتي فقال له : تلك أمة محمد " في حديث فيه طول: وقد روى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلاً يحدث أنه رأى رؤيا في المنام أن الناس قد جمعوا للحساب، ثم دعي الأنبياء مع كل نبي أمته وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما ولمن اتبعه من أمته نوراً واحداً يمشي به حتى دعي بمحمد فإذا شعر رأسه ووجهه نور كله يراه كل من نظر إليه وإذا لمن اتبعه من أمته نوران كنور الأنبياء فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا: من حدثك بهذا الحديث وما علمك به فأخبره أنها رؤيا: فأنشده كعب الله الذي لا لإله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك فقال : نعم والله لقد رأيت ذلك فقال كعب : والذي نفسي بيده أو قال والذي بعث محمداً بالحق إن هذه لصفة أحمد وأمته وصفة الأنبياء في كتاب الله لكأن ما تقوله من التوراة أسنده في كتاب التمهيد قال أبو عمر: وقد قيل أن سائر الأمم كانوا يتوضئون والله أعلم ، وهذا لا أعرفه من وجه صحيح وخرج مسلم "عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب" حديث مالك عن عبد الله الصنابحي أكمل والصواب أبو عبد الله لا عبد الله وهو مما وهم فيه مالك واسمه عبد الرحمن بن عسيلة تابعي شامي كبير لإدراكه أول خلافة أبي بكر قال أبو عبد الله الصنابحي قدمت مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجحفة إذا براكب قلنا له ما الخبر؟ قال : دفنا رسول الله صلى لله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام ، وهذه الأحاديث وما كان في معناه من حديث عمرو بن عبسة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعاً عبادة لدحض الآثام ، وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى .
الثانية والثلاثون - قوله تعالى :" ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " أي من ضيق في الدين دليله قوله تعالى :" ما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج : 78] ومن صلة أي ليجعل عليكم حرجاً " ولكن يريد ليطهركم " أي من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هريرة والصنابحي وقيل: من الحدث والجنابة . وقيل : لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة وقرأ سعيد بن المسيب ليطهركم والمعنى واحد كما يقال: نجاه وأنجاه " وليتم نعمته عليكم " أي بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر وقيل: بتبيان الشرائع، وقيل: بغفران الذنوب، وفي الخبر :
"تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار " " لعلكم تشكرون " أي لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته .
قال كثيرون من السلف في قوله: "إذا قمتم إلى الصلاة": يعني وأنتم محدثون، وقال آخرون: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، وكلاهما قريب. وقال آخرون: بل المعنى أعم من ذلك، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولكن هو في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب، وقد قيل: إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجباً في ابتداء الإسلام، ثم نسخ، وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله . قال "إني عمداً فعلته يا عمر"، وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد، ووقع في سنن ابن ماجه عن سفيان، عن محارب بن دثار بدل علقمة بن مرثد، كلاهما عن سليمان بن بريدة به، وقال الترمذي: حسن صحيح .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عباد بن موسى، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي، حدثنا الفضل بن المبشر قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدث، توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين، فقلت: أبا عبد الله, أشيء تصنعه برأيك ؟ قال: بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه، وكذا رواه ابن ماجه عن إسماعيل بن توبة، عن زياد البكائي به . وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، عمن هو ؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل، حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث، فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك كان يفعله حتى مات، وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عوف الحمصي عن أحمد بن خالد الذهبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، ثم قال أبو داود: ورواه إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق، فقال عبيد الله بن عمر: يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد، وأيا ما كان، فهو إسناد صحيح، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان، فزال محذور التدليس، لكن قال الحافظ ابن عساكر: رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن محمد بن يحيى بن حبان به، والله أعلم، وفي فعل ابن عمر هذا ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك، كما هو مذهب الجمهور .
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا أزهر عن ابن عون، عن ابن سيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت مسعود بن علي الشيباني، سمعت عكرمة يقول: كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" الآية، وحدثنا ابن المثنى، حدثني وهب بن جرير، أخبرنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: رأيت علياً صلى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مسح برأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم: أن علياً اكتال من حب، فتوضأ وضوءاً فيه تجوز، فقال: هذا وضوء من لم يحدث، وهذه طرق جيدة عن علي يقوي بعضها بعضاً .
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا ابن يسار، حدثنا ابن أبي عدي عن حميد، عن أنس، قال: توضأ عمر بن الخطاب وضوءاً فيه تجوز خفيفاً، فقال: هذا وضوء من لم يحدث، وهذا إسناد صحيح . وقال محمد بن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة، وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء، فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد، وأما مشروعيته استحباباً فقد دلت السنة على ذلك . وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر الأنصاري، سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد مالم نحدث، وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عمرو بن عامر به، وقال ابن جرير: حدثنا أبو سعيد البغدادي، حدثنا إسحاق بن منصور عن هزيم، عن عبد الرحمن بن زياد، هو الأفريقي، عن عطيف، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ على طهر، كتب له عشر حسنات" ورواه أيضاً من حديث عيسى بن يونس عن الأفريقي، عن أبي عطيف, عن ابن عمر، فذكره، وفيه قصة . وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من حديث الأفريقي به نحوه . وقال الترمذي: وهو إسناد ضعيف .
وقال ابن جرير: وقد قال قوم: إن هذه الآية نزلت إعلاماً من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال، وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ . حدثنا أبو كريب، حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه ولا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى نزلت آية الرخصة "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" الآية، ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم عن أبي كريب به نحوه، وهو حديث غريب جداً، وجابر هذا هو ابن زيد الجعفي ضعفوه .
وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء ؟ فقال "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع، والنسائي عن زياد بن أيوب عن إسماعيل وهو ابن علية به . وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله ألا تتوضأ ؟ فقال "لم أصل فأتوضأ" .
وقوله "فاغسلوا وجوهكم" قد استدل طائفة من العلماء بقوله تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" على وجوب النية في الوضوء، لأن تقدير الكلام "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" لها كما تقول العرب: إذا رأيت الأمير فقم، أي له . وقد ثبت في الصحيحين حديث "الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء مانوى"، ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه، لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء ويتأكد ذلك عند القيام من النوم، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس، ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم إلى منتهى اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً وفي النزعتين والتحذيف خلاف: هل هما من الرأس أو الوجه ؟ وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض، قولان (أحدهما) أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة .
وروى في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً مغطياً لحيته فقال "اكشفها فإن اللحية من الوجه" وقال مجاهد: هي من الوجه، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام: إذا نبتت لحيته طلع وجهه، ويستحب للمتوضىء أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل عن عامر بن حمزة، عن شقيق قال: رأيت عثمان يتوضأ، فذكر الحديث، قال: وخلل اللحية ثلاثاً حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت، رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرزاق، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البخاري .
وقال أبو داود: حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا أبو المليح، حدثنا الوليد بن زوران، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته، وقال "هكذا أمرني به ربي عز وجل" تفرد به أبو داود، وقد روي هذا الوجه من غير وجه عن أنس، قال البيهقي: وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة وأم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن علي وغيره، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي، ثم عن النخعي وجماعة من التابعين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق، فاختلف الأئمة في ذلك هل هما واجبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله، أو مستحبان فيهما كما هو مذهب الشافعي ومالك، لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه ابن خزيمة عن رفاعة بن رافع الزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للمسيء صلاته "توضأ كما أمرك الله"، أو يجبان في الغسل دون الوضوء كما هو مذهب أبي حنيفة، أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من توضأ فليستنشق"، وفي رواية "إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر" والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا، يعني أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح رأسه، ثم أخذ غرفة من ماء ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يتوضأ . ورواه البخاري عن محمد بن عبد الرحيم عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي به .
وقوله "وأيديكم إلى المرافق" أي مع المرافق كما قال تعالى "ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً" وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جده، عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، ولكن القاسم هذا متروك الحديث، وجده ضعيف، والله أعلم .
ويستحب للمتوضىء أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاري ومسلم من حديث نعيم المجمر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" وفي صحيح مسلم عن قتادة عن خلف بن خليفة، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". وقوله تعالى " وامسحوا برؤوسكم " اختلفوا في هذه الباء: هل هي للإلصاق ؟ وهو الأظهر، أو للتبعيض ؟ وفيه نظر، على قولين . ومن الأصوليين من قال: هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه . وفي حديث عبد خير عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن .
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، وهو مقدار الناصية، وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ولا يقدر ذلك بحد، بل لو مسح بعض شعرة من رأسه أجزأه، واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: هل معك ماء ؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه، فغسل ذراعيه ومسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى خفيه، وذكر باقي الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره، فقال لهم أصحاب الإمام أحمد: إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة، ونحن نقول بذلك وأنه يقع عن الموقع، كما وردت بذلك أحاديث كثيرة وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين، فهذا أولى، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة، والله أعلم .
ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثاً، كما هو المشهور من مذهب الشافعي، أو يستحب مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه على قولين، فقال عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن حمران بن أبان، قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثاً، فغسلهما ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم غسل اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا. وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن عثمان في صفة الوضوء: ومسح برأسه مرة واحدة، وكذا من رواية عبد خير عن علي مثله . واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً .
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا عبد الرحمن بن وردان، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني حمران قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ فذكر نحوه، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، قال فيه: ثم مسح رأسه ثلاثاً، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا، وقال "من توضأ هكذا كفاه" تفرد به أبو داود. ثم قال: وأحاديث عثمان في الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة .
قوله "وأرجلكم إلى الكعبين" قرىء وأرجلكم بالنصب عطفاً على فاغسلوا وجوهكم وأيديكم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وهيب عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأها وأرجلكم، يقول: رجعت إلى الغسل، وروي عن عبد الله بن مسعود وعروة وعطاء وعكرمة والحسن ومجاهد وإبراهيم والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان والزهري وإبراهيم التيمي نحو ذلك، وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل، كما قاله السلف، ومن ههنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما هو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب، بل لو غسل قدميه، ثم مسح رأسه، وغسل يديه، ثم وجهه، أجزأه ذلك، لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء، والواو لا تدل على الترتيب، وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقاً، فمنهم من قال: الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة، لأنه مأمور به بفاء التعقيب وهي مقتضية للترتيب، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولاً، ثم لا يجب الترتيب بعده، بل القائل اثنان: أحدهما بوجوب الترتيب كما هو واقع في الآية، والآخر يقول: لا يجب الترتيب مطلقاً، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء، فوجب الترتيب فيما بعده بالإجماع حيث لا فارق .
ومنهم من قال: لا نسلم أن الواو لا تدل على الترتيب بل هي دالة كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء، ثم نقول بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي هي دالة على الترتيب شرعاً فيما من شأنه أن يرتب، والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"، ثم قال "أبدأ بما بدأ الله به" لفظ مسلم، ولفظ النسائي "ابدؤوا بما بدأ الله به" وهذا لفظ أمر، وإسناده صحيح، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به ، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعاً، والله أعلم .
ومنهم من قال لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب، فقطع النظير عن النظير، وأدخل الممسوح بين المغسولين، دل ذلك على إرادة الترتيب، ومنهم من قال: لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ثم قال "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" قالوا: فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتباً فيجب الترتيب، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب، ولا قائل به، فوجب ما ذكرناه .
وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ: وأرجلكم بالخفض، فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين، لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس . وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح فقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا حميد قال: قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وإنه ليس شيء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وطهورهما وعراقيبهما، فقال أنس: صدق الله، وكذب الحجاج، قال الله تعالى: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم" قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما، إسناد صحيح إليه، وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا مؤمل، حدثنا حماد، حدثنا عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل، وهذا أيضاً إسناد صحيح . وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا محمد بن قيس الخراساني عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو معمر المنقري، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" قال: هو المسح، ثم قال: وروي عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن علي والحسن في إحدى الروايات، وجابر بن زيد ومجاهد في إحدى الروايات، نحوه .
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه، قال: وكان يقوله. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح، ثم قال الشعبي: ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً . وحدثنا ابن أبي زياد، أخبرنا إسماعيل قلت لعامر: إن ناساً يقولون: إن جبريل نزل بغسل الرجلين ؟ فقال: نزل جبريل بالمسح، فهذه آثار غريبة جداً، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين، وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام كما في قول العرب: حجر ضب خرب، وكقوله تعالى: "عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق" وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ .
ومنهم من قال: هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان، قاله أبو عبد الله الشافعي رحمه الله. ومنهم من قال، هي دالة على مسح الرجلين، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنة، وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضاً لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها، ومن أحسن ما يستدل على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال: أخبرنا أبو علي الروزبادي، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حمويه العسكري، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة، سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتى بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته وهو قائم، ثم قال: إن ناساً يكرهون الشرب قائماً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وقال "هذا وضوء من لم يحدث"، رواه البخاري في الصحيح عن آدم ببعض معناه . ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل وأضل، وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضاً، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث، وأوجب مسحهما للآية، فلم يحقق مذهبه في ذلك، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء، لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما، فحكاه من حكاه كذلك، ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور، فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل، سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه، وإنما أراد الرجل ما ذكرته، والله أعلم، ثم تأملت كلامه أيضاً فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله "وأرجلكم" خفضاً على المسح وهو الدلك، ونصباً على الغسل، فأوجبهما أخذاً بالجمع بين هذه وهذه .
ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه
قد تقدم حديث أمير المؤمنين عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معديكرب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة، وإما مرتين أو ثلاثاً، على اختلاف رواياتهم، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه، ثم قال "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" .
وفي الصحيحين من رواية أبي عوانة عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته "أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار" وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة . وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار" وروى الليث بن سعد عن حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم عن عبد الله بن الحارث بن حرز أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار" رواه البيهقي والحاكم، وهذا إسناد صحيح . وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق أنه سمع سعيد بن أبي كرب أو شعيب بن أبي كرب قال: سمعت جابر بن عبد الله وهو على جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ويل للعراقيب من النار" وحدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله، فقال "ويل للأعقاب من النار" ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد به نحوه .
وكذا رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد، عن أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . ثم قال: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا حفص عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضؤون لم يصب أعقابهم الماء، فقال "ويل للعراقيب من النار" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا أيوب بن عقبة عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويل للأعقاب من النار" تفرد به أحمد .
وقال ابن جرير: حدثني علي بن عبد الأعلى، حدثنا المحاربي عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويل للأعقاب من النار" . قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه، ينظر إليهما. وحدثنا أبو كريب، حدثنا حسين عن زائدة عن ليث، حدثني عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة أو عن أخي أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قوماً يصلون، وفي عقب أحدهم أو كعب أحدهم، مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر لم يمسه الماء، فقال "ويل للأعقاب من النار". قال: فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئاً لم يصبه الماء، أعاد وضوءه .
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة، وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف، وهكذا وجه هذه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى، وقد روى مسلم في صحيحه من طريق أبي الزبير عن جابر، عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم وقال "ارجع فأحسن وضوءك". وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثنا جرير بن حازم أنه سمع قتادة بن دعامة، قال: حدثنا أنس بن مالك أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ارجع فأحسن وضوءك" وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف وابن ماجه عن حرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب به. وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، لكن قال أبو داود: ليس هذا الحديث بمعروف، لم يروه إلا ابن وهب. وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا يونس وحميد عن الحسن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى حديث قتادة .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثني يحيى بن سعد عن خالد بن معدان، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء. ورواه أبو داود من حديث بقية، وزاد: والصلاة . وهذا إسناد جيد قوي صحيح، والله أعلم .
وفي حديث حمران عن عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل بين أصابعه . وروى أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. فقال "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال: قال أبو أمامة: حدثنا عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء، قال "مامنكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرجت خطاياه من فمه وخياشيمه، مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرجت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" .
قال أبو أمامة: يا عمرو، انظر ما تقول، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ فقال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة، لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً، لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك، وهذا إسناد صحيح .
وهو في صحيح مسلم من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله، فدل على أن القرآن يأمر بالغسل . وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم، ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين، فدلكهما، إنما أراد غسلاً خفيفاً، وهما في النعلين، ولا مانع من إيجاد الغسل والرجل في نعلها، ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين .
وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير على نفسه، وهو من روايته عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم، فبال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه، وهو حديث صحيح وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: فبال قائماً ثم توضأ ومسح على خفيه، قلت: ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان، وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى عن شعبة، حدثني يعلى عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام إلى الصلاة. وقد رواه أبو داود عن مسدد وعباد بن موسى، كلاهما عن هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم، فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه .
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم، ثم قال: وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث، إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية ومتعارضة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه، ولما كان القرآن آمراً بغسل الرجلين كما في قراءة النصب، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليه، توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب، ولكن لم يصح إسناده، ثم الثابت عنه خلافه، وليس كما زعموه، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله بن علاثة عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: أنا أسلمت بعد نزول المائدة، وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت، تفرد به أحمد . وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا ؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه، قال الأعمش: قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، لفظ مسلم. وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولاً منه وفعلاً، كما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير مع ما يحتاج إلى ذكره هناك من تأقيت المسح أو عدمه، أو التفصيل فيه، كما هو مبسوط في موضعه .
وقد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند بل بجهل وضلال، مع أنه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها، وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت هذه الآية الكريمة، وهم مخالفون لذلك كله وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر، ولله الحمد، وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين فعندهم أنهما في ظهر القدم فعندهم في كل رجل كعب، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. قال الربيع: قال الشافعي: لم أعلم مخالفاً في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم، هذا لفظه، فعند الأئمة رحمهم الله: في كل قدم كعبان، كما هو المعروف عند الناس، وكما دلت عليه السنة، ففي الصحيحين من طريق حمران عن عثمان أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين، واليسرى مثل ذلك .
وروى البخاري تعليقاً مجزوماً به وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه من رواية أبي القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي، عن النعمان بن بشير قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال "أقيموا صفوفكم ـ ثلاثا ـ والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم" قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، ومنكبه بمنكبه، لفظ ابن خزيمة، فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه، إلا والمراد به العظم الناتىء في الساق حتى يحاذي كعب الآخر، فدل ذلك على ما ذكرناه من أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن موسى، أخبرنا شريك عن يحيى بن الحارث التيمي يعني الخابر، قال: نظرت في قتلى أصحاب زيد، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه .وقوله تعالى: "وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" كل ذلك قد تقدم الكلام عليه في تفسير آية النساء, فلا حاجة بنا إلى إعادته لئلا يطول الكلام, وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك, لكن البخاري روى ههنا حديثاً خاصاً بهذه الآية الكريمة فقال: حدثنا يحيى بن سليمان, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه, عن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة, فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل, فثنى رأسه في حجري راقداً, فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست الناس في قلادة, فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني, وقد أوجعني, ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ, وحضرت الصبح, فالتمس الماء فلم يوجد, فنزلت "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" إلى آخر الآية, فقال أسيد بن الحضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم .
وقوله تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" أي فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر, بل أباح التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم, ورحمة بكم وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه كما تقدم بيانه, وكما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير, وقوله تعالى: "ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون" أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة, وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة, كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل, فجاءت نوبتي فروحتها بعشي, فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس, فأدركت من قوله "ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه, ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه, إلا وجبت له الجنة" قال: قلت: ما أجود هذا, فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود منها, فنظرت فإذا عمر رضي الله عنه فقال: إني قد رأيتك جئت آنفاً قال" ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء, يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله, إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية, يدخل من أيها شاء" لفظ مسلم .
وقال مالك عن نهشل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه, خرج من وجهه, كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء, فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء, فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء, حتى يخرج نقياً من الذنوب" رواه مسلم عن أبي الطاهر, عن ابن وهب, عن مالك به, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان, عن منصور, عن سالم بن أبي الجعد, عن كعب بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه, إلا خرجت خطاياه منهما, فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه, فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه, فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه" هذا لفظه . وقد رواه الإمام أحمد عن محمد بن جعفر , عن شعبة عن منصور, عن سالم, عن مرة بن كعب أو كعب بن مرة السلمي, . عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "وإذا توضأ العبد فغسل يديه خرجت خطاياه من بين يديه, وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه, وإذا غسل ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه, وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه" قال شعبة: ولم يذكر مسح الرأس , وهذا إسناد صحيح ,
وروى ابن جرير من طريق شمر بن عطية عن شهر بن حوشب, عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة, خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه" وروى مسلم في صحيحه من حديث يحيى بن أبي كثير, عن زيد بن سلام, عن جده ممطور, عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الطهور شطر الإيمان, والحمد لله تملأ الميزان, وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض, والصوم جنة, والصبر ضياء, والصدقة برهان, والقرآن حجة لك أو عليك, كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها". وفي صحيح مسلم من رواية سماك بن حرب عن مصعب بن سعد, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقبل الله صدقة من غلول, ولا صلاة بغير طهور". وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن قتادة, سمعت أبا المليح الهذلي يحدث عن أبيه, قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فسمعته يقول "إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور, ولا صدقة من غلول" وكذا رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة .
قوله: 6- "إذا قمتم" إذا أردتم القيام تعبيراً بالمسبب عن السبب كما في قوله: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله".
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة، فقالت طائفة: هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً، فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وهو مروي عن علي وعكرمة. وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة. وقالت طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف، فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم. وقالت طائفة: الأمر للندب طلبا للفضل. وقال آخرون: إن الوضوء لكل صلاة كان فرضاً عليهم بهذه الآية، ثم نسخ في فتح مكة. وقال جماعة: هذ الأمر خاص بمن كان محدثاً. وقال آخرون: المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، فيعم الخطاب كل قائم من نوم. وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن بريدة قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال: عمداً فعلته يا عمر"، وهو مروي من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى. وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث، فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق. قوله: "فاغسلوا وجوهكم" الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء، وله طول وعرض، فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، وفي العرض من الأذن إلى الأذن، وقد ورد الدليل بتخليل اللحية. واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه. وقد اختلف أهل العلم أيضاً: هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء، والخلاف في ذلك معروف، والمرجع اللغة العربية فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبراً وإلا فلا. قال في شمس العلوم: غسل الشيء غسلاً إذا أجرى عليه الماء ودلكه انتهى. وأما المضمضة والاستنشاق، فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلها بالسنة الصحيحة، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف. وقد أوضحنا ما هو الحق في مؤلفاتنا. قوله: "وأيديكم إلى المرافق" إلى للغاية، وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف. وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا، وقيل إنها هنا بمعنى مع. وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقاً، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل. وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جده عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، ولكن القاسم هذا متروك وجده ضعيف. قوله: "وامسحوا برؤوسكم" قيل: الباء زائدة، والمعنى: امسحوا رؤوسكم، وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس وقيل هي للتبعيض، وذلك يقتضي أنه يجزئ مسح بعضه. واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم: "فامسحوا بوجوهكم" ولا يجزئ مسح بعض الوجه اتفاقاً، وقيل إنها للإلصاق: أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم، وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا، فكان هذا دليلاً على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة، ولا شك أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلاً بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو اضرب زيداً أو اطعنه أو ارجمه، فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن أو الرجم على عضو من أعضائه ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها إنه لا يكون ضارباً إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال، فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس. فإن قلت: يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين. قلت: ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس، فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض. قوله: "وأرجلكم إلى الكعبين" قرأ نافع بنصب الأرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر. وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين، لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هنا ذهب جمهور العلماء. وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين لأنها معطوفة على الرأس وإليه ذهب ابن جرير الطبري وهو مروي عن ابن عباس. قال ابن العربي: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الجر، قال القرطبي: قد روي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، قال: وكان عكرمة يمسح رجليه، وقال: ليس في الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح. قال: وقال قتادة: افترض الله مسحتين وغسلتين. قال: وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين، وقواه النحاس ولكنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط، وثبت عنه أنه قال: "ويل للأعقاب من النار" وهو في الصحيحين وغيرهما فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزئ مسحهما، لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطي ما أخطأ، فلو كان مجزئاً لما قال: "ويل للأعقاب من النار". وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلاً توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له "ارجع فأحسن وضوءك". وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة. وقوله: "إلى الكعبين" الكلام فيه كالكلام في قوله: "إلى المرافق" وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب إنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلا مرفق واحد ثنيت الكعاب تنبيهاً على أن لكل رجل كعبين، بخلاف المرافق فإنها جمعت لأنه لما كان في كل يد مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره، ذكر معنى هذا ابن عطية. وقال الكواشي: ثني الكعبين وجمع المرافق لنفي توهم أن في كل واحدة من الرجلين كعبين، وإنما في كل واحدة كعب واحد له طرفان من جانبي الرجل، بخلاف المرفق فهي أبعد عن الوهم انتهى.
وبقي من فرائض الوضوء النية والتسمية ولم يذكرا في هذه الآية، بل وردت بهما السنة، وقيل: إن في هذه الآية ما يدل على النية، لأنه لما قال: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" كان تقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم لها، وذلك هو النية المعتبرة. قوله: "وإن كنتم جنباً فاطهروا" أي فاغتسلوا بالماء. وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية، وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء، وهذه الآية هي للواجد، على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه، وهو التراب. وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء. وقد تقدم تفسير الجنب في النساء. قوله: "وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط" قد تقدم تفسير هذا في سورة النساء مستوفى، وكذلك تقدم الكلام على ملامسة النساء وعلى التيمم وعلى الصعيد، ومن في قوله: "منه" لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض. قيل: ووجه تكرير هذا هنا لاستيفاء الكلام في أنواع الطهارة "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء أو بالتراب التضييق عليكم في الدين، ومنه قوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" ثم قال: "ولكن يريد ليطهركم" من الذنوب، وقيل من الحدث الأصغر والأكبر "وليتم نعمته عليكم" أي بالترخيص لكم في التيمم عند عدم الماء أو بما شرعه لكم من الشرائع التي عرضكم بها للثواب "لعلكم تشكرون" نعمته عليكم فتستحقون بالشكر ثواب الشاكرين.
وقد أخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن زيد بن أسلم في قوله: "إذا قمتم إلى الصلاة" قال: قمتم من المضاجع، يعني النوم. وأخرج ابن جرير عن السدي مثله. وأخرج ابن جرير أيضاً عنه يقول: إذا قمتم وأنتم على غير طهر. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في قوله: "فاغسلوا وجوهكم" قال: ذلك الغسل الدلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير عن أنس أنه قيل له: إن الحجاج خطبنا فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم" وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما. وأخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "من حرج" قال: من ضيق. وأخرجعبد بن حميد وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "وليتم نعمته عليكم" قال: تمام النعمة دخول الجنة، لم يتم نعمته على عبد لم يدخل الجنة.
6- قوله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " ، أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، كقوله تعالى : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " ، ( سورة النحل ، 98) ، أي : إذا أردت القراءة .
وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة ، لك أعلمنا ببيان السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية : " إذا قمتم إلى الصلاة " وأنتم على غير طهر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ".
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه أنا عبدان أنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة الصلوات الخمس بوضوء واحد ، ومسح على خفيه .
وقال زيد بن أسلم : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم .
وقال بعضهم : هو أمر على طريق الندب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارتها وإن كان على طهر ، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات ".
وروي عن عبد الله بن حنظلة بن عامر (( أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً أو غير طاهر ، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة )) .
وقال بعضهم : هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما له من الأفعال غير الصلاة ، أخبرنا أبو القاسم الحنيفي أنا أبو الحارث الطاهري أنا الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه أنا صدقة أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : (( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط فأتي بطعام فقيل له : ألا تتوضأ ؟ فقال :" لم ؟ أأصلي فأتوضأ " ؟)) .
قوله عز وجل : " فاغسلوا وجوهكم " وحد الوجه من منابت شعر الرأس / إلى منتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً يجب غسل جميعه في الوضوء ، ويجب أيضاً إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والشارب والعذار أو العنفقة و إن كانت كثيفة وأما العارض واللحية فإن كانت كثيفة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء ، بل يجب غسل ظاهرها.
وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذقن ؟ فيه قولان :
أحدهما : لا يجب ، وبه قال أبو حنيفة ، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه ، كذلك النازل عن حد الوجه في وجوب غسله .
والقول الثاني : يجب إمرار الماء على ظاهره ، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه ، والوجه ما يقع في المواجهة من هذا العضو ، ويقال في اللغة بقل وجه فلان وخرج وجهه: إذا نبتت لحيته.
قوله تعالى : " وأيديكم إلى المرافق " ، أي : مع المرافق ، كما قال الله تعالى : " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " ( سورة النساء ، 2) أي : مع أموالكم ، وقال : " من أنصاري إلى الله " ( سورة آل عمران ، 52 وسورة الصف ، 14) ، أي : مع الله .
وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين ، وفي الرجل يجب غسل الكعبين ، وقال الشعبي و محمد بن جرير : لا يجب غسل المرفقين والكعبين في اليد والرجل لأن حرف (( إلى )) للغاية والحد ، فلا يدخل في المحدود .
قلنا : ليس هذا بحد ولكنه بمعنى مع كما ذكرنا ، وقيل : الشيء إذا حد إلى جنسه يدخل فيه الغاية ، وإذا حد إلى غير جنسه لا يدخل ، كقوله تعالى : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " ( سورة البقرة، 187) ، لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار .
قوله تعالى : " وامسحوا برؤوسكم " ، اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس ، قال مالك : يجب مسح جميع الرأس كما مسح جميع الوجه في التيمم، وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرأس ، وعند الشافعي رحمه الله : يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح .
واحتج من أجاز مسح بعض الرأس بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الشافعي أنا يحيى بن حسان عن حماد بن زيد و ابن علية عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفيه " ، فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث ، وبه قال الأوزاعي و أحمد و إسحاق .
ولم يجوز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلاً من مسح الرأس ، وقالوا : في حديث المغيرة أن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية ، وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب .
قوله عز وجل : " وأرجلكم إلى الكعبين " ، قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي و يعقوب و حفص (( وأرجلكم )) بنصب اللام ، وقرأ الآخرون (( وأرجلكم )) بالخفض ، فمن قرأ (( وأرجلكم )) بالنصب فيكون عطفاً على قوله : " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم " أي : واغسلوا أرجلكم ، ومن قرأ بالخفض فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على الرجلين ، وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، ويروى ذلك عن عكرمة و قتادة ، وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح وقال : ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً ؟
وقال محمد بن جرير الطبري يتخير المتوضىء بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين .
وذهب عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم ، كما قال تبارك وتعالى : " عذاب يوم أليم " فالأليم صفة العذاب ، ولكنه أخذ إعراب اليوم للمجاورة ، وكقولهم : جحر ضب خرب ، فالخرب نعت للحجر وأخذ إعراب الضب للمجاورة .
والدليل على وجوب غسل الرجلين : ما أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي الخطيب أنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب أنا يحيى بن محمد بن يحيى أنا الحجبي و مسدد قالا:أخبرنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : " تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبدان أنا معمر حدثني الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان قال : " رأيت عثمان رضي الله عنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثاً ثم مضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ، ثم غسل يده اليسرى إلى المرافق ثلاثاً ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثاً ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر الله ما تقدم من ذنبه ".
وقال بعضهم : أراد بقوله " وأرجلكم " المسح على الخفين كما روي (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه )) وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل ، ويقال : قبل فلان رأس الأمير ويده ، وإن كانت العمامة على رأسه ، ويده في كمه. أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا زكريا عن عروة بن المغيرة عن أبيه رضي الله عنهما قال : "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال : (( أمعك ماء )) فقلت : نعم ، فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه ، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة فغسل ذراعيه ، ثم مسح برأسه ، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " فمسح عليهما .
قوله تعالى : " إلى الكعبين " فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدمين ، وهما مجتمع مفصل الساق والقدم ، فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين .
وفرائض الوضوء : غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى ، ومسح الرأس ، واختلف أهل العلم في وجوب النية : فذهب أكثرهم إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العبادات ، وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة وهو قول الثوري وأصحاب الرأي .
واختلفوا في وجوب الترتيب ، وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى : فذهب جماعة إلى وجوبه ، وهو قول مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق رحمهم الله ، ويروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه.
واحتج الشافعي بقوله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، ( سورة البقرة ، 158) وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا ، وقال : " نبدأ بما بدأ الله به " ، وكذلك ههنا بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلاً بما بدأ الله تعالى به ذكراً.
وذهب جماعة إلى أن الترتيب / سنة ، وقالوا الواوات المذكورة في الآية للجمع لا للترتيب كما قال الله تعالى : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية ( سورة التوبة ، 60) ، واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمان ، ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمان ، وفي الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتباً كما ذكر الله تعالى ، وبيان الكتاب يؤخذ من السنة كما قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " ( سورة الحج ، 77)، لما قدم ذكر الركوع على السجود ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة ، كذلك الترتيب هنا .
قوله عز وجل : " وإن كنتم جنباً فاطهروا " ، أي : اغتسلوا . أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله ".
قوله تعالى : " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه"، فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب ،" ما يريد الله ليجعل عليكم " ، بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم ، " من حرج " ، ضيق ، " ولكن يريد ليطهركم " ، من الأحداث والجنابات والذنوب ، " وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " . قال محمد بن كعب القرظي :إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء كما قال الله تعالى : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " ( سورة الفتح ، 2) ، فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه.
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران : "أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ويديه ورجليه ".
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمدأنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوماً فجاءه العصر فدعا بماء فتوضأ ، ثم قال : والله لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ، ثم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من امرىء [ مسلم ] يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وما بين الصلاة الأخرى حتى يصليها " قال مالك : أراه يريد هذه الآية " أقم الصلاة لذكري " ، ورواه ابن شهاب ، وقال عروة : الآية " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات " ( سورة البقرة ، 159).
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا يحيى بن بكير أنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد ، فتوضأ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل ".
6" يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء والقيام له قصد له، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً، والإجماع على خلافه لما روي "أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال عمداً فعلته" فقيل مطلق أريد به التقييد، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين. وقيل الأمر فيه للندب. وقيل كان ذلك في أول الأمر ثم نسخ وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام: "المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها". " فاغسلوا وجوهكم " أمروا الماء عليها ولا حاجة إلى الدلك خلافاً لمالك. " وأيديكم إلى المرافق " الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل: " إلى " بمعنى مع كقوله تعالى: " ويزدكم قوة إلى قوتكم " أو متعلق بمحذوف تقديره: وأيديكم مضافة إلى المرافق، ولو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة، لأن مطلق اليد يشتمل عليها. وقيل: إلى تفيد الغاية مطلقاً وأما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج ولم يكن في الآية، وكانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطاً. وقيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية لقوله تعالى: " فنظرة إلى ميسرة " وقوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " ولكن لما لم تتميز الآية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطاً. " وامسحوا برؤوسكم " الباء مزيدة. وقيل للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل، ووجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق وكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله: " فاغسلوا وجوهكم " واختلف العلماء في قدر الواجب. فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه: أقل ما يقع عليه الإسم أخذاً باليقين. و أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: مسح ربع الرأس، لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. و مالك رضي الله تعالى عنه: مسح كله أخذاً بالاحتياط. " وأرجلكم إلى الكعبين " نصبه نافع و ابن عامر و حفص و الكسائي و يعقوب عطفاً على وجوهكم ويؤيده: السنة الشائعة، وعمل الصحابة، وقول أكثر الأئمة، والتحديد، إذ المسح لم يحد. وجره الباقون على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى: " عذاب يوم أليم " " وحور عين " بالجر في قراءة حمزة و الكسائي، وقولهم جحر ضب خرب، وللنحاة باب في ذلك، وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلاً يقرب من المسح وفي الفصل بينه وبين أخويه إيماء على وجوب الترتيب، وقرئ بالرفع على " وأرجلكم " مغسولة. " وإن كنتم جنبا فاطهروا " فاغتسلوا. " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " سبق تفسيره، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة. " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقاً عليكم. " ولكن يريد ليطهركم " لينظفكم، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء. فمفعول " يريد " في الموضعين محذوف واللام للعلة. وقيل مزيدة والمعنى: ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم، ولكن يريد أن يطهركم وهو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة. " وليتم نعمته عليكم " ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه. " لعلكم تشكرون " نعمته. والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
6. O ye who believe! When ye rise up for prayer, wash your face, and your hands up to the elbows, and lightly rub your heads and (wash) your feet up to the ankles. And if ye are unclean, purify yourselves. And if ye are sick or on a journey, or one of you cometh from the closet, or ye have had contact with women, and ye find not water, then go to clean, high ground and rub your faces and your hands with some of it. Allah would not place a burden on you, but He would purify you and would perfect His grace upon you, that ye may give thanks.
6 - O Ye who believe when ye prepare for prayer, wash your faces, and your hands (and arms) to the elbows; rub your heads (with water); and (wash) your feet to the ankles. if ye are in a state of ceremonial impurity, bath your whole body. but if ye are ill, or on a journey, or one of you cometh from offices of nature, or ye have been in contact with women, and ye find no water, then take for yourselves clean sands or earth, and rub therewith your faces and hands. God doth not wish to place you in a difficulty, but to make you clean, and to complete his favour to you, that ye ay be grateful.