54 - (يا أيها الذين آمنوا من يرتدد) بالفك والإدغام ، يرجع (منكم عن دينه) إلى الكفر إخبار بما علم الله وقوعه وقد ارتد جماعة بعد موت النبي صلى الله عليه (فسوف يأتي الله) بدلهم (بقوم يحبهم ويحبونه) قال صلى الله عليه وسلم: "هم قوم هذا وأشار إلى أبي موسى الأشعري" رواه الحاكم في صحيحه (أذلة) عاطفين (على المؤمنين أعزة) أشداء (على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) فيه كما يخاف المنافقون لوم الكفار (ذلك) المذكور من الأوصاف (فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع) كثير الفضل (عليم) بمن هو أهله
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله : "يا أيها الذين آمنوا"، أي : صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، "من يرتد منكم عن دينه"، يقول : من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم ، فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر، فلن يضر الله شيئاً، وسيأتي الله بقوم بحبهم ويحبونه ، يقول : فسوف يجيء الله بدلاً منهم ، المؤمنين الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا، بقوم خير من الذين ارتدوا وبدلوا دينهم ، يحبهم الله ويحبون الله.
وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذه الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه ، ولا يرتد. فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ارتد أقوام من أهل الوبر، وبعض المدر، فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره ، ووفى للمؤمنين بوعده ، وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش ، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب : أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يوماً، وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال : يا أبا حمزة، آية أسهرتني البارحة! قال محمد: وما هي ، أيها الأمير؟ قال : قول الله "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" حتى بلغ "ولا يخافون لومة لائم". فقال محمد: أيها الأمير، إنما عنى الله بالذين آمنوا، الولاة من قريش ، من يرتد عن الحق.
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين ، وأبدل المؤمنين مكان من ارتد منهم.
فقال بعضهم : هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن في قوله : "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال : هذا والله أبو بكر وأصحابه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، مثله.
حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن جويبر، عن سهل ، عن الحسن في قوله : "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال : أبو بكر وأصحابه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن أبي موسى قال: قرأ الحسن : "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال : هي والله لأبي بكر وأصحابه.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال ، حدثنا أحمد بن بشير، عن هشام ، عن الحسن في قوله :"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: نزلت في أبي بكر وأصحابه.
حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن جويبر، عن الضحاك في قوله : "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم"، قال : هو أبو بكر وأصحابه. لما ارتد من ارتد من العرب عن الإسلام ، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، إلى قوله : "والله واسع عليم"، أنزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتد مرتدون من الناس ، فلما قبض الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ارتد عامة العرب عن الإسلام -إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس - قالوا: نصلي ولا نزكي ، والله لا تغصب أموالنا! فكلم أبو بكر في ذلك فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها -أو: أدوها- فقال : لا والله ، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه ، ولو منعوا عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه! فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناساً ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون - وهي الزكاة - صغرة أقمياء. فأتته وفود العرب ، فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية.
فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقروا : أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم ، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال ابن جريج : ارتدوا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم أبو بكر.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن هشام قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله : "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه"، قال : علم الله المؤمنين ، ووقع معنى السوء على الحشو الذي فيهم من المنافقين ومن في علمه أن يرتدوا، قال : "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله"، المرتدة في دورهم ، "بقوم يحبهم ويحبونه"، بأبي بكر وأصحابه.
وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل اليمن.
وقال بعض من قال ذلك منهم : هم رهط أبي موسى الأشعري ، عبد الله بن قيس.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب ، عن عياض الأشعري قال : لما نزلت هذه الآية، "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال : أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه ، فقال : هم قوم هذا.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عياضاً يحدث عن أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال : يعني قوم أبي موسى.
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن شعبة -قال أبو السائب : قال أصحابنا: هو عن سماك بن حرب، وأنا لا أحفظ سماكاً -عن عياض الأشعري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قوم هذا، يعني أبا موسى.
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن شعبة، عن سماك ، عن عياض الأشعري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: هم قوم هذا، في قوله : "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه".
حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا شعبة، عن سماك بن حرب قال : سمعت عياضاً الأشعري يقول : لما نزلت : "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قومك يا أبا موسى! -أو قال : هم قوم هذا- يعني أبا موسى.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو سفيان الحميري ، عن حصين ، عن عياض -أو: ابن عياض - "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال : قال : هم أهل اليمن.
حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير، عن شريح بن عبيد قال : لما أنزل الله : "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" إلى آخر الآية، قال عمر: أنا وقومي هم ، يا رسول الله ؟ قال : لا، بل هذا وقومه ! يعني أبا موسى الأشعري.
وقال آخرون منهم : بل هم أهل اليمن جميعاً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "يحبهم ويحبونه"، قال : أناس من أهالي اليمن.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد قال : هم قوم سبأ.
حدثنا مطر بن محمد الضبي قال ، حدثنا أبو داود قال ، أخبرنا شعبة قال ، أخبرني من سمع شهر بن حوشب قال : هم أهل اليمن.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش ، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب القرظي : من عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يوماً، وهو أمير المدينة، يسأله عن ذلك ، فقال محمد: "يأتي الله بقوم"، وهم أهل اليمن!.
قال عمر: يا ليتني منهم! قال : آمين!.
وقال آخرون : هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، يزعم أنهم الأنصار.
وتأويل الآية على قول من قال : عنى الله بقوله : "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين آمنوا، من يرتد منكم عن دينه فلن يضر الله شيئا، وسيأتي الله من ارتد منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه، ينتقم بهم منهم على أيديهم. وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأول ذلك كذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن هشام قال ، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله: "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم"، قال يقول : فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم ، "بقوم يحبهم ويحبونه"، بأبي بكر وأصحابه.
وأما على قول من قال : عنى الله بذلك أهل اليمن ، فإن تأويله : يا أيها الذين آمنوا، من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدوا، بقوم يحبهم ويحبونه ، أعواناً لهم وأنصاراً. وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان يتأول ذلك كذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" الآية، وعيد من الله أنه من ارتد منكم ، أنه سيستبدل خيراً منهم.
وأما على قول من قال : عني بذلك الأنصار، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من تأوله أنه عني به أبو بكر وأصحابه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما روي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أهل اليمن ، قوم أبي موسى الأشعري. ولولا الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي روي عنه ، ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال : هم أبو بكر وأصحابه. وذلك أنه لم يقاتل قوماً كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتدوا على أعقابهم كفاراً، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن كان صلى الله عليه وسلم معدن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآي كتابه.
فإن قال لنا قائل : فإن كان القوم الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم -عند ارتداد من ارتد عن دينه ، ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- هم أهل اليمن ، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر رضي الله عنه أهل الردة أعوان أبي بكر على قتالهم ، فتستجيز أن توجه تأويل الآية إلى ما وجهت إليه؟. أم لم يكونوا أعواناً له عليهم ، فكيف استجزت أن توجه تأويل الآية إلى ذلك ، وقد علمت أنه لا خلف لوعد الله؟.
قيل له : إن الله تعالى ذكره لم يعد المؤمنين أن يبدلهم بالمرتدين منهم يومئذ، خيراً من المرتدين لقتال المرتدين ، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخير منهم بدلاً منهم ، فقد فعل ذلك بهم قريباً غير بعيد، فجاء بهم على عهد عمر، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع ، وكانوا أعوان أهل الإسلام ، وأنفع لهم ممن كان ارتد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طغام الأعراب وجفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الإسلام كلاً لا نفعاً.
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله؟ "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه".
فقرأته قرأة أهل المدينة : "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه"، بإظهار التضعيف ، بدالين ، مجزومة الدال الآخرة . وكذلك ذلك في مصاحفهم.
وأما قرأة أهل العراق ، فإنهم قرأوا ذلك : "من يرتد منكم عن دينه"، بالإدغام ، بدال واحدة، وتحريكها إلى الفتح ، بناء على التثنية، لأن المجزوم الذي يظهر تضعيفه في الواحد، إذا ثني أدغم.
ويقال للواحد : اردد يا فلان إلى فلان حقه، فإذا ثني قيل : ردا إليه حقه ، ولا يقال: ارددا، وكذلك في الجمع : ردوا، ولا يقال : ارددوا، فتبني العرب أحياناً الواحد على الاثنين ، وتظهر أحياناً في الواحد التضعيف لسكون لام الفعل. وكلتا اللغتين فصيحة مشهورة في العرب.
قال أبو جعفر: والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق ، بدال واحدة مشددة ، بترك إظهار التضعيف ، وبفتح الدال، للعلة التي وصفت.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "أذلة على المؤمنين"، أرقاء عليهم ، رحماء بهم.
من قول القائل: ذل فلان لفلان، إذا خضع له واستكان. ويعني بقوله : "أعزة على الكافرين"، أشداء عليهم ، غلظاء بهم.
من قول القائل: قد عزني فلان، إذا أظهر العزة من نفسه له ، وأبدى له الجفوة والغلظة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله: "أذلة على المؤمنين"، أهل رقة على أهل دينهم ، "أعزة على الكافرين"، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، يعني بالأذلة: الرحماء.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج في قوله : "أذلة على المؤمنين"، قال : رحماء بينهم ، "أعزة على الكافرين"، قال : أشداء عليهم.
حدثنا الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، قال سفيان: سمعت الأعمش يقول في قوله : "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، ضعفاء عن المؤمنين.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "يجاهدون في سبيل الله" ، هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتد منهم مرتد، بدلاً منهم ، يجاهدون في قتال أعداء الله على النحو الذي أمر الله بقتالهم ، والوجه الذي أذن لهم به ، ويجاهدون عدوهم. فذلك مجاهدتهم في سبيل الله. "ولا يخافون لومة لائم"، يقول : ولا يخافون في ذات الله أحداً، ولا يصدهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوهم ، لومة لائم لهم في ذلك.
وأما قوله : "ذلك فضل الله"، فإنه يعني هذا النعت الذي نعتهم به تعالى ذكره ، من أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم ، فضل الله الذي تفضل به عليهم ، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه منة عليه وتطولاً، "والله واسع"، يقول : والله جواد بفضله على من جاد به عليه ، لا يخاف نفاد خزائنه فتتلف في عطائه ، "عليم"، بموضع جوده وعطائه ، فلا يبذله إلا لمن استحقه ، ولا يبذل لمن استحقه إلا على قدر المصلحة، لعلمه بموضع صلاحه له من موضع ضره.
فيه أربع مسائل:
الأولى - قوله تعالى :" من يرتد منكم عن دينه " شرط وجوابه ( فسوف ) وقراءة أهل المدينة والشام من يرتدد بالدالين الباقون من يرتد وهذا من إعجاز القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان ذلك غيباً فكان على ما أخبر بعد مدة وأهل الردة كانوا بعد موته صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد، مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد جؤاثى وكانوا في ردتهم على قسمين: قسم نبذ الشريعة كلها وخرج عنها وقسم نبذ وجوب الزكاة واعترف بوجوب غيرها، قالوا نصوم ونصلي ولا نزكي فقاتل الصديق جميعهم وبعث خالد بن الوليد إليهم بالجيوش فقاتلهم وسباهم على ما هو مشهور من أخبارهم .
الثانية -قوله تعالى :" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " في موضع النعت قال الحسن وقتادة وغيرهما: نزلت في أبي بكر الصديق وأصحابه وقال السدي: نزلت في الأنصار وقيل: هي إشارة إلى قوم لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت وأن أبا بكر قاتل أهل الردة بقوم لم يكونوا وقت نزول الآية وهي أحياء من اليمن من كندة وبجيلة ومن أشجع وقيل: إنها نزلت في الأشعريين، ففي الخبر أنها لما نزلت قدم بعد ذلك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عامة فتوح العراق في زمن عمر رضي الله عنه على يدي قبائل اليمن هذا أصح ما قيل في نزولها والله أعلم وروى الحاكم أبو عبد الله في المستدرك بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي موسى الأشعري لما نزلت هذه الآية فقال :
هم قوم هذا قال القشيري: فأتباع أبي الحسن من قومه لأن كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد بن الأتباع .
الثالثة- قوله تعالى :" أذلة على المؤمنين " أذلة نعت لقوم وكذلك " أعزة " أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم من قولهم: دابة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذل في شيء ويغلظون على الكافرين ويعادونهم فقال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته، قال الله تعالى :" أشداء على الكفار رحماء بينهم" [ الفتح : 29] ويجوز أذلة بالنصب على الحال أي يحبهم ويحبونه في هذا الحال وقد تقدمت معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له .
الرابعة -قوله تعالى :" يجاهدون في سبيل الله " في موضع الصفة أيضاً " ولا يخافون لومة لائم " بخلاف المنافقين يخافون الدوائر فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا المرتدين بعده ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي لله تعالى . وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة والله أعلم . " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ابتداء وخبر " والله واسع عليم" أي واسع الفضل عليم بمصالح خلقه .
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته, فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه, وأشد منعة, وأقوم سبيلاً, كما قال تعالى: "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". وقال تعالى: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز ". أي بممتنع ولا صعب. وقال تعالى ههنا "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" أي يرجع عن الحق إلى الباطل. قال محمد بن كعب: نزلت في الولاة من قريش. وقال الحسن البصري: نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: في قوله "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" هم أهل القادسية. وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد: هم قوم من سبأ وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عبد الله بن الأجلح عن محمد بن عمرو, عن سالم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" قال: ناس من أهل اليمن, ثم من كندة, من السكون .
وحدثنا أبي, حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا معاوية يعني ابن حفص, عن أبي زياد الحلفاني, عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه". قال "هؤلاء قوم من أهل اليمن, ثم من كندة, ثم من السكون, ثم من تجيب", وهذا حديث غريب جداً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شبة, حدثنا عبد الصمد يعني ابن عبد الوارث, حدثنا شعبة عن سماك, سمعت عياضاً يحدث عن أبي موسى الأشعري, قال: لما نزلت "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هم قوم هذا". ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه. وقوله تعالى: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه, متعززاً على خصمه وعدوه, كما قال تعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم" وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال, فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه .
وقوله عز وجل "يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله, وإقامة الحدود, وقتال أعدائه, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, لا يردهم عن ذلك راد, ولا يصدهم عنه صاد, ولا يحيك فيهم لوم لائم, ولا عذل عاذل, قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا سلام أبو المنذر عن محمد بن واسع, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر, قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم, وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني, ولا أنظر إلى من هو فوقي, وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت, وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً, وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً, وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم, وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله, فإنهن من كنز تحت العرش .
قال البخاري تفرد ابن المبارك بهذا الحديث, وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقرراً ولم ينسخ, كما هو المشهور عن الجمهور, وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي, وأكثر الأصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة, رواه ابن أبي حاتم: وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه, ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره: وصحح منها عدم الحجية, نقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالاً عن الشافعي, وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا, فالله أعلم .
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه الله في كتابه "الشامل", إجماع العلماء, على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه, وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة, وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم "أن الرجل يقتل بالمرأة", وفي الحديث الاخر "المسلمون تتكافأ دماؤهم", وهذا قول جمهور العلماء, وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية, لأن ديتها على النصف من دية الرجل, وإليه ذهب أحمد في رواية, وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي, "والله واسع عليم" أي واسع الفضل, عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه.
وقوله تعالى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا" أي ليس اليهود بأوليائكم, بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين. وقوله "الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة" أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام, وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين والمساكين. وأما قوله "وهم راكعون" فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله "ويؤتون الزكاة" أي في حال ركوعهم, ولو كان هذا كذلك, لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره, لأنه ممدوح, وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى, وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه, وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي, حدثنا أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم في قوله "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا" قال: هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب, وحدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول, حدثنا موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل, قال: تصدق علي بخاتمه وهو راكع, فنزلت "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون", وقال ابن جرير: حدثني الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا غالب بن عبيد الله, سمعت مجاهداً يقول في قوله "إنما وليكم الله ورسوله" الآية. نزلت في علي بن أبي طالب, تصدق وهو راكع, وقال عبد الرزاق: حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله "إنما وليكم الله ورسوله" الآية, نزلت في علي بن أبي طالب, عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به .
وروى ابن مردويه من طريق سفيان الثوري, عن أبي سنان, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كان علي بن أبي طالب قائماً يصلي, فمر سائل وهو راكع, فأعطاه خاتمه, فنزلت "إنما وليكم الله ورسوله" الآية, الضحاك لم يلق ابن عباس. وروى ابن مردويه أيضاً من طريق محمد بن السائب الكلبي, وهو متروك, عن أبي صالح, عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد, وإذا مسكين يسأل, فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: "أعطاك أحد شيئاً ؟" قال: نعم. قال "من ؟" قال: ذلك الرجل القائم. قال "على أي حال أعطاكه ؟" قال: وهو راكع, قال "وذلك علي بن أبي طالب". قال, فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وهو يقول " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " وهذا إسناد لا يفرح به .
ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه, وعمار بن ياسر وأبي رافع, وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها, ثم روى بإسناده عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس في قوله "إنما وليكم الله ورسوله" نزلت في المؤمنين وعلي بن أبي طالب أولهم, وقال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا عبدة عن عبد الملك, عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الآية "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" قلنا: من الذين آمنوا ؟ قال: الذين آمنوا. قلنا بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب, قال: علي من الذين آمنوا, وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين, ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد, فأعطاه خاتمه .
وقال علي بن أبي طلحة الوالبي, عن ابن عباس: من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا, رواه ابن جرير, وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود, ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين, ولهذا قال تعالى بعد هذا كله " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " كما قال تعالى: " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز * لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين, فهو مفلح في الدنيا والآخرة, ومنصور في الدنيا والآخرة, ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ".
قوله: 54- " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم " قرأ أهل المدينة والشام "يرتدد" بدالين بفك الإدغام، وهي لغة تميم، وقرأ غيرهم بالإدغام. وهذا شروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر، وذلك نوع من أنواع الردة. والمراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن، ثم وصف سبحانه هؤلاء القوم بهذه الأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء من كونهم يحبون الله وهو يحبهم، ومن كونهم "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" والأذلة: جمع ذليل لا ذلول، والأعزة: جمع عزيز: أي يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب حسداً وبغضاً وكراهة للحق وأهله، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من الصفات التي اختصهم الله بها. والفضل: اللطف والإحسان.
54-قوله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه "، قرأ أهل المدينة والشام يرتدد بدالين على إظهار التضعيف " عن دينه "فيرجع إلى الكفر.
قال الحسن : علم الله تبارك وتعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه يأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه.
واختلفوا في أولئك القوم من هم؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه و الحسن و قتادة : هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس، ومنع بعضهم من الزكاة ، وهم أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فكرة ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عمر رضي الله عنه : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله و نفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل ؟ " فقال أبو بكر:والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة حق المال ، والله لو منعوني[عناقاً] كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها .
قال أنس بي مالك رضي الله عنه : كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة ، وقالوا : أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بداً من الخروج على أثره.
قال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء.
قال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة.
وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق:
منهم[بنو مذحج] ورئيسهم ذو الخمار، عبهلة بن كعب ، العنسي، ويلقب بالأسود ، وكان كاهناً مشعبذاً فتنبأ باليمن واستولى على بلادها،فكيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين ،وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم ، وعلى النهوض إلى حرب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه، قال ابن عمر رضي الله عنه فأتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك ، قيل: ومن هو ؟ قال: فيروز، [فاز فيروز]"،فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود ، وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد ، وأتى [خبر ] مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعدما خرج أسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه .
والفرقة الثانية : بنو حنيفة باليمامة ، ورئيسهم مسيلمة الكذاب ، [واسمه ثمامة بن قيس ]، وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر، وزعم أنه أشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، و"كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد فإن الأرض نصفها لك، وبعث[بذلك]إليه مع رجلين من أصحابه ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا:نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم ] لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ثم أجاب : من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، و العاقبة للمتقين ، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب ، بعد حرب شديد" ، وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام.
والفرقة الثالثة: بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد بن الوليد، وكان طليحة آخر من ارتد، وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول من قوتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل / الردة ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه، فهزمهم خالد بعد قتال شديد ، وأفلت طليحة فمر على وجهه هارباً نحو الشام ، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.
وارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم [في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ]خلق كثير، حتى كفى الله المسلمين أمرهم في نصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه .
قالت عائشة : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق ، ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها.
وقال قوم : المراد بقوله: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " هم الأشعريون،روي عن عياض بن غنم الأشعري قال :" لما نزلت هذه الآية : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى الأشعري " وكانوا من اليمن.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن [علي الكشميهني، حدثنا علي بن ] حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوباً وأرق أفئدةً ، الإيمان يمان والحكمة يمانية ".
وقال الكلبي : هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفياء الناس ، فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في أيام عمر رضي الله عنه .
قوله عز وجل " أذلة على المؤمنين "، يعني : أرقاء رحماء، كقوله عز وجل : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة "، ولم يرد به الهوان ، بل أراد به أن جانبهم لين على المؤمنين .وقيل هو من الذل من قولهم دابة ذلول، أنهم متواضعون كما قال الله تعالى : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً "، " أعزة على الكافرين "، أي : أشداء غلاظ على الكفار يعادونهم ويغالبونهم، من قولهم : عزه أي غلبه. قال عطاء أذلة على المؤمنين: كالولد لوالده وكالعبد لسيده، أعزة على الكافرين: كالسبع على فريسته ، نظيره قوله تعالى: " أشداء على الكفار رحماء بينهم ". " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم "، يعني : لا يخافون في الله لوم الناس ، وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، وروينا عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع و الطاعة وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
" ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء "، أي محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين ، وشدتهم على الكافرين،من فضل الله عليهم ، " و الله واسع عليم ".
54" يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " قرأه على الأصل نافع و ابن عامر وهو كذلك في الإمام، والباقون بالإدغام وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها، وقد ارتد من العرب في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق: بنو ملدج وكان رئيسهم ذو الخمار الأسود العنسي، تنبأ باليمن واستولى على بلاده ثم قتله فيروز الديلمي ليلة قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من غدها وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة فسر المسلمين وأتى الخبر في أواخر ربيع الأول. وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجاب من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجند من المسلمين وقتله وحشي قاتل حمزة. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً فهرب بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه سبع فزازة قوم غيبنه بن حصن، وغطفان قوم فرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد الله يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة زوجة مسيلمة، وكندة قوم الأشعث بن غيث، وبنو بكر بن وائل في البحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يده، وفي إمرة عمر بن الحطاب رضي الله تعالى عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام. " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " قيل هم أهل اليمن لما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال: هم قوم هذا" وقيل الفرس لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه. وقيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كنده وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء الناس. والراجع إلى من محذوف تقديره فسوف يأتي الله بقوم مكانهم ومحبة الله تعالى للعباد إرادة الهدى والتوفيق لهم في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة، ومحبة العباد له إرادة طاعته والتحرز عن معاصيه،. " أذلة على المؤمنين " عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، واستعماله مع على إما لتضمنه معنى العطف والحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم أو للمقابلة. " أعزة على الكافرين " شداد متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه، وقرئ بالنصب على الحال. " يجاهدون في سبيل الله " صفة أخرى لقوم، أو حال من الضمير في أعزة. " ولا يخافون لومة لائم " عطف على يجاهدون بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلب في دينه، أو حال بمعنى أنهم مجاهدون حالهم خلاف حال المنافقين، فإنهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعملون شيئاً يلحقهم فيه لوم من جهتهم، واللوم المرة من اللوم فيها وفي تنكير لائم مبالغتان. " ذلك " إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف. " فضل الله يؤتيه من يشاء " يمنحه ويوفق له " والله واسع " كثير الفضل. " عليم " بمن هو أهله.
54. O ye who believe! Whoso of you becometh a renegade from his religion, (know that in his stead) Allah will bring a people whom He loveth and who love Him, humble toward believers, stern toward disbelievers, striving in the way of Allah and fearing not the blame of any blamer. Such is the grace of Allah which He giveth unto whom He will. Allah is All Embracing, All Knowing.
54 - O ye who believe if any from among you turn back from his faith, soon will God produce a people whom he will love as they will love him, lowly with the believers, mighty against the rejecters, fighting in the way of God, and never afraid of the reproaches of such as find fault. that is the grace of God, which he will bestow on whom he pleaseth. and God encompasseth all, and he knoweth all things.