51 - (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) توالونهم وتوادونهم (بعضهم أولياء بعض) لاتحادهم في الكفر (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) من جملتهم (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) بموالاتهم الكفار
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الآية أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن ابي حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال لما حاربت بنو قينقاع تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله والى رسوله من حلفهم وكان أحد بني عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي فحالفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من حلف الكفار وولايتهم قال ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت القصة في المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء الآية
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية، وإن كان مأموراً بذلك جميع المؤمنين.
فقال بعضهم : عني بذلك عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن أبي ابن سلول ، في براءة عبادة من حلف اليهود، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود، بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسك بحلفهم : أنه منهم في براءته من الله ورسوله كبراءتهم منهما.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبوكريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت ، من بني الحارث بن الخزرج ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : يا أبا الحباب ، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه؟ قال : قد قبلت! فأنزل الله : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض" إلى قوله : "فترى الذين في قلوبهم مرض".
حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني عثمان بن عبد الرحمن ، عن الزهري قال : لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك بن صيف : غركم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال !! أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يد أن تقاتلونا! فقال عبادة : يا رسول الله ، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيراً سلاحهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله لا إلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي لكني لا أبرأ من ولاء يهود، إني رجل لا بد لي منهم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا حباب ، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه ؟، قال : إذا أقبل ! فأنزل الله تعالى ذكره : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض" إلى أن بلغ إلى قوله : "والله يعصمك من الناس".
حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس قال ، حدثنا ابن إسحق قال، حدثني والدي إسحق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان أحد بني عوف بن الخزرج ، له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن ابي -فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال: يا رسول الله ، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ! ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض"، الآية.
وقال آخرون بل عني بذلك قوم من المؤمنين كانوا هموا حين نالهم بأحد من أعدائهم من المشركين ما نالهم ، أن يأخذوا من اليهود عصماً، فنهاهم الله عن ذلك ، وأعلمهم أن من فعل ذلك منهم فهو منهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضلقال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، قال : لما كانت وقعة أحد ، اشتد على طائفة من الناس ، وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه : أما أنا فالحق بذلك اليهودي ، فآخذ منه أماناً وأتهود معه ، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود! وقال الاخر: أما أنا فالحق بفلان النصراي ببعض أرض الشام ، فآخذ منه أماناً وأتنصر معه! فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين".
وقال آخرون : بل عني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر، في إعلامه بني قريظة إذ رضوا بحكم سعد: أنه الذبح.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر، من الأوس -وهو من بني عمرو بن عوف - فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول ، أشار إلى حلقه: الذبح الذبح!
قال أبو جعفر: والصواب من القول قي ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرهم ، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين ، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، وأن الله ورسوله منه بريئان.
وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة، ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهما هم باللحاق بذلك اليهودي ، والآخر بنصراني بالشام ، ولم يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر تنبت بمثله حجة، فيسئم لصحته القول بأنه كما قيل.
فإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه. غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهوداً أو نصارى خوفاً على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك ، وذلك قوله : "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة" الآية.
وأما قوله : "بعضهم أولياء بعض"، فإنه عنى بذلك : أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين ، ويد واحدة على جميعهم ، وأن النصارى كذلك ، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم، معرفاً بذلك عباده المؤمنين : أن من كان لهم أو لبعضهم ولياً، فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين ، كما اليهود والنصارى لهم حرب. فقال تعالى ذكره للمؤمنين : فكونوا أنتم أيضاً بعضكم أولياء بعض ، ولليهودي والنصراني حرباً كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحرب، ومنهم البراءة، وأبان قطع ولايتهم.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين ، فإنه منهم. يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين ، فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض. وإذا رضيه ورضي دينه ، فقد عادى ما خالفه وسخطه ، وصار حكمة حكمه ، ولذلك حكم من حكم من أهل العلم لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم ، بأحكام نصارى بني إسرائيل ، لموالاتهم إياهم ، ورضاهم بملتهم ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقاً.
وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول ، من أن كل من كان يدين بدين فله حكم أهل ذلك الدين ، كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده . إلا من يكون مسلماً من أهل ديننا انتقل إلى ملة غيرها، فإنه لا يقر على ما دان به فانتقل إليه ، ولكن يقتل لردته عن الإسلام ومفارقته دين الحق ، إلا أن يرجع قبل القتل إلى الدين الحق ، وفساد ما خالفه من قول من زعم : أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم ، إلا أن يكون إسرائيلياً أو منتقلاً إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نزول الفرقان ، ممن لم يكن منهم ، ممن خالف نسبه نسبهم وجنسه جنسهم ، فإن حكمه لحكمهم مخالف.
ذكر من قال بما قلنا من التأويل.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ، فقرأ: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم".
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، إنها في الذبائح. من دخل في دين قوم فهو منهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب4 ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : كلوا من ذبائح بني تغلب ، وتزوجوا من نسائهم ، فإن الله يقول في كتابه : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ولو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة، عن هشام قال : كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم باساً، وكان يتلو هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم".
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن هارون بن إبراهيم قال : سئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره من نصارى يتخذونها بيعة، قال : فتلا هذه الآية: "لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى - مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين - على المؤمنين ، وكان لهم ظهيراً ونصيراً، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حرب.
وقد بينا معنىالظلم في غير هذا الموضع ، وأنه وضع الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته.
فيه مسألتنان:
الأولى- " اليهود والنصارى أولياء" مفعولان ل تتخذوا وهذا يدل على قطع الموالاة شرعاً وقد مضى في آل عمران بيان ذلك ثم قيل: المراد به المنافقون المعنى يأيها الذين آمنوا بظاهرهم وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين وقيل: نزلت في أبي لبابة عن عكرمة قال السدي: نزلت في قصة يوم أحد حين خاف المسلمين حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول فتبرأ عباد رضي الله عنه من موالاة اليهود وتمسك بها ابن أبي وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر "بعضهم أولياء بعض " مبتدأ وخبره وهو يدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينه حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض
الثانية -قوله تعالى :" ومن يتولهم منكم " أي يعضدهم على المسلمين فإنه منهم بين تعالى أن حكمه كحكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ان أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة، وقد قال تعالى " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " [ هود: 113] وقال تعالى في آل عمران " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " [ آل عمران: 28] وقال تعالى : " لا تتخذوا بطانة من دونكم " [ آل عمران : 118] وقيل : إن معنى " بعضهم أولياء بعض " أي في النصرة " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " شرط وجوابه أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ووجب معاداته كما وجبت معاداتهم ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم أي من أصحابهم .
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى, الذين هم أعداء الإسلام وأهله ـ قاتلهم الله ـ ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض, ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك, فقال "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" الاية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب, حدثنا محمد يعني ابن سعيد بن سابق, حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب, عن عياض أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد, وكان له كاتب نصراني, فرفع إليه ذلك, فعجب عمر وقال: إن هذا لحفيظ, هل أنت قارىء لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام ؟ فقال: إنه لا يستطيع, فقال عمر: أجنب هو ؟ قال: لا بل نصراني. قال: فانتهرني وضرب فخذي, ثم قال: أخرجوه, ثم قرأ "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" الآية, ثم قال: حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا عثمان بن عمر, أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين, قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر. قال: فظنناه يريد هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" الآية, وحدثنا أبو سعيد الآشج, حدثنا ابن فضيل عن عاصم, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب, فقال: كل, قال الله تعالى: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم", وروي عن أبي الزناد نحو ذلك .
وقوله تعالى: "فترى الذين في قلوبهم مرض" أي شك وريب ونفاق, يسارعون فيهم, أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر, "يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة" أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين, فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى, فينفعهم ذلك. عند ذلك قال الله تعالى: "فعسى الله أن يأتي بالفتح" قال السدي: يعني فتح مكة. وقال غيره: يعني القضاء والفصل, "أو أمر من عنده". قال السدي: يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى, "فيصبحوا" يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين "على ما أسروا في أنفسهم" من الموالاة, "نادمين" أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئاً, ولا دفع عنهم محذوراً, بل كان عين المفسدة, فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين, لا يدرى كيف حالهم, فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين, فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين, ويحلفون على ذلك ويتأولون فبان كذبهم وافتراؤهم, ولهذا قال تعالى: "ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين".
وقد اختلف القراء في هذا الحرف فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله "ويقول", ثم منهم من رفع ويقول: على الابتداء, ومنهم من نصب عطفاً على قوله "فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده" فتقديره أن يأتي وأن يقول وقرأ أهل المدينة "يقول الذين آمنوا" بغير واو, وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير. قال ابن جرير عن مجاهد " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده " تقديره حينئذ "يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين" واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات, فذكر السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهود معه, لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث . وقال الآخر أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه, فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" الآيات, وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه: ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه أي أنه الذبح, رواه ابن جرير .
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول, كما قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله, إن لي موالي من يهود كثير عددهم, وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايه يهود, وأتولى الله ورسوله, فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي "يا أبا الحباب, ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت, فهو لك دونه" قال: قد قبلت, فأنزل الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" الآيتين .
ثم قال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري: قال: لما انهزم أهل بدر, قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر, فقال مالك بن الصيف: أغركم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال, أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا, فقال عبادة بن الصامت: يا رسول الله, إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيراً سلاحهم شديدة شوكتهم, وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود, ولا مولى لي إلا الله ورسوله, فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية يهود, إني رجل لا بد لي منهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا الحباب, أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت, فهو لك دونه" فقال: إذاً أقبل, قال: فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " إلى قوله " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " .
وقال: محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع, فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه, فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم, فقال: يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج, قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا محمد أحسن في موالي, قال: فأعرض عنه. قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرسلني", وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا, ثم قال "ويحك أرسلني" قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر, وثلاثمائة دارع, قد منعوني من الأحمر والأسود, تحصدني في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هم لك" قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت, قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي, وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي, فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم, وقال: يا رسول الله, أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم, وأتولى الله ورسوله والمؤمنين, وأبرأ من حلف الكفار, وولايتهم, ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, عن عروة, عن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "قد كنت أنهاك عن حب يهود" فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زراة فمات, وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق .
قوله: 51- "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا" الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة، وقيل المراد بهم المنافقون، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه. وقد كان يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك. والأولى أن يكون خطاباً لكل من يتصف بالإيمان أعم من أن يكون ظاهراً وباطناً أو ظاهراً فقط، فيدخل المسلم والمنافق، ويؤيد هذا قوله: "فترى الذين في قلوبهم مرض" والاعتبار بعموم اللفظ، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية ما يتضح به المراد. والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادفة والمعاشرة والمناصرة. وقوله: "بعضهم أولياء بعض" تعليل للنهي، والمعنى: أن بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم، وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء" وقيل المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوة ما جاء به وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين. ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم وهو وعيد شديد فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية. وقوله: "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" تعليل للجملة التي قبلها: أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين.
51-" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " ، اختلفوا في نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاماً لجميع المؤمنين.
فقال قوم : نزلت في عبادة بن الصامت و عبد الله بن أبي سلول ، وذلك أنهما اختصما ، فقال عبادة : إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله و إلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود ، ولا مولى لي إلا الله و رسوله، فقال عبد الله : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود ، لأني أخاف الدوائر ، ولا بد لي منهم ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه ، قال إذا أقبل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتدت على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين :أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أماناً إني أخاف أن يدال علينا اليهود ، وقال رجل آخر : أما أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أماناً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهما.
قال عكرمة : نزلت في [ أبي لبابة ] بن عبد المنذر بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة [ حين حاصرهم ] فاستشاروه في النزول ،وقالوا: ماذا يصنع بنا إذا نزلنا، فجعل أصبعه على حلقه أنه الذبح ، أي : يقتلكم. فنزلت هذه الآية.
" بعضهم أولياء بعض "، في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين ، " ومن يتولهم منكم " ، [ فيوافقهم و يعنه ] ، " فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ".
51" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب. " بعضهم أولياء بعض " إيماء إلى علة النهي، أي فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضادتكم. " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " أي ومن والاهم منكم فإنه من جملتهم، وهذا التشديد وجوب مجانبتهم كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا تتراءى ناراهما"، أو لأن الموالي لهم كانوا منافقين. " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " أي الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم.
51. O ye who believe! Take not the Jews and Christians for friends. They are friends one to another. He among you who taketh them for friends is (one) of them. Lo! Allah guideth not wrongdoing folk.
51 - O ye who believe take not the Jews and the Christians for your friends and protectors: they are but friends and protectors to each other. and he amongst you that turns to them (for friendship) is of them. verily God guideth not a people unjust.