أولئك) الموصوفون بما ذكر (على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) الفائزون بالجنة الناجون من النار
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله:"أولئك على هدى من ربهم":
فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين، أعني: المؤمنين بالغيب من العرب، والمؤمنين بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعًا وصف بأنهم على هدى منه، وأنهم هم المفلحون.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما "الذين يؤمنون بالغيب"، فهم المؤمنون من العرب، "والذين يؤمنون بما أنزل إليك"، المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال:"أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون".
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون بما أنرل إلى محمد، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إلى من قبله، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون "الذين يؤمنون بما أنزل إليك" في محل خفض، ومحل رفع.
فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما: من قبل العطف على ما في "يؤمنون بالغيب" من ذكر "الذين"، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ، أو يكون "أولئك على هدى من ربهم"، مرا فعها.
وأما الخفض فعلى العطف على "المتقين"، وإذا كانت معطوفة على "الذين" اتجه لها وجهان من المعنى: أحدهما: أن تكون هي و "الذين" الأولى، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد "الم"، نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون "الذين" الثانية معطوفة في الإعراب على "المتقين" بمعنى الخفض، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله "الم"، غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين.
وقد يحتمل أن تكون "الذين" الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضًا بنية الائتناف، إذ كانت في مبتدأ آية، وإن كانت من صفة المتقين.
فالرفع إذًا يصح فيها من أربعة أوجه، والخفض من وجهين.
وأولى التأويلات عندي بقوله "أولئك على هدى من ربهم" ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس، وأن تكون "أولئك" إشارة إلى الفريقبن، أعني: المتقين، والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وتكون "أولئك" مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله "على هدى من ربهم" وأن تكون "الذين" الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام، على ما قد بيناه.
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء.
وأما معنى قوله "أولئك على هدى من ربهم" فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم. كما:
حدثني ابن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، "أولئك على هدى من ربهم": أي على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: "وأولئك هم المفلحون".
وتأويل قوله: "وأولئك هم المفلحون" أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما:
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وأولئك هم المفلحون" أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.
ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح، إدراك الطلبة بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة:
اعقلي، إن كنت لما تعقلي، ولقد أفلح من كان عقل
يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرًا، ومنه قول الراجز:
عدمت أمـًا ولــدت رياحـــا جاءت به مفركحًا فركاحا
تحسب أن قد ولدت نجاحا أشــهد لا يــزيدهـا فـلاحـا
يعني: خيرًا وقربًا من حاجتها، والفلاح مصدر من قولك: أفلح فلان يفلح إفلاحًا وفلاحًا وفلحًا. والفلاح أيضًا: البقاء، ومنه قول لبيد:
نحل بلادًا، كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
يريد: البقاء، ومنه أيضًا قول عبيد:
أفلح بما شئت، فقد يدرك بالضـ ـعف، وقد يخدع الأريب
يريد: عش وابق بما شئت، وكذلك قول نابغة بني ذبيان:
وكل فتى ستشعبه شعوب وإن أثرى، وإن لاقـى فــلاحــا
أي نجاحًا بحاجته وبقاء.
قوله تعالى : "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" قال النحاس أهل نجد يقولون : ألاك ، وبعضهم يقول : ألالك ، والكاف للخطاب . قال الكسائي : من قال أولئك فواحده ذلك ، ومن قال ألاك فواحده ذاك ، وألالك مثل أولئك ، وانشد ابن السكيت :
ألالك قومي لم يكونوا أشابة وهل يعظ الضليل إلا ألالكا
وربما قالوا : أولئك في غير العقلاء ، قال الشاعر :
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
وقال تعالى : "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" وقال علماؤنا : إن في قوله تعالى : "من ربهم" رداً على القدرية في قولهم : يخلقون إيمانهم وهداهم ، تعالى الله عن قولهم ! ولو كان كما قالوا لقال : من أنفسهم، وقد تقدم الكلام فيه وفي الهدى فلا معنى لاعادة ذلك .
"وأولئك هم المفلحون" هم يجوز أن يكون مبتدأ ثانياً وخبره المفلحون والثاني وخبره خبر الأول ، ويجوز أن تكون هم زائدة ـ يسميها البصريون فاصلة والكوفيون عماداً ـ و المفلحون خبر أولئك .
والفلح أصله في اللغة الشق والقطع ، قال الشاعر:
إن الحديد بالحديد يفلح
أي شيق ، ومنه فلاحة الأرضين إنما هو شقها للحرق ، قاله أبو عبيد . ولذلك سمي الأكار فلاحا . ويقال للذي شقت شفته السفلى أفلح ، وهو بين الفلحة ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه . وقد يستعمل في الفوز والبقاء ، وهو أصله أيضاً في اللغة ، ومنه قول الرجل لامرأته : استفلحي بأمرك ، معناه فوزي بأمرك ، وقال الشاعر :
لو كان حي مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح
وقال الأضبط بن قريع السعدي في الجاهلية الجهلاء :
لكل هم من الهموم سعه والمسي والصبح لا فلاح معه
يقول : ليس مع كر الليل والنهار بقاء . وقال آخر :
نحل بلادا كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
أي البقاء . وقال عبيد :
أفلح بما شئت فقد يدرك بالضـ عف وقد يخدع الأريب
أي أبق بما شئت من كيس وحمق فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل . فمعنى "وأولئك هم المفلحون" أي الفائزون بالجنة والباقون فيها . وقال ابن ابي إسحاق : المفلحون هم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا ، والمعنى واحد . وقد استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث :
" حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور " . أخرجه أبو داود . فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سماه فلاحا . والفلاح ( بتشديد اللام ) : المكاري في قول القائل :
لها رطل تكيل الزيت فيه وفلاح يسوق لها حمارا
ثم الفلاح في العرف : الظفر بالمطلوب ، والنجاة من المرهوب .
مسألة : إن قال قائل كيف قرأ حمزة : عليهم وإليهم ولديهم ، ولم يقرأ من ربهم ولا فيهم ولا جنتيهم ؟ فالجواب أن عليهم وإليهم ولديهم الياء فيه منقلبة من ألف ، والأصل علاهم ولداهم وإلاهم فأقرت الهاء على ضمتها ، وليس ذلك في فيهم ولا من ربهم ولا جنتيهم ، ووافقه الكسائي في "عليهم الذلة" و "حب الشهوات" على ما هو معروف من القراءة عنهما .
يقول الله تعالى : "أولئك" أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل والإيقان بالدار الاخرة وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات "على هدى" أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى : "وأولئك هم المفلحون" أي في الدنيا والاخرة ، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "أولئك على هدى من ربهم" أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به "وأولئك هم المفلحون" أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا وقال ابن جرير وأما معنى قوله تعالى : "أولئك على هدى من ربهم" فإن معنى ذلك فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم وتأويل قوله تعالى : "وأولئك هم المفلحون" أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب . والخلود في الجنات والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب . وقد حكى ابن جرير قولاً عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى : "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى : "والذين يؤمنون بما أنزل إليك" الاية ، على ما تقدم من الخلاف ، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى : "والذين يؤمنون بما أنزل إليك" منقطعاً مما قبله وأن يكون مرفوعاً على الابتداء وخبره "أولئك هم المفلحون" واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب ، ثم جمع الفريقين فقال : "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة والإشارة عائدة عليهم والله أعلم .
وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : وقيل له يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس أو كما قال ، قال : "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " ـ إلى قوله ـ "المفلحون" هؤلاء أهل الجنة ، قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء ثم قال : "إن الذين كفروا سواء عليهم" ـ إلى قوله ـ "عظيم" هؤلاء أهل النار قالوا لسنا هم يا رسول الله ، قال : أجل ".
هذا كلام مستأنف استئنافاً بيانياً، كأنه قيل: كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل: 5- "أولئك على هدى" ويمكن أن يكون هذا خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب إلخ فيكون متصلاً بما قبله. قال في الكشاف: ومعنى الاستعلاء في قوله: "على هدى" مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به، شبهت حالهم حال من اعتلى الشيء وركبه، ونحوه: هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرحوا بذلك في قوله: جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد عارب الهوى انتهى. وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق والسعد والمحقق الشريف. واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها [الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف] فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام. وقال ابن جرير: إن معنى "أولئك على هدى من ربهم" على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم، " المفلحون " أي المنجحون المذكرون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله. هذا معنى كلامه. والفلاح أصله في اللغة: الشق والقطع، قاله أبو عبيد: ويقال الذي شقت شفته أفلح، ومنه سمي الأكار فلاحاً لأنه شق الأرض بالحرث، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. قال القرطبي وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة، فمعنى "أولئك هم المفلحون" الفائزون بالجنة والباقون. وقال في الكشاف: المفلح الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه انتهى. وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود "حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور. فكأن معنى الحديث: أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً. وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أن كلاً من الهدى والفلاح مستقل بتميزهم به عن غيرهم، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزاً على حياله. وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره. وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب: هم المؤمنون من العرب، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله: هم، والمؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال: "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" وقد قدمنا الإشارة إلى هذا وإلى هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل: يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس أو كما قال: فقال: ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " إلى قوله: "المفلحون" هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال: "إن الذين كفروا سواء عليهم" إلى قوله: "عظيم" هؤلاء أهل النار، قالوا: ألسنا هم يا رسول الله؟ قال: أجل".
وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث: منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: يا نبي الله إن لي أخاً وبه وجع فقال: وما وجعه؟ قال: به لمم، قال: فائتني به فوضعه بين يديه، فعوذه النبي بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة البقرة، وهاتين الآيتين "وإلهكم إله واحد" وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران "شهد الله أنه لا إله إلا هو"، وآية من الأعراف "إن ربكم الله"، وآخر سورة المؤمنين "فتعالى الله الملك الحق"، وآية من سورة الجن "وأنه تعالى جد ربنا"، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وقل هو الله أحد والمعوذتين، فقام الرجل كأنه لم يشتك قط". وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبي مثله. وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال: من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثاً من آخر سورة البقرة لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق. وأخرج الدارمي وابن المنذر والطبراني عنه قال: "من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح: أربع من أولها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتمها أولها "لله ما في السموات"". وأخرج سعيد بن منصور والدارمي والبيهقي عن المغيرة بن سبيع، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه. وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة" وقد ورد في ذلك غير هذا.
5. قوله تعالى: " أولئك " أي أهل هذه الصفة وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو: هم، والكاف للخطاب كما في حرف ذلك " على هدى " أي رشد وبيان وبصيرة " من ربهم، وأولئك هم المفلحون " أي الناجون / والفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار، ويكون الفلاح بمعنى البقاء أي باقون في النعيم المقيم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض وفي المثل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق فهم (مقطوع) لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
5-" أولئك على هدى من ربهم " الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولاً عن المتقين خبر له ، فكأنه لما قيل " هدى للمتقين " قيل ما بالهم خصوا بذلك ؟ فأجب بقوله : " الذين يؤمنون بالغيب " إلى آخر الآيات . وإلا فاستئناف لا محل لها ، فكأنه نتيجة الأحكام والصفات . أو جواب سائل قال : ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى ؟ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم بالإحسان ، فإن اسم الإشارة ههنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة ، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه ، فإن الحكم علىالوصف إيذان بأنه الموجب له . ومعنى الاستعلاء في " على هدى " تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشئ وركبه ، وقد صرحوا به في قولهم : امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى ، وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل . ونكر هدى للعظيم . فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدرة ، ونظيره قول الهذلي :
فلا وأبي الطير المربة بالضحى على خالد لقد وقعت على لحم
وأكد تعظيمه بأن الله تعالى مانحه والموفق له ، وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة .
" وأولئك هم المفلحون " كرر فيه أسم الإشارة على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كاف في تمييزهم بها عن غيرهم ، ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا بخلاف قوله " أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " ، فأن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شئ واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف . وهم : فصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند إليه ، أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك . والمفلح بالحاء والجيم : الفائز بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق . والفتح وتعريب المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة . أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم .
تنبيه : تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى ، وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الأيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل ، لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم ، وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب ، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح ، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم ، لا عدم الفلاح له رأساً .
5. These depend on guidance from their Lord. These are the successful.
5 - They are on (true) guidance, From their Lord, and it is These who will prosper.