49 - (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم) لـ (أن) لا (يفتنوك) يضلوك (عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا) عن الحكم المنزل وأرادوا غيره (فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم) بالعقوبة في الدنيا (ببعض ذنوبهم) التي أتوها ومنها التولي ويجازيهم على جميعها في الأخرى (وإن كثيرا من الناس لفاسقون)
قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله روى ابن إسحق عن ابن عباس قال قال كعب بن اسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فجاؤا فقالوا يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم وأنا إن اتبعناك اتبعتنا يهود ولم يخالفونا وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك فأبى ذلك وأنزل الله فيهم وان احكم بينهم بما أنزل الله إلى قوله لقوم يوقنون
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، وأنزلنا إليك ، يا محمد، الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ، وأن احكم بينهم ، ف (أن ) في موضع نصب ب (التنزيل ).
ويعني بقوله : "بما أنزل الله"، بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه.
وأما قوله : "ولا تتبع أهواءهم"، فإنه نهي من الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجريهم ، وأمر منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه.
وقوله : "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واحذر، يا محمد، هؤلاء اليهود الذين جاؤوك محتكمين إليك ، "أن يفتنوك"، فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه ، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم.
وقوله : "فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم"، يقول تعالى ذكره : فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك ، فتركوا العمل بما حكمت به عليهم وقضيت فيهم ، "فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم"، يقول : فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضى بحكمك وقد قضيت بالحق ، إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم ، "وإن كثيرا من الناس لفاسقون"، يقول : وإن كثيراً من اليهود، "لفاسقون"، يقول : لتاركو العمل بكتاب الله ، والخارجون عن طاعته إلى معصيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الرواية عن أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثنا سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد، وابن صوريا، وشاس بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدقك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله فيهم: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، إلى قوله : "لقوم يوقنون".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، قال : أن يقولوا : (في التوراة كذا)، وقد بينا لك ما في التوراة. وقرأ (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص [المائدة :45]، بعضها ببعض.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة، عن الشعبي قال : دخل المجوس مع أهل الكتاب في هذه الآية : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله".
قوله تعالى :" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " تقدم الكلام فيها وأنها ناسخة للتخيير قال ابن العربي: وهذه دعوى عريضة فإن شروط النسخ أربعة: منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر وهذا مجهول من هاتين الآيتين فامتنع أن يدعى أن واحدة منها ناسخة للأخرى وبقي الأمر على حاله .
قلت: قد ذكرنا عن أبي جعفر النحاس أن هذه الآية متأخرة في النزول فتكون ناسخة إلا أن يقدر في الكلام " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " إن شئت لأنه قد تقدم ذكر التخيير له ، فآخر الكلام حذف التخيير منه لدلالة الأول عليه، لأنه معطوف عليه، لأنه معطوف عليه فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله، إذ لا معنى لذلك ولا يصح فلا بد من أن يكون قوله " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " معطوف على ما قبله من قوله :" وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " [المائدة : 42] ومن قوله " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " [المائدة:42] فمعنى " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " أي احكم بذلك إن حكمت واخترت الحكم، فهو كله محكم غير منسوخ، لأن الناسخ لا يكون مرتبطاً بالمنسوخ معطوفاً عليه فالتخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محكم غير منسوخ قاله مكي رحمه الله وأن احكم في موضع نصب عطفاً على الكتاب أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله ، أي بحكم الله الذي أنزل إليك في كتابه " واحذرهم أن يفتنوك " أن بدل من الهاء والميم في واحذرهم وهو بدل اشتمال أو مفعول من أجله أي من أجل أن يفتنوك وعن ابن إسحاق قال ابن عباس:
اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صوريا وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس بن قيس وقالوا: اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فإنما هو بشر فأتوا فقاولا: قد عرفت يا محمد أنا أحبار اليهود، وإن ابتعناك لم يخالفنا أحد من اليهود وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وأصل الفتنة الاختبار حسبما تقدم ثم يختلف معناها فقوله تعالى هنا يفتنوك معناه يصدوك ويردوك وتكون الفتنة بمعنى الشرك ومنه قوله : "والفتنة أكبر من القتل " [ البقرة: 217] وقوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " [البقرة: 193] وتكون الفتنة بمعنى العبرة كقوله: " لا تجعلنا فتنة للذين كفروا " [الممتحنة :5] و" لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين " [يونس: 85] وتكون الفتنة الصد عن السبيل كما في هذه الآية وتكرير " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " للتأكيد أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال: أن يفتنوك وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد وقيل: الخطاب له والمراد غيره ، وسيأتي بيان هذا في الأنعام إن شاء الله تعالى . ومعنى " عن بعض ما أنزل الله إليك " عن كل ما أنزل الله إليك والبعض يستعمل بمعنى الكل قال الشاعر:
أو يعتبط بعض النفوس حمامها
ويروى أو يرتبط أراد كل النفوس وعليه حملوا قوله تعالى :" ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه " [ الزخرف : 63] قال ابن العربي: والصحيح أن بعض على حالها في هذه الآية وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي كانوا أرادوا ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل والله أعلم .
قوله تعالى : " فإن تولوا " أي فإن أبوا حكمك وأعرضوا عنه " فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " أي يعذبهم بالجلاء والجزية والقتل ، وكذلك كان وإنما قال: ببعض لأن المجازاة بالبعض كانت كافية في التدمير عليهم " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " يعني اليهود .
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه, ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه, كما تقدم بيانه, شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم, فقال تعالى: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق" أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله "مصدقاً لما بين يديه من الكتاب" أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه, وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, فكان نزوله كما أخبرت به, مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله, واتبعوا شرائع الله, وصدقوا رسل الله, كما قال تعالى: " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولاً, أي لكائناً لا محالة ولا بد .
قوله تعالى: "ومهيمناً عليه" قال سفيان الثوري وغيره, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: أي مؤتمناً عليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المهيمن الأمين, قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك, وقال ابن جرير: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله, فما وافقه منها فهو حق, وما خالفه منها فهو باطل, وعن الوالبي عن ابن عباس "ومهيمناً" أي شهيداً, وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس "ومهيمناً" أي حاكماً على ما قبله من الكتب, وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى, فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله, فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله, جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمهاأشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله, وزاده من الكمالات, ماليس في غيره, فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة, فقال تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد, أنهم قالوا في قوله "ومهيمناً عليه" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن فإنه صحيح في المعنى, ولكن في تفسير هذا بهذا نظر, وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضاً نظر, وبالجملة فالصحيح الأول. وقال أبو جعفر بن جرير بعد حكايته له عن مجاهد: وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب, بل هو خطأ, وذلك أن المهيمن عطف على المصدق , فلا يكون إلا صفة لما كان المصدق صفة له, قال: ولو كان الأمر كما قال مجاهد لقال: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب, مهيمناً عليه, يعني من غير عطف .
وقوله تعالى: "فاحكم بينهم بما أنزل الله" أي فاحكم يا محمد بين الناس, عربهم وعجمهم, أميهم وكتابيهم, بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم, وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك, هكذا وجهه ابن جرير بمعناه, قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار, حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيراً إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم, فردهم إلى أحكامهم, فنزلت "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا .
وقوله "ولا تتبع أهواءهم" أي آراءهم التي اصطلحوا عليها, وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله, ولهذا قال تعالى: "ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق" أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء. وقوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن يوسف بن أبي إسحاق, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس "لكل جعلنا منكم شرعة" قال: سبيلاً. وحدثنا أبو سعيد, حدثنا وكيع عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس "ومنهاجاً" قال: وسنة, كذا روى العوفي عن ابن عباس "شرعة ومنهاجاً" سبيلاً وسنة, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي, أنهم قالوا في قوله "شرعة ومنهاجاً" أي سبيلاً وسنة, وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد, أي وعطاء الخراساني عكسه "شرعة ومنهاجاً" أي سنة وسبيلاً, والأول أنسب, فإن الشرعة وهي الشريعة أيضاً هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء, ومنه يقال: شرع في كذا, أي ابتدأ فيه, كذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء . أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل, والسنن الطرائق .
فتفسير قوله: "شرعة ومنهاجاً" بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس, والله أعلم. ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان, باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد, كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات, ديننا واحد" يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله, كما قال تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" وقال تعالى: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" الآية, وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً, ثم يحل في الشريعة الأخرى, وبالعكس, وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه, وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة, والحجة الدامغة .
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قوله "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" يقول: سبيلاً وسنة, والسنن مختلفة, هي في التوراة شريعة, وفي الإنجيل شريعة, وفي الفرقان شريعة, يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء, ليعلم من يطيعه ممن يعصيه, والدين الذي لا يقبل الله غيره, التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام, وقيل: المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجاً, أي هو لكم كلكم تقتدون به, وحذف الضمير المنصوب في قوله "لكل جعلنا منكم" أي جعلناه, يعني القرآن, شرعة ومنهاجاً, أي سبيلاً إلى المقاصد الصحيحة, وسنة أي طريقاً ومسلكاً واضحاً بيناً, هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد رحمه الله, والصحيح القول الأول, ويدل على ذلك قوله تعالى بعده "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" فلو كان هذا خطاباً لهذه الأمة, لما صح أن يقول "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" وهم أمة واحدة, ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة, التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد, وشريعة واحدة, لا ينسخ شيء منها, ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة, ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده, حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم, الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة, وجعله خاتم الأنبياء كلهم, ولهذا قال تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم " أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله. وقال عبد الله بن كثير " في ما آتاكم " يعني من الكتاب .
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها, فقال "فاستبقوا الخيرات" وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخاً لما قبله, والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله, ثم قال تعالى: "إلى الله مرجعكم" أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة "فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق, فيجزي الصادقين بصدقهم, ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان, بل هم معاندون للبراهين القاطعة, والحجج البالغة والأدلة الدامغة. وقال الضحاك "فاستبقوا الخيرات" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم, والأول أظهر. وقوله "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه, ثم قال "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من أمور, فلا تغتر بهم, فإنهم كذبة كفرة خونة, "فإن تولوا" أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله, "فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم" أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم, "وإن كثيراً من الناس لفاسقون" أي إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه, كما قال تعالى: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين". وقال تعالى: "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله" الآية .
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة. عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وابن صلوبا وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس, بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه, فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود, وأشرافهم, وساداتهم, وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا, وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك, فتقضي لنا عليهم, ونؤمن لك ونصدقك, فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عز وجل فيهم "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" إلى قوله "لقوم يوقنون", رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقوله تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير, الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله, كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم, وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق, وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها, وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه, فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله, فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير, قال تعالى: "أفحكم الجاهلية يبغون" أي يبتغون ويريدون, وعن حكم الله يعدلون, "ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه, وآمن به, وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين, وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها, فإنه تعالى هو العالم بكل شيء, القادر على كل شيء, العادل في كل شيء .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هلال بن فياض, حدثنا أبو عبيدة الناجي قال: سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية. وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح, قال: كان طاوس إذا سأله رجل: أفضل بين ولدي في النحل ؟ قرأ "أفحكم الجاهلية يبغون" الآية, وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي, حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع, أخبرنا شعيب بن أبي حمزة, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين, عن نافع بن جبير, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبغض الناس إلى الله عز وجل, من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية, وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه". وروى البخاري عن أبي اليمان بإسناده نحوه بزيادة .
قوله: 49- "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم". عطف على الكتاب : أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه . وقد استدل بهذا على نسخ التخير المتقدم في قوله : " أو أعرض عنهم " وقد تقدم تفسير " ولا تتبع أهواءهم " . قوله: "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" أي يضلوك عنه ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها " فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك فذلك لما أراده الله من تعذيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به "وإن كثيراً من الناس لفاسقون" متمردون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف.
49-قوله عز وجل ، " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال كعب بن [ أسد]وعبد الله بن [صوريا] وشاس بن قيس من رؤساء اليهود بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتيه عن دينه ، فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وإنا إن اتبعناك لم يخالفنا اليهود ، وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك فقض لنا عليهم نؤمن بك ، ويتبعنا غيرنا. ولم يكن قصدهم الإيمان، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم فأنزل الله عز وجل الآية. " فإن تولوا " أي أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن، " فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم "، أي: فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يجعل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم ، " وإن كثيراً من الناس "، يعني اليهود، " لفاسقون ".
49" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم، ويجوز أ، يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم. " ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " أي أن يضلوك ويصرفوك عنه، وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك. روي "أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فقالوا، يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن تبعناك اتبعنا اليهود كلهم، إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم" فنزلت. " فإن تولو " عن الحكم المنزل وأرادوا غيره. " فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى، فعبر عنه بذلك تنبيهاً على أن لهم ذنوباً كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها، وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد:
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
" وإن كثيرا من الناس لفاسقون " لمتمردون في الكفر معتدون فيه.
49. So judge between them by that which Allah hath revealed, and follow not their desires, but beware of them lest they seduce thee from some part of that which Allah hath revealed unto thee. And if they turn away, then know that Allah's will is to smite them for some sin of theirs. Lo! many of mankind are evil livers.
49 - And this (he commands): judge thou between them by what God hath revealed, and follow not their vain desires, but beware of them lest they beguile thee from any of that (teaching) which God hath sent down to thee. and if they turn away, be assured that for some of their crimes it is God's purpose to punish them. and truly most men are rebellious.