وعرضوا على ربك صفا) حال أي مصطفين كل امة صف ويقال لهم (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) أي فرادى حفاة عراة عزلا ويقال لمنكري البعث (بل زعمتم) أن مخففة من الثقيلة أي أنه (ألن نجعل لكم موعدا) للبعث
وقوله " وعرضوا على ربك صفا" يقول عز ذكره : وعرض الخلق على ربك يا محمد صفا " لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة" يقول عز ذكره : يقال لهم إذ عرضوا على الله : لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة، وحذف يقال من الكلام لمعرفة السامعين بأنه مراد في الكلام . وقوله " بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا" وهذا الكلام خرج مخرج الخبر عن خطاب الله به الجميع ، والمراد منه الخصوص ، وذلك أنه قد يرد القيامة خلق من الأنبياء والرسل ، والمؤمنين بالله ورسله وبالبعث . ومعلوم أنه لا يقال يومئذ لمن وردها من أهل التصديق بوعد الله في الدنيا، وأهل اليقين فيها بقيام الساعة : بل زعمتم أن لن نجعل لكم البعث بعد الممات ، والحشر إلى القيامة موعدا، وأن ذلك إنما يقال لمن كان في الدنيا مكذبا بالبعث وقيام الساعة .
قوله تعالى : " وعرضوا على ربك صفا " (صفا ) نصب على الحال . قال مقاتل : يعرضون صفا بعد صف كالصفوف ، الصلاة ، كل أمة وزمرة صفا ، لاأنهم صف واحد وقيل جيمعاً ، كقوله " ثم ائتوا صفا " [ طه : 64] أي جميعاً وقيل قياماً . وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكميهن وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جواباً فإنكم مسؤولون محاسبون . يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب " .
قلت : هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية ، ولم يذكره كثر من المفسرين وقد كتبناه في كتاب التذكرة ، ومنه نقلناه والحمد لله .
" لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " أي يقال لهم : لقد جئتمونا حفاة عراة ، لا مال معكم ولا ولداً . وقيل فرادي ، دليله قوله " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " [ الأنعام : 94] وقد تقدم . وقال الزجاج أي بعثناكم كما حلقناكم . " بل زعمتم " هذا خطاب لمنكحري البعث ، أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعداً للبعث . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً قلت : يا رسول الله ! الرجال والنساء ينظظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض . غرلاً أي غير مختونين" . وقد تقدم في (الأنعام ) بيانه .
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام, كما قال تعالى: "يوم تمور السماء موراً * وتسير الجبال سيراً" أي تذهب من أماكنها وتزول, كما قال تعالى: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" وقال تعالى: "وتكون الجبال كالعهن المنفوش" وقال: " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا* فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " يذكر تعالى أنه تذهب الجبال, وتتساوى المهاد, وتبقى الأرض قاعاً صفصفاً, أي سطحاً مستوياً لا عوج فيه ولا أمتاً, أي لا وادي ولا جبل, ولهذا قال تعالى: "وترى الأرض بارزة" أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد, ولا مكان يواري أحداً, بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة "وترى الأرض بارزة" لا خمر فيها ولا غيابة قال قتادة : لا بناء ولا شجر.
وقوله: "وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا" وأي وجمعناهم الأولين منهم والاخرين, فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً, كما قال: " قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " وقال: "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود". وقوله: "وعرضوا على ربك صفا" يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداً, كما قال تعالى: "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً" ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً, كما قال: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً" وقوله: "لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" هذا تقريع للمنكرين للمعاد, وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد, ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم: " بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا " أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم, ولا أن هذا كائن.
وقوله: "ووضع الكتاب" أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير, والفتيل والقطمير, والصغير والكبير, "فترى المجرمين مشفقين مما فيه" أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة "ويقولون يا ويلتنا" أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا " مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " أي لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر, إلا أحصاها, أي ضبطها وحفظها. وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الاية قبلها إلى سعد بن جنادة قال: " لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين, نزلنا قفراً من الأرض ليس فيه شيء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا من وجد عوداً فليأت به, ومن وجد حطباً أو شيئاً فليأت به قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذا ؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا, فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة, فإنها محصاة عليه".
وقوله: "ووجدوا ما عملوا حاضراً" أي من خير وشر, كما قال تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً" الاية, وقال تعالى: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" وقال تعالى: "يوم تبلى السرائر" أي تظهر المخبآت والضمائر. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو الوليد , حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به" أخرجاه في الصحيحين , وفي لفظ "يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته, يقال هذه غدرة فلان بن فلان".
وقوله: "ولا يظلم ربك أحداً" أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً, ولا يظلم أحداً من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم, ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله, ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي, ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين, وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم, قال تعالى: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها" الاية, وقال " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " إلى قوله " حاسبين " والايات في هذا كثيرة وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد , أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي , عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم, فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً, فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام, فإذا عبد الله بن أنيس , فقلت للبواب: قل له جابر على الباب, فقال: ابن عبد الله ؟ قلت نعم, فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته, فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص, فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه, فقال سمعت رسول الله يقول: "يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة ـ أو قال العباد ـ عراة غرلاً بهما قلت, وما بهما ؟ قال: ليس معهم شيء, ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك, أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه, ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال: قلنا كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً بهما ؟ قال: بالحسنات والسيئات".
وعن شعبة عن العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة" رواه عبد الله بن الإمام أحمد , وله شواهد من وجوه أخر, وقد ذكرناها عند قوله تعالى: "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً" وعند قوله تعالى: "إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون".
48- "وعرضوا على ربك صفاً" انتصاب صفاً على الحال: أي مصفوفين كل أمة وزمرة صف، وقيل عرضوا صفاً واحداً كما في قوله: "ثم ائتوا صفاً" أي جميعاً، وقيل قياماً. وفي الآية تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان "لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة" هو على إضمار القول: أي قلنا لهم لقد جئتمونا، والكاف في "كما خلقناكم" نعت مصدر محذوف: أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عند أن خلقناكم أول مرة، أو كائنين كما خلقناكم أول مرة: أي حفاة عراة غرلاً، كما ورد ذلك في الحديث. قال الزجاج: أي بعثناكم وأعدناكم كما خلقناكم، لأن قوله لقد جئتمونا معناه بعثناكم " بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا " هذا إضراب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث: أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا، وأن لن نجعل لكم موعداً نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب.
48 - " وعرضوا على ربك صفاً " ، أي صفاً صفاً فوجاً فوجاً ، لا أنهم صف واحد . وقيل : قياماً ، ثم يقال لهم ،يعني الكفار : " لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " ، يعني أحياءً ، وقيل : فرادى كما ذكر في سورة الأنعام . وقيل غرلاً .
" بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا " ، يوم القيامة ، يقوله لمنكري البعث .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا وهب عن ابن طاووس ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : " يحشر الناس على ثلاث طرائق ، راغبين وراهبين ، واثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، وتحشر بقيتهم النار ، تقيل معهم حيث قالوا ، وتبيت معهم حيث باتوا ، وتصبح معهم حيث أصبحوا ، وتمسي معهم حيث أمسوا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن كثير ، أنبأنا سفيان بن المغيرة بن النعمان ، حدثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم محشورون حفاةً عراةً غرلاً ، ثم قرأ ، " كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين " ( الأنبياء - 104 ) ، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ،وإن ناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول أصحابي أصحابي ، فيقول : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح : " وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم " إلى قوله : " العزيز الحكيم " ( المائدة - 117/ 118) ."
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، [ أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي ] أخبرنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المغلس ، ببغداد ، حدثنا هارون بن إسحاق الهمذاني ، أنبأنا أبو خالد الأحمر ، عن حاتم بن أبي صغير ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : "قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة ؟ قال : عراةً حفاةً ، قالت : قلت والنساء ؟ قال : والنساء ، قالت : قلت يا رسول الله نستحي، قال : يا عائشة الأمر أشد من ذلك أن يهمهم أن ينظر بعضهم إلى بعض ".
48."وعرضوا على ربك"شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم ."صفاً"مصطفين لا يحجب أحد أحداً ."لقد جئتمونا "على إضمار القول على وجه يكون حالاً أو عاملاً في يوم نسير."كما خلقناكم أول مرة"عراة لا شيء معكم من المال والولد كقوله"ولقد جئتمونا فرادى"أو أحياء كخلقتكم الأولى لقوله:" بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا " وقتاً لإنجاز الوعد بالبعث والنشور وأن الأنبياء كذبوكم به ، وبل للخروج من قصة إلى أخرى.
48. And they are set before thy Lord in ranks (and it is said unto them): Now verily have ye come unto Us as We created you at the first. But ye thought that We had set no tryst for you.
48 - And they will be marshalled before thy Lord in ranks, (with the announcement), now have ye come to us (bare) as we created you first: aye, ye thought we shall not fulfil the appointment made to you to meet (us):