45 - (وكتبنا) فرضنا (عليهم فيها) أي التوراة (أن النفس) تقتل (بالنفس) إذا قتلتها (والعين) تفقأ (بالعين والأنف) يجدع (بالأنف والأذن) تقطع (بالأذن والسن) تقلع (بالسن) وفي قراءة بالرفع في الأربعة (والجروح) بالوجهين (قصاص) أي يقتص فيها إذا أمكن كاليد والرجل ونحو ذلك وما لا يمكن فيه الحكومة وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا (فمن تصدق به) أي بالقصاص بأن مكن من نفسه (فهو كفارة له) لما أتاه (ومن لم يحكم بما أنزل الله) في القصاص وغيره (فأولئك هم الظالمون)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك ، يا محمد، وعندهم التوراة فيها حكم الله.
ويعني بقوله: "وكتبنا"، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفساً ، بغير حق ، "بالنفس"، يعني : أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة، "والعين بالعين"، يقول : وفرضنا عليهم فيها أن يفقأوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة -ويجدع الأنف بالأنف - وتقطع الأذن بالأذن - وتقلع السن بالسن - ويقتص من الجارح غيره ظلما للمجروح.
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته ، وإدباره عنه بعد إقباله ، وتعريف منه له جراءتهم قديماً وحديثاً على ربهم وعلى رسل ربهم ، وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل.
يقول تعالى ذكره له : وكيف يرضى هؤلاء اليهود، يا محمد، بحكمك ، إذا جاؤوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم ، فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين ، وقضائي بينهم أن من قتل نفساً ظلماً فهو بها قود، ومن فقأ عيناً بغير حق فعينه بها مفقوءة قصاصاً، ومن جدع أنفاً فأنفه به مجدوع ، ومن قلع سناً فسنه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحاً فهو مقتص منه مثل الجرح الذي جرحه ؟ ثم هو مع الحكم الذي عندهم في التوراة من أحكامي ، يتولون عنه ويتركون العمل به . يقول : فهم بترك حكمك ، وبسخط قضائك بينهم ، أحرى وأولى.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال: لما رأت قريظة النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم ، وكانوا يخفونه في كتابهم ، نهضت قريظة فقالوا: يا محمد، اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير. وكان بينهم دم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت النضير يتعززون على بني قريظة، ودياتهم على أنصاف ديات النضير، وكانت الدية من وسوق التمر: أربعين ومئة وسق لبنى النضير، وسبعين وسقاً لبني قريظة، فقال : دم القرظي وفاء من دم النضيري ! فغضب بنو النضير وقالوا: لا نطيعك في الرجم ، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنا عليها! فنزلت "أفحكم الجاهلية يبغون" [المائدة: 50] ، ونزل: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"، الآية.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"، قال : فما بالهم يخالفون ، يقتلون النفسين بالنفس ، ويفقأون العينين بالعين ؟.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا خلاد الكوفي قال ، حدثنا الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتال ، فكان بينهم قتلى، وكان لأحد الحيين على الآخر طول ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل يجعل الحر بالحر ، والعبد بالعبد، والمرأة بالمرأة، فنزلت : "الحر بالحر والعبد بالعبد" [البقرة : 78 ]، قال سفيان : وبلغني عن ابن عباس أنه قال : نسختها: "النفس بالنفس".
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"، فيها في التوراة - "والعين بالعين"حتى : "والجروح قصاص"، قال مجاهد، عن ابن عباس قال : كان على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح . قال : وذلك قول الله تعالى ذكره : "وكتبنا عليهم فيها" في التوراة، فخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فجعل عليهم الدية في النفس والجراح ، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة، "فمن تصدق به فهو كفارة له".
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"، قال : إن بني إسرائيل لم تجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت ، أو جرح ، أو سن ، أو عين ، أو أنف . إنما هو القصاص ، أو العفو.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وكتبنا عليهم فيها"، أي في التوراة،"أن النفس بالنفس".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "وكتبنا عليهم فيها"، أي في التوراة، بأن النفس بالنفس.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" حتى بلغ "والجروح قصاص"، بعضها ببعض.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "أن النفس بالنفس"، قال يقول : تقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويقطع الأنف بالأنف ، وتنزع السن بالسن ، وتقتص الجراح بالجراح.
قال أبو جعفر: فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم ، رجالهم ونساؤهم ، إذا كان في النفس وما دون النفس ، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم ، إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعني به : "فمن تصدق به فهو كفارة له".
فقال بعضهم : عنى بذلك المجروح وولي القتيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو: "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : يهدم عنه -يعني المجروح - مثل ذلك من ذنوبه.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو، بنحوه.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود أبي العريان قال : رأيت معاوية قاعداً على السرير، وإلى جنبه رجل أحمر كأنه مولى - وهو عبد الله بن عمرو، فقال في هذه الآية : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : يهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدق به.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : للمجروح.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن أبي عقبة، عن جابر بن زيد: "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : للمجروح.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني حرمي بن عمارة قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني عمارة، عن رجل -قال حرمي : نسيت اسمه - عن جابر بن زيد، بمثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : للمجروح.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحق ، عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار فاندقت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك ! قال ؟ وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة، حط عنه به خطيئة". فقال له الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعته أذناي ووعاه قلبي! فخلى سبيل القرشي ، فقال معاوية : مروا له بمال.
حدثنا محمود بن خداش قال ، حدثنا هشيم بن بشير قال ، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي قال ، قال ابن الصامت : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من جرح في جسده جراحة فتصدق بها، كفر عنه ذنوبه بمثل ما تصدق به".
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : كفارة للمجروح.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن زكريا قال : سمعت عامراً يقول : كفارة لمن تصدق.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول : لولي القتيل الذي عفا.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني شبيب بن سعيد، عن شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم ، عن الهيثم أبي العريان قال : كنت بالشأم ، وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير، كأنه مولى، قال : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : فمن تصدق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه ، فإذا هو عبد الله بن عمرو.
وقال آخرون : عنى بذلك الجارح . وقالوا: معنى الآية: فمن تصدق بما وجب له من قود أو قصاص على من وجب ذلك له عليه ، فعفا عنه ، فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم ، كما القصاص منه كفارة له. قالوا : فأما أجر العافي المتصدق ، فعلى الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : كفارة للجارح ، وأجر الذي أصيب على الله.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا يونس ، عن أبي إسحق، قال سمعت مجاهداً يقول لأبي إسحق : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، يا أبا إسحق ، لمن ؟ قال أبو !سحق : للمتصدق ، فقال مجاهد: للمذنب الجارح.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، قال مغيرة، قال مجاهد: للجارح.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، مثله.
حدثنا هناد وسفيان بن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد: "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قالا: للذي تصدق عليه ، وأجر الذي أصيب على الله ، قال هناد في حديثه ، قالا: كفارة للذي تصدق به عليه.
حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا ابن وكبع قال ، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر قال: كفارة لمن تصدق به عليه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم قالا: كفارة للجارح ، وأجر الذي أصيب على الله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان قال : سمعت زيد بن أسلم يقول: إن عفا عنه ، أو اقتص منه ، أو قبل منه الدية، فهو كفارة له.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : كفارة للجارح ، وأجر للعافي ، لقوله : "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" [الشورى : 40].
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : كفارة للمتصدق عليه.
حدثني المثنى قال ، حدثنا معلى بن أسد قال ، حدثنا خالد قال ، حدثنا حصين ، عن أبن عباس : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : هي كفارة للجارح.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال : فالكفارة للجارح ، وأجر المتصدق على الله.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبوحذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقول : "فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول : للقاتل ، وأجر للعافي.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عمران بن ظبيان ، عن عدي بن ثابت قال : "هتم رجل على عهد معاوية، فأعطي دية فلم يقبل ، ثم أعطي ديتين فلم يقبل ، ثم أعطي ثلاثاً فلم يقبل. فحدث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فمن تصدق بدم فما دونه ، كان كفارة له من يوم تصدق إلى يوم ولد". قال : فتصدق الرجل.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "الجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول : من جرح فتصدق بالذي جرح به على الجارح ، فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ، ولا حرج عليه ، من أجل أنه تصدق عليه الذي جرح ، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قوذ من قال : عنى بقوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له"، المجروح ، فلأن تكون الهاء في قوله : "له" عائدة على "من"، أولي من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح ، وأحرى، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات غير هذه ، فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات.
فإن ظن ظان أن القصاص ، إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتص منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخذ البيعة على أصحابه : أن لا تقتلوا ولا تزنوا ولا تسرقوا، ثم قال : فمن فعل من ذلك شيئاً فأقيم عليه حده فهو كفارته ، فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه ، أو ولي المقتول عنه نظيره ، في أن ذلك له كفارة. فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك ، لوجب أن يكون عفو المقذوف عن قاذفه بالزنا، وتركه أخذه بالواجب له من الحد وقد قذفه قاذفه وهو عفيف مسلم محصن ، كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، ومعصيته التي أتاها. وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله.
فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف - الذي وصفنا أمره - أخذ قاذفه بالواجب له من الحد، كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه،كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص ، كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه.
فإن قال قائل : أو ليس للمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص؟.
قيل له : بلى!.
فإن قال : أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها، أكانت له قبله في الآخرة تبعة؟.
قيل له : هذا كلام عندنا محال . وذلك أنه لا يكون عندنا مختاراً لدية إلا وهو لها آخذ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم ، وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع ، إلا أن يكون مراداً بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ. مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صح ، لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفو له عنها بريئاً من عقوبة ذنبه عند الله ، لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتل المؤمن بما أوعده به إن لم يعب من ذنبه ، والدية مأخوذة منه ، أحب أم سخط. والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار.
فإن ظن ظان أن ذلك وإن كان كذلك ، فقد يجب أن يكون له كفارة، كما كان القصاص له كفارة، فإنا إنما جعلنا القصاص له كفارة -مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحق منها- تنصلا من ذنبه ، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها، فلم يقض عليه بحد ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته. ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك ، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : فمن تصدق بدم ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل.
وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارح ، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير الذي:
حدثني به الحارث بن محمد قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال : إذا أصاب رجل رجلاً، ولا يعلم المصاب من أصابه ، فاعترف له المصيب ، فهو كفارة للمصيب. قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة بن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون ، فقال له : يا هذا، أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنا بها!.
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه ، فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله ، فلا تبعة له حينئذ قبل المصيب في الدنيا ولا في الآخرة. لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص ، وقد أبرأه منه. فإبراؤه منه ، كفارة للمبرأ من حقه الذي كان له أخذه به ، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الآخرة، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به ، فيكون بفعله إثما يستحق به العقوبة من ربه ، لأن الله عز وجل قد وضع الجناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم" [الأحزاب : 15].
و التصدق، في هذا الموضع ، بالدم ، العفو عنه.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوراة من قود النفس القاتلة قصاصاً بالنفس المقتولة ظلماً ، ولم يفقأ عين الفاقىء بعين المفقوء ظلماً، قصاصاً ممن أمره الله به بذلك في كتابه ، ولكن أقاد من بعض ولم يقد من بعض ، أو قتل في بعض اثنين بواحد، فإن من يفعل ذلك من الظالمين، يعني : ممن جار عن حكم الله ، ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعاً.
فيه ثلاثون مسألة :
الأولى- قوله تعالى :" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك فضلوا فكانت دية النضيري أكثر وكان النضيري لا يقتل بالقرظي ويقتل به القرظي فلما جاء الإسلام راجع بنو قريظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فحكم بالاستواء فقالت بنو النضير: قد حططت منا فنزلت هذه الآية وكتبنا بمعنى فرضنا وقد تقدم وكان شرعهم القصاص أو العفو وما كان فيهم الدية كما تقدم في البقرة بيانه وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال : يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس بنفس وقد تقدم في البقرة بيان هذا وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه .
إنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال: لا إلا ما في هذا وأخرج كتاباً من قارب سيفه وإذا فيه .
"المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده " وأيضاً فإن الآية إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل وأخذهم من قبيلة رجلاً برجل ومن قبيلة أخرى رجلاً برجلين وقالت الشافعية : هذا خبر عن شرع من قبلنا وشرع من قبلنا ليس شرعاً لنا وقد مضى في البقرة في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك ووجه رابع وهو أنه تعالى قال : "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " وكان ذلك مكتوباً على هذا التوراة وهم ملة واحدة ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين ولم يجعل الفيء لأحد قبل هذه الأمة ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثاً إلا إلى قومه فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس، إذ يشير إلى قوم معينين ويقول : إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم بالنفس فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم على هذا الوجه -: النفس بالنفس وليس في كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة .
الثانية - قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة: إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به لأن الله تعالى قال :" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين " فيؤخذ منه ما أخذ ويفعل به كما فعل وقال علماءنا : إن قصد به المثلة فعل به مثله وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين حسبما تقدم بيانه في هذه السورة .
الثالثة- قوله تعالى :" والعين بالعين " قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف ويجوز تخفيف أن ورفع الكل بالابتداء والعطف وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح وكان الكسائي وأبو عبيد يقرءان والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح بالرفع فيها كلها قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هرون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " والرفع من ثلاث جهات بالابتداء والخبر وعلى المعنى على موضع أن النفس لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس والوجه الثالث قاله الزجاج- يكون عطفاً على المضمر في النفس لأن الضمير في النفس في موضع رفع، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالأسماء معطوفة على هي قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام حكم في المسلمين وهذا أصح القولين ، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعين بالعين وكذا ما بعده الخطاب للمسلمين أمروا بهذا ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها ولاستئناف بها، كان المسلمين أمروا بهذا خاصة وما قبله لم يواجهوا به .
الرابعة - هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله " والعين بالعين " على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى وقال: تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية لعموم قوله تعالى : " والسن بالسن " والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا وذلك يبين لنا أن المراد بقوله : " والعين بالعين " استيفاء ما يماثله من الجاني فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كمنا لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها وهذا لا ريب فيه .
الخامسة وأجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية وفي العين الواحدة نصف الدية وفي عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة روي ذلك عن عمر وعثمان وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق وقيل: نصف الدية روى ذلك عن عبد الله بن المغفل ومسروق والنخعي وبه قال الثوري والشافعي والنعمان قال ابن المنذر: وبه نقول لأن في الحديث :
"في العينين الدية " ومعقول إذا كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية قال ابن العربي: وهو القياس الظاهر، ولكن علماؤنا قالوا: إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك فوجب عليه مثل ديته .
السادسة- واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه وعليه الدية كاملة وبه قال عطاء وسعيد المسيب وأحمد بن حنبل وقال مالك: إن شاء اقتص فتركه أعمى وإن شاء أخذ الدية كاملة دية عين الأعور، وقال النخعي: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: عليه القصاص، وروى ذلك عن علي أيضاً وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل واختاره ابن المنذر وابن العربي لأن الله تعالى قال: " والعين بالعين " وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية ففي العين نصف الدية ، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه وذلك ليس بمساواة وبما روى عن عمر وعثمان وعلي في ذلك ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه قال ابن العربي: والأخذ بعموم القرآن أولى فإنه أسلم عند الله تعالى .
السابعة- واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها فروي عن زيد بن ثابت أنه قال : فيها مائة دينار وعن عمر بن الخطاب أنه قال : فيها ثلث ديتها وبه قال إسحاق وقال مجاهد: فيها نصف ديتها، وقال مسروقو الزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان فيها حكومة قال ابن المنذر: وبه نقول الأقل مما قيل.
الثامنة- وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية ويستوي فيه الأعمش والأخفش وفي إبطاله من إحداهما مع بقائها النصف قال ابن المنذر : وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب: أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضه فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم أمر بخط عند ذلك ثم أمر بعينه الأخرى فغطبت وفتحت الصحية وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره، ثم خط عند ذلك ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء فأعطي ما نقص من بصره من مال الآخر وهذا على مذهب الشافعي وهو قول علمائنا وهي :
التاسعة -ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر إذ غير ممكن الوصول إليه وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنه ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها روي عن علي رضي الله عنه ذكرهالمهدوي وابن العربي واختلف في جفن العين فقال زيد بن ثابت: فيه ربع الدية وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي هاشم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وروى عن الشعبي أنه قال : في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية ، وبه قال مالك.
العاشرة - قوله تعالى :" والأنف بالأنف " جاء الحديث "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: وفي الأنف إذا أوعب جدعاً الدية " قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمداً كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعالى واختلفوا في كسر الأنف، فكان مالك يرى في العمد منه القود وفي الخطأ الاجتهاد وروى ابن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصله من أصله، قال أبو إسحاق التونسي: وهذا شاذ والمعروف الأول وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحسابه من المارن قال ابن المنذر: وما قطع من الأنف فبحسانه روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي وبه قال الشافعي قال أبو عمر: واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : إلى أن في ذلك الدية كاملة ثم أن قطع منه شيء بعد ذلك ففيه حكومة قال مالك: الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن وهو دون العظم قال ابن القاسم: وسواء قطع المارن من العظم واستؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما في الدية، كالحشفة فيها الدية، وفي استئصال الذكر الدية
الحادية عشرة قال ابن القاسم: وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم ففيه الاجتهاد وليس فيه دية معلومة وإن برئ على غير عثم فلا شيء فيه قال : وليس الأنف إذا خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة تبرأ على غير عثم فيكون فيها ديتها لأن تلك جاءت بها السنة ، وليس في خرم الأنف أثر، قال: والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف والمارن ما لأن من الأنف وكذلك قال الخليل وغيره قال أبو عمر: وأظن روثته مارنه وأرنبته طرفه وقد قيل: الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف والذين عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم في الشم إذا نقص أو فقد حكومة.
الثانية عشرة - قوله تعالى :" والأذن بالأذن " قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل :عليه حكومة، وإنما تكون عليه الدية في السمع ، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة على ما تقدم وقال أشهب: إن كان السمع إذا سئل عنه قبل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر وإذا شك السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة يقاس ذلك فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك قال أشهب: ويسحب له ذلك على سمع وسط من الرجال مثله فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء وقال عيسى بن دينار إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه .
الثالثة عشرة- قوله تعالى :" والسن بالسن" قال ابن المنذر: وثبت "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال :
كتاب الله القصاص " وجاء الحديث "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
في السن خمس من الإبل " قال ابن المنذر: فبظاهر هذا الحديث نقول: لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات لدخولها كلها في ظاهر الحديث وبه يقول الأكثر من أهل لعلم وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئاً منها على شيء عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية وفيه قول ثان رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض وذلك خمسون ديناراً قيمة كل فريضة عشرة دنانير، وفي الأضراس ببعير بعير وكان عطاء يقول: في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء والأضراس سواء قال أبو عمر: أما ما رواه مالك في موطئة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب : أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرساً والاسنان اثنا عشر سناً: أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيراً في الأسنان خمسة خمسة، وفي الأضراس بعير بعير. وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة، تصير الدية ستين ومائة بعير وعلى قول سعيد بن المسيب بعيرين بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرساً يجب لها أربعون وفي الأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة فذلك ستون وهي تتمة المائة بعير، وهي الدية كاملة من الإبل، والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان، قال أبو عمر : واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثيراً جداً والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء، مالك وأبو حنيفة والثوري بظاهر "قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وفي السن خمس من الإبل" والضرس سن من الأسنان روى ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء " وهذا نص أخرجه أبو داود وروي أبو داود أيضاً عن ابن عباس قال :
جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء قال أبو عمر: على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء وأن الأسنان في الدية كله سواء الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شيء منها على شيء على ما في كتاب عمرو بن حزم ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال: اختصم إلى شريح رجلان ضرب احدهما ثنية الآخر ضرسه فقال شريح : الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن وبسن قوما وقال أبو عمر: على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار والله أعلم .
الرابعة عشرة - فإن ضرب سنة فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد وبه قال أبو حنيفة وروي عن زيد بن ثابت وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح وروي عن عمرو بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها، وبه قال أحمد وإسحاق وقال الشافعي وأبو ثور: فها حكومة قال ابن العربي: وهذه عندي خلاف يؤول إلى وفاق فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء اليعن العمياء فلا خلاف في وجوب الدية ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعها لم يجب لا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة وما روي عن عمر رضي الله عنه فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سنداً ولا فقها .
الخامسة عشرة- واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون: إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شيء على القالع إلا أن مالكاً والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصه وقالت طائفة: فيها حكومة وري ذلك عن الشعبي وبه قال النعمان، قال ابن المنذر : بستان بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت فإن كان ذلك كان فيها قدرها تاماً على ظاهر الحديث وإن نبتت رد الأرش وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يستأنى بها سنة روى ذلك عن علي ويزد وعمرو بن عبد العزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي و لم يجعل الشافعي لهذا مدة معلومة .
السادسة عشرة- إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت فقال مالك لا يرد ما أخذ وقال الكوفيون : يرد إذا نبتت وللشافعي قولان: يرد ولا يرد لأن هذا نبات لم تجر به عادة ولا يثبت الحكم بالنادر هذا عقول علمائنا تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد أصله سن الصغير قال الشافعي : ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشا تاماً قال ابن المنذر: هذا أصح القولين: لأن كل واحد منهما قالع سن وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمساً من الإبل .
السابعة عشرة- فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحت فلا شيء فيها عندنا وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسه وقاله ابن المسيب وعطاء ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنه ميتة، وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزمت مثله وقال عطاء : يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها قال ابن العربي: وهذا غلط وقد جهل من خفي عيه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عوجها بحكمها لأن النجاسة كان فيها للأنفصال وقد عادت متصلة وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحنه فيها وإخباره عنها .
قلت: ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه قال ابن المنذر: واختلفوا في السن تقلع قوداً ثم ترد مكانها فتنبت فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح لا بأس بذلك وقال الثوري وأحمد وإسحاق: تقلع لأن القصاص للشين. وقال الشافعي: ليس له أن يردها من قبل أنها نجسه، ويجبره السلطان القلع .
الثامنة عشرة- فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة، وبه قال فقهاء الأمصار وقال زيد بن ثابت : فيها ثلث الدية قال ابن العربي: وليس في التقدير دليل فالحكومة أعدل قال ابن المنذر: ولا يصح ما روى عن زيد وقد روي عن علي أنه قال : في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه ، وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما.
قلت: وهنا انتهى ما نص الله عز وجل له من الأعضاء ولم يذكر الشفتين واللسان هي :
التاسعة عشرة-فقال الجمهور: وفي الشفتين الدية، وفي كل وحدة مها نصف الدية لا فضل للعليا منهما على السفلى وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري: في الشفة العليا ثلث الدية، وفي السفلى ثلثا الدية وقال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول : للحديث المرفوع "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : وفي الشفتين الدية " ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك وأما اللسان فجاء الحديث "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في اللسان الدية" وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به قاله ابن المنذر.
الموفية عشرين- واختلفوا في الرجل يجني على لسان فيقطع من اللسان شيئاً ويذهب من الكلام بعضه فقال أكثر أهل العلم: ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلم من ثمانية وعشرين حرفاً فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه وإن ذهب الكلام كله فيه الدية ففيه الدية هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: وقال مالك : ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود فإن أمكن فالقود هو الأصل.
الحادية والعشرون- واختلفوا في لسان الأخرس يقطع فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري أهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه :فيه حكومة قال ابن المنذر: وهو قولان شاذان أحدهما - قول النخعي أن فيه الدية والآخر قول قتادة أن فيه ثلث الدية قال ابن المنذر: والقول الأول أصح لأنه الأقل مما قيل: قال ابن العربي : نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها، فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه .
الثانية والعشرون- قوله تعالى:" والجروح قصاص " أي مقاصة وقد تقدم في البقرة ولا قاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا أن يخطىء الضارب أو زيد أو ينقص ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه وهذا كله في العمد فأما الخطأ فالدية وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح وفي صحيح مسلم "عن أنس : أن أخت الربيع -أم حارثة - جرحت إنساناً فاختصموا إلى النبي صلى لله عليه وسلم :
القصاص القصاص" فقالت أم الربيع: يا رسو الله أيقتص من فلانه والله لا يقتص منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله قالت: لا والله لا يقتص منها أبداً قال فما زلات حتى قبلوا الدية فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره "
قلت: المجروح في هذه الحديث جارية، والجرح كسر ثنينها أخرجه النسائي عن أنس أيضاً أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أخوها أنس بن النضر: أتكسر ثنية فلانه؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنتها قال : وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " خرج أبو داود أيضاً، وقال سمعت أحمد بن حنبل قيل له: كيف يقتص من السن قال : تبرد.
قلت: ولا تعارض بين الحديثين فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر لله قسمهما وفي هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر إن شاء الله تعالى فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة .
الثالثة والعشرون- أجمع العلماء على نقوله تعالى " والسن بالسن" أنه في العمد فمن أصاب سن أحد عمداً ففه القصاص على حديث أنس واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمداً فقال مالك : عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفاً مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمية ، ففي ذلك الدية، وقال الكوفيون : لا قصاص في عظم يكسر ماخلا السن لقوله تعالى :" والسن بالسن" وهو قول الليث والشافعي . قال الشافعي: لا يكون كسر ككسر أبداً فهو ممنوع قال الطحاوي : اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فكذلك في سائر العظام والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم فكذلك سائر العظام إلا عظماً أجمعوا على أنه لا قصاص فيه لخوف ذهاب النفس منه قال ابن المنذر: ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث : والحديث إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر .
قلت: ودل على هذا أيضاً قوله تعالى :" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " [البقرة: 194] " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به "[ النحل: 126] وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي، والله أعلم وبالله التوفيق .
الرابعة والعشرون- قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة وما جاء عن غيره في الشجاج قال الأصمعي وغيره:دخل لام بعضهم في بعض: أول الشجاج- الحارصة وهي : التي تحرص الجلد - يعني التي تشق قليلا- منه قيل، حرص القصار الثوب إذا شقه وقد يقال لها: الحرصة أيضاً من الباضعة - وهي : التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد ثم المتلاحمة -وهي : التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق والسمحاق : جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم وقال الواقدي: هي عندنا الملطى وقال غيره : هي الملطاة قال : ويه التي جاء فيها الحديث:
" يقضى في الملطاة بدمها" ثم الموضحة - وهي : التي تكشط عنها ذلك القشرة أو تشق حتى يبدوا وضح العظم فتلك الموضحة، قال أبو عبيد: وليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة لأنه ليس منها شيء له حد ينتهي إليه سواها وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها ثم الهاشمية - وهي التي تهشم العظم، ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري- وهي التي تنقل العظم- أي تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء ثم الآمة ويقال لها المأمومة- وهي التي تبلغ أم الرأس يعني الدماغ قال أبو عبيد ويقال في قوله : "ويقضى في الملطاة بدمها" إنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها قال :وسائر الشجاج عندنا يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ قال أبو عبيد: والأمر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها أنه يستأنى بها حدثنا هشيم عن حصين قال قال عمر بن عبد العزيز: ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح وقال الحسن البصري ليس فيما دون الموضحة قصاص وقال مالك: القصاص فيما دون الموضحة الملطى والدامية والباضعة وما أشبه ذلك وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق حكاه ابن المنذر وقال أبو عبيد: الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم والدامعة : أن يسيل منها دم وليس فيها دون الموضحة قصاص وقال الجوهري: والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل وقال علمائنا: الدامية هي التي تسيل الدم،ولا قصاص في فيما بعد الموضحة، من الهاشمية للعظم والمنقلة على خلاف فيها خاصة والآمة هي البالغة إلى أم الرأس والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ وفي هاشمة الجسد القصاص إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه، وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم: لا قود فيها لأنها لا بد تعود منقلة وقال أشهب: فيها القصاص إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها وأما الأطراف فيجب القصاص جميع المفاصل إلا لمخوف منها وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين، لأنه تقبل التقدير وفي اللسان روايتان والقصاص في كسر العظام إلا ما كان متلفاً كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهة وفي كسر عظام العضد القصاص، وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر أن يكسر فخذه وفعل ذلك عبد العزيز عبد الله بن خالد بن أسيد بمكة وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا وقال : إنه الأمر المجمع عليه عندهم والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فيكسرها يقاد منه .
الخامسة والعشرون - قال العلماء: الشجاج في الرأس، والجراح في البدن وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيما ذكر ابن المنذر: واختلفوا في ذلك الأرش، وما دون الموضحة شجاج خمس: الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والمسحاق فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: في الدامية حكومة وفي الباضعة حكومة وفي المتلاحمة حكومة وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال : في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران وفي المتلاحقة ثلاثة أبعرة من الإبل وفي السمحاق أربع وفي الموضحة خمس وفي الهاشمة عشر وفي المنقلة خمس عشرة في المأمومة ثلث الدية وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة أو يضرب حتى يغن ولا يفهم الدية كاملة أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة وفي جفن العين ربع الدية وفي حلمة الثدي ربع الدية قال ابن المنذر: وروى عن علي في السمحاق مثل قول زيد وروى عن عمر وعثمان أنهما قالا: فيها نصف الموضحة وقال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والنخعي : فيها حكومة وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد: ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل، على ما في حديث عمرو بن حزم وفيه .
"وفي الموضحة خمس" وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس، فروي عن أبي بكر وعمرو أنهما سواء وقال بقولهما جماعة من التابعين، وبه يقول الشافعي وإسحاق وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس وقال أحمد موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها وقال مالك: المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إلى وصل إلى الدماغ قال : والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة قال مالك: والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس والوجه فقال أشهب وابن القاسم: ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد وليس فيها أرش معلوم قال ابن المنذر: هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وبه نقول: وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون ديناراً قال أبو عمر: واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلاً مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن وإن انخرقت فصارت واحدة -دية كاملة، وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة قال ابن المنذر: ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا وقال أبو ثور: إن اختلفوا فيه ففيها حكومة ابن المنذر: النظر يدل على هذا إذ لا سنة فيها ولا إجماع وقال القاضي أبو الوليد الباجي : فيها ما في الموضحة فإن صارت منقلة فخمسة عشرة وإن صارت مأمومة فثلث الدية قال ابن المنذر: ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغناه عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشراً من الإبل وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن والشافعي وقال الثوري وأصحاب الرأي : فيها ألف درهم ومرادهم عشر الدية. وأما المنقلة فقال ابن المنذر: جاء الحديث "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
في المنقلة خمس عشرة عن الإبل " وأجمع أهل العلم على القول به قال ابن المنذر: وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل منها العظام وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي وهو قول قتادة وابن شبرمة- أن المنقلة لا قود فيها وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة قال ابن المنذر والأول أولى لأني لا أعلم أحداً خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر: جاء الحديث "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
في المأمومة ثلث الدية " وأجمع العلماء عوم أهل العلم على القول به ولا نعلم أحداً خالف ذلك إلا مكحولاً فإنه قال : إذا كانت المأمومة عمداً ففيها ثلثاً الدية وإذا كانت خطأ ففيها ثلث الدية وهذا قول شاذ وبالقول الأول أقول ، واختلفوا في القود من المأمومة فقال كثير من أهل العلم : لا قود فيها وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة فأنكر ذلك الناس وقال عطاء: ما علمنا أحداً أقاد منها قبل ابن الزبير وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على حديث عمرو بن حزم ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال : إذا كانت عمداً ففيها ثلثا الدية وإن كان خطأ ففيها ثلث الدية والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة فإن نفذت من جهتين فهي عندهم جائفتان وفيه من الدية الثلثان قال أشهب: وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر بدية جائفتين وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون: لا قصاص في الجائفة قال ابن المنذر: وبه نقول .
السادسة والعشرون -واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها، فذكر البخاري عن أبي بكر وعليه وابن الزبير وسويد بن مقرن رضي الله عنهم أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها وروى عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث وقال الليث: إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها، للخوف على العين ويعاقبه السلطان وإن كانت على الخد ففيها القود وقالت طائفة : لا قصاص في اللطمة روي هذا عن الحسن وقتادة وهو قول مالك والكوفيين والشافعي، واحتج مالك في ذلك فقال: ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحاجة والهيئة وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة .
السابعة والعشرون- واختلفوا في القود من ضرب السوط فقال الليث والحسن : يقاد منه ويزاد عليه للتعدي وقال ابن القاسم: يقاد منه ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة وقال ابن المنذر: وما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفيه القود وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث وفي البخاري: وأقاد عمر من ضربة بالدرة، وأقاد علي بن أبي طاب من ثلاثة أسواط واقتص شريح من سوط وخموش وقال ابن بطال:
وحديث لد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن القود في كل ألم وإن لم يكن جرح
الثامنة والعشرون- واختلفوا في عقل جراحات النساء ففي الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل إصبعها وسنها كسنه وموضحتها كموضحته منقلتها كمنقلته قال ابن بكير: قال مالك: فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل قال ابن المنذر روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعرو بن الزبير والزهري وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبد الملك بن الماجشون. وقالت طائفة: دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله وبه نقول .
التاسعة والعشرون-قال القاضي عبد الوهاب: وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلاً ففيه حكومة كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته .وصفة الحكومة أن يقوم المجنى عليه لو كان عبداً سليماً ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءاً من ديته بالغاً ما بلغ ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم، قال : ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة وقيل: بل يقبل قول عدل واحد، والله سبحانه أعلم فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية، فيها لمن اقتصر عليها كفاية والله الموفق للهداية بمنه وكرمه
الموفية ثلاثين - قوله تعالى :" من تصدق به فهو كفارة له " شرط وجوابه أي تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي لذلك المتصدق وقيل: هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايتة في الآخرة لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه وأجر المتصدق عليه وقد ذكر ابن عباس القولين وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم وروى الثاني عن ابن عباس ومجاهد وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما، والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور وهو من وعن أبي الدرداء "عن النبي صلى الله عليه وسلم :
ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة" قال ابن العربي: والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل فلا معنى له .
وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه, فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس, وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً, ويقيدون النضري من القرظي, ولا يقيدون القرظي من النضري, بل يعدلون إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن, وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ولهذا قال هناك "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً, وقال ههنا "فأولئك هم الظالمون" لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه, فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضاً .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا ابن المبارك عن يونس بن يزيد, عن علي بن يزيد أخي يونس بن يزيد, عن الزهري, عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين" نصب النفس ورفع العين, وكذا رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن المبارك, وقال الترمذي حسن غريب وقال البخاري تفرد ابن المبارك بهذا الحديث, وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقرراً ولم ينسخ, كما هو المشهور عن الجمهور, وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي, وأكثر الأصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة, رواه ابن أبي حاتم: وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه, ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره: وصحح منها عدم الحجية, نقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالاً عن الشافعي, وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا, فالله أعلم .
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه الله في كتابه "الشامل", إجماع العلماء, على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه, وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة, وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم "أن الرجل يقتل بالمرأة", وفي الحديث الآخر "المسلمون تتكافأ دماؤهم", وهذا قول جمهور العلماء, وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية, لأن ديتها على النصف من دية الرجل, وإليه ذهب أحمد في رواية, وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي, ورواية عن أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها بل تجب ديتها, وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي, وعلى قتل الحر بالعبد, وقد خالفه الجمهور فيهما, ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقتل مسلم بكافر" وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر, ولا يقتلون حراً بعبد, وجاء في ذلك أحاديث لا تصح, وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك, ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة .
ويؤيد ماقاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك, كما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي, حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن الربيع عمة أنس, كسرت ثنية جارية, فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا, فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "القصاص", فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول الله, تكسر ثنية فلانة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أنس كتاب الله القصاص" قال فقال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة, قال: فرضي القوم فعفوا وتركوا القصاص, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" أخرجاه في الصحيحين, وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري في الجزء المشهور من حديثه, عن حميد, عن أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت ثنيتها, فعوضوا عليهم الأرش فأبوا, فطلبوا الأرش والعفو فأبوا, فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص, فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا أنس كتاب الله القصاص" فعفا القوم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" رواه البخاري عن الأنصاري بنحوه وروى أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل, حدثنا معاذ بن هشام, حدثنا أبي عن قتادة, عن أبي نضرة, عن عمران بن حصين أن غلاماً لأناس فقراء, قطع أذن غلام لأناس أغنياء, فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله, إنا أناس فقراء, فلم يجعل عليه شيئاً, وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه, عن معاذ بن هشام الدستوائي, عن أبيه, عن قتادة به. وهذا إسناد قوي, رجاله كلهم ثقات, وهو حديث مشكل, اللهم إلا أن يقال: إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه, ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه .
وقوله تعالى: "والجروح قصاص" قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: تقتل النفس بالنفس, وتفقأ العين بالعين, ويقطع الأنف بالأنف, وتنزع السن بالسن, وتقتص الجراح بالجراح, فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم, إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس, ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم, إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قاعدة مهمة
الجراح تارة تكون في مفصل, فيجب فيه القصاص بالإجماع, كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك, وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم, فقال مالك رحمه الله: فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها, لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن. وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقاً, وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس, وبه يقول عطاء والشعبي والحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز, وإليه ذهب سفيان الثوري والليث بن سعد, وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد, وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بحديث الربيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن, وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية, وجائز أن تكون سقطت من غير كسر, فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع, وتمموا الدلالة مما رواه ابن ماجه عن طريق أبي بكر بن عياش, عن دهشم بن قران, عن نمران بن جارية, عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي: أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها, فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية, فقال: يا رسول الله, أريد القصاص, فقال: خذ الدية, بارك الله لك فيها, ولم يقض له بالقصاص, وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد, ودهشم بن قران العكلي ضعيف, أعرابي ليس حديثه مما يحتج به, ونمران بن جارية ضعيف, أعرابي أيضاً, وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة, ثم قالوا: لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه, فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه, فلا شيء له, والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته, فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني, فقال "حتى تبرأ", ثم جاء إليه فقال: أقدني, فأقاده فقال: يا رسول الله عرجت, فقال "قد نهيتك فعصيتني, فأبعدك الله وبطل عرجك" ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه, تفرد به أحمد .
[مسألة] فلو اقتص المجني عليه من الجاني فمات من القصاص, فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل, وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص. وقال عامر الشعبي وعطاء وطاوس وعمر بن دينار والحارث العكلي وابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان, والزهري والثوري تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وعثمان البستي: يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة, ويجب الباقي في ماله .
وقوله تعالى: "فمن تصدق به فهو كفارة له" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "فمن تصدق به" يقول: فمن عفا وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب. وقال سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: فمن تصدق به فهو كفارة للجارح وأجر المجروح على الله عز وجل, رواه ابن أبي حاتم, ثم قال: وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ومجاهد وإبراهيم في أحد قوليه وعامر الشعبي وجابر بن زيد نحو ذلك .
[الوجه الثاني] ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن زاذان, حدثنا حرمي يعني ابن عمارة, حدثنا شعبة عن عمارة يعني ابن أبي حفصة, عن رجل, عن جابر بن عبد الله في قول الله عز وجل "فمن تصدق به فهو كفارة له" قال: للمجروح, وروى عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي في أحد قوليه وأبي إسحاق الهمداني نحو ذلك, وروى ابن جرير عن عامر الشعبي وقتادة مثله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود الطيالسي, حدثنا شعبة عن قيس يعني ابن مسلم, قال: سمعت طارق بن شهاب يحدث عن الهيثم بن العريان النخعي, قال: رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهاً بالموالي, فسألته عن قول الله "فمن تصدق به فهو كفارة له" قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به, وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم, وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة .
وقال ابن مردويه: حدثني محمد بن علي, حدثنا عبد الرحيم بن محمد المجاشعي, حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري, حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي, حدثنا معلى يعني ابن هلال أنه سمع أبان بن ثعلب عن العريان بن الهيثم بن الأسود, عن عبد الله بن عمرو, عن أبان بن ثعلب, عن الشعبي, عن رجل من الأنصار, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "فمن تصدق به فهو كفارة له" قال: "هو الذي تكسر سنه, أو تقطع يده أو يقطع الشيء منه أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك" ـ قال ـ فيحط عنه قدر خطاياه, فإن كان ربع الدية فربع خطاياه, وإن كان الثلث فثلث خطاياه, وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك . ثم قال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق, عن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار, فاندقت ثنيته, فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألح عليه الرجل, قال: شأنك وصاحبك, قال: وأبو الدرداء عند معاوية, فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه, إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة" فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي, فخلى سبيل القرشي, فقال معاوية: مروا له بمال, هكذا رواه ابن جرير .
ورواه الإمام أحمد فقال: حدثنا وكيع, حدثنا يونس بن أبي إسحاق, عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار, فاستعدى عليه معاوية, فقال معاوية: إنا سنرضيه, فألح الأنصاري, فقال معاوية: شأنك بصاحبك, وأبو الدرداء جالس, فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به, إلا رفعه الله به درجة وحط به عنه خطيئة" فقال الأنصاري: فإني قد عفوت وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك, وابن ماجه من حديث وكيع, كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق به, ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه, ولا أعرف لأبي السفر سماعاً من أبي الدرداء .
وقال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد, حدثنا محمد بن علي بن زيد, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا سفيان عن عمران بن ظبيان, عن عدي بن ثابت أن رجلاً أهتم فمه رجل على عهد معاوية رضي الله عنه, فأعطي دية, فأبى إلا أن يقتص, فأعطي ديتين فأبى, فأعطي ثلاثاً فأبى, فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تصدق بدم فما دونه, فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح بن النعمان, حدثنا هشيم عن المغيرة, عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها, إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به" ورواه النسائي عن علي بن حجر, عن جرير بن عبد الحميد, ورواه ابن جرير عن محمود بن خداش, عن هشيم, كلاهما عن المغيرة به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد, عن عامر, عن المحرر ابن أبي هريرة, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفارة له". وقوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا: كفر دون كفر, وظلم دون ظلم, وفسق دون فسق .
قوله: 45- "وكتبنا" معطوف على أنزلنا التوراة، ومعناها فرضنا، بين الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل: من القصاص في النفس، والعين، والأنف، والأذن، والسن، والجروح. وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إنه يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس. وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا. وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: "كتب عليكم القصاص في القتلى" ما فيه كفاية.
وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق. وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه. قال ابن كثير في تفسيره: وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى.
وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا على المنتقى، وفي هذه الآية لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير. قوله: "والعين بالعين" قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضاً في الكل إلا في الجروح فبالرفع. وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفاً على المحل، لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء. وقال الزجاج: يكون عطفاً على المضمر في النفس، لأن التقدير: إن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين. والظاهر من النظم القرآن أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيا مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السن، فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين، أو ببعض الأنف، أو ببعض الأذن، أو ببعض السن، فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته، وكلامهم مدون في كتب الفروع. والظاهر من قوله: "والسن بالسن" أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات، وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعض على بعض. وإليه ذهب أكثر أهل العلم، كما قال ابن المنذر، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه، وكلامهم مدون في مواطنه، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإن كانت ذاهبة فما يليها. قوله: "والجروح قصاص" أي ذوات قصاص. وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقاً أو طولاً أو عرضاً. وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة، وليس هذا موضع بيان كلامهم، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر. قوله: "فمن تصدق به فهو كفارة له" أي من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص، بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه. وقيل إن المعنى: فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه. والأول أرجح، لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور. قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية.
45-قوله تعالى" وكتبنا عليهم فيها "،أي :أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة، " أن النفس بالنفس "، يعني: نفس القاتل بنفس المقتول وفاءً به، " والعين بالعين " ، تفقأ بها ، " والأنف بالأنف "،يجدع به ، " والأذن بالأذن " ، تقطع بها ، قال ابن عباس : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو: أن النفس بالنفس إلى آخرها، فما بالهم يخافون فيقتلون بالنفس النفيس ، ويفقؤون بالعين العينين، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن الآخرون، " والسن بالسن " ، تقلع بها وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص، " والجروح قصاص "، فهذا تعميم بعد تخصيص، لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن ،ثم قال: " والجروح قصاص " أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان ونحوها ، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لكم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته، وقرأ الكسائي " والعين " وما بعدها بالرفع، وقرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو جعفر و أبو عمرو " والجروح " بالرفع فقط وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس .
قوله تعالى : " فمن تصدق به " ، أي بالقصاص " فهو كفارة له " ، قيل : الهاء في" له " كناية عن المجروح وولي القتيل، أي: كفارة للمتصدق وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص و الحسن و الشعبي و قتادة .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري أنا عمر بن الخطاب أنا عبد الله بن الفضل أخرنا أبو خيثمة أنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه "
وقال جماعة : هي كناية عن الجارح والقاتل، يعني : إذا عفا الجني عليه عن الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذه به في الآخرة ،كما أن القصاص كفارة له ، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل ، قال الله تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " ( الشورى- 40 ) ، روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول إبراهيم و مجاهد و زيد بن أسلم ، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ".
45" وكتبنا عليهم " وفرضنا على اليهود. " فيها " في التوراة. " أن النفس بالنفس " أي أن النفس تقتل بالنفس. " والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن " رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، والعين بالعين، فإن الكتابة والقراءة تقعان على اجمل كالقول، أو مستأنفة ومعناها: كذلك العين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس، وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالطرف، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى، وقرأ نافع " والأذن بالأذن " وفي أذنيه باسكان الذال حيث وقع. " والجروح قصاص " أي ذات قصاص، وقرأ الكسائي أيضاً بالرفع ووافقه ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفضيل. " فمن تصدق " من المستحقين. " به " بالقصاص أي فمن عفا عنه. " فهو " فالتصدق. " كفارة له " للمتصدق يكفر الله به ذنوبه وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه. وقرئ " فهو كفارة له " فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء. " ومن لم يحكم بما أنزل الله " من القصاص وغيره. " فأولئك هم الظالمون ".
45. And We prescribed for them therein: The life for the life, and the eye for the eye, and the nose for the nose, and the ear for the ear, and the tooth for the tooth, and for wounds retaliation. But whoso forgoeth it (in the way of charity) it shall be expiation for him. Whoso judgeth not by that which Allah hath revealed: such are wrong doers.
45 - We ordained therein for them: life for life, eye for eye, nose for nose, ear for ear, tooth for tooth, and wounds equal for equal. but if any one remits the retaliation by way of charity, it is an act of atonement for himself. and if any fail to judge by (the light of) what God hath revealed, they are (no better than) wrong doers.