44 - (تسبح له) تنزهه (السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن) ما (من شيء) من المخلوقات (إلا يسبح) متلبسا (بحمده) أي يقول سبحان الله وبحمده (ولكن لا تفقهون) تفهمون (تسبيحهم) لأنه ليس بلغتكم (إنه كان حليما غفورا) حيث لم يعاجلكم بالعقوبة
وقوله : " تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن " يقول : تنزه الله أيها المشركون عما وصفتموه به إعظاماً له وإجلالاً، السموات السبع والأرض ، ومن فيهن من المؤمنين به من الملائكة والإنس والجن ، وأنتم مع إنعامه عليكم ، وجميل أياديه عندكم ، تفترون عليه بما تفترون .
وقوله : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " يقول جل ثناؤه : وما من شيء من خلقه إلا يسبح بحمده .
كما حدثني به نصربن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا محمد بن يعلى ، عن موسى بن عبيدة ، عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه ؟ إن نوحاً قال لابنه يا بني آمرك أن تقول سبحان الله وبحمده فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق ، وبها ترزق الخلق ، قال الله " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عيسى بن عبيد ، قال : سمعت عكرمة يقول : لا يعيبن أحدكم دابتة ولا ثوبه ، فإن كل شيء يسبح بحمده .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة "وإن من شيء إلا يسبح بحمده " قال : الشجرة تسبح ، والاسطوانة تسبح .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيي بن واضح و زيدبن حباب ، قالا: ثنا جرير أبو الخطاب ، قال : كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام ، فقدموا الخوان ، فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان ؟ فقال : كان يسبح مرة .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، و يونس ، عن الحسن أنهما قالا في قوله : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " قالا: كل شيء فيه الروح .
حدثنا محمدبن بشار ، قال : ثنا عبد الكبيربن عبد المجيد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : الطعام يسبح .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " قال : كل شيء فيه الروح يسبح ، من شجرأو شيء فيه الروح .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبدالله بن أبي ، عن عبدالله ابن عمرو ، أن الرجل إذا قال : لا إله إلا الله ، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملاً حتى يقولها، فإذا قال الحمد لله ، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها، فإذا قال الله أكبر، فهي تملأ ما بين السماء والأرض ، فإذا قال سبحان الله ، فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحد من خلقه إلا نوره بالصلاة والتسبيح ، فإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله ، قال : أسلم عبدي واستسلم .
وقوله " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " يقول تعالى ذكره : ولكن لا تفقهون تسبيح ما عدا تسبيح من كان يسبح بمثل ألسنتكم " إنه كان حليما" يقول : إن الله كان حليماً لا يعجل على خلقه ، الذين يخالفون أمره ، ويكفرون به ، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء المشركين الذين يدعون معه الآلهة والأنداد بالعقوبة" غفورا" يقول : ساتراً عليهم ذنوبهم ، إذا هم تابوا منها بالعفو منه لهم .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " إنه كان حليما" عن خلقه ، فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض " غفورا" لهم إذا تابوا .
قوله تعالى : " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن " أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل ، لما أسند إلها فعل العاقل وهو التسبيح . وقله : " ومن فيهن " الملائكة والإنس والجن ، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها في قوله : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " . واختلف في هذا العموم ، هل هو مخصص أم لا ، فقالت فرقة : ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة . وكل محدث يشهد عله نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر . وقالت طائفة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولقد كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما ، والآية تنطق بأن التسبيح لا يفقه وأجيبوا بأن المراد بقوله : " لا تفقهون " الكفار الذين يعرضون على الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء . وقالت فرقة : قوله : " من شيء " عموم ، ومعناه الخصوص في كل حي ونام ، وليس ذلك في الجمادات . ومن هذا قول عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح . وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال : قد كان يسبح مرة ، يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح ، وأما الآن فقد صار خوان مدهونا .
قلت : ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال : " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول " قال : فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين ، ثم غرس على هذا واحدا على هذا واحدا ثم قال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " . فقوله عليه الصلاة والسلام . ما لم ييبسا إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان ن فإذا يبسا صارا جمادا . والله اعلم . وفي مسند أبي داود الطيالسي : فوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال : " لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلولتهما شيء " . قال علماؤنا : ويستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور ، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن . وقد بينا هذا المعنى في كتاب التذكرة بيانا شافيا ، وأنه يصل إلي الميت ثواب ما يهدي إليه . والحمد لله على ذلك . وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك ، فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح .
قلت : ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى : " واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق " . وقله : " وإن منها لما يهبط من خشية الله " على قول مجاهد ، وقوله : " وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا " وذكر ابن المبارك في رقائقه أخبرنا مسعر عن عبد الله بن واصل عن عون بن عبد الله قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إن الجبل يقول للجبل : يا فلان ، هل مر ب: اليوم ذاكر لله عز وجل ؟ فإن قال نعم سر به . ثم قرأ عبد الله " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " الآية . قال : أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير . وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقالع الأرض بعضها بعضا : يا جاراه / هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك ؟ فمن قائلة لا ، ومن قائلة نعم رأت لها بذلك فضلا عليها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يسمع صوت المؤذن جن لا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " . رواه بان ماجه في سننه ، ومالك ف موطئه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . وخرج البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل . في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : كنا نأكل مع رسول الله صلى عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيحه . وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " قيل : إنه الحجر الأسود ، والله أعلم . والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلؤية في شرح العشرنيات النبوية للقاداري رحمه الله ، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاريفي مواضع من كتابه . وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات ، ولا استحالة في شيء من ذلك ، فكل شيء يسبح للعموم . وكذا قال النخعي وغيره : هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فيه حتى صرير الباب . واحتجوا بالأخبار التي ذكرنا . وقيل : تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول : سبحان الله ! لعدم الإدراك منها . وقال الشاعر :
تلقى بتسبيحة من حيث ما انصرفت وتستقر حشا الرائي بترعاد
أي يقول من رآها : سبحان خالقها . فالصحيح أن الكل يسبح للأخبار الدالة على ذلك ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود ، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا . وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أولى . والله أعلم . وقرأ الحسن و أبو عمرو و يعقوب و حفص و حمزة و الكسائي وخلف تفقهون بالتاء لتأنيث الفاعل . الباقون بالياء ، واختاره أبو عبيد ، قال : للحائل بين الفعل والتأنيث . " إنه كان حليما " عن ذنوب عباده في الدنيا . " غفورا " للمؤمنين في الآخرة .
يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن, أي من المخلوقات, وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون, وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته:
ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
كما قال تعالى: "تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً" وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز , حدثنا سعيد بن منصور , حدثنا مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة, حدثنا عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى, كان بين المقام وزمزم, جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره, فطارا حتى بلغ السموات السبع. فلما رجع قال: "سمعت تسبيحاً في السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى, من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا, سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى".
وقوله: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس, لأنها بخلاف لغاتكم, وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات, وهذا أشهر القولين, كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل, وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم, وهو حديث مشهور في المسانيد وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن , حدثنا ابن لهيعة , حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن ابن أنس , عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل, فقال لهم : اركبوها سالمة ودعوها سالمة, ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق, فرب مركوبة خير من راكبها, وأكثر ذكراً لله منه".
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع, وقال نقيقها تسبيح". وقال قتادة عن عبد الله بن أبي عن عبد الله بن عمرو أن الرجل إذا قال لا إله إلا الله, فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملاً حتى يقولها, وإذا قال: الحمد لله, فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها, وإذا قال: الله أكبر, فهي تملأ ما بين السماء والأرض, وإذا قال: سبحان الله, فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحداً من خلقه إلا قرره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله, قال: أسلم عبدي واستسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير , حدثنا أبي , سمعت الصقعب بن زهير يحدث عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار , عن عبد الله بن عمرو قال: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج, أو مزورة بديباج, فقال: إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع بن راع ويضع كل رأس بن رأس, فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه فقال: لا أرى عليك ثياب من لا يعقل ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس, فقال: إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال: إني قاص عليكما الوصية آمركما باثنتين, وأنهاكما عن اثنتين, أنهاكما عن الشرك بالله والكبر, وآمركما بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض وما فيها لو وضعت لا إله إلا الله عليهما, لقصمتهما أو لفصمتهما, وآمركما بسبحان الله وبحمده, فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء" ورواه الإمام أحمد أيضاً عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مصعب بن زهير به أطول من هذا وتفرد به.
وقال ابن جرير : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي , حدثنا محمد بن يعلى عن موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم , عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشيء امر به نوح ابنه ؟ إن نوحاً عليه السلام قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول: سبحان الله, فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق, وبها يزرق الخلق" قال الله تعالى: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" إسناده فيه ضعف, فإن الاودي ضعيف عند الأكثرين. وقال عكرمة في قوله تعالى: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" قال الأسطوانة تسبح والشجرة تسبح ـ الأسطوانة ـ السارية وقال بعض السلف: صرير الباب تسبيحه وخرير الماء تسبيحه قال الله تعالى "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: الطعام يسبح, ويشهد لهذا القول آية السجدة في الحج, وقال آخرون: إنما يسبح ما كان فيه روح, يعنون من حيوان ونبات.
قال قتادة في قوله: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" قال: كل شيء فيه روح يسبح من شجر أو شيء فيه, وقال الحسن والضحاك في قوله "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" قالا: كل شيء فيه الروح. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن حميد , حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب , قالا: حدثنا جرير أبو الخطاب , قال كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام, فقدموا الخوان, فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعد , يسبح هذا الخوان ؟ فقال: كان يسبح مرة ـ قلت: الخوان هو المائدة من الخشب ـ فكأن الحسن رحمه الله, ذهب إلى أنه لما كان حياً فيه خضرة كان يسبح, فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه, وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول, وأما الاخر فكان يمشي بالنميمة" ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين, ثم غرز في كل قبر واحدة, ثم قال "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" أخرجاه في الصحيحين , قال بعض من تكلم على هذ الحديث من العلماء: إنما قال ما لم ييبسا لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة, فإذا يبسا انقطع تسبيحهما, والله أعلم.
وقوله "إنه كان حليماً غفوراً" أي لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بل يؤجله وينظره, فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر, كما جاء في الصحيحين " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته", ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة" الاية, وقال تعالى: "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة" الاية, وقال "كأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة" الايتين, ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان, ورجع إلى الله تاب إليه وتاب عليه, كما قال تعالى: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله" الاية, وقال ههنا "إنه كان حليماً غفوراً" كما قال في آخر فاطر "إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً" إلى أن قال "ولو يؤاخذ الله الناس" إلى آخر السورة.
ثم بين سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال: 44- "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن" قرئ بالمثناة التحتية في يسبح وبالفوقية، وقال "فيهن" بضمير العقلاء لإسناده إليها التسبيح الذي هو فعل العقلاء، وقد أخبر سبحانه عن السموات والأرض بأنها تسبحه، وكذلك من فيها من مخلوقاته الذين لهم عقول وهم الملائكة والإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل، ثم زاد ذلك تعميماً وتأكيداً فقال: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" فشمل كل ما يسمى شيئاً كائناً ما كان، وقيل إنه يحمل قوله: "ومن فيهن" على الملائكة والثقلين، ويحمل "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" على ما عدا ذلك من المخلوقات.
وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا؟ فقالت طائفة: ليس بمخصوص، وحملوا التسبيح على تسبيح الدلالة لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدل غيره بأن الله خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره. والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحنه هذا التسبيح الذي معناه التنزيه وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه، ويؤيد هذا قوله سبحانه: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمراً مفهوماً لكل أحد. وأجيب بأن المراد بقوله لا تفقهون الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار. وقالت طائفة: إن هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات، وقيل خاص بالأجسام النامية فيدخل النباتات، كما روي هذا القول عن عكرمة والحسن وخص تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها وقد استدل لذلك بحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين" وفيه "ثم دعا بعسيب رطب فشقه إثنين، وقال: إنه يخفف عنهما ما لم ييبسا" ويؤيد حمل الآية على العموم قوله: "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق" وقوله: "وإن منها لما يهبط من خشية الله"، وقوله: "وتخر الجبال هداً" ونحو ذلك من الآيات، وثبت في الصحيح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام، وهم يأكلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا حديث حنين الجذع، وحديث أن حجراً بمكة كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها في الصحيح ومن ذلك تسبيح الحصى في كفه صلى الله عليه وسلم. ومدافعة عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده، ومعنى "إلا يسبح بحمده" إلا يسبح متلبساً بحمده "ولكن لا تفقهون تسبيحهم". قرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف تسبح بالمثناة الفوقية على الخطاب، وقرأ الباقون بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد "إنه كان حليماً غفوراً" فمن حلمه الإمهال لكم وعدم إنزال عقوبته عليكم، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم.
44 - " تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن " ، قرأ أبو عمرو ، و حمزة ، و الكسائي ، حفص ، و يعقوب : " تسبح " بالتاء وقرأ الآخرون بالياء للحائل بين الفعل والتأنيث .
" وإن من شيء إلا يسبح بحمده " ، روي عن ابن عباس أنه قال : وإن من شيء حي إلا يسبح بحمده .
وقال قتادة : يعني الحيوانات والناميات .
وقال عكرمة : الشجرة تسبح ،والأسطوانة لا تسبح .
وعن المقدام بن معد يكرب قال : إن التراب يسبح ما لم يبتل ، فإذا ابتل ترك التسبيح ، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت تركت التسبيح ، وإن الورقة لتسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح ، وإن الثوب ليسبح ما دام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح ، وإن الماء يسبح مادام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح ، وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت فإذا سكنت تركت التسبيح .
وقال إبراهيم النخعي : وإن من شيء جماد وحي إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف .
وقال مجاهد : كل الأشياء تسبح ، حياً كان أو ميتاً أو جماداً ، وتسبيحها سبحان الله وبحمده .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ،أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، أخبرنا أبو أحمد الزبير ، أخبرنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : " كنا نعد الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفاً ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال : اطلبوا فضلة من ماء ، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل ، فأدخل يده في الإناء ثم قال : حي على الطهور المبارك ، والبركة من الله ، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل" .
وقال بعض أهل المعاني : تسبح السموات والأرض والجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ما دلت بلطيف تركيبها وعجيب هيئتها على خالقها، فيصير ذلك بمنزلة التسبيح منها .
والأول هو المنقول عن السلف .
واعلم أن الله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره ، فينبغي أن يوكل علمه إليه .
" ولكن لا تفقهون تسبيحهم " ، أي لا تعلمون تسبيح ما عدا من يسبح بلغاتكم وألسنتكم ، " إنه كان حليماً غفوراً " .
44."تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده " ينزهه عما هو من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث بلسان الحال حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم الواجب لذاته . "ولكن لا تفقهون تسبيحهم"أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم ، ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ وإلى ما لا يتصور منه وعليهما عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه . وقرأ ابن كثير و ابن عامر و نافع و أبو بكر يسبح بالياء ."إنه كان حليماً" حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم ."غفوراً"لمن تاب منكم.
44. The seven heavens and the earth and all that is therein praise Him, and there is not a thing but hymneth his praise; but ye understand not their praise. Lo! He is ever Clement, Forgiving.
44 - The seven heavens and the earth, and all beings therein, declare his glory: there is not a thing but celebrates his praise; and yet ye understand not how they declare his glory verily he is oft forbearing, most forgiving