43 - (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) بالرجم استفهام تعجيب أي لم يقصدوا بذلك معرفة الحق بل ما هو أهون عليهم (ثم يتولون) يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم (من بعد ذلك) التحكيم (وما أولئك بالمؤمنين)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره : وكيف يحكمك هؤلاء اليهود، يا محمد، بينهم ، فيرضون بك حكما بينهم ، "وعندهم التوراة"، التي أنزلتها على موسى، التي يقرون بها أنها حق ، وأنها كتابي الذي أنزلته إلى نبيي ، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي ، يعلمون ذلك لا يتناكرونه ولا يتدافعونه ، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم ، وهم مع علمهم بذلك ، "يتولون"، يقول : يتركون الحكم به ، بعد العلم بحكمي فيه ، جراءة علي وعصياناً لي.
وهذا، وإن كان من الله تعالى ذكره خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تقريع منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية. يقول لهم تعالى ذكره : كيف تقرون ، أيها اليهود، بحكم نبي محمد صلى الله عليه وسلم مع جحودكم نبونه وتكذيبكم إياه ، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجب جاءكم به موسى من عند الله ؟ يقول : فإذ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرون بنبوته في كتابي ، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيي محمد أنه حكمي أحرى، مع جحودكم نبوته.
ثم قال تعالى ذكره مخبراً عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده ، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه ، الزائلين عن محجة الحق : "وما أولئك بالمؤمنين"، يقول : ليس من فعل هذا الفعل - أي ؟ من تولى عن حكم الله ، الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه ، في خلقه ، بالذي صدق الله ورسوله فأقر بتوحيده ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك ليس من فعل أهل الإيمان.
وأصل التولي عن الشيء، الانصراف عنه ، كما :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: "ثم يتولون من بعد ذلك"، قال : توليهم ، ما تركوا من كتاب الله.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوبة بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس لموله : "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، يعني : حدود الله ، فأخبر الله بحكمه في التوراة.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "وعندهم التوراة فيها حكم الله"، أي : بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم ، "ثم يتولون من بعد ذلك"، الآية.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال، قال - يعني الرب تعالى ذكره - يعيرهم : "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، يقول: الرجم.
قوله تعالى:" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " قال الحسن: وهو الرجم وقال قتادة هو القود ويقال: هل يدل قوله تعالى :" فيها حكم الله " على أنه لم ينسخ الجواب قال أبو علي: نعم لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت ، وقوله :" وما أولئك بالمؤمنين " أي بحكمك أنه من عند الله وقال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرض به فهو كافر، وهذه حالة اليهود.
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر, الخارجين عن طاعة الله ورسوله, المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل "من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" أي أظهروا الإيمان بألسنتهم, وقلوبهم خراب خاوية منه, وهؤلاء هم المنافقون "من الذين هادوا" أعداء الإسلام وأهله, وهؤلاء كلهم "سماعون للكذب" أي مستجيبون له, منفعلون عنه, "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد, وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" أي يتأولونه على غير تأويله, ويبدلونه من بعد ماعقلوه, وهم يعلمون, "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً, وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد, فإن حكم بالدية فاقبلوه, وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه, والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم, فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة, والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين, فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه, فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله, ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك, وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك, عن نافع, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" فقالوا: نفضحهم ويجلدون, قال عبد الله بن سلام: كذبتم, إن فيها الرجم, فأتوا بالتوراة, فأتوا بالتوراة فنشروها, فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها, فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده, فإذا آية الرجم, فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما, فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة, أخرجاه, وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له: فقال لليهود "ما تصنعون بهما ؟" قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما, قال " فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها, فوضع يده عليه فقال: ارفع يدك فرفع, فإذا آية الرجم تلوح, قال: يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا, فأمر بهما فرجما .
وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا, فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال "ما تجدون في التوراة على من زنى ؟" قالوا: نسود وجوههما ونحممهما, ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال " فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " قال: فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مر بآية الرجم, وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم, وقرأ ما بين يديها وما وراءها, فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليرفع يده فرفع يده, فإذا تحتها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما, فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني, حدثنا ابن وهب, حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف, فأتاهم في بيت المدارس, فقالوا: يا أبا القاسم, إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم. قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها, ثم قال "ائتوني بالتوراة, فأتي بها, فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها, وقال "آمنت بك وبمن أنزلك" ثم قال "ائتوني بأعلمكم" فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع .
وقال الزهري: سمعت رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه, ونحن عند ابن المسيب, عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث التخفيف, فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله, قلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه, فقالوا: يا أبا القاسم, ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدارسهم, فقام على الباب فقال "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟" قالوا: يحمم ويجبه ويجلد, والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما, قال: وسكت شاب منهم, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت, ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة, فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فما أول ما ارتخصتم أمر الله" قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم, ثم زنى رجل في إثره من الناس فأراد رجمه, فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه, فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما, قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم, رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه, وابن جرير.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن البراء بن عازب, قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود, فدعاهم, فقال "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقالوا: نعم, فدعا رجلاً من علمائهم فقال "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى, أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقال: لا والله, ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك, نجد حد الزاني في كتابنا الرجم, ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه, وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد, فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع, فاجتمعنا على التحميم والجلد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" قال: فأمر به فرجم, قال: فأنزل الله عز وجل "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه" أي يقولون: ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه, وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا, إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال في اليهود, إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قال في اليهود "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" قال: في الكفار كلها, انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به .
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي, عن جابر بن عبد الله, قال: زنى رجل من أهل فدك, فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة, أن سلوا محمداً عن ذلك, فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه, وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه, فسألوه عن ذلك, فقال "أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم" فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا, وآخر, فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم "أنتما أعلم من قبلكما" فقالا: قد دعانا قومنا لذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله" قالا: بلى, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل, وظلل عليكم الغمام, وأنجاكم من آل فرعون, وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل, ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقال أحدهما للاخر: ما نشدت بمثله قط, ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية, والاعتناق زنية, والتقبيل زنية, فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدى ويعيد, كما يدخل الميل في المكحلة, فقد وجب الرجم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو ذاك" فأمر به فرجم, فنزلت " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ". ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه .
ولفظ أبي داود عن جابر, قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا, فقال "ائتوني بأعلم رجلين منكم" فأتوه بابني صوريا, فنشدهما "كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟" قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة, رجما, قال "فما يمنعكم أن ترجموهما ؟" قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود, فجاء أربعة, فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما, ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلاً, ولم يذكر فيه: فدعا بالشهود فشهدوا. فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حكم بموافقة حكم التوراة, وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته, لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة, ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك, وسؤاله إياهم عن ذلك, ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة, فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم, وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم, وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به, ولهذا قالوا "إن أوتيتم هذا" أي: الجلد والتحميم, فخذوه, أي اقبلوه, "وإن لم تؤتوه فاحذروا" أي من قبوله واتباعه .
وقال الله تعالى: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم * سماعون للكذب " أي الباطل "أكالون للسحت" أي الحرام, وهو الرشوة, كما قاله ابن مسعود وغير واحد, أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له, ثم قال لنبيه " فإن جاؤوك " أي يتحاكمون إليك "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم, لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد: هي منسوخة بقوله "وأن احكم بينهم بما أنزل الله", "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" أي بالحق والعدل, وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل "إن الله يحب المقسطين".
ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة, ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم, الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً, ثم خرجوا عن حكمه, وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم, فقال "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين" ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران, فقال "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا" أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها, "والربانيون والأحبار" أي وكذلك الربانيون منهم, وهم العلماء العباد, والأحبار وهم العلماء "بما استحفظوا من كتاب الله" أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به, "وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون" أي لا تخافوا منهم وخافوا مني, "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيه قولان سيأتي بيانهما .
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه, عن عبد الله بن عبد الله, عن ابن عباس, قال: إن الله أنزل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " " فأولئك هم الظالمون " " فأولئك هم الفاسقون ", قال قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود, وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا, وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق, فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم, فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً, فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق, فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد, ونسبهما واحد, وبلدهما واحد, دية بعضهم نصف دية بعض, إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم, ثم ذكرت العزيزة, فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم, ولقد صدقوا, ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه, وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه, فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما أرادوا, فأنزل الله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله "الفاسقون" ففيهم والله أنزل, وإياهم عنى الله عز وجل, ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه .
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب, قالا: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق, حدثني داود بن الحصين عن عكرمة, عن ابن عباس: أن الايات التي في المائدة قوله " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة, وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف, تؤدى لهم الدية كاملة, وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية, فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله ذلك فيهم, فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك, فجعل الدية في ذلك سواء, والله أعلم أي ذلك كان, ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه .
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كانت قريظة والنضير, وكانت النضير أشرف من قريظة, فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير قتل به, وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة, ودي بمائة وسق من تمر, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة, فقالوا: ادفعوا إليه, فقالو: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط", ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه, وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد .
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الايات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا, كما تقدمت الأحاديث بذلك, وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد, فنزلت هذه الايات في ذلك كله, والله أعلم, ولهذا قال بعد ذلك "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين" إلى آخرها, وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص, والله سبحانه وتعالى أعلم, وقوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب, زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة, وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري, عن منصور عن إبراهيم, قال نزلت هذه الايات في بني إسرائيل, ورضي الله لهذه الأمة بها, رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يعقوب, حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل, عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة. فقال: من السحت, فقالا: وفي الحكم, قال: ذاك الكفر, ثم تلا, "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقال السدي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً أو جار وهو يعلم, فهو من الكافرين, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر, ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق, رواه ابن جرير, ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب, أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب, وقال عبد الرزاق, عن الثوري, عن زكريا, عن الشعبي, : ومن لم يحكم بما أنزل الله, قال للمسلمين .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الصمد, حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر, عن الشعبي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: هذا في المسلمين "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قال: هذا في اليهود "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" قال: هذا في النصارى, وكذا رواه هشيم والثوري, عن زكريا بن أبي زائدة, عن الشعبي وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن ابن طاوس, عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله "ومن لم يحكم" الآية, قال: هي به كفر, قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله, وقال الثوري, عن ابن جريج, عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر, وظلم دون ظلم, وفسق دون فسق, رواه ابن جرير, وقال وكيع, عن سعيد المكي, عن طاوس "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: ليس بكفر ينقل عن الملة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري, حدثنا سفيان بن عيينة, عن هشام بن حجير, عن طاوس, عن ابن عباس في قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه, ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة, وقال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه .
قوله: 43- "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله" فيه تعجيب له صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير. قوله: "ثم يتولون" عطف على يحكمونك، "من بعد ذلك" أي من بعد تحكيمهم لك، وجملة قوله: "وما أولئك بالمؤمنين" لتقرير مضمون ما قبلها.
43-قوله تعالى:" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة "، هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي اختصار، أي : كيف يجعلونك حكماً بينهم فيرضون بحكمك وعندهم التوراة؟ " فيها حكم الله "، وهو الرجم، " ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين "، أي بمصدقين لك .
43" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي عندهم، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم، و" فيها حكم الله " حال م التوراة إن رفعتها بالظرف، وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث في كلامهم لفظاً كموماة ودوداة. " ثم يتولون من بعد ذلك " ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم، وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب. " وما أولئك بالمؤمنين " بكتابهم لإعراضهم عنه أولاً وعما يوافقه ثانياً، أو بك وبه.
43. How come they unto thee for judgment when they have the Torah, wherein Allah hath delivered judgment (for them)? Yet even after that they turn away. Such (folk) are not believers.
43 - But why do they come to thee for decision, when they have (their own) law before them? therein is the (plain) command of God; yet even after that, they would turn away. for they are not (really) people of faith.