42 - هم (سماعون للكذب أكالون للسحُت) بضم الحاء وسكونها أي الحرام كالرشا (فإن جاؤوك) لتحكم بينهم (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) هذا التخيير منسوخ بقوله {وأن احكم بينهم} الآية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا وهو أصح قولي الشافعي فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب إجماعا (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت) بينهم (فاحكم بينهم بالقسط) بالعدل (إن الله يحب المقسطين) العادلين في الحكم أي يثيبهم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : هؤلاء اليهود الذين وصفت لك ، يا محمد، صفتهم ، سماعون لقيل الباطل والكذب ، من قيل بعضهم لبعض : محمد كاذب ، ليس بنبي ، وقيل بعضهم : إن حكم الزاني المحصن في التوراة الجلد والتحميم ، وغير ذلك من الأباطيل والإفك ، ويقبلون الرشى فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه ، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو عقيل قال ، سمعت الحسن يقول في قوله : "سماعون للكذب أكالون للسحت"، قال : تلك للحكام ، سمعوا كذبة وأكلوا رشوة.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "سماعون للكذب أكالون للسحت"، قال : كان هذا في حكام اليهود بين أيديكم ، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرشى .
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "أكالون للسحت"، قال : الرشوة في الحكم ، وهم يهود.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي وإسحاق الأزرق ، وحدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر، عن عبد الله : "أكالون للسحت" ، قال : السحت ، الرشوة .
حدثنا سفيان بن وكيع وواصل بن عبد الأعلى قالا، حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن سلمة بن كهيل ، عن سالم بن أبي الجعد قال : قيل لعبد الله : ما السحت ؟ قال : الرشوة . قالوا: في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا غندر ووهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال : السحت ، الرشوة .
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حريث ، عن عامر، عن مسروق قال : قلنا لعبد الله : ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم ! قال عبد الله : ذاك الكفر.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق ، عن عبد الله قال : السحت ، الرشى؟ قال : نعم.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال : سألت عبد الله عن السحت، فقال : الرجل يطلب الحاجة للرجل فيقضيها، فيهدي إليه فيقبلها.
حدثنا سوار قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا شعبة، عن منصور وسليمان الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق ، عن عبد الله أنه قال : السحت ، الرشى .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا المحاربي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر، عن عبد الله : السحت ، قال : الرشوة في الدين .
حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ، عن خيثمة قال ، قال عمر: ما كان من السحت، الرشى ومهر الزانية.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور، عن إبراهيم قال : السحت، الرشوة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله : "أكالون للسحت"، قال : الرشى.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن طلحة، عن أبي هريرة قال : مهر البغي سحت ، وعسب الفحل سحت ، وكسب الحجام سحت ، وثمن الكلب سحت .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال : السحت، الرشوة في الحكم .
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال : سألت ابن مسعود عن السحت ، قال : الرشى . فقلت ؟ في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "أكالون للسحت"، يقول : للرشى .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسن قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسروق ، وعلقمة : أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال : هي السحت . قالا: في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر! ثم تلا هذه الآية: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" [المائدة : 44].
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن المسعودي ، عن بكير بن أبي بكير، عن مسلم بن صبيح قال : شفع مسروق لرجل في حاجة، فأهدى له جارية، فغضب غضباً شديداً وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ، ولا أكلم فيما بقي من حاجتك ، سمعت ابن مسعود يقول : من شفع شفاعة ليرد بها حقاً، أو يرفع بها ظلماً، فأهدي له فقبل ، فهو سحت، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ، ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! قال : الأخذ على الحكم كفر.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "سماعون للكذب أكالون للسحت"، وذلك أنهم أخذوا الرشوة في الحكم ، وقضوا بالكذب .
حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة، عن عمار، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق قال : سألت ابن مسعود عن السحت ، أهو الرشى في الحكم ؟ فقال : لا، من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق . ولكن السحت ، يستعينك الرجل على المظلمة فتعينه عليها، فيهدي لك الهدية فتصبلها.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن هبيرة السبائي قال : من السحت ثلاثة : مهر البغي ، والرشوة في الحكم ، وما كان يعطى الكهان في الجاهلية.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن مطيع ، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني ، عن ضمرة، عن علي بن أبي طالب : أنه قال في كسب الحجام ، ومهر البغي ، وثمن الكلب ، والاستجعال في القضية، وحلوان الكاهن ، وعسب الفحل ، والرشوة في الحكم ، وثمن الخمر، وثمن الميتة : من السحت.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "أكالون للسحت"، قال : الرشوة في الحكم .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموال ، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به. قيل : يا رسول الله ، وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم ".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الجبار بن عمر، عن الحكم بن عبد الله قال : قال لي أنس بن مالك : إذا انقلبت إلى أبيك فقل له : إياك والرشوة، فإنها سحت، وكان أبوه على شرط المدينة.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : الرشوة لسحت . قال مسروق : فقلنا لعبد الله : أفي الحكم ؟ قال : لا، ثم قرأ: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" [المائدة : 44]، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" [المائدة : 45]، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" [المائدة: 47].
وأصل السحت : كلب الجوع ، يقال منه : فلان مسحوت المعدة، إذا كان أكولاً لا يلفى أبداً إلا جائعاً، وإنما قيل للرشوة: السحت ، تشبيهاً بذلك ، كأن بالمسترشى من الشره إلى أخذ ما يعطاه من ذلك ، مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشره إلى الطعام . يقال منه : سحته وأسحته ، لغتان محكيتان عن العرب ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتاً أو مجلف
يعني ب المسحت ، الذي قد استاصله هلاكاً بأكله إياه وإفساده ، ومنه قوله تعالى (فيسحتكم بعذاب) [طه : 61]. وتقول العرب للحالق : اسحت الشعر، أي : استأصله.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد- وهم قوم المرأة البغية- محتكمين إليك ، فاحكم بينهم إن شئت بالحق الذي جعله الله حكما له فيمن فعل فعل المرأة البغية منهم ، أو أعرض عنهم فدع الحكم بينهم إن شئت ، والخيار إليك في ذلك .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أو أعرض عنهم"، يهود، زنى رجل منهم له نسب حقير فرجموه ، ثم زنى منهم شريف فحقموه ثم طافوا به ، ثم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقهم. قال : فأفتاهم فيه بالرجم ، فأنكروه ، فأمرهم أن يدعوا أحبارهم ورهبانهم ، فناشدهم بالله : أتجدونه في التوراة؟ فكتموه ، إلا رجلاً من أصغرهم أعور، فقال : كذبوك يا رسول الله ، إنه لفي التوراة!
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث ، عن ابن شهاب : أن الآية التي في سورة المائدة، "فإن جاؤوك فاحكم بينهم"، كانت في شأن الرجم .
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، "عن ابن عباس قال: إنهم أتوه - يعني اليهود- في امرأة منهم زنت ، يسألونه عن عقوبتها- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة؟ فقالوا: نؤمر برجم الزانية! فأمر بها رسول الله فرجمت". وقد قال الله تبارك وتعالى : "وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال : كانوا يحدون في الزنا، إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف ، فقال بعضهم لبعض : لا يدعكم قومه ترجمونه ، ولكن اجلدوه ومثلوا به! فجلدوه ، وحملوه على حمار إكاف، وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار، إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف ، فقالوا: ارجموه ! ثم قالوا: فكيف لم ترجموا الذي قبله ؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا! فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : سلوه ، لعلكم تجدون عنده رخصة! فنزلت : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى قوله : "إن الله يحب المقسطين".
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في قتيل قتل في يهود منهم ، قتله بعضهم.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق فال ، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن الآيات في المائدة، قوله : "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، إلى قوله : "المقسطين"، إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف ، تؤدي الدية كاملة، وإن قريظة كانوا يؤدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذاك سواء، والله أعلم أي ذلك كان.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير، قتل به. وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة، أدى مائة وسق تمر. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا! فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنزلت "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، "قال ابن زيد: كان في حكم حي بن أخطب : للنضيري ديتان ، والقرظي دية، لأنه كان من النضير. قال : وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما في التوراة، قال : "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" [المائدة :45]، إلى آخر الآية. قال : فلما رأت ذلك قريظة، لم يرضوا بحكم ابن أخطب ، فقالوا : نتحاكم إلى محمد! فقال الله تبارك وتعالى : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فخيره ، "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، الآية كلها . وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي ، وحمموا وجه الشريف ، وحملوه على البعير، وجعلوا وجهه من قبل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه ، وفعلوا بها هي ذلك . فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجمها. قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : من أعلمكم بالتوراة؟ قالوا : فلان الأعور! فأرسل إليه فأتاه ، فقال : أنت أعلمهم بالتوراة؟ قال : كذاك تزعم يهود! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء، ما تجد في التوراة في الزانيين ؟ فقال : يا أبا القاسم ، يرجمون الدنيئة ، ويحملون الشريف على بعير، ويحممون وجهه ، ويجعلون وجهه من قبل ذنب البعير، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة، ويفعلون بها هي ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء، ما تجد في التوراة؟ فجعل يروغ ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينشده بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء، حتى قال : يا أبا القاسم ، الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهو ذاك ، اذهبوا بهما فارجموهما". قال عبد الله : فكنت فيمن رجمهما فما زال يجنىء عليها، ويقيها الحجارة بنفسه حتى مات.
ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو ثابت اليوم ؟ وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمة والعهد إذا احتكموا إليهم ، مثل الذي جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، أم ذلك منسوخ ؟
فقال بعضهم : ذلك ثابت اليوم ، لم ينسخه شيء ، وللحكام من الخيار في كل دهر بهذه الآية، مثل ما جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل، عن عمرو بن أبي قيس، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: إن رفع إليك أحد من المشركين في قضاء، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنزل الله ، وإن شئت أعرضت عنهم.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي وإبراهيم قالا: إذا أتاك المشركون فحكموك ، فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين ، ولا تعده إلى غيره .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال : إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : إن شاء حكم ، وإن شاء لم يحكم .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن محمد بن سالم، عن الشعبي قال : إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ، أو خل عنهم وأهل دينهم يحكمون فيهم ، إلا في سرقة أو قتل .
حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال ، قال لي عطاء: نحن مخيرون ، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب ، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم ، وإن حكمنا بينهم حكمنا بحكمنا بيننا، أو نتركهم وحكمهم بينهم . قال ابن جريج : وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب . وذلك قوله : "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم".
حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة، وحدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي في قوله : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قالا: إذا جاؤوا إلى حاكم المسلمين ، فإن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم . وإن حكم بينهم ، حكم بينهم بما في كتاب الله.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم"، يقول : إن جاؤوك فاحكم بينهم بما أنزل الله ، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رخصة، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم .
حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا : إذا أتاك المشركون فحكموك فيما بينهم ، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعده إلى غيره ، أو أعرض عنهم وخلهم وأهل دينهم .
وقال آخرون : بل التخيير منسوخ ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم بالحق ، وليس له ترك النظر بينهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسخت بقوله : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" [المائدة: 49].
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن السدي قال : سمعت عكرمة يقول : نسختها : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" [المائدة : 49].
حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار قالا، حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان، عن السدي ، قال : سمعت عكرمة يقول : نسختها : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" [المائدة : 49].
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد : لم ينسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسختها : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" [المائدة : 49]، وقوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد" [المائدة : 2] ، نسختها : "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة : 5].
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن منصور، عن الحكم ، عن مجاهد قال : نسختها : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" [المائدة : 49].
حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن منهال قال ، حدثنا همام ، عن قتادة قوله : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، يعني اليهود، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم ، ورخص له أن يعرض عنهم إن شاء، ثم أنزل الله تعالى ذكره الآية التي بعدها: "وأنزلنا إليك الكتاب" إلى قوله : "فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" [المائدة : 48] فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بيهم بما أنزل الله ، بعد ما رخص له ، إن شاء، أن يعرض عنهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري: أن عمر بن عبد العزيز- كتب إلى عدي بن عدي : إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن السدي، عن عكرمة قال : نسخت بقوله : "فاحكم بينهم بما أنزل الله" [المائدة : 48].
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري قوله : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال : مضت السنة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في حد، يحكم بينهم فيه بكتاب الله.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال : لما نزلت : "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، كان النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم ، ثم نسخها فقال : "فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" [المائدة : 48]، وكان مجبوراً على أن يحكم بينهم.
حدثنا محمد بن عمار قال ، حدثنا سعيد بن سليمان قال ، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد قال : آيتان نسختا من هذه السورة، يعني المائدة، آية القلائد، وقوله : "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فكان النبي صلى الله عليه وسلم مخيراً، إن شاء حكم ، وإن شاء أعرض عنهم ، فردهم إلى احتكامهم ، أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : إن حكم هذه الآية ثابت لم ينسخ ، وأن للحكام من الخيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وترك الحكم بينهم والنظر، مثل الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية .
وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب ، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ ، زعموا أنه نسخ بقوله : "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" [المائدة : 49] وقد دللنا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام : أن النسخ لا يكون نسخاً، إلا ما كان نفياً لحكم غيره بكل معانيه ، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعاً على صحته بوجه من الوجوه ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال : وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ومعناه : وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم باختيارك الحكم بينهم ، إذا اخترت ذلك ، ولم تختر الإعراض عنهم ، إذ كان قد تقدم إعلام المقول له ذلك من قائله : إن له الخيار في الحكم وترك الحكم ، كان معلوماً بذلك أن لا دلالة في قوله : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله)، أنه ناسخ قوله : "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بينا، بل هو دليل على مثل الذي دل عليه قوله : "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط".
وإذ لم يكن في ظاهر التنزيل دليل على نسخ إحدى الآيتين الآخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر، ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يصح بأن أحدهما ناسخ صاحبه ، ولا من المسلمين على ذلك إجماع ، صح ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيد أحدهما صاحبه ، ويوافق حكمه حكمه ، ولا نسخ في أحدهما للآخر.
وأما قوله : "وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا"، فإن معناه : وإن تعرض يا محمد، عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب ، فتدع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك ، فلا تحكم فيه بينهم ، "فلن يضروك شيئا"، يقول : فلن يقدروا لك على ضر في دين ولا دنيا، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم.
وأما قوله : "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، فإن معناه : وإن اخترت الحكم والنظر، يا محمد، بين أهل العهد إذا أتوك ، "فاحكم بينهم بالقسط"، وهو العدل ، وذلك هو الحكم بما جعله الله حكماً في مثله على جميع خلقه من أمة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة عن إبراهيم والشعبي : "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قالا: إن حكم بينهم ، حكم بما في كتاب الله.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم: "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قال : أمر أن يحكم فيهم بالرجم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي في قوله : "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قال : بالرجم .
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "بالقسط"، بالعدل.
حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي في قوله : "فاحكم بينهم بالقسط"، قال : أمر أن يحكم بينهم بالرجم.
وأما قوله : "إن الله يحب المقسطين"، فمعناه : إن الله يحب العادلين في حكمهم بين الناس ، القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمره أنبياءه صلوات الله عليهم.
يقال منه : أقسط الحاكم في حكمه، إذا عدل وقضى بالحق ، يقسط إقساطاً. وأما قسط ، فمعناه : الجور، ومنه قول الله تعالى ذكره : "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا" [الجن :15]، يعني بذلك؟ الجائرين عن الحق.
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى :" سماعون للكذب" كرره تأكيداً وتفخيماً وقد تقدم .
الثانية- قوله تعالى :" أكالون للسحت " على التكثير والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة قال الله تعالى " فيسحتكم بعذاب " [ طه : 61] وقال الفرزدق :
وعض زمان يا بن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف
كذا الرواية ، أو مجلف بالرفع عطفاً على المعنى لأن المعنى لم يدع لم يبق ويقال:للحالق: أسحت أي استاصل، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يستحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها وقال الفراء: أصله كلب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم وقيل: سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان .
قلت: والقول الأول أولى لأن بذهاب الدين تذهب المروءة ولا مروءة لمن لا دين له قال ابن مسعود وغيره: السحت الرشا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رشوة الحاكم من السحت و"عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به قالوا: يا رسول الله وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم " وعن ابن مسعود أيضاً أنه قال : السحت أن يقضي الرجل أخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها وقال ابن خويز منداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل وبطل كل حكم حكم به بعد ذك .
قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله لأن أخذ الرشوة منه فسق والفاسق لا يجوز حكمه والله أعلم و"قال عليه الصلاة والسلام :
لعن الله الراشي والمرتشي " وعن علي رضي الله عنه أنه قال : السحت الرشوة وحلوان الكاهن واستجعال في القضية وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال: لا إنما يكره من الرشوة أن ترشى لتعطى ما ليس لك أو تدفع حقاً قد لزمك فأما أن ترشى لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام قال أبو الليث السمرقندي الفقيه وبهذا نأخذه لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة وهذا كما روى عن عبد الله ابن مسعود : أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع قال المهدي: ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتاً فمعناه أنه يستحب مروءة آخذه .
قلت: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب ومن أخذ طيباً لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته، وقد روى مالك عن حميد الطويل "عن أنس أنه قال:
احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه"، قال ابن عب البر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمناً ولا جعلاً ولا عوضا لشيء من الباطل وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله لعيه وسلم من ثمن الدم وناسخ لما كرهه من إجازة الحجام، وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال :
"احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره"، ولو كان سحتاً لم يعطه والسحت والسحت لغتان قرئ بهما ، قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين والباقون بضم السين وحدها، وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع أكلون للسحت بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته، يقال: أسحت وسحت بمعنى واحد وقال الزجاج: سحته ذهب به قليلاً قليلاً.
قوله تعالى :" فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " هذا تخيير من الله تعالى ذكره القشيري، وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا، فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟قولان للشافعي وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي واختلفوا في الذميين فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير روى ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما ، سوى ما روى عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى ، فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما وقد روى عن أبي حنيفة أيضاً أنه قال: يجلدان ولا يرجمان، وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحد أن أتيا راضيين بحكمنا قال ابن خويز منداد : ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام، وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهاراً وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات، لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين، وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمه أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات لأن فيها وجهاً من المظالم وقطع الفساد والله أعلم وفي الآية قول ثان: وهو ما روى عن عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضاً أن التخيير المذكور في الآية المنسوخ بقوله تعالى :" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [المائدة:49] وأن على الحاكم أن يحكم بينهم وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم وروى عن عكرمة أنه قال:
" فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسختها آية أخرى: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وقال مجاهد: لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" نسختها " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وقوله :" لا تحلوا شعائر الله " [ المائدة: 2] نسختها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : 5] وقال الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا ن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله قال السمرقندي : وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا وقال النحاس:في الناسخ والمنسوخ له قوله تعالى :" فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " منسوخ لأنه إنما نزل أو ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم فلما قوى الإسلام أنزل الله عز وجل " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي، وهو الصحيح من قوله الشافعي قال في كتاب الجزية : ولا خيار له إذا تحاكموا إليه لقوله عز وجل :
" حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " [ التوبة : 29] قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات لأنه إذا كان معنى قوله :" وهم صاغرون " أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم فإذا وجب هذا فالآية منسوخة وهو أيضاً قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنه غير أن أبا حنيفة قال : إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم .
وقال الباقون: يحكم فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة وإلا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركاً فرضاً فاعلاً ما لا يحل له ولا يسعه قال النحاس: ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر منهم من يقول : على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حداً من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن يقول الله عز وجل :" وأن احكم بينهم " يحتمل أمرين: أحدهما - وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك والآخر وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك- إذا علمت ذلك منهم - قالوا: فوجودنا في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " [ النساء: 135] وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال : "مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال :
أهكذا حد الزاني عندكم فقالوا: نعم فدعا رجلاً من علمائهم فقال سألتك بالله أهكذا حد الزاني فيكم فقال : لا " الحديث وقد تقدم قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث فإن قال قائل : ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قيل: له : ليس في حديث مالك أيضاً أن الذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر بن عبد البر: لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل : " إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" يقول : إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا دليل على أنهم حكموه وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره فإن قال قائل: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه قيل له : حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم .
قوله تعالى :" وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة ودي مائة وسق من تمر ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله فقالوا: بيننا وبينك النبي صلى الله وعليه وسلم فنزلت " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " النفس بالنفس " أفحكم الجاهلية يبغون " [ المائدة: 50].
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر, الخارجين عن طاعة الله ورسوله, المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل "من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" أي أظهروا الإيمان بألسنتهم, وقلوبهم خراب خاوية منه, وهؤلاء هم المنافقون "من الذين هادوا" أعداء الإسلام وأهله, وهؤلاء كلهم "سماعون للكذب" أي مستجيبون له, منفعلون عنه, "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد, وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" أي يتأولونه على غير تأويله, ويبدلونه من بعد ماعقلوه, وهم يعلمون, "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً, وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد, فإن حكم بالدية فاقبلوه, وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه, والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم, فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة, والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين, فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه, فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله, ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك, وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك, عن نافع, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" فقالوا: نفضحهم ويجلدون, قال عبد الله بن سلام: كذبتم, إن فيها الرجم, فأتوا بالتوراة, فأتوا بالتوراة فنشروها, فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها, فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده, فإذا آية الرجم, فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما, فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة, أخرجاه, وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له: فقال لليهود "ما تصنعون بهما ؟" قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما, قال " فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها, فوضع يده عليه فقال: ارفع يدك فرفع, فإذا آية الرجم تلوح, قال: يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا, فأمر بهما فرجما .
وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا, فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال "ما تجدون في التوراة على من زنى ؟" قالوا: نسود وجوههما ونحممهما, ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال " فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " قال: فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مر بآية الرجم, وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم, وقرأ ما بين يديها وما وراءها, فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليرفع يده فرفع يده, فإذا تحتها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما, فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني, حدثنا ابن وهب, حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف, فأتاهم في بيت المدارس, فقالوا: يا أبا القاسم, إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم. قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها, ثم قال "ائتوني بالتوراة, فأتي بها, فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها, وقال "آمنت بك وبمن أنزلك" ثم قال "ائتوني بأعلمكم" فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع .
وقال الزهري: سمعت رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه, ونحن عند ابن المسيب, عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث التخفيف, فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله, قلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه, فقالوا: يا أبا القاسم, ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدارسهم, فقام على الباب فقال "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟" قالوا: يحمم ويجبه ويجلد, والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما, قال: وسكت شاب منهم, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت, ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة, فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فما أول ما ارتخصتم أمر الله" قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم, ثم زنى رجل في إثره من الناس فأراد رجمه, فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه, فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما, قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم, رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه, وابن جرير.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن البراء بن عازب, قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود, فدعاهم, فقال "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقالوا: نعم, فدعا رجلاً من علمائهم فقال "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى, أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقال: لا والله, ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك, نجد حد الزاني في كتابنا الرجم, ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه, وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد, فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع, فاجتمعنا على التحميم والجلد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" قال: فأمر به فرجم, قال: فأنزل الله عز وجل "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه" أي يقولون: ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه, وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا, إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال في اليهود, إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قال في اليهود "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" قال: في الكفار كلها, انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به .
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي, عن جابر بن عبد الله, قال: زنى رجل من أهل فدك, فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة, أن سلوا محمداً عن ذلك, فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه, وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه, فسألوه عن ذلك, فقال "أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم" فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا, وآخر, فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم "أنتما أعلم من قبلكما" فقالا: قد دعانا قومنا لذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله" قالا: بلى, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل, وظلل عليكم الغمام, وأنجاكم من آل فرعون, وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل, ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقال أحدهما للاخر: ما نشدت بمثله قط, ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية, والاعتناق زنية, والتقبيل زنية, فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدى ويعيد, كما يدخل الميل في المكحلة, فقد وجب الرجم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو ذاك" فأمر به فرجم, فنزلت " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ". ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه .
ولفظ أبي داود عن جابر, قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا, فقال "ائتوني بأعلم رجلين منكم" فأتوه بابني صوريا, فنشدهما "كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟" قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة, رجما, قال "فما يمنعكم أن ترجموهما ؟" قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود, فجاء أربعة, فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما, ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلاً, ولم يذكر فيه: فدعا بالشهود فشهدوا. فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حكم بموافقة حكم التوراة, وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته, لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة, ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك, وسؤاله إياهم عن ذلك, ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة, فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم, وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم, وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به, ولهذا قالوا "إن أوتيتم هذا" أي: الجلد والتحميم, فخذوه, أي اقبلوه, "وإن لم تؤتوه فاحذروا" أي من قبوله واتباعه .
وقال الله تعالى: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم * سماعون للكذب " أي الباطل "أكالون للسحت" أي الحرام, وهو الرشوة, كما قاله ابن مسعود وغير واحد, أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له, ثم قال لنبيه " فإن جاؤوك " أي يتحاكمون إليك "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم, لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد: هي منسوخة بقوله "وأن احكم بينهم بما أنزل الله", "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" أي بالحق والعدل, وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل "إن الله يحب المقسطين".
ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة, ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم, الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً, ثم خرجوا عن حكمه, وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم, فقال "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين" ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران, فقال "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا" أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها, "والربانيون والأحبار" أي وكذلك الربانيون منهم, وهم العلماء العباد, والأحبار وهم العلماء "بما استحفظوا من كتاب الله" أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به, "وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون" أي لا تخافوا منهم وخافوا مني, "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيه قولان سيأتي بيانهما .
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه, عن عبد الله بن عبد الله, عن ابن عباس, قال: إن الله أنزل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " " فأولئك هم الظالمون " " فأولئك هم الفاسقون ", قال قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود, وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا, وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق, فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم, فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً, فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق, فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد, ونسبهما واحد, وبلدهما واحد, دية بعضهم نصف دية بعض, إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم, ثم ذكرت العزيزة, فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم, ولقد صدقوا, ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه, وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه, فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما أرادوا, فأنزل الله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله "الفاسقون" ففيهم والله أنزل, وإياهم عنى الله عز وجل, ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه .
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب, قالا: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق, حدثني داود بن الحصين عن عكرمة, عن ابن عباس: أن الايات التي في المائدة قوله " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة, وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف, تؤدى لهم الدية كاملة, وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية, فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله ذلك فيهم, فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك, فجعل الدية في ذلك سواء, والله أعلم أي ذلك كان, ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه .
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كانت قريظة والنضير, وكانت النضير أشرف من قريظة, فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير قتل به, وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة, ودي بمائة وسق من تمر, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة, فقالوا: ادفعوا إليه, فقالو: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط", ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه, وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد .
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الايات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا, كما تقدمت الأحاديث بذلك, وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد, فنزلت هذه الايات في ذلك كله, والله أعلم, ولهذا قال بعد ذلك "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين" إلى آخرها, وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص, والله سبحانه وتعالى أعلم, وقوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب, زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة, وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري, عن منصور عن إبراهيم, قال نزلت هذه الايات في بني إسرائيل, ورضي الله لهذه الأمة بها, رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يعقوب, حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل, عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة. فقال: من السحت, فقالا: وفي الحكم, قال: ذاك الكفر, ثم تلا, "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقال السدي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً أو جار وهو يعلم, فهو من الكافرين, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر, ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق, رواه ابن جرير, ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب, أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب, وقال عبد الرزاق, عن الثوري, عن زكريا, عن الشعبي, : ومن لم يحكم بما أنزل الله, قال للمسلمين .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الصمد, حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر, عن الشعبي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: هذا في المسلمين "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قال: هذا في اليهود "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" قال: هذا في النصارى, وكذا رواه هشيم والثوري, عن زكريا بن أبي زائدة, عن الشعبي وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن ابن طاوس, عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله "ومن لم يحكم" الآية, قال: هي به كفر, قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله, وقال الثوري, عن ابن جريج, عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر, وظلم دون ظلم, وفسق دون فسق, رواه ابن جرير, وقال وكيع, عن سعيد المكي, عن طاوس "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: ليس بكفر ينقل عن الملة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري, حدثنا سفيان بن عيينة, عن هشام بن حجير, عن طاوس, عن ابن عباس في قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه, ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة, وقال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه .
وقوله: 42- "سماعون للكذب" خبر مبتدأ محذوف: أي هم سماعون للكذب، فهو راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين، واللام في قوله: "للكذب" للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول، وقيل إن قوله: "سماعون" مبتدأ خبره "من الذين هادوا" أي ومن الذين هادوا قوم "سماعون للكذب" أي قابلون لكذب رؤسائهم المحرفين للتوراة. قوله: "سماعون لقوم آخرين" خبر ثان، واللام فيه كاللام في للكذب، وقيل اللام للتعليل في الموضعين أي سماعون لكلام رسول الله لأجل الكذب عليه، وسماعون لأجل قوم آخرين وجهوهم عيوناً لهم لأجل أن يبلغوهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "لم يأتوك" صفة لقوم: أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبراً وتمرداً، وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال: "ملعونين أينما ثقفوا". قوله: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" من جملة صفات القوم المذكورين: أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ويتأولونه على غير تأويله. والمحرفون هم اليهود، وقيل إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف، وقيل في محل نصب على الحال من "لم يأتوك" وقيل مستأنفة لا محل لها من الإعراب لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم. ومعنى "من بعد مواضعه" من بعد كونه موضوعاً في مواضعه، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه، أو من حيث معناه قوله: "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه" جملة حالية من ضمير يحرفون، أو مستأنفة، أو صفة لقوم، أو خبر مبتدأ محذوف، والإشارة بقولهم: "هذا" إلى الكلام المحرف: أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرفناه فخذوه واعملوا به وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره فاحذروا من قبوله والعمل به. قوله: "ومن يرد الله فتنته" أي ضلالته "فلن تملك له من الله شيئاً" أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أولياً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم: أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق كما طهر قلوب المؤمنين "لهم في الدنيا خزي" بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة. قوله: "سماعون للكذب" كرره تأكيداً لقبحه، وليكون كالمقدمة لما بعده، وهو "أكالون للسحت" وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدر سابقاً. والسحت بضم السين وسكون الحاء: المال الحرام، وأصله الهلاك والشدة، من سحته: إذا هلكه، ومنه "فيسحتكم بعذاب"، ومنه قول الفرزدق:
وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو محلق
ويقال للحالق اسحت: أي استأصل، وسمي الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات: أي يذهبها ويستأصلها، وقال الفراء: أصله كلب الجوع، وقيل هو الرشوة، والأول أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أولياً. وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضي له حاجة، وحلوان الكاهن، والتعميم أولى بالصواب. قوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الحكم بينهم والإعراض عنهم.
وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين. وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم. واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم، فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي: وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء. قوله: "وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيل لهم عليك، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم "فاحكم بينهم بالقسط" أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك.
42-قوله تعالى " سماعون للكذب أكالون للسحت "، قرأ ابن كثير و أبو جعفر وأهل البصرة و الكسائي " للسحت " بضم الحاء ، والآخرون بسكونها ، وهو الحرام، وأصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : " فيسحتكم بعذاب " ( طه، 61 )، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله ، كانوا يرتشون لمن رشاهم.
قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه فيريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة.
وعنه أيضاً قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل [ عنك ] حقاً . فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن و مقاتل وقتادة و الضحاك ، وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء ، وقال ابن مسعود : من شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها [ ظلماً ] فأهدي له فقبل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر ، قال الله تعالى : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ( سورة المائدة ،44).
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي و المرتشي ".
و السحت كل كسب لا يحل .
قوله عز وجل : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا " ، خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك .
واختلفوا في حكم الآية اليوم هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ؟ فقال أكثر أهل العلم : هو حكم ثابت ، وليس في سورة المائدة منسوخ ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا لم يحكموا ، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام ، وهو قول النخعي و الشعبي و عطاء و قتادة .
وقال قوم : يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم ، والآية منسوخة نسخها قوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " (سورة المائدة، 49) ، وهو قول مجاهد و عكرمة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان ، قوله تعالى : " لا تحلوا شعائر الله " نسخها قوله تعالى " اقتلوا المشركين " وقوله : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسخها قوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه ، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة . قوله " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، أي : بالعدل ، " إن الله يحب المقسطين " أي العادلين ، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المقسطون عند الله على منابر من نور " .
42" سماعون للكذب " كرره للتأكيد. " أكالون للسحت " أي الحرام كالرشا من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة، وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب في المواضع الثلاثة بضمتين وهما لغتان كالعنق والعنق، وقرئ بفتح السين على لفظ المصدر. " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " تحيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحاكموا إليه بين الحكم والإعراض ولهذا قيل: لو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، وهو قول الشافعي والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذمياً لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم، والآية ليست في أهل الذمة، وعند أبي حنيفة يجب مطلقاً. " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا " بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس. " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " أي بالعدل الذي أمر الله به. " إن الله يحب المقسطين " فيحفظهم ويعظم شأنهم.
42. Listeners for the sake of falsehood! Greedy for illicit gain! If then they have recourse unto thee (Muhammad) judge between them or disclaim jurisdiction. If thou disclaimest jurisdiction, then they cannot harm thee at all. But if thou judgest, judge between them with equity. Lo! Allah loveth the equitable.
42 - (they are fond of) listening to falsehood, of devouring anything forbidden. if they do come to thee, either judge between them, or decline to interfere. if thou decline, they cannot hurt thee in the least. if thou judge, judge in equity between them. for God loveth those who judge in equity.