37 - (إنما النسيء) أي التأخير لحرمة شهر إلى آخره كما كانت الجاهلية تفعله من تأخير حرمة المحرم إذا حل وهم في القتال إلى صفر (زيادة في الكفر) لكفرهم بحكم الله فيه (يُضل) بضم الياء وفتحها (به الذين كفروا يحلونه) أي النسيء (عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا) يوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله (عدة) عدد (ما حرم الله) من الأشهر فلا يزيدوا على تحريم أربعة ولا ينقصوا ولا ينظروا إلى أعيانها (فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم) فظنوه حسناً (والله لا يهدي القوم الكافرين)
ك قوله تعالى إنما النسيء الآية أخرج ابن جرير عن أبي مالك قال كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا فيجعلون المحرم صفرا فيسجلون فيه المحرمات فأنزل الله إنما النسيء زيادة في الكفر
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما النسيء إلا زيادة في الكفر.
و((النسيء)) مصدر من قول القائل: ((نسأت في أيامك، ونسأ الله في أجلك))، أي: زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك، حتى تبقى فيها حياً. وكل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيها: (( نسيء)). ولذلك قيل للبن إذا كثر بالماء: ((نسيء))، وقيل للمرأة الحبلى: ((نسوء)) و((نسئت المرأة))، لزيادة الولد فيها، وقيل: ((نسأت الناقة وأنسأتها))، إذا زجرتها ليزداد سيرها.
وقد يحتمل أن: ((النسيء))، ((فعيل))، صرف إليه من ((مفعول))، كما قيل: ((لعين)) و((قتيل))، بمعنى: ملعون مقتول. ويكون معناه: إنما الشهر المؤخر زيادة في الكفر.
وكأن القول الأول أشبه بمعنى الكلام، وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة، وتصييرهم الحرام منهن حلالاً، والحلال منهن حراماً، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكام الله وآياته.
وقد كان بعض القرأة يقرأ ذلك: ((إنما النسيء)) بترك الهمز،، وترك مده، ((يضل به الذين كفروا)).
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة الكوفيين: ((يضل به الذين كفروا)) بمعنى: يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه، الذين كفروا.
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ((يضل به الذين كفروا)) بمعنى: يزول عن محجة الله التي جعلها لعباده طريقاً يسلكونه إلى مرضاته، الذين كفروا.
وقد حكي عن الحسن البصري: ((يضل به الذين كفروا)) بمعنى: يضل بالنسيء الذي سنه الذين كفروا، الناس.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكل واحدة القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو ((ضال))، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضل. فبأيتهما قرأ القارىء، فهو للصواب في ذلك مصيب.
وأما الصواب من القراءة في ((النسيء))، فالهمزة، وقراءته على تقدير ((فعيل)) لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.
وأما قوله: " يحلونه عاما "، فإن معناه: يحل الذين كفروا النسيء، و(( الهاء)) في قوله: " يحلونه "، عائدة عليه.
ومعنى الكلام: يحلون الذين أخروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم، عاماً، " ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله "، يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حللوا من الشهور، وتحريمهم ما حرموا منها، عدة ما حرم الله " فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم "، يقول: حسن لهم وحبب إليهم سيئ أعمالهم وقبيحها، وما خولف به أمر الله وطاعته، " والله لا يهدي القوم الكافرين "، يقول: والله لا يوفق لمحاسن الأفعال وجميلها، وما لله فيه رضىً، القوم الجاحدين توحيده، والمنكرين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخذلهم عن الهدى، كما خذل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " إنما النسيء زيادة في الكفر "، قال: " النسيء "، هو أن ((جنادة بن عوف بن أمية الكناني))، كان يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى ((أبا ثمامة))، فينادي: ((ألا إن أبا ثمامة لا يحاب لا يعاب، ألا وإن صفر العام الأول العام حلال))، فيحله الناس، فيحرم صفر عاماً، ويحرم المحرم عاماً، فذلك قوله تعالى: " إنما النسيء زيادة في الكفر " إلى قوله: " الكافرين ". وقوله " إنما النسيء زيادة في الكفر "، يقول: يتركون المحرم عاماً، وعاماً يحرمونه.
قال أبو جعفر: وهذا التأويل من تأويل ابن عباس، يدل على صحة قراءة من قرأ ((النسي))، بترك الهمز ترك المد، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه ((فعل))، من قول القائل: ((نسيت الشيء أنساه))، ومن قول الله، " نسوا الله فنسيهم "، [التوبة: 67]، بمعنى: تركوا الله فتركهم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " إنما النسيء زيادة في الكفر "، قال: فهو المحرم، كان يحرم عاماً، وصفر عاماً، وزيد صفر في الأشهر الحرم. وكانوا يحرمون صفراً مرة، ويحلونه مرة، فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم تفعله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل:" إنما النسيء زيادة في الكفر "، قال: كان " النسيء "، رجلاً من بني كنانة، وكان ذا رأي فيهم، وكان يجعل سنةً المحرم صفراً، فيغزون فيه، فيغنمون فيه، ويصيبون، ويحرمه سنة.
... قال حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل: " إنما النسيء زيادة في الكفر "، الآية، وكان رجل من بني كنانة يسمى ((النسيء))، فكان يجعل المحرم صفراً، ويستحل فيه الغنائم، فنزلت هذه الآية.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثاً ، عن مجاهد قال، كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام في الموسم على حمار له، فيقول: ((أيها الناس، إني لا أعاب ولا أحاب، ولا مرد لما أقول، إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر)). ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: (( إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم))! فهو قوله: " ليواطئوا عدة ما حرم الله "، قال: يعني الأربعة، " فيحلوا ما حرم الله "، لتأخير هذا الشهر الحرام.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " إنما النسيء زيادة في الكفر "، " النسيء "، المحرم، وكان يحرم المحرم عاماً ويحرم صفر عاماً، فالزيادة ((صفر))، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلوا صفر المحرم، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يعظمونه، وهم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " إنما النسيء زيادة في الكفر " إلى قوله: " الكافرين "، عمد أناس من أهل الضلالة فزادوا صفراً في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: ((ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرم))، فيحرمونه ذلك العام. ثم يقوم في العام المقبل فيقول: ((ألا إن آلهتكم قد حرمت صفر))، فيحرمونه ذلك العام. وكان يقال لهما ((الصفران)). قال: فكان أول من نسأ النسيء: بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة صفوان بن أمية أحد بني فقيم بن الحارث، ثم أحد بني كنانة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " إنما النسيء زيادة في الكفر "، قال: فرض الله الحج في ذي الحجة قال: وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة يحجوهن فيه مرة، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان رمضان، ثم يسمون رمضان شوالاً، ثم يسمون ذا القعدة شوالاً، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر رحمة الله عليه الآخر من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج، فوافق ذا الحجة فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " إنما النسيء زيادة في الكفر "، قال: حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين. فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك : " إنما النسيء زيادة في الكفر "، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً، فيجعلون المحرم صفراً، فيستحلون فيه الحرمات، فأنزل الله: " إنما النسيء زيادة في الكفر ".
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا "، الآية، قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: ((القلمس))، كان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده. فلما كان هو، قال: ((اخرجوا بنا))، قالوا له: ((هذا المحرم))! فقال: ((ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان عام قابل قضينا، فجعلناهما محرمين)). قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: (( لا تغزوا في صفر، حرموه مع المحرم، هما محرمان، المحرم أنسأناه عاماً أول ونقضيه)) ذلك ((الإنساء))، وقال منافرهم:
ومنا منسي الشهور القلمس
وأنزل الله: " إنما النسيء زيادة في الكفر "، إلى آخر الآية.
وأما قوله: " زيادة في الكفر "، فإن معناه زيادة كفر بالنسيء، إلى كفرهم بالله قبل ابتداعهم النسيء، كما:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " إنما النسيء زيادة في الكفر "، يقول: ازدادوا به كفراً إلى كفرهم.
وأما قوله: " ليواطئوا "، فإنه من قول القائل: ((واطأت فلاناً على كذا أواطئه مواطأة))، إذا وافقته عليه، معيناً له، غير مخالف عليه.
وروي عن ابن عباس في ذلك ما:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " ليواطئوا عدة ما حرم الله "، يقول: يشبهون.
قال أبو جعفر: وذلك قريب المعنى مما بينا، وذلك أن ما شابه الشيء، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه.
وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرمونها، عدة الأشهر الأربعة التي حرمها الله، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدموا وأخروا. فلذلك مواطأة عدتهم عدة ما حرم الله.
قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر" هكذا يقرأ أكثر الأئمة. قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه إنما النسي بلا همز إلا ورش وحده. وهو مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخرجه، حكى اللغتين الكسائي. الجوهري: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من قولك: نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته. ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة. قال الطبري: النسيء بالهمزة معناه الزيادة، يقال: نسأ ينسأ إذا زاد. قال: ولا يكون بترك الهمز إلا من النسيان، كما قال تعالى: "نسوا الله فنسيهم" [التوبة: 67]، ورد على نافع قراءته، واحتج بأن قال: إنه يتعدى بحرف الجر، يقال: نسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:
"من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه". قال الأزهري: أنسأت الشيء إنساء ونسيئا، اسم وضع موضع المصدر الحقيقي. وكانوا يحرمون القتال في المحرم، فإذا احتجوا إلى ذلك حرموه صفراً بدله وقاتلوا في المحرم. وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات، فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن. فكانوا إذا صدروا عن منىً يقوم من بني كنانة، ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس، فيقول أنا الذي لا يرد لي قضاء. فيقولون: أنسئنا شهراً، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم. فكانوا كذلك شهراً فشهراً حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. وهذا معنى قوله عليه السلام: "إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والارض". وقال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله في خطبته: "إن الزمان قد استدار" الحديث. أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء. وقول ثالث. قال إياس بن معاوية: كان المشركون يحسبون السنة اثني عشر شهراً وخمسة عشر يوماً، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوماً، فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة. وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار". أي زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه. ثم قال: السنة اثنا عشر شهراً. ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة -وهي الخمسة عشر يوماً- بتحكمهم، فتعين الوقت الأصلي وبطل التحكم الجهلي. وحكى الإمام المازري عن الخوارزمي أنه قال: أول ما خلق الله الشمس أجراها في برج الحمل، وكان الزمان الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس برج الحمل. وهذا يحتاج إلى توقيف، فإنه لا يتوصل إليه إلا بالنقل عن الأنبياء، ولا نقل صحيحاً عنهم بذلك، ومن ادعاه فليسنده. ثم إن العقل يجوز خلاف ما قال، وهو أن يخلق الله الشمس قبل البروج، ويجوز أن يخلق ذلك كله دفعة واحدة. ثم إن علماء التعديل قد اختبروا ذلك فوجدوا الشمس في برج الحوت وقت قوله عليه السلام: "إن الزمان قد استدار" بينها وبين الحمل عشرون درجة. ومنهم من قال عشر درجات. والله أعلم. واختلف أهل التأويل في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك: بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة، وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: إن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، ثم كان بعده رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزهري: حي من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس، واسمه حذيفة بن عبيد. وفي رواية: مالك بن كنانة. وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه. وفي ذلك يقول شاعرهم:
ومنا ناسئ الشهر القلمس
وقال الكميت:
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
قوله تعالى: "زيادة في الكفر" بيان لما فعله العرب من جمعها من أنواع الكفر، فإنها أنكرت وجود البارئ تعالى فقالت: "وما الرحمن" في أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت: "من يحيي العظام وهي رميم" [يس: 78]. وأنكرت بعثة الرسل فقالوا: "أبشرا منا واحدا نتبعه" [القمر: 24]. وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعه من ذاتها مقتفيةً لشهواتها، فأحلت ما حرم الله. ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون.
قوله تعالى: "يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين" فيه ثلاث قراءات. قرأ أهل الحرمين وأبو عمر يضل وقرأ الكوفيون يضل على الفعل المجهول. وقرأ الحسن وأبو رجاء يضل. والقراءات الثلاث كل واحدة منها تؤدي عن معنى، إلا أن القراءة الثالثة حذف منها المفعول. والتقدير: ويضل به الذي كفروا من يقبل منهم. و "الذين" في محل رفع. ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى الله عز وجل. التقدير: يضل الله به الذين كفروا، قوله تعالى: "يضل من يشاء" [الرعد: 27]، وكقوله في آخر الآية: "والله لا يهدي القوم الكافرين". والقراءة الثانية "يضل به الذين كفروا" يعني المحسوب لهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله تعالى: "زين لهم سوء أعمالهم". والقراءة الأولى اختارها أبو حاتم، لأنهم كانوا ضالين به، أي بالنسيء، لأنهم كانوا يحسبونه فيضلون به. والهاء في يحلونه ترجع إلى النسيء. وروي عن أبي رجاء يضل بفتح الياء والضاد. وهي لغة، يقال: ضللت أضل، وضللت أضل. "ليواطئوا" نصب بلام كي، أي ليوافقوا. تواطأ القوم على كذا أي اجتمعوا عليه، أي لم يحلوا شهراً إلا حرموا شهراً لتبقى الأشهر الحرم أربعة. وهذا هو الصحيح، لا ما يذكر أنهم جعلوا الأشهر خمسة. قال قتادة: إنهم عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم، وقرنوه بالمحرم في التحريم، وقاله عنه قطرب والطبري. وعليه يكون النسيء بمعنى الزيادة. والله أعلم.
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة, وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة, وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله , فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم, فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان:
لقد علمت معد بأن قومي كرام الناس إن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
فأي الناس لم ندرك بوتر وأي الناس لم نعلك لجاما
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "إنما النسيء زيادة في الكفر" قال النسيء أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس فيحرم صفراً عاماً ويحرم المحرم عاماً فذلك قول الله "إنما النسيء زيادة في الكفر" يقول: يتركون المحرم عاماً وعاماً يحرمونه, وروى العوفي عن ابن عباس نحوه, وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول: يا أيها الناس: إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما أقول, إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله "ليواطئوا عدة ما حرم الله" قال يعني الأربعة فيحلوا ما حرم الله لتأخير هذا الشهر الحرام, وروي عن أبي وائل والضحاك وقتادة نحو هذا, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله "إنما النسيء زيادة في الكفر" الاية قال هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده, فلما كان هو قال اخرجوا بنا قالوا له هذا المحرم قال ننسئه العام هما العام صفران, فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما محرمين, قال ففعل ذلك فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر حرموه مع المحرم هما محرمان, فهذه صفة غريبة في النسيء وفيها نظر لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر فأين هذا من قوله تعالى: "يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله" وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضاً فقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر" الاية, قال فرض الله عز وجل الحج في ذي الحجة, قال وكان المشركون يسمون ذا الحجة المحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوالاً وذا القعدة وذا الحجة يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفراً, ثم يسمون رجب جمادى الاخرة, ثم يسمون شعبان رمضان, ثم يسمون شوالاً رمضان, ثم يسمون ذا القعدة شوالاً, ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة, ثم يسمون المحرم ذا الحجة فيحجون فيه واسمه عندهم ذا الحجة. ثم عادوا بمثل هذه الصفة فكانوا يحجون في كل عام شهرين حتى إذا وافق حجة أبي بكر الاخر من العامين في ذي القعدة, ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج فوافق ذا الحجة فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضاً وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة وأنى هذا ؟ .
وقد قال الله تعالى: "وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله" الاية وإنما نودي به في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى: "يوم الحج الأكبر" ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل شهر عامين فإن النسيء حاصل بدون هذا فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاماً يحرمون عوضه صفراً وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في السنة الثانية يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه وبعده صفر وربيع وربيع إلى آخرها " يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله " أي في تحريم أربعة أشهر من السنة إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار" الحديث أي إن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض والله أعلم وقال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: "إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً" فكانوا يحرمون المحرم عاماً ويستحلون صفر ويستحلون المحرم هو النسيء.
وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب السيرة كلاماً جيداً مفيداً حسناً فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله وحرم منها ما أحل الله عز وجل القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان: ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ثم ابنه أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيباً فحرم رجباً وذا القعدة وذا الحجة ويحل المحرم عاماً ويجعل مكانه صفر ويحرمه ليواطىء عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله . والله أعلم .
قوله: 37- "إنما النسيء زيادة في الكفر". قرأ نافع في رواية ورش عنه "النسيء" بياء مشددة بدون همز. وقرأ الباقون بياء بعدها همزة. قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع هذه القراءة إلا ورش وحده، وهو مشتق من نسأه وأنسأه: إذا أخره، حكى ذلك الكسائي. قال الجوهري: النسيء فعيل بمعنى مفعول من قولك: نسأت الشيء فهو منسوء: إذا أخرته، ثم تحول منسوء إلى نسيء كما تحول مقتول إلى قتيل. قال ابن جرير: في النسيء بالهمزة معنى الزيادة يقال: نسأ ينسأ: إذا زاد، قال: ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان كما قال تعالى: "نسوا الله فنسيهم"، ورد على نافع قراءته. وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرموا غيرها، فإذا قاتلوا في المحرم حرموا بدله شهر صفر، وهكذا في غيره، وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيراً منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض، ونهب على ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضر بهم تواليها وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم، فيحللون بعضها ويحرمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم، فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه. وقد وقع الخلاف في أول من فعل ذلك فقيل: هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد، ويلقب القلمس، وإليه يشير الكميت بقوله:
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
وفيه يقول قائلهم:
ومنا ناسئ الشهر القلمس
وقيل هو عمرو بن لحي، وقيل هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة، وسمى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر لأنه نوع من أنواع كفرهم، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. قوله: "يضل به الذين كفروا". قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر "يضل" على البناء للمعلوم. وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول، ومعنى القراءة الأولى أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء، ومعنى القراءة الثانية، أن الذي سن لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة، وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد. وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب "يضل" بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول ومفعوله محذوف، ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه ومفعوله الموصول. وقرئ بفتح الياء والضاد من ضل يضل. وقرئ نضل بالنون. قوله: "يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً" الضمير راجع إلى النسيء: أي يحلون النسيء عاماً ويحرمونه عاماً، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه: أي يحلونه عاماً بإبداله بشهر آخر من شهور الحل، يحرمونه عاماً: أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال، بل يبقونه على حرمته. قوله: "ليواطئوا عدة ما حرم الله" أي لكي يواطئوا، والمواطأة الموافقة، يقال: تواطأ القوم على كذا: أي توافقوا عليه واجتمعوا. والمعنى: إنهم لم يحلوا شهراً إلا حرموا شهراً لتبقى الأشهر الحرم أربعة. قال قطرب: معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم وقرنوه بالمحرم في التحريم. وكذا قال الطبري. قوله: "فيحلوا ما حرم الله" أي من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها "زين لهم سوء أعمالهم" أي زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي يعملونها، ومن جملتها النسيء. وقرئ على البناء الفاعل "والله لا يهدي القوم الكافرين" أي المصرين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وأخرج نحوه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث ابن عمر: وأخرج نحوه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث ابن عباس. وأخرج نحوه أيضاً البزار وابن جرير وابن مردويه من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد وابن مردويه من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعاً مطولاً. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس "منها أربعة حرم" فقال: المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: إنما سمين حرماً لئلا يكون فيهن حرب. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله " ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الدين فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" قال: في كلهن "وقاتلوا المشركين كافة" يقول جميعاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله: "وقاتلوا المشركين كافة" قال: نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل عشرين سنة مرة، وهي النسيء الذي ذكره الله في كتابه، فلما كان عام حج أبو بكر بالناس وافق ذلك العام، فسماه الله الحج الأكبر، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل. واستقبل الناس الأهلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فقال: "إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً" فكانوا يحرمون المحرم عاماً ويستحلون صفر، ويحرمون صفر عاماً ويستحلون المحرم. وهي النسيء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يخاب ولا يعاب، ألا وإن صفر الأول العام حلال فيحله للناس، فيحرم صفر عاماً، ويحرم المحرم عاماً فذلك قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: المحرم كانوا يسمونه صفر، وصفر يقولون صفران الأول والآخر، يحل لهم مرة الأول، ومرة الآخر. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كانت النساءة حي من بني مالك من كنانة من بني فقيم، فكان آخرهم رجلاً يقال له القلمس، وهو الذي أنسأ المحرم.
37-قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر"، قيل: هو مصدر كالسعير والحريق. وقيل: هو مفعول كالجريح والقتيل، وهو من التأخير. ومنه النسيئة في البيع، يقال: أنسأ الله من أجله أي أخر، وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء، وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري: بتشديد الياء من غير همز، وقد قيل: أصله الهمزة فخفف.
وقيل: هو من النسيان على معنى المنسي أي: المتروك. ومعنى النسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكأن ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، وكانت عامة معيشهم من الصيد والغارة، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم، فنسؤوا أي: أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع، هكذا شهرا بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه، وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته.
كما: أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وقال: "أي شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: أحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت ألا هل بلغت"؟
قالوا: وكان قد استمر النسيء بهم، فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر.
قال مجاهد: كانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في شهر ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور، فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه فوافق حجة شهر الحج الشروع وهو ذو الحجة، فوقف بعرفة يوم التاسع، وخطب اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السموات والأرض، وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف الأيام.
واختلفوا في أول من نسأ النسيء: فقال ابن عباس و الضحاك و قتادة و مجاهد: أول من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة جناد بن عوف بن أمية الكناني. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال: له نعيم بن ثعلبة، وكان أميرا على الناس بالموسم، فإذا هم الناس بالصدر، قام فخطب الناس فقال: لا مرد لما قضيت، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب، فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهرا يغيرون فيه، فيقول: فإن صفرا العام حرام، فإذا قال ذلك حلوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال عقدوا الأوتار، وشدوا الأزجة، وأغاروا.
وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو رجل من بني كنانة يقال له: القلمس، قال شاعرهم: وفينا ناسئ الشهر القلمس، وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم.
وقال جوبير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب، وهو يجر قصبه في النار".
فهذا الذي ذكرنا هو النسيء الذي ذكره الله تعالى فقال: "إنما النسيء زيادة في الكفر"، يريد زيادة كفر على كفرهم، "يضل به الذين كفروا"، قرأ حمزة والكسائي و حفص: "يضل" بضم الياء وفتح الضاد، كوقله تعالى: "زين لهم سوء أعمالهم"، وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد، وهي قراءة الحسن و مجاهد على معنى "يضل" به الذين كفروا الناس، وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الضاد، لأنهم هم الضالون لقوله: "يحلونه"، يعني النسيء "عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا"، أي: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة، "عدة ما حرم الله"، يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، كما حرم الله فيكون موافقة العدد، "فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم"، قال ابن عباس: زين لهم الشيطان، "والله لا يهدي القوم الكافرين".
37." إنما النسيء " أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد ،وعن نافع برواية ورش (إنما النسي) بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ (النسي) بحذفها والنسء والنساء وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره . "زيادة في الكفر" لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم. " يضل به الذين كفروا " ضلالاً زائداً . وقرأ حمزة والكسائي وحفص "يضل"على البناء للمفعول ، وعن يعقوب "يضل" على أن الفعل لله تعالى." يحلونه عاماً " يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهراً آخر . " ويحرمونه عاماً " فيتركونه على حرمته . قيل: أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه . والجملتان تفسير للضلال أوحال . " ليواطئوا عدة ما حرم الله " أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة، واللام متعلقة بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين"فيحلوا ما حرم الله" بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت ." زين لهم سوء أعمالهم" وقرء على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسناً " والله لا يهدي القوم الكافرين" هداية موصلة إلى الاهتداء.
37. Postponement (of a sacred month) is only an excess of disbelief whereby those who disbelieve are misled, they allow it one year and forbid it (another) year, that they may make up the number of the months which Allah hath hallowed, so that they allow that which Allah hath forbidden. The evil of their deeds is made fair-seeming unto them. Allah guideth not the disbelieving folk.
37 - Verily the transposing (of a prohibited month) is an addition to unbelief: the unbelievers are led to wrong thereby: for they make it lawful one year, and forbidden another year, in order to adjust the number of months forbidden by God and make such forbidden ones lawful. the evil of their course seems pleasing to them. but God guideth not those who reject faith.