36 - (إن عدة الشهور) المعتد بها للسنة (عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله) اللوح المحفوظ (يوم خلق السماوات والأرض منها) أي الشهور (أربعة حرم) محرَّمة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب (ذلك) أي تحريمها (الدين القيم) المستقيم (فلا تظلموا فيهن) أي الأشهر الحرم (أنفسكم) بالمعاصي فإنها أعظم وزرا وقيل في الأشهر كلها (وقاتلوا المشركين كافةً) جميعا في كل الشهور (كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) بالعون والنصر
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن عدة شهور السنة عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، الذي كتب فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى، " يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم "، يقول: هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرمهن، وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه، وهن: رجب مضر، وثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنىً في أوسط أيام التشريق فقال: يا أيها الناس، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ".
حدثنا محمد بن معمر قال، حدثنا روح قال، حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ورجب مضر بين جمادى وشعبان".
حدثنا يعقوب قال، حدثنا إسمعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر بين جمادى وشعبان ".
حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سليمان التيمي قال، حدثني رجل بالبحرين: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: ألا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادي وشعبان " .
حدثنا ابن حميدة قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن ابن أبي نجيح، قوله: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم "، " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان " .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا " أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في يوم منىً: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .
وهو قول عامة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم "، أما " أربعة أشهر "، ((فذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب)). أما " كتاب الله "، فالذي عنده.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا " قال: يعرف بها شأن النسيء، ما نقص من السنة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قول الله: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله "، قال: يذكر بها شأن النسيء.
وأما قوله: " ذلك الدين القيم "، فإن معناه: هذا الذي أخبرتكم به، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، وأن منها أربعة حرماً: هو الدين المستقيم، كما:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي : " ذلك الدين القيم "، يقول: المستقيم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ذلك الدين القيم "، قال: الأمر القيم. يقول: قال تعالى: واعلموا، أيها الناس، أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن، وأن من هذه الاثني عشر شهراً أربعة أشهر حرماً، ذلك دين الله المستقيم، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة، وتحريمه ما يحرمه منها.
وأما قوله: " فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، فإن معناه: فلا تعصوا الله فيها، ولا تحلوا ما حرم الله عليكم، فتكسبوا أنفسكم ما لا قبل لها به من سخط الله وعقابه، كما:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، قال: الظلم العمل بمعاصي الله، والترك لطاعته.
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه ((الهاء))، و((النون)) في قوله: " فيهن ".
فقال بعضهم:عاد ذلك على ((الاثني العشر الشهر))، وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلها أنفسكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، في كلهن. ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، قال: في الشهور كلها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم، و((الهاء والنون)) عائدة على ((الأشهر الأربعة)).
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ، أما قوله: " فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء. وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرام الأشهر الأربعة حلالاً، وحلالها حراماً، أنفسكم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا "، إلى قوله: " فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، أي: لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً، كما فعل أهل الشرك، فإنما النسيء، الذين كانوا يصنعون من ذلك، " زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا "، الآية.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن : " فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، قال: ((ظلم أنفسكم))، أن لا تحرموهن كحرمتهن.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن علي: " فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، قال: ((ظلم أنفسكم))، أن لا تحرموهن كحرمتهن.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد، بنحوه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم، باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظم حرمتها.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويله، لقوله: " فلا تظلموا فيهن "، فأخرج الكناية عنه مخرج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة. وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة، إذا كنت عنه: ((فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون، ولأربعة أيام بقين))، وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين قالت: ((فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت، ولأربع عشرة مضت))، فكان في قوله جل ثناؤه: " فلا تظلموا فيهن أنفسكم" وإخراجه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة، الدليل الواضح على أن ((الهاء والنون))، من ذكر الأشهر الأربعة، دون الاثني العشر. لأن ذلك لو كان كناية عن ((الثاني عشر شهراً))، لكان: فلا تظلموا فيها أنفسكم.
فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون ذلك كنايةً عن ((الاثني عشر))، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب؟ فقد علمت أن من المعروف من كلامها، إخراج كناية ما بين الثلاث إلى العشر، بالهاء دون النون، وقد قال الشاعر:
أصبحن في قرح وفي داراتها سبع ليال غير معلوفاتها
ولم يقل: ((معلوفاتهن))، وذلك كناية عن ((السبع))؟
قيل: إن ذلك وإن كان جائزاً، فليس الأفصح الأعرف في كلامها، وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأعرف، أولى من توجيهه إلى الأنكر.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يجب أن يكون مباحاً لنا ظلم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة؟
قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا في كل وقت وزمان، ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهر السنة، فخص الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصهن بالتشريف، وذلك نظير قوله: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى "، [البقرة: 238]. ولا شك أن الله أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله: " حافظوا على الصلوات " [البقرة: 238]، ولم يبح ترك المحافظة عليهن، بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى، ولكنه تعالى ذكره زادها تعظيماً، وعلى المحافظة عليها توكيداً، وفي تضييعها تشديداً. فكذلك ذلك في قوله: " منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ".
وأما قوله: " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة "، فإنه يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله، أيها المؤمنون، جميعاً غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعاً، مجتمعين غير متفرقين، كما:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة "، أما " كافة "، فجميع، وأمركم مجتمع.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس قوله: " وقاتلوا المشركين كافة "، يقول: جميعاً.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " وقاتلوا المشركين كافة "، أي: جميعاً.
و ((الكافة)) في كل حال على صورة واحدة، لا تذكر ولا تجمع، لأنها وإن كانت بلفظ ((فاعلة))، فإنها في معنى المصدر، كـ((العافية)) و((العاقبة))، ولا تدخل العرب فيها ((الألف واللام))، لكونها آخر الكلام، مع الذي فيها من معنى المصدر، كما لم يدخلوها إذا قالوا: ((قاموا معاً))، و((قاموا جميعاً)).
وأما قوله: " واعلموا أن الله مع المتقين "، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون بالله، أنكم إن قاتلتم المشركين كافة، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم، ولم تخالفوا أمره فتعصوه، كان الله معكم على عدوكم وعدوه من المشركين، ومن كان الله معه لم يغلبه شيء، لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه.
قوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم".
في ثمان مسائل:
الأولى- قوله تعالى: "إن عدة الشهور" جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه: لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حولاً، قاله بعض العلماء. وقيل: لا يكلمه أبداً. ابن العربي: وأرى إن لم تكن له نية أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر، لأنه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة فعول في جمع فعل. ومعنى "عند الله" أي في حكم الله وفيما كتب في اللوح المحفوظ. "اثنا عشر شهرا" أعربت اثنا عشر شهراًأحمد دون نظائرها، لأن فيها حرف الإعراب ودليله. وقرأ العامة عشر بفتح العين والشين. وقرأ أبو جعفر عشر بجزم الشين. "في كتاب الله" يريد اللوح المحفوظ. وأعاده بعد أن قال عند الله لأن كثيراً من الأشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله، كقوله: "إن الله عنده علم الساعة" [لقمان:34].
الثانية -قوله تعالى: "يوم خلق السماوات والأرض" إنما قال "يوم خلق السماوات والأرض" ليبين أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وهو معنى قوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا". وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها. والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، ولذلك "قال عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" على ما يأتي بيانه. وأن الذي فعل أهل الجاهلية من جعل المحرم صفراً وصفر محرماً ليس يتغير به ما وصفه الله تعالى. والعامل في يوم المصدر الذي هو في كتاب الله، وليس يعني به واحد الكتب، لأن الأعيان لا تعمل في الظروف. والتقدير: فيما كتب الله يوم خلق السماوات والأرض. وعند متعلق بالمصدر الذي هو العدة، وهوالعامل فيه. وفي من قوله: في كتاب الله متعلقة بمحذوف، هو صفة لقوله: اثنا عشر والتقدير: اثنا عشر شهراً معدودةً أو مكتوبة في كتاب الله. ولا يجوز أن تتعلق بعدة لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر إن.
الثالثة- هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها وإنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً، لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج.
الرابعة- قوله تعالى: "منها أربعة حرم" الأشهر الحرم المذكورة في هذه الآية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وهو رجب مضر، وقيل له رجب مضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً. وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "الذي بين جمادى وشعبان" ورفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان. وكانت العرب أيضاً تسميه منصل الأسنة، روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي -واسمه عمران بن ملحان وقيل عمران بن تيم- قال: كنا تعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة، فلم ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناها فألقيناه.
الخامسة - قوله تعالى: "ذلك الدين القيم" أي الحساب الصحيح والعدد المستوفى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ذلك الدين أي ذلك القضاء. مقاتل: الحق. ابن عطية: والأصوب عندي أن يكون الدين ههنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة. القيم أي القائم المستقيم، من قام يقوم. بمنزلة سيد، من ساد يسود. أصله قيوم.
السادسة- قوله تعالى: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" على قول ابن عباس راجع إلى جميع الشهور. وعلى قول بعضهم إلى الأشهر الحرم خاصةً، لأنه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم، قوله تعالى: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" [البقرة: 197] لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز على ما نبينه. ثم قيل: في الظلم قولان: أحدهما: لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور، قاله قتادة وعطاء الخرساني والزهري وسفيان الثوري. وقال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت. والصحيح الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفاً بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. الثاني- لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح. فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام. ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال. وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: "يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين" [الأحزاب: 30].
السابعة- وقد اختلف العلماء من هذا المعنى فيمن قتل في الشهر الحرام خطأ، هل تغلظ عليه الدية أم لا، فقال الأوزاعي: القتل في الشهر الحرام تغلظ فيه الدية فيما بلغنا وفي الحرم، فتجعل دية وثلثاً. ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل. قال الشافعي: تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم. وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن شهاب وأبان بن عثمان: من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها. وروي ذلك عن عثمان بن عفان أيضاً. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى: القتل في الحل والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، وهو قول جماعة من التابعين. وهو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الديات ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام. وأجمعوا أن الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء. فالقياس أن تكون الدية كذلك. والله أعلم.
الثامنة- خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان. كما قال: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" [البقرة: 197] على هذا أكثر أهل التأويل. أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: فلا تظلموا فيهن أنفسكم في الاثني عشر. وروى قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية قال: فيهن كلهن. فإن قيل على القول الأول: لم قال فيهن ولم يقل فيها؟ وذلك أن العرب يقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هن وهؤلاء، فإذا جاوزوا العشرة قالوا: هي وهذه، إرادة أن تعرف تسمية القليل من الكثير. وروي عن الكسائي أنه قال: إني لأتعجب من فعل العرب هذا. وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي: خلون. وفيما فوقها خلت. لا يقال: كيف جعل بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض، فإنا نقول: للبارئ تعالى أن يفعل ما يشاء. ويخص بالفضيلة ما يشاء، ليس لعلمه علة ولا عليه حجر، بل يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى.
قوله تعالى: "وقاتلوا المشركين كافة" فيه مسألة واحدة:
قوله تعالى: قاتلوا أمر بالقتال. وكافةً معناه جميعاً، وهو مصدر في موضع الحال. أي محيطين بهم ومجتمعين. قال الزجاج: مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية وعاقبه عاقبة. ولا يثنى ولا يجمع، وكذا عامة وخاصة. قال بعض العلماء: كان الغرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك وجعل فرض كفاية. قال ابن عطية، وهذا الذي قاله لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعاً النفر، وإنما معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة. ثم قيدها بقوله: "كما يقاتلونكم كافة" فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم. والله أعلم.
قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" ثم قال "أي يوم هذا ؟" قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: "أليس يوم النحر ؟" قلنا بلى ثم قال: "أي شهر هذا ؟" قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: "أليس ذا الحجة ؟" قلنا بلى ثم قال: "أي بلد هذا ؟" قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: "أليست البلدة ؟" قلنا بلى قال: "فإن دماءكم وأموالكم ـ وأحسبه قال ـ وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه" رواه البخاري في التفسير وغيره. ومسلم من حديث أيوب عن محمد وهو ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به, وقد قال ابن جرير حدثنا معمر حدثنا روح حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض, وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات ـ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ـ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" ورواه البزار عن محمد بن معمر به.
ثم قال لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه, وقد رواه ابن عون وقرة عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به, وقال ابن جرير أيضاً حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا زيد بن حباب حدثنا موسى بن عبيدة الربذي حدثني صدقة بن يسار عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال "أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان, وذو القعدة وذو الحجة والمحرم" وروى ابن مردويه من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثله أو نحوه وقال حماد بن سلمة حدثني علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة قال: كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم" وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله "منها أربعة حرم" قال محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" تقرير منه صلوات الله وسلامه عليه, وتثبيت للأمر على ما جعله الله , في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير, ولا زيادة ولا نقص, ولا نسيء ولا تبديل كما قال في تحريم مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة" وهكذا قال ههنا "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" أي الأمر اليوم شرعاً كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض.
وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث إن المراد بقوله "قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" أنه اتفق أن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة وأن العرب قد كانت نسأت النسيء يحجون في كثير من السنين بل أكثرها في غير ذي الحجة وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة وفي هذا نظر كما سنبينه إذا تكلمنا عن النسيء وأغرب منه ما رواه الطبراني عن بعض السلف في جملة حديث أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد وهو يوم النحر عام حجة الوداع والله اعلم. (فصل) ذكر الشيخ علم الدين السخاوي في جزء جمعه سماه المشهور في أسماء الأيام والشهور أن المحرم سمي بذلك لكونه شهراً محرماً, وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عاماً وتحرمه عاماً قال ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم, وصفر سمي بذلك لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار يقال صفر المكان إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال, وشهر ربيع الأول سمي بذلك لارتباعهم فيه والارتباع الإقامة في عمارة الربع ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء, وعلى أربعة كرغيف وأرغفة, وربيع الاخر كالأول. جمادى سمي بذلك لجمود الماء فيه, قال وكانت الشهور في حسابهم لا تدور, وفي هذا نظر إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة فلا بد من دورانها فلعلهم سموه بذلك أول ما سمي عند جمود الماء في البرد, كما قال الشاعر:
وليلة من جمادى ذات أنديــــة لا يبصر العبد في ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة حتى يلف على خرطومه الذنبا
ويجمع على جماديات كحبارى وحباريات وقد يذكر ويؤنث فيقال جمادى الأولى والأول جمادى الاخر والاخرة. رجب من الترجيب وهو التعظيم ويجمع على أرجاب ورجاب ورجبات. شعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شعابين وشعبانات. رمضان من شدة الرمضاء وهو الحر يقال رمضت الفصال إذا عطشت ويجمع على رمضانات ورماضين وأرمضة قال: وقول من قال إنه اسم من أسماء الله خطأ لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه, قلت: قد ورد فيه حديث ولكنه ضعيف وبينته في أول كتاب الصيام. شوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق قال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات. القعدة بفتح القاف, قلت وكسرها, لقعودهم فيه عن القتال والترحال ويجمع على ذوات القعدة. الحجة بكسر الحاء قلت وفتحها سمي بذلك لإقامتهم الحج فيه, ويجمع على ذوات الحجة, أسماء الأيام أولها الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووجود, ثم يوم الاثنين ويجمع على أثانين, الثلاثاء يمد ويذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث, ثم الأربعاء بالمد ويجمع على أربعاوات وأرابيع والخميس يجمع على أخمسة وأخامس ثم الجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها أيضاً ويجمع على جمع وجماعات, السبت مأخوذ من السبت وهو القطع لانتهاء العدد عنده وكانت العرب تسمي الأيام أول ثم أهون ثم جبار ثم دبار ثم مؤنس ثم العروبة ثم شيار, قال الشاعر من العرب العرباء العاربة المتقدمين:
أرجى أن أعيش وإن يومي بأول أو بأهون أو جبـــــار
أو التالي دبار فإن أفتــــــه فمؤنس أو عروبة أو شيار
وقوله تعالى: "منها أربعة حرم" فهذا مما كانت العرب أيضاً في الجاهلية تحرمه وهو الذي كان عليه جمهورهم إلا طائفة منهم يقال لهم البسل كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر تعمقاً وتشديداً, وأما قوله "ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم فبين صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة, وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد, لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك وحرم بعده شهراً آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين, وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً.
وقوله: "ذلك الدين القيم" أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ما سبق من كتاب الله الأول قال تعالى: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله تعالى: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الاثام, ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء, وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم, وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في قوله: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" قال: في الشهور كلها, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: "إن عدة الشهور عند الله" الاية, فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم وقال قتادة في قوله: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها, وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء, وقال إن الله اصطفى صفايا من خلقه. اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذكره, واصطفى من الأرض المساجد. واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله. فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية بان لا تحرموهن كحرمتهن وقال محمد بن إسحاق: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" أي لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر "يضل به الذين كفروا" الاية, وهذا القول اختيار ابن جرير.
وقوله: "وقاتلوا المشركين كافة" أي جميعكم "كما يقاتلونكم كافة" أي جميعهم "واعلموا أن الله مع المتقين" وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين (أحدهما) وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال ههنا "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" وأمر بقتال المشركين, وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً ولو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجئوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوماً وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام والقول الاخر أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" وقال: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" الاية, وقال "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين" الاية, وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة لا أشهر التسيير على أحد القولين. وأما قوله تعالى: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير مايفعلون, ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم كما قال تعالى: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص" وقال تعالى: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم" الاية, وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال وجمعوا الرجال ودعوا إلى الحرب والنزال فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين وقتلوا جماعة, واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريباً من أربعين يوماً, وكان ابتداؤه في شهر حلال ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياماً ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء, وهذا أمر مقرر وله نظائر كثيرة والله أعلم, ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك وقد حررنا ذلك في السيرة والله أعلم.
قوله: 36- " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا " هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نوع آخر من قبائح الكفار وذلك أن الله سبحانه لما حكم في كل وقت بحكم خاص غيروا تلك الأوقات بالنسيء والكبيسة فأخبرنا الله بما هو حكمه فقال: "إن عدة الشهور" أي عدد شهور السنة عند الله في حكمه وقضائه وحكمته إثنا عشر شهراً. قوله: "في كتاب الله" أي فيما أثبته في كتابه. قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق في كتاب الله بقوله: عدة الشهور، للفصل بالأجنبي وهو الخبر: أعني إثنا عشر شهراً، فقوله: في كتاب الله، وقوله: يوم خلق بدل من قوله من عند الله، والتقدير: إن عدة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، وفائدة الإبدالين تقرير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله في كتاب الله، وثابت في علمه في أول ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون في كتاب الله صفة إثنا عشر: أي إثنا عشر مثبتة في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ. وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يوماً، وبعضها أكثر، وبعضها أقل. قوله: "منها أربعة حرم" هي ذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد، كما ورد بيان ذلك في السنة المطهرة. قوله: "ذلك الدين القيم" أي كون هذه الشهور كذلك، ومنها أربعة حرم هو الدين المستقيم، والحساب الصحيح، والعدد المستوفي. قوله: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" أي في هذه الأشهر الحرم بإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها، وقيل: إن الضمير يرجع إلى الشهور كلها الحرم وغيرها، وإن الله نهى عن الظلم فيها، والأول أولى. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية، ولقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" ولقوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين" الآية.
وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف. ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، فقد أجيب عنه أنه لم يبتد محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه وبهذا يحصل الجمع. قوله: "وقاتلوا المشركين كافة" أي جميعاً، وهو مصدر في موضع الحال. قال الزجاج: مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة لا يثنى ولا يجمع "كما يقاتلونكم كافة" أي جميعاً. وفيه دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض "واعلموا أن الله مع المتقين" أي ينصرهم ويثبتهم، ومن كان الله معه فهو الغالب، وله العاقبة والغلبة.
36-قوله تعالى: "إن عدة الشهور"، أي: عدد الشهور، "عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله"، وهى المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأول وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة. وقوله: "في كتاب الله" أي: في حكم الله. وقيل: في اللوح المحفوظ. قرأ أبو جعفر: اثنا عشر، وتسعة عشر، وأحد عشر، بسكون الشين، وقرأ العامة بفتحها، "يوم خلق السموات والأرض"، والمراد منه: الشهور الهلالية، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقصان الأهلية.
والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعا وخمسين يوما، "منها أربعة حرم"، من الشهور أربعة حرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، واحد فرد وثلاثة سرد، "ذلك الدين القيم"، أي: الحساب المستقيم.
"فلا تظلموا فيهن أنفسكم"، قيل: قوله "فيهن" ينصرف إلى جميع شهور السنة، أي: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة. وقيل: "فيهن" أي: في الأشهر الحرم. قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيما.وقال ابن عباس: فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن. قال محمد بن إسحاق بن يسار: لا تجعلوا حلالها حراما، ولا حرامها حلالا، كفعل أهل الشرك وهو النسيء.
"وقاتلوا المشركين كافة"، جميعا عامة، "كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين"، واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم. فقال قوم: كان كبيرا ثم نسخ بقوله: "وقاتلوا المشركين كافة" كأنه يقول فيهن وفي غيرهن. وهو قول قتادة، و عطاء الخرساني، و الزهري و سفيان الثوري، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: إنه غير منسوخ: قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح: ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت.
36."إن عدة الشهور" أي مبلغ عددها ." عند الله" معمول عدة لأنها مصدر ." اثنا عشر شهراً في كتاب الله " في اللوح المحفوظ ، أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر ،وقوله : " يوم خلق السموات والأرض " متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصراً والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة . " منها أربعة حرم "واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ." ذلك الدين القيم " أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما ." فلا تظلموا فيهن أنفسكم " بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة، وأولو الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزراً كارتكابها في الحرم وحال الإحرام ، وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي " أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة" ." وقاتلوا المشركين كافةً كما يقاتلونكم كافةً" جميعاً وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال ." واعلموا أن الله مع المتقين " بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواه . .
36. Lo! the number of the months with Allah is twelve months by Allah's ordinance in the day that He created the heavens and the earth. Four of them are sacred: that is the right religion. So wrong not yourselves in them. And wage war on all the idolaters as they are waging war on all of you. And know that Allah is with those who keep their duty (unto Him).
36 - The number of months in the sight of God is twelve (in a year) so ordained by him the day he created the heavens and the earth; of them four are sacred: that is the straight usage. so wrong not yourself therein, and fight the Pagans all together as they fight you all together. but know that God is with those who restrain themselves.