36 - (قل إن ربي يبسط الرزق) يوسعه (لمن يشاء) امتحانا (ويقدر) يضيقه لمن يشاء ابتلاء (ولكن أكثر الناس) أي كفار مكة (لا يعلمون) ذلك
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد " إن ربي يبسط الرزق " من المعاش والرياش في الدنيا " لمن يشاء " من خلقه " ويقدر " فيضيق على من يشاء لا لمحبة فيمن يبسط له ذلك، ولا خير فيه ولا زلفة له استحق بها منه، ولا لبغض منه لمن قدر عليه ذلك، ولا مقت، ولكنه يفعل ذلك محنة لعباده وابتلاء، وأكثر الناس لا يعلمون أن الله يفعل ذلك اختباراً لعباده، ولكنهم يظنون أن ذلك منه محبة لمن بسط له ومقت لمن قدر عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى " ... الآية، قال: قالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً، فأخبرهم الله أنه ليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى " إلا من آمن وعمل صالحا ". قال: وهذا قول المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قالوا: لو لم يكن الله عنا رضياً لم يعطنا هذا، كما قال قارون: لولا أن الله رضي بي وبحالي ما أعطاني هذا، قال ( أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون) ( القصص: 78) إلى آخر الآية.
"قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وآمراً بالتأسي بمن قبله من الرسل, ومخبره بأنه ما بعث نبياً في قرية إلا كذبه مترفوها واتبعه ضعفاؤهم, كما قال قوم نوح عليه الصلاة والسلام "أنؤمن لك واتبعك الأرذلون" "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي" وقال الكبراء من قوم صالح " للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون " وقال عز وجل: " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " وقال تعالى: "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها" وقال جل وعلا: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً" وقال جل وعلا ههنا: "وما أرسلنا في قرية من نذير" أي نبي أو رسول "إلا قال مترفوها" وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة, قال قتادة : هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر "إنا بما أرسلتم به كافرون" أي لا نؤمن به ولا نتبعه.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا هارون بن إسحاق , حدثنا محمد بن عبد الوهاب عن سفيان بن عاصم عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الاخر, فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل. فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم, قال: فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلني عليه, قال: وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب, " قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إلام تدعو ؟ قال : أدعوا إلى كذا وكذا قال: أشهد أنك رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم وما علمك بذلك ؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم " , قال: فنزلت هذه الاية " وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون " الاية, قال: فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قد أنزل تصديق ما قلت, وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل قال فيها: وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ فزعمت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل.
وقال تبارك وتعالى إخباراً عن المترفين المكذبين: "وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين" أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد, واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم, وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الاخرة وهيهات لهم ذلك قال الله تعالى: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وقال تبارك وتعالى: " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " وقال عز وجل " ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا " وقد أخبر الله عز وجل عن صاحب تينك الجنتين أنه كان ذا مال وثمر وولد, ثم لم يغن عنه شيئاً بل سلب ذلك كله في الدنيا قبل الاخرة, ولهذا قال عز وجل ها هنا: "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب, فيفقر من يشاء ويغني من يشاء, وله الحكمة التامة البالغة والحجة القاطعة الدامغة "ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
ثم قال تعالى: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى" أي ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم ولا إعتنائنا بكم. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا كثير, حدثنا جعفر , حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ورواه مسلم وابن ماجه من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن برقان به, ولهذا قال الله تعالى: "إلا من آمن وعمل صالحاً" أي إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح "فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا" أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف "وهم في الغرفات آمنون" أي في منازل الجنة العالية آمنون منن كل بأس وخوف وأذى ومن كل شر يحذر منه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي , حدثنا القاسم وعلي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفاً ترى ظهورها من بطونها, وبطونها من ظهورها فقال أعرابي: لمن هي ؟ قال صلى الله عليه وسلم: لمن طيب الكلام, وأطعم الطعام, وأدام الصيام, وصلى بالليل والناس نيام" "والذين يسعون في آياتنا معاجزين" أي يسعون في الصد عن سبيل اللهو اتباع رسله والتصديق بآياته "فأولئك في العذاب محضرون" أي جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.
وقوله تعالى: "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له" أي بحسب ماله في ذلك من الحكمة يبسط على هذا من المال كثيراً. ويضيق على هذا ويقتر على رزقه جداً. وله في ذلك من الحكمة مالا يدركها غيره, كما قال تعالى: " انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا " أي كما هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير وهذا غني موسع عليه, فكذلك هم في الأخرة هذا في الغرفات في أعلى الدرجات, وهذا في الغمرات في أسفل الدركات, وأطيب الناس في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه" رواه مسلم من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.
وقوله تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم, فهو يخلفة عليكم في الدنيا بالبدل, وفي الأخرة بالجزاء والثواب, كما ثبت في الحديث "يقول الله تعالى أنفق, أنفق عليك" وفي الحديث أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: " اللهم أعط ممسكاً تلفاً, ويقول الأخر: اللهم أعط منفقاً خلفاً " , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنفق بلالاً, ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً". وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي عن يزيد بن عبد العزيز الفلاس , حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض, يعض الموسر ما في يده حذار الإنفاق" ثم تلا هذه الاية "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين".
وقال الحافظ أبو يعلي الموصلي : حدثنا روح بن حاتم , حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض, يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق" قال الله تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" وفي الحديث "شرار الناس يبايعون كل مضطر ألا إن بيع المضطرين حرام, ألا إن بيع المضطرين حرام, المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايخذله إن كان عندك معروف فعد به على أخيك, وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه" هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي إسناده ضعف. وقال سفيان الثوري عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال: قال مجاهد لا يتأولن أحدكم هذه الاية "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" إذا كان عند أحدكم ما يقيمه, فليقصد فيه, فإن الرزق مقسوم.
فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم وقال: 36- "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء" أن يبسطه له "ويقدر" أي يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه، فهو سبحانه قد يرزق الكافر والعاصي استدراجاً له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيراً لأجره، وليس مجرد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرض ولا رضي عمله، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين أو المغالطة الواضحة "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" هذا، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى، ثم زاد هذا الجواب تأييداً وتأكيداً.
36- "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر"، يعني: أن الله يبسط الرزق ويقدر ابتلاءً وامتحاناً لا يدل البسط على رضا الله عنه ولا التضييق على سخطه، "ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، أنها كذلك.
36ـ " قل " لحسبانهم . " إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات ، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه لم يكن بمشيئته . " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال :
36. Say (O Muhammad): Lo! my Lord enlargeth the provision for whom He will and narroweth it (for whom He will). But most of mankind know not.
36 - Say: Verily my Lord enlarges and restricts the Provision to whom He pleases, but most men understand not.