36 - (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس) تحزن (بما كانوا يفعلون) من الشرك ، فدعا عليهم بقوله : {رب لا تذر على الأرض} الخ ، فأجاب الله دعاءه فقال : {واصنع الفلك} الآية
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأوحى الله إلى نوح ، لما حق على قومه القول ، وأظلهم أمر الله : أنه لن يؤمن ، يا نوح ، بالله فيوحده ويتبعك على ما تدعوه إليه ، "من قومك إلا من قد آمن" ، فصدق بذلك واتبعك ، "فلا تبتئس" ، يقول :فلا تستكن ولا تحزن ، "بما كانوا يفعلون" ، فإني مهلكهم ، ومنقذك منهم ومن اتبعك . وأوحى الله ذلك إليه ، بعد ما دعا عليهم نوح بالهلاك فقال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) .
وهو تفتعل ، من البؤس ، يقال : ابتأس فلان بالأمر يبتئس ابتئاساً .
ما قال لبيد بن ربيعة :
في مأتم كنعاج صا رة يبتئسن بما لقينا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "فلا تبتئس" ، قال : لا تحزن .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" ، يقول : فلا تحزن .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" ، وذلك حين دعا عليهم قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ، قوله : "فلا تبتئس" ، يقول : فلا تأس ، ولا تحزن .
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" ، فحينئذ دعا على قومه ، لما بين الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن .
قوله تعالى: " وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " ( أنه) في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير بـ ( ـأنه). و ( آمن) في موضع نصب بـ ( ـيؤمن) ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقاً لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك : فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " ( نوح: 26) الآيتين. وقيل: إن رجلاً من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحاً قال لأبيه: أعطني حجراً، فأعطاه حجراً، ورمى به نوحاً عليه السلام فأدماه، فأوحى الله تعالى إليه " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ". " فلا تبتئس بما كانوا يفعلون " أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائساً، أي حزيناً. والبؤس الحزن، ومنه قول الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزئته فلم أبتئس والرزء فيه جليل
يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة.
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله تعالى مخبراً عنه أنه قال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر" فعند ذلك أوحى الله إليه "أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم "واصنع الفلك" يعني السفينة "بأعيننا" أي بمرأى منا "ووحينا" أي تعليمنا لك ما تصنعه "ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" فقال بعض السلف: أمره الله تعالى أن يغرز الخشب ويقطعه وييبسه فكان ذلك في مائة سنة ونجرها في مائة سنة أخرى وقيل في أربعين سنة والله أعلم. وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة: أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج وأن يجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار وأن يجعل لها جؤجؤاً أزورا يشق الماء, وقال قتادة كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين وعن الحسن طولها ستمائة ذارع وعرضها ثلثمائة وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة وقيل طولها ألفا ذارع وعرضها مائة ذراع فالله أعلم, قالوا كلهم وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع فالسفلى للدواب والوحوش والوسطى للإنس والعليا للطيور وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير أثراً غريباً من حديث علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن عبد الله بن عباس أنه قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها قال فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك التراب بكفه فقال أتدرون ما هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح. قال فضرب الكثيب بعصاه قال قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب قال له عيسى عليه السلام: أهكذا هلكت ؟ قال: لا. ولكني مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت, قال حدثنا عن سفينة نوح ؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحوش وطبقة فيها الإنس وطبقة فيها الطير فلما كثر روث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث فلما وقع الفأر بجوف السفينة يقرضها وحبالها أوحى الله إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر, فقال له عيسى عليه السلام: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت ؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت.
قال: ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها فعلم أن البلاد قد غرقت قال فطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت قال فقلنا يا رسول الله: ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال فقال له: عد بإذن الله فعاد تراباً, وقوله: "ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه" أي يهزءون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق "قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم" الاية وعيد شديد وتهديد أكيد "من يأتيه عذاب يخزيه" أي يهينه في الدنيا "ويحل عليه عذاب مقيم" أي دائم مستمر أبداً .
قوله: 36- "وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" أنه لن يؤمن في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسم. ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء: أي بأنه، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم، وأنهم مستمرون على كفرهم، مصممون عليه، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه "فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" البؤس: الحزن، أي فلا تحزن، والبائس: المستكين، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين لأن الابتئاس حزن في استكانة. ومنه قول الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزئته فلم أبتئس والرزء فيه جليل
36-قوله تعالى: " وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن "، روى الضحاك عن ابن عباس: أن قوم نوح عليه السلام كانوا يضربون نوحا حتى يسقط، فيلقونه في لبد، ويلقونه في قعر بيت، ويظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله عز وجل.
روي أن شيخا منهم جاء يتوكأ على عصا، ومعه ابنه، فقال: يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون، فقال له: يا أبت أمكني من العصا، فأخذ العصا من أبيه، فضرب نوحا حتى شجه شجة منكرة، فأوحى الله عز وجل إليه: "أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن"، "فلا تبتئس" أي: فلا تحزن، "بما كانوا يفعلون"، فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا نوح عليهم: فقال "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" (نوح-26).
وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه. أنهم كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى إذا تمادوا في المعصية واشتد عليهم من البلاء، وانتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي قبله حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا، فشكا إلى الله تعالى فقال: "رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا" إلى أن قال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" فأوحى الله تعالى إليه:
36"وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس"فلا تحزن ولا تتأسف."بما كانوا يفعلون"أقنطه الله تعالى من إيمانهم ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب ولإيذاء .
36. And it was inspired in Noah, (saying) : No one of the folk will believe save him who hath believed already. Be not distressed because of what they do.
36 - It was revealed to Noah: none of thy people will believe except those who have believed already so grieve no longer over their (evil) deeds.