34 - (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون) يأخذون (أموال الناس بالباطل) كالرشا في الحكم (ويصدون) الناس (عن سبيل الله) دينه (والذين) مبتدأ (يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) أي الكنوز (في سبيل الله) أي لا يؤدون منها حقه للزكاة والخير (فبشرهم) أخبرهم (بعذاب أليم) مؤلم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم، إن كثيراً من العلماء والقراء من بين إسرائيل من اليهود والنصارى، " ليأكلون أموال الناس بالباطل "، يقول: يأخذون الرشى في أحكامهم، ويحرفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم ثم يقولون: ((هذه من عند الله))، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم، " ويصدون عن سبيل الله "، يقول: ويمنعون من أراد الدخول في الإسلام الدخول فيه، بنهيهم إياهم عنه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل "، أما " الأحبار "، فمن اليهود. وأما " الرهبان "، فمن النصارى. وأما " سبيل الله "، فمحمد صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل "، ويأكلها أيضاً معهم " الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم "، يقول: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، بعذاب أليم لهم يوم القيامة، موجع من الله.
واختلف أهل العلم في معنى ((الكنز)).
فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة، فلم تؤد زكاته. قالوا: وعنى بقوله: " ولا ينفقونها في سبيل الله "، ولا يؤدون زكاتها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كل مال أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفوناً. وكل مال لم تؤد زكاته، فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن يكوى به صاحبه، وإن لم يكن مدفوناً.
حدثنا الحسن بن الجنيد قال، حدثنا سعيد بن مسلمة قال، حدثنا إسمعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر: أنه قال: كل مال أديت منه الزكاة فليس بكنز، وإن كان مدفوناً. وكل مال لم تؤد منه الزكاة، وإن لم يكن مدفوناً، فهو كنز.
حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفوناً في الأرض. وأيما مال لم تؤد زكاته، فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي جرير، عن الأعمش، عن ابن عمر قال: ما أديت زكاته فليس بكنز.
... قال، حدثنا أبي، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين. وما لم تؤد زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهراً.
... قال، حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عكرمة قال: ما أديت زكاته فليس بكنز.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما " الذين يكنزون الذهب والفضة "، فهؤلاء أهل القبلة، و((الكنز))، ما لم تؤد زكاته وإن كان على ظهر الأرض، وإن قل. وإن كان كثيراً قد أديت زكاته، فليس بكنز.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: قلت لعامر: مال على رف بين السماء والأرض لا تؤدى زكاته، أكنز هو؟ قال:يكوى به يوم القيامة.
وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أديت منه الزكاة أو لم تؤد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي رحمة الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها ((نفقة))، فما كان أكثر من ذلك فهو ((كنز))،
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الشعبي قال، أخبرني أبو حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي رحمة الله عليه في قوله: " والذين يكنزون الذهب والفضة "، قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما فوقها كنز.
وقال آخرون: ((الكنز)) كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبيد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن ابن عبد الواحد: أنه سمع أبا مجيب قال: " كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها ".
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الأعمش وعمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله "، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تباً للذهب! تباً للفضة! يقولها ثلاثاً، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك! فقال: يا رسول الله، إن أصحابك قد شق عليهم، وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وزوجةً تعين أحدكم على دينه " .
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، بمثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: " لما نزلت هذه الآية: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله "، قال المهاجرون: وأي المال نتخذ؟ فقال عمر: أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه! قال: أدركته على بعير فقلت: يا رسول الله، إن المهاجرين قالوا: فأي المال نتخذه؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وزوجةً مؤمنةً، تعين أحدكم على دينه ".
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: " توفي رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية! ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيتان! "
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب، عن صدي بن عجلان أبي أمامة قال: " مات رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية! ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال نبي الله: كيتان! "
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، " عن ثوبان قال: كنا في سفر، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المهاجرون: لوددنا أنا علمنا أي المال خير فنتخذه؟ إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل! فقال عمر: إن شئتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك! فقالوا: أجل! فانطلق، فتبعته أوضع على بعيري، فقال: يا رسول الله، إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: وددنا أنا علمنا أي المال خير فنتخذه؟قال: نعم! فيتخذ أحدكم لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وزوجةً تعين أحدكم على إيمانه".
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، القول الذي ذكر عن ابن عمر: من أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب مستحق وعيد الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل، إذ كان مما يجب فيه الزكاة.
وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الورق على لسان رسوله ربع عشرها، وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك، ربع عشرها، فإذ كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوف ألوف، لو كان - وإن أديت زكاته - من الكنوز التي أوعد الله أهلها عليه العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر. لأن ما كان فرضاً إخراج جميعه من المال، وحرام اتخاذه، فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله، لا ربع عشره. وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه، وفرض عليه إخراجه من يده إلى يده، التطهر منه: رده إلى صاحبه. فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم، أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها، مما يستحق صاحبه باقتنائه - إذا أدى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة - وعيد الله، لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله، وصرفه فيما يجب عليه صرفه، كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصب رجل ماله، رده على ربه.
وبعد، فإن فيما:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، قال معمر، أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جبينه وجبهته وظهره، وفي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت إبلاً إلا بطح لها بقاع قرقر، تطؤه بأخفافها - حسبته قال: وتعضه بأفواهها - يرد أولاها على أخراها، حتى يقضى بين الناس، وإن كانت غنماً فمثل ذلك، إلا أنها تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها ".
وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤد الوظائف المفروضة لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها، وفيما بينا من ذلك، البيان الواضح على أن الآية لخاص، كما قال ابن عباس، وذلك ما:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم "، يقول: هم أهل الكتاب. وقال: هي خاصة وعامة.
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ((هي خاصة وعامة))، هي خاصة في المسلمين فيمن لم يؤد زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا، يدل على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا، ما:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها " إلى قوله: " هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون "، قال: هم الذين لا يؤدون زكاة أموالهم. قال: كل مال لا تؤدى زكاته، كان على ظهر الأرض أو في بطنها، فهو كنز. وكل مال تؤدى زكاته فليس بكنز، كان على ظهر الأرض أو في بطنها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " والذين يكنزون الذهب والفضة "، قال: ((الكنز))، ما كنز عن طاعة الله وفريضته، وذلك ((الكنز)). وقال: افترضت الزكاة والصلاة جميعاً لم يفرق بينهما.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا: ((ذلك على الخصوص))، لأن ((الكنز))، في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضه على بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها، يدل على ذلك قول الشاعر:
لا در دري إن أطعمت نازلهم قرف الحتي وعندي البر مكنوز
يعني بذلك: وعندي البر مجموع بعضه على بعض. وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع: ((مكتنز))، لانضمام بعضه إلى بعض.
وإذا كان ذلك معنى ((الكنز)) عندهم، وكان قوله: " والذين يكنزون الذهب والفضة "، معناه: والذين يجمعون الذهب والفضة بعضها إلى بعض ولا ينفقونها في سبيل الله، وهو عام في التلاوة، ولم يكن في الآية بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض، استحق الوعيد، كان معلوماً أن خصوص ذلك إنما أدرك، لوقف الرسول عليه، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يؤد حق الله منه من الزكاة، دون غيره، لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.
وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كل كنز، غير أنها خاصة في أهل الكتاب، وإياهم عنى الله بها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فلقيت أبا ذر، فقلت: يا أبا ذر، ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشأم، فقرأت هذه الآية: " والذين يكنزون الذهب والفضة " الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب! قال: فقلت: إنها لفينا وفيهم! قال: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقبل إلي! قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنح قريباً. قلت: والله إني لن أدع ما كنت أقول!
حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع قالوا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررنا بالربذة، ثم ذكر عن أبي ذر نحوه.
حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث وهشام، عن أبي بشر قال، قال أبو ذر: خرجت إلى الشأم، فقرأت هذه الآية: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب! قال فقلت: إنها لفينا وفيهم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر، قال قلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية:" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " قال: فقال: نزلت في أهل الكتاب! فقلت: نزلت فينا وفيهم، ثم ذكر نحو حديث هشيم، عن حصين.
فإن قال قائل: فكيف قيل: " ولا ينفقونها في سبيل الله "، فأخرجت ((الهاء)) و((الألف)) مخرج الكناية عن أحد النوعين.
قيل: يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما أن يكون " الذهب والفضة " مراداً بها الكنوز، كأنه قيل: والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونها في سبيل الله، لأن الذهب والفضة هي ((الكنوز))، في هذا الموضع.
والآخر: أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما، من الخبر عن الأخرى، لدلالة الكلام على أن الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها، وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها، ومنه قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض، والرأي مختلف
فقال: ((راض))، ولم يقل: ((راضون))، وقال الآخر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاص كان جنونا
فقال: ((يعاص))، ولم يقل: ((يعاصيا)) في أشياء كثيرة. ومنه قول الله: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " [الجمعة: 11]، ولم يقل ((إليهما)).
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى- قوله تعالى: "ليأكلون أموال الناس بالباطل" دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فعل، لمضارعة يفعل الأسماء. والأحبار علماء اليهود. والرهبان مجتهدوا النصارى في العبادة. بالباطل قيل: إنهم كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك، مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله تعالى، وهم خلال ذلك يحجبون تلك الأموال، كالذي ذكره سلمان الفارسي عن الراهب الذي استخرج كنزه، ذكره ابن إسحاق في السير. وقيل: كانوا يأخذون من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع. وقيل: كانوا يرتشون في الأحكام، كما يفعله اليوم كثير من الولاة والحكام. وقوله: بالباطل يجمع ذلك كله. "ويصدون عن سبيل الله" أي يمنعون أهل دينهم عن الدخول في دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
الثانية- قوله تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة" الكنز أصله في اللغة الضم والجمع، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. ألا ترى قوله عليه السلام:
"ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة". أي بضمه لنفسه ويجمعه. قال:
ولم تزود من جميع الكنز غير خيوط ورثيث بز
وقال آخر:
لا در دري إن أطعمت جائعهم قرف الحتي وعندي البر مكنوز
قرف الحتي هو سويق المقل. يقول: إنه نزل بقوم فكان قراه عندهم سويق المقل، وهو الحتي، فلما نزلوا به قال هو: لا در دري... البيت. وخص الذهب والفضة بالذكر لأنه مما لا يطلع عليه، بخلاف سائر الأموال. قال الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها. وسمي الذهب ذهباً لأنه يذهب، والفضة لأنها تنفض فتتفرق، ومنه قوله تعالى: "انفضوا إليها" [الجمعة: 11]-"لانفضوا من حولك" [آل عمران: 159] وقد مضى هذا المعنى في آل عمران.
الثالثة- واختلف الصحابة في المراد بهذه الآية، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب، وإليه ذهب الأصم، لأنه قوله: "والذين يكنزون" مذكور بعد قوله: "إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل". وقال أبو ذر وغيره: المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين. وهو الصحيح، لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال: ويكنزون، بغير والذين. فلما قال: والذين فقد استأنف معنىً آخر يبين أنه عطف جملة على جملة. فالذين يكنزون كلام مستأنف، وهو رفع على الابتداء. قال السدي: عنى أهل القبلة. فهذه ثلاثة أقوال. وعلى قول الصحابة فيه دليل على أن الكفار عندهم مخاطبون بفروع الشريعة. روى البخاري عن زيد بن وهب قال:
مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله"، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك. فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا علي حبشياً لسمعت وأطعت.
الرابعة- قال ابن خويزمنداد: تضمنت هذه الآية زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط: حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. والنصاب مائتا درهم أو عشرون ديناراً. أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر وأخرج ربع العشر من هذا وربع العشر من هذا. وإنما قلنا إن الحرية شرط، فلأن العبد ناقص الملك. وإنما قلنا إن الإسلام شرط، فلأن الزكاة طهر والكافر لا تلحقه طهرة، ولأن الله تعالى قال: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" [البقرة: 43] فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة. وإنما قلنا إن الحول شرك، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول". وإنما قلنا إن النصاب شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين ديناراً زكاة". ولا يراعى كمال النصاب في أول الحول، وإنما يراعى عند آخر الحول، لاتفاقهم أن الربح في حكم الأصل. يدل على هذا أن من كانت معه مائتا درهم فتجر فيهافصارت آخر الحول ألفاً أنه يؤدي زكاة الألف، ولا يستأنف للربح حولاً. فإذا كان كذلك لم يختلف حكم الربح، كان صادراً عن نصاب أو دونه. وكذلك اتفقوا أنه لو كان له أربعون من الغنم، فتوالدت له رأس الحول ثم ماتت الأمهات إلا واحدة منها، وكانت السخال تتمة النصاب فإن الزكاة تخرج عنها.
الخامسة- واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا؟ فقال قوم: نعم. ورواه أبو الضحى عن جهدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه، قال علي: أربعة آلاف فما دنها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ولا يصح. وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز. قال ابن عمر: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كانت تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق أرض. ومثله عن جابر، وهو الصحيح. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول أنا مالك أنا كنزك "-ثم تلا- "ولا يحسبن الذين يبخلون" [آل عمران: 180] الآية.وفيه أيضاً عن أبي ذر، قال: انتهيت إليه- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- قال:
"والذي نفسي بيده -أو والذي لا إله غيره أو كما حلف- ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس". فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى، قال له أعرابي: أخبرني عن قول الله تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة" قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال. وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة. روي عن أبي ذر، وهو مما نقل من مذهبه، وهو من شدائده ومما انفرد به رضي الله عنه.
قلت: ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا، ما روى أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين ديناراً نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، فكان ذلك منه بياناً صلى الله عليه وسلم. وقيل: الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير وإطعام الجائع وغير ذلك. وقيل: الكنز لغة المجموع من النقدين، وغيرهما من المال محمول عليهما بالقياس. وقيل: المجموع منهما ما لم يكن حلياً، لأن الحلي مأذون في اتخاذه ولا حق فيه. والصحيح ما بدأنا بذكره، وأن ذلك كله يسمى كنزاً لغةً وشرعاً. والله أعلم.
السادسة- واختلف العلماء في زكاة الحلي، فذهب مالك وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد إلى أن لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراق، ووقف فيه بعد ذلك بمصر وقال: أستخير الله فيه. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي: في ذلك كله الزكاة. احتج الأولون فقالوا: قصد النماء يوجب الزكاة في العروض وهي ليست بمحل الزكاة. احتج أبو حنيفة بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين، ولم يفرق بين حلي وغيره. وفرق الليث بن سعد فأوجب الزكاة فيما صنع حلياً ليفر به من الزكاة، وأسقطها فيما كان منه يلبس ويعار. وفي المذهب في الحلي تفصيل، بيانه في كتب الفروع.
السابعة- روى أبو داود عن ابن عباس قال:
لما نزلت هذه الآية "والذين يكنزون الذهب والفضة" قال: كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث -وذكر كلمة- لتكون لمن بعدكم" قال: فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته". وروى الترمذي وغيره عن ثوبان: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا:
قد ذم الله سبحانه الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه. فقال عمر: أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: "لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المرء على دينه". قال حديث حسن.
الثامنة- قوله تعالى: "ولا ينفقونها في سبيل الله" ولم يقل ينفقونهما، ففيه أجوبة ستة: الأول- قال ابن الأنباري: قصد الأغلب والأعم وهي الفضة، ومثله قوله: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة" [البقرة: 45] رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم. ومثله "وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها" [الجمعة: 11] فأعاد الهاء إلى التجارة لأنها الأهم، وترك اللهو، قاله كثير من المفسرين. وأباه بعضهم وقال: لا يشبهها، لأن أو قد فصلت التجارة من اللهو فحسن عود الضمير على أحدهما. الثاني- العكس، وهو أن يكون ينفقونها للذهب والثاني معطوفاً عليه. والذهب تؤنثه العرب تقول: هي الذهب الحمراء. وقد تذكر والتأنيث أشهر. الثالث- أن يكون الضمير للكنوز. الرابع- للأموال المكنوزة. الخامس- للزكاة، التقدير ولا ينفقون زكاة الأموال المكنوزة. السادس- الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهم المعنى، وهذا كثير في كلام العرب. أنشد سيبويه:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
ولم يقل رضوان.
وقال آخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني
ولم يقل بريئين. ونحوه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل يعاصيا.
التاسعة- إن قيل: من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله وأنفق في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم ينفق في سبيل الله. قيل له: إن ذلك أشد، فإن من بذر ماله في المعاصي عصى من جهتين: بالإنفاق والتناول، كشراء الخمر وشربها. بل من جهات إذا كانت المعصية مما تتعدى، كمن أعان على ظلم مسلم من قتله أو أخذ ماله إلى غير ذلك. والكانز عصى من جهتين، وهما منع الزكاة وحبس المال لا غير. وقد لا يراعى حبس المال، والله أعلم.
العاشرة- قوله تعالى: "فبشرهم بعذاب أليم" قد تقدم معناه. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا العذاب بقوله:
"بشر الكنازين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم" الحديث. أخرجه مسلم. رواه أبو ذر في رواية: "بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على جلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه فيتزلزل" الحديث. قال علماؤنا: فخروج الرضف من حلمة ثديه إلى نغض كتفه لتعذيب قلبه وبطانه حين امتلأ بالفرح بالكثرة في المال والسرور في الدنيا، فعوقب في الآخرة بالهم والعذاب.
الحادية عشر- قال علماؤنا: ظاهر الآية تعليق الوعيد على من كنزل ولا ينفق في سبيل الله، ويتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكتنز ومنع الإنفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفاً، فلذلك خص الوعيد به. والله أعلم.
قال السدي: الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وهو كما قال فإن الأحبار هم علماء اليهود كما قال تعالى: "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت" والرهبان عباد النصارى والقسيسون علماؤهم كما قال تعالى: "ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً" والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود, ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" قالوا: اليهود والنصارى ؟ قال: "فمن" ؟ وفي رواية فارس والروم , قال: "فمن الناس إلا هؤلاء ؟" والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى: "ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله " وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعاً منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات فأطفأها الله بنور النبوة وسلبهم إياها وعوضهم الذل والصغار وباءوا بغضب من الله تعالى .
وقوله تعالى: "ويصدون عن سبيل الله" أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ويلبسون الحق بالباطل ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعونه إلى الخير وليسوا كما يزعمون بل هم دعاة إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. وقوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم", هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس فإن الناس عالة على العلماء وعلى العباد وعلى أرباب الأموال فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هو المال الذي لا يؤدى زكاته, وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما كان ظاهراً لا تؤدى زكاته فهو كنز, وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفاً ومرفوعاً, وقال عمر بن الخطاب نحوه أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً في الأرض, وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض, وروى البخاري من حديث الزهري عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال, وكذا قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك نسخها قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة" الاية.
وقال سعيد بن محمد بن زياد عن أبي أمامة أنه قال: حلية السيوف من الكنز. ما أحدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الثوري عن أبي حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فهو كنز وهذا غريب وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما أحاديث كثيرة. ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري أخبرني أبو حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه في قوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة" الاية. قال النبي: "تباً للذهب تباً للفضة" يقولها ثلاثاً قال فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر رضي الله عنه أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ قال: "لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة تعين أحدكم على دينه".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبي محمد جعفر حدثنا شعبة حدثني سالم بن عبد الله أخبرنا عبد الله بن أبي الهذيل حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تباً للذهب والفضة" قال وحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله قولك: "تباً للذهب والفضة" ماذا ندخر ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة تعين على الاخرة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال: لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال: يا رسول الله أي المال نتخذ ؟ قال: "قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة تعين أحدكم على أمر الاخرة" ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه عن سالم بن أبي الجعد وقال الترمذي حسن, وحكي عن البخاري أن سالماً لم يسمعه من ثوبان قلت: ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلاً, والله أعلم.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا حميد بن مالك حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي حدثنا أبي حدثنا غيلان بن جامع المحاربي عن عثمان أبي اليقظان عن جعفر بن أبي إياس عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الاية "والذين يكنزون الذهب والفضة" الاية, كبر ذلك على المسلمين وقالوا: ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده مالاً يبقى بعده فقال عمر: أنا أفرج عنكم فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الاية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم" قال فكبر عمر ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته, وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته" ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى به وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر فنزل منزلاً فقال لغلامه ائتنا بالشفرة نعبث بها فأنكرت عليه فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك وأسألك قلباً سليماً وأسألك لساناً صادقاً وأسألك من خير ما تعلم, وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب".
وقوله تعالى: "يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتاً وتقريعاً وتهكماً كما في قوله "ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم" أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ولهذا يقال من أحب شيئاً وقدمه على طاعة الله عذب به وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عذبوا بها كما كان أبو لهب لعنه الله جاهداً في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرأته تعينه في ذلك كانت يوم القيامة عوناً على عذابه أيضاً في جيدها أي عنقها حبل من مسد أي تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه في الدنيا كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الاخرة فيحمى عليها في نار جهنم وناهيك بحرها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. قال سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار ديناراً ولا درهم درهماً ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته, وقد رواه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً ولا يصح رفعه والله أعلم .
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعاً يتبع صاحبه وهو يفر منه ويقول: أنا كنزك لا يدرك منه شيئاً إلا أخذه. وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "من ترك بعده كنزاً مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول: ويلك ما أنت ؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده" ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد عن سعيد به وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه, وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" وذكر تمام الحديث. وقال البخاري في تفسير هذه الاية حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض ؟.
قال كنا بالشام فقرأت "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب, قال: قلت إنها لفينا وفيهم ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم عن حصين عن زيد بن وهب عن أبي ذر رضي الله عنه فذكره وزاد فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقبل إليه قال فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي: تنح قريباً قلت: والله لن أدع ما كنت أقول (قلت) كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر الناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده هل يوافق عمله قوله فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال ويحك إنها خرجت ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به وهكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها عامة وقال السدي: هي في أهل القبلة وقال الأحنف بن قيس قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه فقام عليهم فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً قال وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم, فقال: إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: "ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين" فهذا والله أعلم هو الذي حدا بأبي ذر على القول بهذا.
وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية فجعلت تقضي حوائجه ففضلت معها سبعة فأمرها أن تشتري به فلوساً قال: قلت لو ادخرته لحاجة بيوتك وللضيف ينزل بك قال إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكىء عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل. ورواه عن يزيد عن همام به وزاد إفراغاً.
وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته عن محمد بن مهدي حدثنا عمر بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن طلحة بن زيد عن أبي فروة الرهاوي عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الق الله فقيراً, ولا تلقه غنياً" قال: يا رسول الله كيف لي بذلك ؟ قال: "ما سئلت فلا تمنع, وما رزقت فلا تخبىء" قال: يا رسول الله كيف لي بذلك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو ذاك وإلا فالنار" إسناده ضعيف.
وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عيينة عن يزيد بن الصرم قال سمعت علياً رضي الله عنه يقول مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيتان, صلوا على صاحبكم" وقد روي هذا من طرق أخر, وقال قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كية" ثم توفي رجل في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيتان" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي حدثنا معاوية بن يحيى الاطرابلسي حدثني أرطاة حدثني أبو عامر الهوزني سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه" وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمود بن خداش حدثنا سيف بن محمد الثوري حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يوضع الدينار على الدينار, ولا الدرهم على الدرهم ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" سيف هذا كذاب متروك.
لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً ذكر حال المتبوعين فقال: 34- "إن كثيراً من الأحبار" إلى آخره، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة، وأثبت هذا للكثير منهم، لأن فيهم من لم يتلبس بذلك، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، فالله المستعان. "ويصدون عن سبيل الله" أي عن الطريق إليه وهو دين الإسلام، أو عن ما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل. قوله: "والذين يكنزون الذهب والفضة" قيل: هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع، وقيل: هم من يفعل ذلك من المسلمين، والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك، وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها انتهى. ومنه ناقة كناز: أي مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء: اجتمع.
واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا؟ فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز. ومن القائلين بالقول الأول أبو ذر، وقيده بما فضل عن الحاجة. ومن القائلين بالقول الثاني عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز. قوله: "ولا ينفقونها في سبيل الله". اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين، هما الذهب والفضة، فقال ابن الأنباري: إنه قصد إلى الأعم الأغلب وهو الفضة قال: ومثله قوله تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة" رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم، ومثله قوله: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها" أعاد الضمير إلى التجارة، لأنها الأهم، وقيل إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه، والعرب تؤنث الذهب وتذكره، وقيل إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله: "يكنزون" وقيل إلى الأموال، وقيل للزكاة، وقيل إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى، وهو كثير في كلام العرب، وأنشد سيبويه:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
ولم يقل راضون، ومثله قول الآخر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن أجل الطوى رماني
ولم يقل بريين، ومثله قول حسان:
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاض كان مجنونا
ولم يقل يعاضا، وقيل إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية، وعدة كثيرة، ودنانير ودراهم، فهو كقوله: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمان الأشياء، وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز. قوله: "فبشرهم بعذاب أليم" وهو خبر الموصول، وهو من باب التهكم بهم كما في قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع
وقيل: إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب، سواء كان في الفرح أو في الغم.
34-قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان"، يعني: العلماء والقراء من أهل الكتاب، "ليأكلون أموال الناس بالباطل"، [يريد: ليأخذون] الرشا في أحكامهم، ويحرفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون: هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم وهي المآكل التي يصيبونها منهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم، يخافون لو صدقوهم لذهبت عنهم تلك المآكل، "ويصدون"، ويصرفون الناس، "عن سبيل الله"، دين الله عز وجل.
"والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"، قال ابن عمر رضي الله عنهما: كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونا. وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز، وإن لم يكن مدفونا. ومثله عن ابن عباس.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن أبا صالح ذكوان أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا صاحب بقر ولا غنم، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار".
وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه، يعني: شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله"الآية".
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أديت منه الزكاة أو لم تؤد، وما دونها نفقة.
وقيل: ما فضل عن الحاجة فهو كنز. أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: "انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال:هم الأخسرون ورب الكعبة، قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالا إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا، من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، وقليل ما هم".
وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يقول: من ترك بيضاء، أو حمراء، كوي بها يوم القيامة.
وروي عن أبي أمامةقال: " مات رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيتان".
والقول الأول أصح، لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال والحلال. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"نعم المال الصالح للرجل الصالح".
وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية، كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا، فذكر عمر ذلك لرسول الله فقال:"إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم".
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه الآية؟ فقال: كان ذلك قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال.
وقال ابن عمر: ما أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله.
قوله عز وجل: "ولا ينفقونها في سبيل الله"، ولم يقل: ولا ينفقونهما، وقد ذكر الذهب والفضة جميعا، قيل: أراد الكنوز وأعيان الذهب والفضة. وقيل: رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم، كما قال تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة " (البقرة-45)، رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم، وكقوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها" (الجمعة-11)رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم، "فبشرهم بعذاب أليم". أي: أنذرهم.
34."يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل " يأخذنها بالرشا في الأحكام سمي أخذ المال أكلاً لأنه الغرض الأعظم منه . " ويصدون عن سبيل الله" دينه ." والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن به وأن يراد به المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للغليظ، ويدل عليه أنه لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم " ،وقوله عليه الصلاة السلام : "ما أدي زكاته فليس بكنز " أي بكنز أوعد عليه ، فان الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن يفق فيه ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " ونحوه فالمراد منها ما لم يؤد حقها لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أورده الشيخان مروياً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره " " فبشرهم بعذاب أليم " هو الكي بهما .
34. O ye, who believe! Lo! many of the (Jewish) rabbis and the (Christian) monks devour the wealth of mankind wantonly and debar (men) from the way of Allah. They who hoard up gold and silver and spend it not in the way of Allah, unto them give tidings (O Muhammad) of a painful doom
34 - O ye who believe there are indeed many among the priests and anchorites, who in falsehood devour the substance of men and hinder (them) from the way of God. and there are those who bury gold and silver and spend it not in the way of God: announce unto them a most grievous penalty