34 - (إلا الذين تابوا) من المحاربين والقطاع (من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور) لهم ما أتوه (رحيم) بهم عبر بذلك دون فلا تحدوهم ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين كذا ظهر لي ولم أر من تعرض له والله أعلم فاذا قتل وأخذ المال يقتل ويقطع ولا يصلب وهو أصح قولي الشافعي ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئا وهو أصح قوليه أيضا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معنى ذلك : إلا الذين تابوا من شركهم ومناصبتهم الحرب لله ولرسوله والسعي في الأرض بالفساد، بالإسلام والدخول في الإيمان ، من قبل قدرة المؤمنين عليهم ، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من العقوبات التي جعلها الله جزاءً لمن حاربه ورسوله وسعى في الأرض فساداً، من قتل ، أو صلب ، أو قطع يد ورجل من خلاف ، أو نفي من الأرض ، فلا تباعة قبله لأحد فيما كان أصاب في حال كفره وحربه المؤمنين ، في مال ولا دم ولا حرمة. قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين أو المعاهدين ، وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلن تضع توبته عنه عقوبة ذنبه ، بل توبته فيما بينه وبين الله ، وعلى الإمام إقامة الحد الذي أوجبه الله عليه ، وأخذه بحقوق الناس .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا : قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض" إلى قوله : "فاعلموا أن الله غفور رحيم"، نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن يقدر عليه ، لم يكن عليه سبيل . وليس تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل ، أو أفسد في الأرض ، أو حارب الله ورسوله ، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه . ذلك يقام عليه الحد الذي أصاب .
حدثنا بشار قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم"، قال : هذا لأهل الشرك ، إذا فعلوا شيئاً في شركهم ، فإن الله غفور رحيم ، إذا تابوا وأسلموا.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، الزنا، والسرقة ، وقتل النفس ، وإهلاك الحرث والنسل ، "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر، عن الضحاك قال : كان قوم بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فخير الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم : فإن شاء قتل ، لان شاء صلب ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف . فمن تاب من قبل أن تقدروا عليه ، قبل ذلك منه .
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية، فذكر نحو قول الضحاك ، إلا أنه قال : فإن جاء تائباً فدخل في الإسلام ، قبل منه ، ولم يؤاخذ بما سلف .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليه"، قال : هذا لأهل الشرك ، إذا فعلوا شيئاً من هذا في شركهم ، ثم تابوا وأسلموا، فإن الله غفور رحيم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة: أما قوله : "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، فهذه لأهل الشرك . فمن أصاب من المشركين شيئاً من المسلمين وهو لهم حرب ، فأخذ مالاً وأصاب دماً، ثم تاب قبل أن تقدروا عليه ، أهدر عنه ما مضى .
وقال آخرون : بل هذه الآية معني بالحكم بها، المحاربون الله ورسوله : الحراب من أهل الإسلام ، من قطع منهم الطريق وهو مقيم على إسلامه ، ثم استأمن فأومن على جناياته التي جناها، وهو للمسلمين حرب ، ومن فعل ذلك منهم مرتداً عن الإسلام ، ثم لحق بدار الحرب ، ثم استأمن فأومن . قالوا : فإذا أمنه الإمام على جناياته التي سلفت ، لم يكن قبله لأحد تبعة في دم ولا مال أصابه قبل توبته ، وقبل أمان الإمام إياه.
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني أبو أسامة، عن أشعث بن سوار، عن عامر الشعبي : أن حارثة بن بدر خرج محارباً، فأخاف السبيل ، وسفك الدم ، وأخذ الأموال ، ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه ، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته ، وجعل له أماناً منشوراً على ما كان أصاب من دم أو مال .
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن مجالد، عن الشعبي : أن حارثة بن بدر حارب في عهد علي بن أبي طالب ، فاتى الحسن بن علي رضوان الله عليهما، فطلب إليه أن يستأمن له من علي ، فأبى . ثم أتى ابن جعفر، فأبى عليه . فاتى سعيد بن قيس الهمداني ، فأمنه وضمه إليه ، وقال له : استـأمن لي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . قال : فلما صلى علي الغداة، أتاه سعيد بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين ، ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ؟ قال : أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض . قال ثم قال : "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم". قال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال : وإن كان حارثة بن بدر! قال : فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائباً، فهو آمن ؟ قال : نعم ! قال : فجاء به فبايعه ، وقبل ذلك منه ، وكتب له أماناً.
حدثنى المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد، عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر قد أفسد في الأرض وحارب ، ثم تاب . وكلم له علي فلم يؤمنه . فأتى سعيد بن قيس فكلمه ، فانطلق سعيد بن قيس إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، ما تقول فيمن حارب الله ورسوله ؟ -فقرأ الآية كلها- فقال : أرأيت من تاب من قبل أن تقدر عليه ؟ قال : أقول كما قال الله . قال : فإنه حارثة بن بدر! قال : فأمنه علي ، فقال حارثة:
ألا أبلغا همدان إما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي الإله ويقضي بالكتاب خطيبها
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، وتوبته من قبل أن يقدر عليه : أن يكتب إلى الإمام يستأمنه على ما قتل وأفسد في الأرض : فإن لم يؤمني على ذلك ، ازددت فساداً وقتلاً وأخذاً للأموال أكثر مما فعلت ذلك قبل. فعلى الإمام من الحق أن يؤمنه على ذلك . فإذا أمنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام ، فليس لأحد من الناس أن يتبعه ، ولا يأخذه بدم سفكه ، ولا مال أخذه . وكل مال كان له فهو له ، لكيلا يقتل المؤمنين أيضاً ويفسد. فإذا رجع إلى الله جل وعز فهو وليه ، يأخذه بما صنع ، وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس . فإذا أخذه الإمام ، وقد تاب فيما يزعم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يؤمنه الإمام ، فليقم عليه الحد.
حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن عبد العزيز، أخبرني مكحول ، أنه قال : إذا أعطاه الإمام أماناً، فهو آمن ، ولا يقام عليه حد ما كان أصاب .
وقال آخرون : معنى ذلك : كل من جاء تائباً من الحراب قبل القدرة عليه ، استأمن الإمام فأمنه أو لم يستأمنه ، بعد أن يجيء مستسلماً تاركاً للحرب .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أشعث ، عن عامر قال : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمرة عثمان ، بعد ما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى ، هذا مقام العائذ بك ، أنا فلان ابن فلان المرادي ، كنت حاربت الله ورسوله ، وسعيت في الأرض ، لأني تبت من قبل أن تقدر علي ! فقام أبا موسى فقال : هذا فلان ابن فلان ، وإنه كان حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فساداً، وإنه تاب قبل أن يقدر عليه ، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله جل وعز بذنوبه فقتله.
حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل السدي، عن الشعبي قال : جاء رجل إلى أبي موسى، فذكر نحوه.
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك : أرأيت هذا المحارب الذي قد أخاف السبيل ، وأصاب الدم والمال ، فلحق بدار الحرب ، أو تمنع في بلاد الإسلام ، ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه ؟ قال : تقبل توبته. قال قلت : فلا يتبع بشيء من أحداثه ؟ قال : لا، إلا أن يوجد معه مال بعينه فيرد إلى صاحبه ، أو يطلبه ولي من قتل بدم في حربه ، يثبت ببينة أو اعتراف فيقاد به . وأما الدماء التي أصابها ولم يطلبها أولياؤها، فلا يتبعه الإمام بشيء . قال علي ، قال الوليد: فذكرت ذلك لأبي عمرو، فقال : تقبل توبته إذا كان محارباً للعامة والأئمة، قد آذاهم بحربه ، فشهر سلاحه ، وأصاب الدماء والأموال ، فكانت له منعة أو فئة يلجأ إليهم ، أو لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام ، أو كان مقيماً عليه ، ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه ، قبلت توبته ، ولم يتبع بشيء منه .
حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو: سمعت ابن شهاب الزهري يقول ذلك .
حدثني علي بن سهل تال ، حدثنا الوليد قال : فذكرت قول أبي عمرو ومالك لليث بن سعد في هذه المسألة ، فقال : إذا أعلن بالمحاربة العامة والأئمة، وأصاب الدماء والأموال ، فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه ، أو لحق بدار الحرب ، ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه ، قبلت توبته ، ولم يتبع بشيء من أحداثه في حربه من دم خاصة ولا عامة، لان طلبه وليه .
حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال ، قال الليث ، وكذلك حدثني موسى بن إسحق المدني ، وهو الأمير عندنا : أن علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال ، فطلبته الأئمة والعامة ، فامتنع، ولم يقدر عليه حتى جاء تائباً، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" [الزمر: 53] الآية، فوقف عليه فقال : يا عبد الله ، أعد قراءتها. فأعادها عليه ، فغمد سيفه ، ثم جاء تائباً. حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل ، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه . فلما أسفر عرفه الناس وقاموا إليه ، فقال : لا سبيل لكم علي ، جئت تائباً من قبل أن تقدروا علي ! فقال أبو هريرة: صدق . وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال : هذا علي جاء تائباً، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل . قال ، فترك من ذلك كله . قال : وخرج علي تائباً، مجاهداً في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم ، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم ، فاقتحم على الروم في سفينتهم ، فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى، فمالت بهم وبه ، فغرقوا جميعاً.
حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا مطرف بن معقل قال ، سمعت عطاء قال في رجل سرق سرقة فجاء بها تائباً من غير أن يؤخذ، فهل عليه حد؟ قال : لا! ثم قال : "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، الآية.
حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال ، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي ، وعن أبي معاوية عن سعيد بن جبير، قالا: إن جاء تائباً لم يقتطع مالاً، ولم يسفك دماً، ترك . فذلك الذي قال الله : "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، يعني بذلك أنه لم يسفك دماً ولم يقتطع مالاً.
وقال آخرون : بل عنى بالاستثناء في ذلك ، التائب من حربه الله ورسوله والسعي في الأرض فساداً بعد لحاقه في حربه بدار الكفر. فأما إذا كانت حرابته وحربه وهو مقيم في دار الإسلام ، وداخل في غمار الأمة، فليست توبته واضعة عنه شيئاً من حدود الله جل وعز، ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين ، بل يؤخذ بذلك.
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني إسماعيل ، عن هشام بن عروة : أنه أخبره أنهم سألوا عروة عمن تلصص في الإسلام فأصاب حدوداً ثم جاء تائباً، فقال : لا تقبل توبته ، لو قبل ذلك منهم اجترأوا عليه ، وكان فساداً كبيراً. ولكن لو فر إلى العدو، ثم جاء تائباً، لم أر عليه عقوبة.
وقد روي عن عروة خلاف هذا القول ، وهو ما :
حدثني به علي قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني من سمع هشام بن عروة، عن عروة قال : يقام عليه حد ما فر منه ، ولا يجوز لأحد فيه أمان -يعني ، الذي يصيب حداً، ثم يفر فيلحق الكفار، ثم يجيء تائباً.
وقال آخرون : إن كانت حرابته وحربه في دار الإسلام ، وهو في غير منعة من فئة يلجا إليها، ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه ، فإن توبته لا تضع عنه شيئاً من العقوبة ولا من حقوق الناس . وإن كانت حرابته وحربه في دار الإسلام ، أو هو لاحق بدار الكفر، غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده من سلطان المسلمين ، ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه ، فإن توبته تضع عنه كل ما كان من أحداثه في أيام حرابته تلك ، إلا أن يكون أصاب حداً، أو أمر الرفقة بما فيه عقوبة، أو غرم لمسلم أو معاهد وهو غير ملتجىء إلى فئة تمنعه ، فإنه يؤخذ بما أصاب من ذلك وهو كذلك ، ولا يضع ذلك عنه توبته .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو: إذا قطع الطريق لص أو جماعة من اللصوص ، فأصابوا ما أصابوا من الدماء والأموال ، ولم يكن لهم فئة يلجأون إليها ولا منعة، ولا يأمنون إلا بالدخول في غمار أمتهم ، وسواد عامتهم ، ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه ، لم تقبل توبته ، وأقيم عليه حده ما كان.
حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال : ذكرت لأبي عمرو قول عروة: يقام عليه حد ما فر منه ، ولا يجوز لأحد فيه أمان، فقال أبو عمرو: وإن فر من حدثه في دار الإسلام ، فأعطاه إمام أماناً، لم يجز أمانه . وإن هو لحق بدار الحرب ، ثم سأل إماماً أماناً على أحداثه ، لم ينبغ للإمام أن يعطيه أماناً. لأن أعطاه الإمام أماناً وهو غير عالم بأحداثه ، فهو آمن. وإن جاء أحد يطلبه بدم أو مال رد إلى مأمنه ، فإن أبى أن يرجع فهو آمن ولا يتعرض له . قال : وإن أعطاه أماناً على أحداثه وهو يعرفها، فالإمام ضامن واجب عليه عقل ما كان أصاب من دم أو مال ، وكان فيما عطل من تلك الحدود والدماء آثماً، وأمره إلى الله جل وعز. قال : وقال أبو عمرو: فإذا أصاب ذلك ، وكانت له منعة أو فئة يلجأ إليها، أو لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام ، أو كان مقيماً عليه ، ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه ، قبلت توبته ، ولم يتبع بشيء من أحداثه التي أصابها في حربه ، إلا أن يوجد معه شيء قائم بعينه فيرد إلى صاحبه.
حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني ابن لهيعة، عن ربيعة قال : تقبل توبته ، ولا يتبع بشيء من أحداثه في حربه ، إلا أن يطلبه أحد بدم كان أصابه في سلمه قبل حربه ، فإنه يقاد به.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معمر الرقي قال ، حدثنا الحجاج ، عن الحكم بن عتيبة قال : قاتل الله الحجاج ! إن كان ليفقه ! أمن رجلاً من محاربته فقال : انظروا، هل أصاب شيئا قبل خروجه ؟ .
وقال آخرون : تضع توبته عنه حد الله الذي وجب عليه بمحاربته ، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم . وممن قال ذلك الشافعي.
حدثنا بذلك عنه الربيع.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القدرة عليه ، تضع عنه تبعات الدنيا التي كانت لزمته في أيام حربه وحرابته ، من حدود الله ، وغرم لازم ، وقود وقصاص ، إلا ما كان قائماً في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه ، فيرد على أهله ، لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة لله ولرسوله ، الساعية في الأرض فساداً على وجه الردة عن الإسلام . فكذلك حكم كل ممتنع سعى في الأرض فساداً، جماعةً كانوا أو واحداً.
فأما المستخفي بسرقته ، والمتلصص على وجه اغتفال من سرقه ، والشاهر السلاح في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع ، فإن حكم الله عليه -تاب أو لم يتب - ماض، وبحقوق من أخذ ماله ، أو أصاب وليه بدم أو ختل، مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله جل وعز، قياسا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئاً من ذلك وهو للمسلمين سلم ، ثم صار لهم حرباً: أن حربه إياهم لن يضع عنه حقا لله عز ذكره ، ولا لآدمي. فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده ، ولا له فئة يلجأ إليها مانعة منه .
وفي قوله : "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، دليل واضح لمن وفق لفهمه ، أن الحكم الذي ذكره الله جل وعز في المحاربين ، يجري في المسلمين والمعاهدين ، دون المشركين الذين قد نصبوا للمسلمين حرباً، وذلك أن ذلك لو كان حكماً في أهل الحرب من المشركين ، دون المسلمين ودون ذمتهم ، لوجب أن لا يسقط إسلامهم عنهم -إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم - ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل ، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين . وفي إجماع المسلمين أن إسلام المشرك الحربي يضع عنه ، بعد قدرة المسلمين عليه ، ما كان واضعه عنه إسلامه قبل القدرة عليه ، ما يدل على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال : عني بآية المحاربين في هذا الموضع ، حراب أهل الملة أو الذمة، دون من سواهم من مشركي أهل الحرب.
وأما قوله : "فاعلموا أن الله غفور رحيم"؟ فإن معناه : فاعلموا، أيها المؤمنون ، أن الله غير مؤاخذ من تاب من أهل الحرب لله ولرسوله ، الساعين في الأرض فساداً، وغيرهم بذنوبه ، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه ، ولا يفضحه بها بالعقوبة في الدنيا والآخرة، رحيم به في عفوه عنه ، وتركه عقوبته عليها.
" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم "
يقول تعالى: من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً "كتبنا على بني إسرائيل" أي شرعنا لهم وأعلمناهم "أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض, واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية, فكأنما قتل الناس جميعاً, لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس, ومن أحياها, أي حرم قتلها واعتقد ذلك, فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار, ولهذا قال "فكأنما أحيا الناس جميعاً" وقال الأعمش وغيره, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك, وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين, فقال: يا أباهريرة, أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم ؟ قلت: لا, قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً فانصرف مأذوناً لك مأجوراً غير مأزور, قال: فانصرفت ولم أقاتل, وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: هو كما قال الله تعالى: "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" وإحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله, فذلك الذي أحيا الناس جميعاً يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه, وهكذا قال مجاهد: ومن أحياها, أي كف عن قتلها .
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً", يقول: من قتل نفساً واحدة حرمها الله, فهو مثل من قتل الناس جميعاً, وقال سعيد بن جبير: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً, ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً, هذا قول وهو الأظهر, وقال عكرمة والعوفي عن ابن عباس: من قتل نبياً أو إمام عدل, فكأنما قتل الناس جميعاً, ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً, رواه بان جرير. وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً, وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم, قال ابن جريج, عن الأعرج, عن مجاهد في قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً" من قتل النفس المؤمنة متعمداً, جعل الله جزاءه جهنم, وغضب عليه ولعنه, وأعد له عذاباً عظيماً, يقول: لو قتل الناس جميعاً لم يزد على مثل ذلك العذاب, قال ابن جريج: قال مجاهد: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" قال: من لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه,
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: من قتل نفسا فكأنما قتل الناس, يعني فقد وجب عليه القصاص, فلا فرق بين الواحد والجماعة, ومن أحياها أي عفا عن قاتل وليه فكأنما أحيا الناس جميعاً, وحكى ذلك عن أبيه, رواه ابن جرير, وقال مجاهد في رواية: ومن أحياها, أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة, وقال الحسن وقتادة في قوله: "أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً", هذا تعظيم لتعاطي القتل, قال قتادة: عظيم والله وزرها, وعظيم والله أجرها: وقال ابن المبارك, عن سلام بن مسكي, عن سليمان بن على الربعي, قال: قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل , فقال: إي والذي لا إله غيره, كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا, وقال الحسن البصري: "فكأنما قتل الناس جميعاً", قال: وزراً, "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً", قال: أجراً. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله, اجعلني على شيء أعيش به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟" قال: بل نفس أحييها. قال "عليك بنفسك" .
قوله تعالى: "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات" أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة, "ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون" وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها, كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج, إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية, ثم إذا وضعت الحروب أوزارها . فدوا من أسروه وودوا من قتلوه, وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ".
وقوله "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" الآية, المحاربة هي المضادة والمخالفة, وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل, وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر, حتى قال كثير من السلف, منهم سعيد بن المسيب: إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض . وقد قال تعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين, كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري, قالا " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " نزلت هذه الآية في المشركين, فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه, لم يكن عليه سبيل, وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل, أو أفسد في الأرض, أو حارب الله ورسوله, ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه, لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب, ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة, عن ابن عباس: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً", نزلت في المشركين من تاب منهم قبل أن يقدر عليه, لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً" الآية, قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق, فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض, فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, رواه ابن جرير .
وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: نزلت في الحرورية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً" رواه ابن مردويه, والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك أن نفراً من عكل ثمانية, قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام, فاستوخموا المدينة, وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك, فقال "ألا تخرجون مع راعينا في إبله, فتصيبوا من أبوالها وألبانها" فقالوا: بلى, فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا, فقتلوا الراعي, وطردوا الإبل, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم, فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم, وسمرت أعينهم, ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا, لفظ مسلم, وفي لفظ لهما: من عكل أو عرينة, وفي لفظ: وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون, فلا يسقون .
وفي لفظ لمسلم: ولم يحسمهم, وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم, وحاربوا الله ورسوله, ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب, وحميد عن أنس, فذكر نحوه وعنده فارتدوا, وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه, وقال سعيد عن قتادة: من عكل وعرينة, وراه مسلم من طريق سليمان التيمي, عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك, لأنهم سملوا أعين الرعاء, ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه, وقد وقع بالمدينة الدم وهو البرسام, ثم ذكر نحو حديثهم وزاد: عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين, فارساً فأرسلهم وبعث معم قائفاً يقفو أثرهم وهذه كلها ألفاظ مسلم رحمه الله .
وقال حماد بن سلمة: حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها, فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة, وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها, ففعلوا فصحوا, فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, وساقوا الإبل, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, وسمر أعينهم وألقاهم في الحرة قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا, ونزلت "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية, وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه, وقال الترمذي: حسن صحيح .
وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك, منها ما رواه من طريقين عن سلام بن أبي الصهباء, عن ثابت, عن أنس بن مالك, قال: ما ندمت على حديث, ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج, قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: قلت قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين, فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم, وقد اصفرت ألوانهم, وضمرت بطونهم, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها, حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم, عمدوا إلى الراعي فقتلوه, واستاقوا الإبل, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم, ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم, ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا بحال ذود من الإبل, فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس .
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد يعني ابن مسلم, حدثني سعيد, عن قتادة, عن أنس, قال كانوا أربعة نفر من عرينة, وثلاثة نفر من عكل, فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم, وسمر أعينهم, ولم يحسمهم وتركهم يلتقمون الحجارة بالحرة, فأنزل الله في ذلك "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا أبو مسعود يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج, حدثنا أبو سعيد يعني البقال, عن أنس بن مالك قال: كان رهط من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جهد, مصفرة ألوانهم, عظيمة بطونهم, فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها, ففعلوا فصفت ألوانهم, وخمصت بطونهم, وسمنوا, فقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم, فأتي بهم, فقتل بعضهم, وسمر أعين بعضهم, وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم, ونزلت "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية, فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة, قال أنس: فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, وأخافوا السبيل, وأصابوا الفرج الحرام, وقال حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال, عن أبي الزناد, عن عبد الله بن عبيد الله, عن عبد الله بن عمر أو عمرو ـ شك يونس ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, يعني بقصة العرنيين, ونزلت فيهم آية المحاربة, ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد, وفيه عن ابن عمر من غير شك .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف, حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن إبراهيم, عن جرير, قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة حفاة مضرورين, فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صحوا واشتدوا, قتلوا رعاء اللقاح, ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم, قال جرير فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم, فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, وسمل أعينهم, فجعلوا يقولون: الماء, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النار حتى هلكوا, قال: وكره الله عز وجل سمل الأعين, فأنزل الله هذه الآية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية, هذا حديث غريب, وفي إسناده الربذي وهو ضعيف, وفي إسناده فائدة, وهو ذكر أمير هذه السرية, وهو جرير بن عبد الله البجلي, وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارساً من الأنصار, وأما قوله: فكره الله سمل الأعين, فأنزل الله هذه الآية, فإنه منكر, وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء, فكان ما فعل بهم قصاصاً, والله أعلم .
وقال عبد الزراق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي, عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة, قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلاً, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه, فشربوا منها حتى صحوا, ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها, فطلبوا فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم, وسمر أعينهم. قال أبو هريرة ففيهم نزلت هذه الآية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله", فترك النبي صلى الله عليه وسلم سمر الأعين بعد, وروي من وجه آخر عن أبي هريرة .
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد عن عمرو بن محمد المديني, حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له يسار, فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه, وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها, قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة, وجاؤوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم قال: فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يسار, فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم, ثم عدوا على يسار فذبحوه, وجعلوا الشوك في عينيه, ثم أطردوا الإبل, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلاً من المسلمين, كبيرهم كرز بن جابر الفهري, فلحقهم فجاء بهم إليه فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم, غريب جداً, وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة منهم جابر وعائشة وغير واحد, وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه الله وأثابه .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق, سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: نبايعك على الإسلام, فبايعوه وهم كذبة, وليس الإسلام يريدون, ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه اللقاح تغدوا عليكم وتروح, فاشربوا من أبوالها وألبانها, قال: فبينما هم كذلك إذ جاءهم الصريخ, فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي, واستاقوا النعم, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس "أن يا خيل الله اركبي" قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارساً, قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم, فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم, فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم, فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية, قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم, ونفوهم من أرض المسلمين, وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم وصلب, وقطع وسمر الأعين, قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد, قال: ونهى عن المثلة, وقال "ولا تمثلوا بشيء" قال: وكان أنس يقول ذلك, غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم, قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم, ومنهم من عرينة, وناس من بجيلة .
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين: هل هو منسوخ, أو محكم ؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية, وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله "عفا الله عنك لم أذنت لهم" ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة, وهذا القول فيه نظر, ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ, وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود, قاله محمد بن سيرين, وفيه نظر, فإن قصته متأخرة, وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها, فإنه أسلم بعد نزول المائدة, ومنهم من قال لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم, وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين, وهذا القول أيضاً فيه نظر, فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل, وفي رواية سمر أعينهم .
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم, وتركه حسمهم حتى ماتوا, فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك, وعلمه عقوبة مثلهم من القتل والقطع والنفي, ولم يسمل بعدهم غيرهم قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو يعني الأوزاعي, فأنكر أن يكون نزلت معاتبة, وقال: بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم, ورفع عنهم السمل, ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور من العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله "ويسعون في الأرض فساداً" وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل, حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله, ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة, ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول, ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات, فأما في الأمصار فلا, لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث, بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه .
وقوله تعالى " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: من شهر السلاح في فئة الإسلام, وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه, وإن شاء قطع يده ورجله وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير وحكى مثله عن مالك بن أنس رحمه الله ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله في جزاء الصيد "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً" وكقوله في كفارة الفدية "فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" وكقوله في كفارة اليمين " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " هذه كلها على التخيير فكذلك فلتكن هذه الآية .
وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال, كما قال أبو عبد الله الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة, عن ابن عباس في قطاع الطريق, إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا, وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا, وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف, وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض, وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان, عن حجاج, عن عطية عن ابن عباس بنحوه, وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك, وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة, واختلفوا: هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب, أو بقتله برمح أو نحوه, أو يقتل أولاً ثم يصلب تنكيلا وتشديداً لغيره من المفسدين, وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده ؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه, وبالله الثقة وعليه التكلان .
ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده فقال: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان, كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية, فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة, قال أنس: فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, وأخافوا السبيل, وأصابوا الفرج الحرام, قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق مالاً وأخاف السبيل, فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته, ومن قتل فاقتله, ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه .
وأما قوله تعالى: "أو ينفوا من الأرض" قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام, رواه ابن جرير عن ابن عباس, وأنس بن مالك وسعيد بن جبير والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي: ينفيه ـ كما قال ابن هبيرة ـ من عمله كله. وقال عطاء الخراساني ينفى من جند إلى جند سنين, ولا يخرج من دار الإسلام, وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام, وقال آخرون: المراد بالنفي ههنا السجن, وهو قول أبي حنيفة وأصحابه, واختار ابن جرير أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه .
وقوله تعالى: "ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم" أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم, خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة, وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئا, ولا نسرق ولا نزني, ولا نقتل أولادنا, ولا يعضه بعضنا بعضا, فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى, ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له, ومن ستره الله فأمره إلى الله: إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه, وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به, فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده, ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه, فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه, وقال الترمذي: حسن غريب. وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث, فقال: روي مرفوعاً وموقوفاً, قال ورفعه صحيح .
وقال ابن جرير في قوله: "ذلك لهم خزي في الدنيا" يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة. "ولهم في الآخرة عذاب عظيم" أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا لهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا, والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها "عذاب عظيم", يعني عذاب جهنم, وقوله تعالى: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر, وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم, فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل, وهل يسقط قطع اليد أم لا ؟ فيه قولان للعلماء, وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع, وعليه عمل الصحابة, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة, عن مجالد, عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة, وكان قد أفسد في الأرض وحارب, فكلم رجالاً من قريش منهم الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر, فكلموا علياً فيه فلم يؤمنه, فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره, ثم أتى علياً, فقال: يا أمير المؤمنين, أرأيت من حارب الله ورسوله, وسعى في الأرض فساداً, فقرأ حتى بلغ "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" قال: فكتب له أماناً, قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر, وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي به, وزاد فقال حارثة بن بدر:
ألا بلغن همدان أما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي الإ له ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن السدي, ومن طريق أشعث, كلاهما عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة, فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك, أنا فلان بن فلان المرادي, وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا, وإني تبت من قبل أن تقدروا علي, فقال أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان, وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً, وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير, فإن يك صادقاً فسبيل من صدق, وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه, فأقام الرجل ما شاء الله, ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله, ثم قال ابن جرير: حدثني علي, حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الليث: وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني, وهو الأمير عندنا, أن علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبه الأئمة والعامة, فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً, وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم" فوقف عليه فقال: يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه, فغمد سيفه, ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السحر, فاغتسل ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه, فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه فقال: لا سبيل لكم علي جئت تائباً من قبل أن تقدورا علي, فقال أبو هريرة: صدق, وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال: هذا علي جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه ولا قتل, فترك من ذلك كله, قال وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر, فلقوا الروم فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر, فمالت به وبهم فغرقوا جميعاً .
قال أبو ثور محتجاً لهذا القول: إن قوله في هذه الآية 34- "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" يدل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام انتهى. وهكذا يدل على هذا قوله تعالى: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يهدم ما قبله". أخرجه مسلم وغيره، وحكى ابن جرير الطبري في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية: أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، ووقف الأمر على هذه الحدود. وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين وبهذا قال جماعة من أهل العلم. وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ، وسيأتي سياق الروايات الواردة في سبب النزول. والحق أن هذه الآية تعم المشرك وغيره لمن ارتكب ما تضمنته، ولا اعتبار بخصوص السبب، بل الاعتبار بعموم اللفظ. قال القرطبي في تفسيره: ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود انتهى. ومعنى قوله مترتب: أي ثابت، قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية هي محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربة المسلمين في عصره ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر، وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكباراً لحربهم وتعظيماً لأذيتهم، لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب. والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ومخالفة شرائعه ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي، وحكم أمته حكمه وهم أسوته. والسعي في الأرض فساداً يطلق على أنواع من الشر كما قدمنا قريباً. قال ابن كثير في تفسيره: قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال تعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" انتهى.
إذا تقرر لك ما قررناه من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فساداً، فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلماً أو كافراً، في مصر وغير مصر، في كل قليل وكثير، وجليل وحقير، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب، بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك، ولا يجري عليه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية، وبهذا تعرف ضعف ما روي عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لهما حكم غير هذا الحكم.
وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية على مقتضى لغة العرب التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها، فإياك أن تغتر بشيء من التفاصيل المروية، والمذاهب المحكية، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب فأنت وذاك اعمل به وضعه في موضعه، وأما ما عداه:
فدع عنك نهباً صيح في حجـراته وهات حديثاً ما حديث الرواحل
على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه. اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور: إن من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله. وبهذا قال مالك وصرح بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر أو في برية أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة. قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة. وروي عن ابن عباس غير ما تقدم فقال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض. وروي عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء على اختلاف في الرواية عن بعضهم، وحكاه ابن كثير عن الجمهور. وقال أيضاً: وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة. وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه: إن شاء قطع يديه ورجليه، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه. وقال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء، ونحوه قول الأوزاعي. وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب. وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام. وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي، ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلاً لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره وتفرد بروايته فقال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام، قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف الطريق فاقطع يده لسرقته ورجله بإضافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه. وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة لا يدرى كيف صحته؟ قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لشيء من التفاصيل التي ذكرناها ما لفظه: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده ثم ذكره. قوله: "ويسعون في الأرض فساداً" هو إما منتصب على المصدرية، أو على أنه مفعول له، أو على الحال بالتأويل: أي مفسدين. قوله: "أو يصلبوا" ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا، لأنه أحد الأنواع التي خير الله بينها. وقال قوم: الصلب إنما يكون بعد القتل، ولا يجوز أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب. ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله سبحانه في كتابه لعباده. قوله "أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف" ظاهره قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى، وكذلك الرجلان ولا يعتبر إلا أن يكون القطع من خلال إما يمنى اليدين مع يسرى الرجلين أو يسرى اليدين مع يمنى الرجلين، وقيل المراد بهذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط. قوله: "أو ينفوا من الأرض" اختلف المفسرون في معناه، فقال السدي: هو أن يطلب بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه الحد أو يخرج من دار الإسلام هرباً. وهو محكي عن ابن عباس وأنس ومالك والحسن البصري والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري، حكاه الرماني في كتابه عنهم. وحكى عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وبه قال الليث بن سعد. وروي عن مالك أنه ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره ويحبس فيه كالزاني، ورجحه ابن جرير والقرطبي. وقال الكوفيون: نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها. والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع منه فيها ما وقع من غير سجن ولا غيره. والنفي قد يقع بمعنى الإهلاك وليس هو مراداً هنا. قوله: "ذلك لهم خزي في الدنيا" الإشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام، والخزي: الذل والفضيحة. قوله: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه عمل الصحابة. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة، والحق الأول. وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية كما يدل عليه ذكر قيد "قبل أن تقدروا عليهم". قال القرطبي: وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب فإن قتل محارب أخا امرئ وأتاه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم.
وقد أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل" يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قيل له في هذه الآية يعني قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً" أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: أي والذي لا إله غيره. وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قال: نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله. وأخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عنه في هذه الآية قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله نبيه فيهم: إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأما النفي فهو الضرب في الأرض، فإن جاء تائباً فدخل في الإسلام قبل منه، ولم يؤخذ بما سلف. وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فقتلوا راعيها واستاقوها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله: "إنما جزاء الذين يحاربون" الآية. وفي مسلم عن أنس أنه قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة. وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: إذا خرج المحارب فأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف، وإذا خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل، وإذا خرج وأخذ المال وقتل قتل وصلب، وإذا خرج فأخاف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: من شهر السلاح في قبة الإسلام وأفسد السبيل فظهر عليه وقدر، فإمام المسلمين مخير فيه: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، قال: "أو ينفوا من الأرض" يهربوا ويخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب. وأخرج ابن جرير عنه قال: نفيه أن يطلب. وأخرج أيضاً عن أنس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له علياً فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فأتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً؟ قال: "أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" ثم قال: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر، قال: وإن كان حارثة بن بدر، قال: هذا حارثة بن بدر، قد جاء تائباً فهو آمن، قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أماناً.
34-" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " ، فمن ذهب إلى أن الآية نزلت في الكفار، قال معناه: إلا الذين تابوا من شركهم وأسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشيء من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا في حال الكفر من دم أو مال ، وأما المسلمون المحاربون فمن [ تاب ] منهم قبل القدرة عليهم وهو قبل أن يظفر به الإمام تسقط عنه كل عقوبة وجبت حقاً لله ، ولا يسقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل ، ويبقى عليه القصاص لولي القتيل فإن شاء عفا عنه وإن شاء استوفاه، و إن كان قد أخذ المال يسقط عنه [ القطع ] ، وإن كان قد جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب ، ويجب ضمان المال وهو قول الشافعي رضي الله عنه .
وقال بعضهم : إذا جاء تائباً قبل القدرة عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلا أن يوجد معه مال بعينه إلى صاحبه.
وروي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن يزيد كان خرج محارباً فسفك الدماء وأخذ المال ، ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل علي رضي الله عنه عليه تبعة [ في دم ولا مال ، إلا أن يوجد معه مال فيرد صاحبه ]، أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء منها.
وقيل : كل عقوبة تجب حقاً لله عز وجل من عقوبات قطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا و الشرب تسقط بالتوبة بكل حال ، و الأكثرون على أنها لا تسقط.
34" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " استثناء مخصوص بما هو حق لله سبحانه وتعالى ويدل عليه قوله تعالى: " فاعلموا أن الله غفور رحيم " أما القتل قصاصاً فإلى الأولياء يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وأن الآية في قطاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.
34. Save those who repent before ye overpower them. For know that Allah is Forgiving, Merciful.
34 - Except for those who repent before they fall into your power: in that case, know that God is oft forgiving, most merciful.