34 - (إن هؤلاء) أي كفار مكة (ليقولون)
يقول تعالى ذكره مخبراً عن قيل مشركي قريش لنبي الله صلى الله عليه وسلم : إن هؤلاء المشركين من قومك يا محمد " ليقولون * إن هي إلا موتتنا الأولى " التي نموتها ، وهي الموتة الأولى .
قوله تعالى : " إن هؤلاء ليقولون " يعني كفار قريش .
يقول تعالى منكراً على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور, ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا فإن كان البعث حقاً " فاتوا بآبائنا إن كنتم صادقين " وهذه حجة باطلة وشبه فاسدة, فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في الدار الدنيا بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها, يعيد الله العالمين خلقاً جديداً, ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً, يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً, ثم قال تعالى متهدداً لهم ومتوعداً ومنذراً لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع, وهم سبأ, حيث أهلكهم الله عز وجل وخرب بلادهم وشردهم في البلاد وفرقهم شذر مذر, كما تقدم ذلك في سورة سبأ وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد, وكذلك ههنا شبههم بأولئك وقد كانوا عرباً من قحطان, كما أن هؤلاء عرب من عدنان, وقد كانت حمير وهم سبأ كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً, كما يقال كسرى لمن ملك الفرس, وقيصر لمن ملك الروم, وفرعون لمن ملك مصر كافراً, والنجاشي لمن ملك الحبشة وغير ذلك من أعلام الأجناس.
ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه, واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه وهو الذي مصر الحيرة, فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية, فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار, وجعلوا يقرونه بالليل فاستحيا منهم وكف عنهم, واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة, فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان, فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن, فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضاً وأخبراه بعظمة هذا البيت, وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام, وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان, فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر, ثم كر راجعاً إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه, وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون من الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام, فتهود معه عامة أهل اليمن, وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة, وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر. وذكر أنه ملك دمشق وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن. ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ ولا أدري تبع لعيناً كان أم لا ؟ ولا أدري ذو القرنين نبياً كان أم ملكاً ؟" وقال غيره "عزير أكان نبياً أم لا ؟" وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن حماد الظهراني عن عبد الرزاق قال الدارقطني: تفرد به عبد الرزاق, ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً "عزير لا أدري أنبياً أم لا ؟ ولا أدري ألعين تبع أم لا ؟" ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكأنه والله أعلم كان كافراً ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام, وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن.
وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب, وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم, وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله, وإلى عبد الله بن سلام أيضاً وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل, فإن تبعاً هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه, ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ, وقد بسطنا قصتهم هنالك ولله الحمد والمنة, وقال سعيد بن جبير: كسا تبع الكعبة وكان سعيد ينهى عن سبه, وتبع هذا هو تبع الأوسط, واسمه أسعد أبو كريب بن ملكيكرب اليماني, ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستاً وعشرين سنة, ولم يكن في حمير أطول مدة منه, وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد, قال في ذلك شعراً واستودعه عند أهل المدينة, فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف, وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره وهو:
شهدت على أحمد أنــــــه رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمـره لـــــكنت وزيراً له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجــت عن صدره كل غم
وذكر ابن ابي الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الإسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين, وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حيي وتميس, وروي حيي وتماضر ابنتي تبع, ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئاً, وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وقد ذكرنا في سورة سبأ شعراً في ذلك أيضاً. قال قتادة: ذكر لنا أن كعباً كان يقول في تبع نعت نعت الرجل الصالح: ذم الله تعالى قومه ولم يذمه. قال: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لا تسبوا تبعاً فإنه قد كان رجلاً صالحاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي زرعة ـ يعني عمرو بن جابر الحضرمي, قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا تبعاً فإنه قد كان أسلم".
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة به وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبار, حدثنا أحمد بن محمد بن أبي برزة, حدثنا مؤمل بن إسماعيل, حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم" وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري تبع نبياً كان أم غير نبي" وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر "لا أدري تبع كان لعيناً أم لا " فالله أعلم ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى البدي عن عكرمة عن ابن عباس موقوفاً. وقال عبد الرزاق: أخبرنا عمران أبو الهذيل, أخبرني تميم بن عبد الرحمن قال: قال عطاء بن أبي رباح لا تسبوا تبعاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سبه, والله تعالى أعلم.
والإشارة بقوله: 34- "إن هؤلاء" إلى كفار قريش، لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر.
34. " إن هؤلاء "، يعني مشركي مكة، " ليقولون "
34-" إن هؤلاء " يعني كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة ، والإنذار عن مثل ما حل بهم . " ليقولون " .
34. Lo! these, forsooth, are saying:
34 - As to these (Quraish), they say forsooth: