33 - (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا) ما ينكحون به من مهر ونفقة عن الزنا (حتى يغنيهم الله) يوسع عليهم (من فضله) فينكحوا (والذين يبتغون الكتاب) بمعنى المكاتبة (مما ملكت أيمانكم) من العبيد والإماء (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) أي أمانة وقدرة على الكسب لإداء مال الكتابة وصيغتها مثلا كاتبتك على ألفين في شهرين كل شهر ألف فإذا أديتهما فأنت حر فيقول قبلت (وآتوهم) أمر للسادة (من مال الله الذي آتاكم) ما يستعينون به في أداء ما التزموه لكم (ولا تكرهوا فتياتكم) إماءكم (على البغاء) الزنا (إن أردن تحصنا) تعففا عنه وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم للشرط (لتبتغوا) بالإكراه (عرض الحياة الدنيا) نزلت في عبد الله بن أبي كان يكره جواريه على الكسب بالزنا (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور) لهن (رحيم) بهن
قوله تعالى والذين يبتغون الكتاب الآية أخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال كنت مملوكا لحويطب ابن عبد العزى فسألته الكتابة فنزلت والذين يبتغون الكتاب الآية
قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم الآية أخرج مسلم من طريق أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له اذهبي فأبغينا شيئا فأنزل الله ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء الآية
وأخرج الحاكم من طريق أبي الزبير عن جابر قال كانت مسيكة لبعض الأنصار فقالت ان سيدي يكرهني على البغاء فنزلت ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء الآية
وأخرج البزار والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال كانت لعبد الله ابن أبي جارية تزني في الجاهلية فلما حرم الزنا قالت لا والله لا أزني أبدا فنزلت ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء الآية وأخرج البزار بسند ضعيف عن أنس نحوه وسمى الجارية معاذة
وأخرج سعيد بن منصور عن شعبان عن عمرو بن دينار عن عكرمة أن عبد الله بن أبي كانت له أمتان مسيكة ومعاذة فكان يكرههما على الزنا فقالت إحداهما إن كان خيرا فقد استكثرت منه وإن كان غير ذلك فإنه ينبغي أن أدعه فأنزل الله ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء الآية
يقول تعالى ذكره : زوجوا الصالحين من عبادكم وإمائكم ، ولا تكرهوا إماءكم على البغاء ، وهو الزنا ، " إن أردن تحصنا " يقول : أن أردن تعففا عن الزنا " لتبتغوا عرض الحياة الدنيا " يقول : لتلتمسوا بإكراهكم إياهن على الزنا عرض الحياة ، وذلك ما تعرض لهم إليه الحاجة ، من رياشها وزينتها وأموالها ، " من يكرههن " يقول : ومن يكره فتياته على البغاء فإن الله من بعد إكراهه إياهن على ذلك لهم " غفور رحيم " ووزر ما كان من ذلك عليهم دونهن .
وذكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ، حين أكره أمته مسيكة على الزنا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن الصباح ، قال : ثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير ، انه سمع جابر بن عبد الله يقول : جاءت مسيكة لبعض الأنصار فقالت : إن سيدي يكرهني على الزنا ، فنزلت في ذلك " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر ، قال : كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول ، يقال لها مسيكة ، فآجرها أو أكرهها الطبري شك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فشكت ذلك إليه ، فأنزل الله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " يعين بهن .
حدثنا أو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين , عن الشعبي ، في قوله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " قال : رجل كانت له جارية تفجر ، فلما أسلمت نزلت هذه .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : اخبرني أبو الزبير ، عن جابر ، قال : جاءت جارية لبعض الأنصار ، فقالت إن سيدي أكرهني على البغاء ، فأنزل الله في ذلك : " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " . قال ابن جريج : وأخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، قال : أمة لعبد الله بن أبي ، أمرها فزنت ، فجاءت ببرد ، فقال لها ارجعي فازني ، قالت : والله لا أفعل ، إن يك هذا خيرا ، فقد استكثرت منه ، وإن يك شرا فقد آن لي أن أدعه . قال ابن جريج : وقال مجاهد نحو ذلك ، وزاد قال : البغاء : الزنا ." والله غفور رحيم " قال : للمكرهات على الزنا ، وفيها نزلت هذه الآية .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : اخبرنا معمر ، عن الزهري ، أن رجلا من قريش أسر يوم بدر . وكان عبد الله بن أبي أسره ، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة ، فكان القرشي الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة ، فكانت تمتنع منه ، لإسلامها ، وكان ابن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي ، فيطلب فداء ولده ، فقال الله : " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " يقول : غفور لهن ما أكرهن عليه .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم .
حدثنا علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " يقول : ولا تكرهوا إماءكم على الزنا ، فإن فعلتم فإن الله سبحانه لهن غفور رحيم ، وإثمهن على من أكرههن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" ، قال : كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ، يأخذون أجورهن ، فقال الله : لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا ، ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن : يعني إذا أكرهن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " على الزنا ، قال : عبد الله بن أبي ابن سلول أمر أمة له بالزنا ، فجاءته بدينار أو ببرد ، شك أبو عاصم فأعطته ، فقال : ارجعي فازني بآخر ، فقالت : والله ما أنا براجعة .
فالله غفور رحيم للمكرهات على الزنا ، ففي هذا أنزلت هذه الآية .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه إلا أنه قال في حديثه : أمر أمة له بالزنا ، ففي هذا أنزلت هذه الآية .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه قال في حديثه : أمر أمة له بالزنا ، فزنت ، فجاءته ببرد فأعطته ، فلم يشك .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " يقول : على الزنا " فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " يقول : غفور لهن ، للمكرهات على الزنا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور " قال : غفور رحيم لهن حين أكرهن ، وقسرن على ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كانوا يأمرون ولائدهم يباغين ، يفعلن ذلك ، فيصبن ، فيأتينهم بكسبهن ، فكانت لعبد الله بن أبي ابن سلول جارية ، فكانت تباغي ، فكرهت وحلفت أن لا تفعله ، فأكرهها أهلها، فانطلقت فباغت ببرد أخضر ، فأتتهم به ، فأنزل الله تبارك وتعالى " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " ... الآية .
قوله تعالى: " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله " فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " وليستعفف الذين " الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زمامه بيد غيره فإنه يقوده إلى ما يراه، كالمحجور - قولاً واحداً - والأمة والعبد، على أحد قولي العلماء.
الثانية: واستعفف وزنه استفعل، ومعناه طلب أن يكون عفيفاً، فأمر الله تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف. ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء. وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونهم المجاهد في سبل الله والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء ".
الثالثة: قوله تعالى: " لا يجدون نكاحا " أي طول نكاح، فحذف المضاف. وقيل: النكاح هاهنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة، كاللحاف اسم لما يلتحف به. واللباس اسم لما يلبس، فعلى هذا لا حذف في الآية، قاله جماعة من المفسرين، وحملهم على هذا قوله تعالى: " حتى يغنيهم الله من فضله " فظنوا أن المأمور بالاستعفاف، إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به. وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف، وذلك ضعيف، بل الأمر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
الرابعة: من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وجاء، كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي بعبادة الله تعالى. وفي الخبر:
" خيركم الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد ". وقد تقدم جواز نكاح الإماء عند عدم الطول للحرة في ((النساء)) والحمد لله. ولما لم يجعل الله له من العفة والنكاح درجةً دل على أن ما عداهما محرم، ولا يدخل فيه ملك اليمين، لأنه بنص آخر مباح، وهو قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " [النساء: 3] فجاءت فيه زيادة، ويبقى على التحريم الاستمناء رداً على أحمد . وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه، وقد تقدم هذا في ((المؤمنين)).
قوله تعالى: " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " فيه ست عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: " والذين يبتغون الكتاب " " الذين " في موضع رفع. وعند الخليل وسيبويه في موضع نصب على إضمار فعل، لأن بعده أمراً. ولما جرى ذكر العبيد والإماء فيما سبق وصل به أن العبد إن طلب الكتاب فالمستحب كتابته، فربما يقصد بالكتابة أن يستقل ويكتسب ويتزوج إذا أراد، فيكون أعف له. قيل: نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له صبح - وقيل صبيح - طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها، وقتل بحنين في الحرب، ذكره القشيري وحكاه النقاش . وقال مكي: هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة. وعلى الجملة فإن الله تعالى أمر المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه خيراً.
الثانية: الكتاب والمكاتبة سواء، مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين، لأنها معاقدة بين السيد وعبده، يقال: كاتب يكاتب كتاباً وكاتبة، كما يقال: قاتل قتالاً ومقاتلة. فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع. وقيل: الكتاب هاهنا هو الكتاب المعروف الذي يكتب فيه الشيء، وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتاباً. فالمعنى يطلبون العتق الذي يكتب به الكتاب فيدفع إليهم.
الثالثة: معنى المكاتبة في الشرع: هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجماً عليه، فإذا أداه فهو حر. ولها حالتان: الأولى: أن يطلبها العبد ويجيبه السيد، فهذا مطلق الآية وظاهرها. الثانية: أن يطلبها العبد ويأباها السيد، وفيها قولان: الأول لعكرمة و عطاء و مسروق وعمرو بن دينار و الضحاك بن مزاحم وجماعة أهل الظاهر أن ذلك واجب على السيد. وقال علماء الأمصار: لا يجب ذلك. وتعلق من أوجبها بمطلق الأمر، وافعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره الطبري . واحتج داود أيضاً بأن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك الكتابة وهو مولاه فأبى أنس، فرفع عمر عليه الدرة، وتلا " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا "، فكاتبه أنس. قال داود: وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله. وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر عليه وإن ضوعف له في الثمن. وكذلك لو قال له أعتقني أو دبرني أو زوجني لم يلزمه ذلك بإجماع، فكذلك الكتابة، لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض. وقولهم: مطلق الأمر يقتضي الوجوب صحيح، لكن إذا عري عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب، وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه، فعلق الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالخيرية. وإذا قال العبد: كاتبني، وقال السيد: لم أعلم فيك خيراً، وهو أمر باطن، فيرجع فيه إليه ويعول عليه. وهذا قوي في بابه.
الرابعة: واختلف العلماء في قوله تعالى: " خيرا " فقال ابن عباس و عطاء : المال. مجاهد : المال والأداء. الحسن و النخعي : الدين والأمانة. وقال مالك : سمعت بعض أهل العلم يقولون هو القوة على الاكتساب والأداء. وعن الليث نحوه، وهو قول الشافعي . وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة والخير. قال الطحاوي : وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال. والمعنى عندنا: إن علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم. وقال أبو عمر : من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالاً، وإنما يقال: علمت غيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال: علمت فيه المال، وإنما يقال علمت عنده المال.
قلت: وحديث بريرة يرد قول من قال: إن الخير المال، على ما يأتي.
الخامسة: اختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له، فكان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: أتأمرني أن آكل أوساخ الناس، ونحوه عن سلمان الفارسي. وروى حكيم بن حزام قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد: أما بعد! فأنه من قبلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس. وكره الأوزاعي و أحمد و إسحاق . ورخص في ذلك مالك و أبو حنيفة و الشافعي . وروي عن علي رضي الله عنه أن ابن التياح مؤذنه قال له: أكاتب وليس لي مال؟ قال: نعم، ثم حض الناس على الصدقة علي، فأعطوني ما فضل عن مكاتبتي، فأتيت علياً فقال: اجعلها في الرقاب. وقد روي عن مالك كراهة ذلك، وأن الأمة التي لا حرفة لها يكره مكاتبتها لما يؤدي إليه من فسادها. والحجة في السنة لا فيما خالفها. روى الأئمة عن عائشة رضي الله عنها قالت:
دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين، كل سنة أوقية، فأعينيني... الحديث. فهذا دليل على أن للسيد أن يكاتب عبده وهو لا شيء معه، ألا ترى أن بريرة جاءت عائشة تخبرها بأنها كاتبت أهلها وسألتها أن تعينها، وذلك كان في أول كتابتها قبل أن تؤدي منها شيئاً، كذلك ذكره ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً، أخرجه البخاري و أبو داود . وفي هذا دليل على جواز كتابة الأمة، وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل لها كسب أو عمل واصب أو مال، ولو كان هذا واجباً لسأل عنه ليقع حكمه عليه، لأنه بعث مبيناً معلما صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الحديث ما يدل على أن من تأول في قوله تعالى: " إن علمتم فيهم خيرا " أن المال الخير، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة. والله أعلم.
السادسة: الكتابة تكون بقليل المال وكثيره، وتكون على أنجم، لحديث بريرة. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء والحمد لله. فلو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلاً نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد. قال الشافعي : لا بد فيها من أجل، وأقلها ثلاثة أنجم. واختلفوا إذا وقعت على نجم واحد فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد. وقال الشافعي : لا تجوز على نجم واحد، ولا تجوز حالةً ألبتة، وإنما ذلك عتق على صفة، كأنه قال: إذا أديت كذا وكذا فأنت حر وليست كتابة. قال ابن العربي : اختلف العلماء والسلف في الكتابة إذا كانت حالة على قولين، واختلف قول علمائنا كاختلافهم. والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجلة، كما ورد بها الأثر في حديث بريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق في كل عام أوقية، وكما فعلت الصحابة، وذلك سميت كتابة لأنها تكتب ويشهد عليها، فقد استوسق الاسم والأثر، وعضده المعنى، فإن المال إن جعله حالاً وكان عند العبد شيء فهو مال مقاطعه وعقد مقاطعة لا عقد كتابة. وقال ابن خويزمنداد: إذا كاتبه على مال معجل كان عتقاً على مال، ولم تكن كتابة. وأجاز غيره من أصحابنا الكتابة الحالة وسماها قطاعة، وهو القياس، لأن الأجل فيها إنما هو فسحة للعبد في التكسب. ألا ترى أنه لو جاء بالمنجم عليه قبل محله لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل للمكاتب عتقه. وتجوز الكتابة الحالة، قاله الكوفيون.
قلت: لم يرد عن مالك نص في الكتابة الحالة، والأصحاب يقولون: إنها جائزة، ويسمونها قطاعة. وأما قول الشافعي إنها لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم فليس بصحيح، لأنه لو كان صحيحاً لجاز لغيره أن يقول: لا يجوز على أقل من خمسة نجوم، لأنها أقل النجوم التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بريرة، وعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم وقضى فيها، فكان بصواب الحجة أولى. روى البخاري عن عائشة: أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين ... الحديث. كذا قال الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين. وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق ... الحديث. وظاهر الروايتين تعارض، غير أن حديث هشام أولى لاتصاله وانقطاع حديث يونس، لقول البخاري : وقال الليث حدثني يونس، ولأن هشاماً أثبت في حديث أبيه وجده من غيره، والله أعلم.
السابعة: المكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء، لقوله عليه السلام:
" المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم ". أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وروي عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد ". وهذا قول مالك و الشافعي و أبو حنيفة وأصحابهم و الثوري و أحمد و إسحاق و أبي ثور و داود و الطبري . وروي ذلك عن ابن عمر من وجوه، وعن زيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة، لم يختلف عنهم في ذلك رضي الله عنهم. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب والقاسم وسالم و عطاء . قال مالك : وكل من أدركنا ببلدنا يقول ذلك. وفيها قول آخر روي عن علي أنه إذا أدى الشطر فهو غريم، وبه قال النخعي . وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه، والإسناد عنه بأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، خير من الإسناد عنه بأن المكاتب إذا أدى الشطر فلا رق عليه، قاله أبو عمر. وعن علي أيضاً يعتق منه بقدر ما أدى. وعنه أيضاً أن العتاقة تجري فيه بأول نجم يؤديه. وقال ابن مسعود: إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم، وهذا قول شريح . وعن ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة دينار فأدى العبد المائة التي هي قيمته عتق، وهو قول النخعي أيضاً. وقول سابع: إذا أدى الثلاثة الأرباع وبقي الربع فهو غريم ولا يعود عبداً، قاله عطاء بن أبي رباح، رواه ابن جريج عنه. وحكي عن بعض السلف أنه بنفس عقد الكتابة حر، وهو غريم بالكتابة ولا يرجع إلى الرق أبداً. وهذا القول يرده حديث بريرة لصحته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه دليل واضح على أن المكاتب عبد، ولولا ذلك ما بيعت بريرة، ولو كان فيها شيء من العتق ما أجاز بيع ذلك، إذ من سنته المجمع عليها ألا يباع الحر. وكذلك كتابة سلمان وجويرية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لجميعهم بالرق حتى أدوا الكتابة. وهي حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء. وقد ناظر علي بن أبي طالب زيد بن ثابت في المكاتب، فقال لعلي: أكنت راجمه لو زنى، أو مجيزاً شهادته لو شهد؟ فقال علي: لا. فقال زيد: هو عبد ما بقي عليه شيء. وقد روى النسائي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما أدى ويرث بقدر ما عتق منه ". وإسناده صحيح. وهو حجة لما روي عن علي، ويعتضد بما رواه أبو داود " عن نبهان مكاتب أم سلمة قال: سمعت أم سلمة تقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه ". وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. إلا أنه يحتمل أن يكون خطاباً مع زوجاته، أخذا بالاحتياط والورع في حقهن، كما " قال لسودة: احتجبي منه " مع أنه قد حكم بأخوتها له، و " بقوله لعائشة وحفصة: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه " يعني ابن أم مكتوم، مع أنه " قال لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم " وقد تقدم هذا المعنى.
الثامنة: أجمع العلماء على أن المكاتب إذا حل عليه نجم من نجومه أو نجمان أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك ثابتين.
التاسعة: قال مالك : ليس للعبد أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن لم يظهر له مال فذلك إليه. وقال الأوزاعي : لا يمكن من تعجيز نفسه إذا كان قوياً على الأداء. وقال الشافعي : له أن يعجز نفسه، علم له مال أو قوة على الكتابة أو لم يعلم، فإذا قال: قد عجزت وأبطلت الكتابة فذلك إليه. وقال مالك : إذا عجز المكاتب فكل ما قبضه منه سيده قبل العجز حل له، كان من كسبه أو من صدقة عليه. وأما ما أعين به على فكاك رقبته فلم يف ذلك بكتابته كان لكل من أعانه الرجوع بما أعطى أو تحلل منه المكاتب. ولو أعانوه صدقة لا على فكاك رقبته فذلك إن عجز حل لسيده ولم تم به فكاكه وبقيت منه فضلة. فإن كان بمعنى الفكاك ردها إليهم بالحصص أو يحللونه منها. هذا كله مذهب مالك فيما ذكر ابن القاسم. وقال أكثر أهل العلم: إن ما قبضه السيد منه من كتابته، وما فضل بيده بعد عجزه من صدقة أو غيرها فهو لسيده، يطيب له أخذ ذلك كله. هذا قول الشافعي و ابي حنيفة وأصحابهما و أحمد بن حنبل ، ورواية عن شريح . وقال الثوري : يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب، وهو قول مسروق و النخعي ، ورواية عن شريح . وقالت طائفة: ما قبض منه السيد فهو له، وما فضل بيده بعد العجز فهو له دون سيده، وهذا قول بعض من ذهب إلى أن العبد يملك. وقال إسحاق : ما أعطي بحال الكتابة رد على أربابه.
العاشرة: حديث بريرة على اختلاف طرقه وألفاظه يتضمن أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدمت. واختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك. وقد ترجم البخاري (باب بيع المكاتب إذا رضي). وإلى جواز بيعه للعتق إذا رضي المكاتب بالبيع ولو لم يكن عاجزاً - ذهب ابن المنذر و الداودي ، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر، وبه قال ابن شهاب وأبو الزناد وربيعة، غير أنهم قالوا: لأن رضاه بالبيع عجز منه. وقال مالك و أبو حنيفة وأصحابهما: لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتباً حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته بحال، وهو قول الشافعي بمصر. وكان بالعراق يقول: بيعه جائز، وأما بيع كتابته فغير جائزة. وأجاز مالك بيع الكتابة، فإن أداها عتق، وإلا كان رقيقاً لمشتري الكتابة. ومنع من ذلك أبو حنيفة ، لأنه بيع غرر. واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة. وقالت طائفة: يجوز بيع المكاتب على أن يمضي في كتابته، فإن أدى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه، ولو عجز فهو عبد له. وبه قال النخعي و عطاء و الليث و أحمد و أبو ثور . وقال الأوزاعي : لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه، وهو قول أحمد و إسحاق . قال أبو عمر: في حديث بريرة إجازة بيع المكاتب إذا رضي بالبيع ولم يكن عاجزاً عن أداء نجم قد حل عليه، بخلاف قول من زعم أن بيع المكاتب غير جائز إلا بالعجز، لأن بريرة لم تذكر أنها عجزت عن أداء نجم، ولا أخبرت بأن لنجم قد حل عليها، ولا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم أعاجزة أنت أم هل حل عليك نجم. ولو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلا بالعجز عن أداء ما قد حل لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد سألها أعاجزة هي أم لا، وما كان ليأذن في شرائها إلا بعد علمه صلى الله عليه وسلم أنها عاجزة ولو عن أداء نجم واحد قد حل عليها. وفي حديث الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئاً. ولا أعلم في هذا الباب حجة أصح من حديث بريرة هذا، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعارضه، ولا في شيء من الأخبار دليل على عجزها. استدل من منع من بيع المكاتب بأمور: منها أن قالوا إن الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت، وأن قولها كاتبت أهلي معناه أنها راوضتهم عليها، وقدروا مبلغها وأجلها ولم يعقدوها. وظاهر الأحاديث خلاف هذا إذا تؤمل مساقها. وقيل: إن بريرة عجزت عن الأداء فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة، وحينئذ صح البيع، إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق العبد والسيد عليه، لأن الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف. وقال سحنون: لا بد من السلطان، وهذا إنما خاف أن يتواطأ على ترك حق الله تعالى. ويدل على صحة أنها عجزت ما روي أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلت. فظاهر هذا أن جميع كتابتها أو بعضها استحق عليها، لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، والله أعلم. هذه التأويلات أشبه ما لهم وفيها من الدخل ما بيناه. وقال ابن المنذبر : ولا أعلم حجة لمن قال ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول لعل بريرة عجزت. قال الشافعي : وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه.
الحادية عشرة: المكاتب إذا أدى كتابته عتق ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السيد. وكذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته، يعتقون بعتقه ويرقون برقه، لأن ولد الإنسان من أمته بمثابته اعتباراً بالحر وكذلك ولد المكاتبة، فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل في الكتابة إلا بشرط.
الثانية عشرة: قوله تعالى: " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً مما في أيديهم - أعني أيدي السادة - أو يحطوا عنهم شيئاً من مال الكتابة. قال مالك : يوضع عن المكاتب من آخر كتابته. وقد وضع ابن عمر خمسة آلاف من خمسة وثلاثين ألفاً واستحسن علي رضي الله عنه أن يكون ذلك ربع الكتابة. قال الزهراوي: روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. واستحسن ابن مسعود والحسن بن أبي الحسن ثلثها. وقال قتادة : عشرها. ابن جبير: يسقط عنه شيئاً، ولم يحده، وهو قول الشافعي ، واستحسنه الثوري . قال الشافعي : والشيء أقل شيء يقع عليه اسم شيء، ويجبر عليه السيد ويحكم به الحاكم على الورثة إن مات السيد. ورأى مالك رحمه الله تعالى هذا الأمر على الندب، ولم ير لقدر الوضيعة حداً. احتج الشافعي بمطلق الأمر في قوله: " وآتوهم "، ورأى أن عطف الواجب على الندب معلوم في القرآن ولسان العرب، كما قال تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى " [النمل: 90] وما كان مثله. قال ابن العربي وذكره قبله إسماعيل بن إسحاق القاضي، جعل الشافعي الإيتاء واجباً، والكتابة غير واجبة، فجعل الأصل غير واجب والفرع واجباً، وهذا لا نظير له، فصارت دعوى محضة. فإن قيل: يكون ذلك كالنكاح لا يجب فإذا انعقد وجبت أحكامه، منها المتعة. قلنا: عندنا لا تجب المتعة فلا معنى لأصحاب الشافعي . وقد كاتب عثمان بن عفان عبده وحلف ألا يحطه ...، في حديث طويل.
قلت: وقد قال الحسن و النخعي وبريدة إنما الخطاب بقوله: " وآتوهم " للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين، وأن يعينوهم في فكاك رقابهم. وقال زيد بن أسلم: إنما الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم، وهو الذي تضمنه قوله تعالى: " وفي الرقاب " [التوبة: 60]. وعلى هذين القولين فليس لسيد المكاتب أن يضع شيئاً عن مكاتبه. ودليل هذا أنه لو أراد حط شيء من نجوم الكتابة لقال وضعوا عنهم كذا.
الثالثة عشرة: إذا قلنا: إن المراد بالخطاب السادة فرأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه، مبادرةً إلى الخير خوفاً ألا يدرك آخرها. ورأى مالك رحمه الله تعالى وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم. وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد فرجع هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة. وهذا قول عبيد الله بن عمر وعلي. وقال مجاهد : يترك له من كل نجم. قال ابن العربي : والأقوى عندي أن يكون في آخرها، لأن الإسقاط أبداً إنما يكون في أخريات الديون.
الرابعة عشرة: المكاتب إذا بيع للعتق رضاً منه بعد الكتابة وقبض بائعه ثمنه لم يجب عليه أن يعطيه من ثمنه شيئاً، سواء باعه لعتق أو لغير عتق، وليس ذلك كالسيد يؤدي إليه مكاتب كتابته فيؤتيه منها، أو يضع عنه من آخرها نجماً أو ما شاء، على ما أمر الله به في كتابه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر موالي بريرة بإعطائها مما قبضوا شيئاً، وإن كانوا قد باعوها للعتق.
الخامسة عشرة: اختلفوا في صفة عقد الكتابة، فقال ابن خويزمنداد: صفتها أن يقول السيد لعبد كاتبتك على كذا وكذا من المال، في كذا وكذا نجماً، إذا أديته فأنت حر. أو يقول له أد إلي ألفاً في عشرة أنجم وأنت حر. فيقول العبد قد قبلت ونحو ذلك من الألفاظ، فمتى أداها عتق. وكذلك لو قال العبد كاتبني، فقال السيد قد فعلت، أو قد كاتبتك. قال ابن العربي : وهذا لا يلزم، لأن لفظ القرآن لا يقتضيه والحال يشهد له، فإن ذكره فحسن، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه. ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، وقد ذكرها من أصوله جملة، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية.
السادسة عشرة: في ميراث المكاتب، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك أن المكاتب إذا هلك وترك مالاً أكثر مما بقي عليه من كتاتبه وله ولد ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم، ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته، لأن حكمهم كحكمه، وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يخلف مالاً، ولا يعتقون إلا بعتقه، ولو أدى عنهم ما رجع بذلك عليهم، لأنهم يعتقون عليه، فهم أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله.
والقول الثاني: أنه يؤدى عنه من ماله جميع كتابته، وجعل كأنه قد مات حراً، ويرثه جميع ولده، وسواء في ذلك من كان حراً قبل موته من ولده ومن كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته، لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدت عنهم كتابتهم. روي هذا القول عن علي وابن مسعود، ومن التابعين عن عطاء و الحسن و طاوس وإبراهيم، وبه قال فقهاء الكوفة سفيان الثوري و أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي، وإليه ذهب إسحاق .
والقول الثالث: أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبداً، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار ولا الذين معه في كتابته، لأن لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبداً وماله لسيده، فلا يصح عتقه بعد موته، لأنه محال أن يعتق عبد بعد موته، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعوا في باقي الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدوا عتقوا لأنهم كانوا فيها تبعاً لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رقوا. هذا قول الشافعي ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز و الزهري و قتادة .
قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي، وكانت له جاريتان إحداهما تسمى معاذة والأخرى مسيكة، وكان يكرههما على الزنى ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين. ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها. وفي صحيح مسلم عن جابر
" أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " - إلى قوله - " غفور رحيم " " .
قوله تعالى: " إن أردن تحصنا " راجع إلى الفتيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرهاً، ويمكن أن ينها عن الإكراه. وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها، لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزنى. فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه. وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي فقال: إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصور إكراه، فحصلوه. وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين، فقال بعضهم قوله: " إن أردن تحصنا " راجع إلى الأيامى. قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصناً. وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: " إن أردن " ملغىً، ونحو ذلك مما يضعف. والله الموفق.
قوله تعالى: " لتبتغوا عرض الحياة الدنيا " أي الشيء الذي تكسبه الأمة بفرجها، والولد يسترق فيباع. وقيل: كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها.
قوله تعالى: " ومن يكرههن " أي يقهرهن. "فإن الله من بعد إكراههن غفور " لهن " رحيم" بهن. وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير لهن غفور بزيادة لهن. وقد مضى الكلام في الإكراه في ((النحل)) والحمد لله.
اشتملت هذه الايات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة والأوامر المبرمة, فقوله تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم" إلى آخره, هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه. واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام "يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء", أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود , وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تزوجوا توالدوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة". وفي رواية: "حتى بالسقط", الأيامى جمع أيم, ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له, سواء كان قد تزوج ثم فارق أول لم يتزوج واحد منهما, حكاه الجوهري عن أهل اللغة, يقال رجل أيم وامرأة أيم.
وقوله تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" الاية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى, فقال "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمود بن خالد الأزرق , حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد ـ يعني ابن عبد العزيز ـ قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" وعن ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح. يقول الله تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" رواه ابن جرير , وذكر البغوي عن عمر بنحوه, وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف, والمكاتب يريد الأداء, والغازي في سبيل الله" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه . وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره, ولم يقدر على خاتم من حديد, ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله, وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث "تزوجوا فقراء يغنكم الله" فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الان, وفي القرآن غنية عنه, وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها, ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله" هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" الحديث, وهذه الاية مطلقة, والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم " أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم, لأن الولد يجيء رقيقاً "والله غفور رحيم" قال عكرمة في قوله "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي, فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها, وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله.
وقوله تعالى: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه, وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب, لا أمر تحتم وإيجاب, بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة, إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه قال الثوري عن جابر عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه. وكذا قال ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح : إن يشأ يكاتبه وإن يشأ لم يكاتبه. وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري , وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب أخذاً بظاهر هذا الأمر.
وقال البخاري : وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه, قال: ما أراه إلا واجباً. وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال: لا, ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنساً المكاتبة, وكان كثير المال فأبى, فانطلق إلى عمر رضي الله عنه, فقال: كاتبه, فأبى فضربه بالدرة, ويتلو عمر رضي الله عنه "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" فكاتبه هكذا ذكره البخاري تعليقاً, ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه ؟ قال: ما أراه إلا واجباً. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن بكر , حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه, فتلكأ عليه فقال له عمر : لتكاتبنه, إسناد صحيح. وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال: هي عزمة, وهذا القول القديم من قولي الشافعي , وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه". وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك, ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده. قال مالك : وإنما ذلك أمر من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب. وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الاية.
وقوله تعالى: "إن علمتم فيهم خيراً" قال بعضهم: أمانة, وقال بعضهم: صدقاً, وقال بعضهم: مالاً, وقال بعضهم: حيلة وكسباً. وروى أبو داود في المراسيل , عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" قال "إن علمتم فيهم حرفة, ولا ترسلوهم كلا على الناس", وقوله تعالى: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" اختلف المفسرون فيه, فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها, ثم قال بعضهم: مقدار الربع, وقيل الثلث, وقيل النصف, وقيل جزء من الكتابة من غير حد.
وقال آخرون: بل المراد من قوله "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة, وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان , واختاره ابن جرير , وقال إبراهيم النخعي في قوله "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال: حث الناس عليه مولاه وغيره, وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة , وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاثة حق على الله عونهم" فذكر منهم المكاتب يريد الأداء, والقول الأول أشهر. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر : أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية , فجاء بنجمه حين حل فقال: يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك, فقال: يا أمير المؤمنين, لو تركته حتى يكون من آخر نجم ؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك, ثم قرأ "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال عكرمة : فكان أول نجم أدي في الإسلام.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته, ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال: يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم, وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي , وقال محمد بن سيرين في قوله: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته, وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرى , أخبرنا إبراهيم بن موسى , أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج , أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ربع الكتابة" وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله.
وقوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" الاية, كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني, وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت, فلماء جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك, وكان سبب نزول هذه الاية الكريمة, فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول , فإنه كان له إماء, فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن, ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم.
ذكر الاثار الواردة في ذلك
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار رحمه الله في مسنده : حدثنا أحمد بن داود الواسطي , حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج , حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول , يقال لها معاذة يكرهها على الزنا, فلما جاء الإسلام نزلت "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" الاية, وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الاية, قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة, كان يكرهها على الفجور, وكانت لا بأس بها فتأبى, فأنزل الله هذه الاية " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي , حدثنا علي بن سعيد , حدثنا الأعمش , حدثني أبو سفيان عن جابر قال: كان لعبد الله بن أبي ابن سلول , جارية يقال لها مسيكة, وكان يكرهها على البغاء, فأنزل الله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان بن طلحة بن نافع , فدل على بطلان قول من قال: لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار . وقال أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولاداً من الزنا, فقال لها مالك : لتزنين, قالت: والله لا أزني, فضربها فأنزل الله عز وجل "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء".
وروى البزار أيضا: حدثنا أحمد بن داود الوسطي , حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج , حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال:كانت جارية لعبدالله بن أبي . يقال لها معاذ , يكرهها على الزنا, فلما جاء الاسلام نزلت " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبي أسيراً, وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة وكانت تمتنع منه لإسلامها, وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده, فقال تبارك وتعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً".
وقال السدي : أنزلت هذه الاية الكريمة في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا, وقال مقاتل بن حيان : بلغني ـ والله أعلم ـ أن هذه الاية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار, وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة, فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له, فأنزل الله في ذلك "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" يعني الزنا.
وقوله تعالى: "إن أردن تحصناً" هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, وقوله تعالى: "لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن, وفي رواية "مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث, وثمن الكلب خبيث" وقوله تعالى: "ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر . وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم, وإثمهن على من أكرههن وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة .
وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذ الاية "فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" قال لهن والله لهن والله. وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه. وعن زيد بن أسلم قال غفور رحيم للمكرهات, حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا يحيى بن عبد الله , حدثني ابن لهيعة , حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود "فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" لهن وإثمهن على من أكرههن, وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى: "ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات" يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات "ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم" أي خبراً عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى " فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين " أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم "للمتقين" أي لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشاداً لهم إلى ما هو الأولى فقال: 33- "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" استعف طلب أن يكون عفيفاً: أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد نكاحاً أي سبب نكاح، وهو المال. وقيل النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية، وهي "حتى يغنيهم الله من فضله" أي يرزقهم رزقاً يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد، الجملة الأولى: وهي أن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا، فإنه لو كان وعداً حتماً لا محالة في حصوله لكان الغنى والزواج متلازمين، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة، فإنه سيغنى عند تزوجه لا محالة، فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى، إلا أن يقال: إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادىء النكاح، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحاً إذا كان غير واجد لأسبابه التي يتحصل بها، وأعظمها المال. ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم" الموصول في محل رفع على الابتداء، ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده:أي وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب: والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة، يقال: كاتب يكاتب كتاباً ومكاتبة، كما يقال قاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة. وقيل الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتاباً، فيكون المعنى الذين يطلبون كتاب المكاتبة. ومعنى المكاتبة في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجماً، فإذا أداه فهو حر، وظاهر قوله: "فكاتبوهم" أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو "إن علمتم فيهم خيراً" والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه وإن لم يكن له مال، وقيل هو المال فقط، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومقاتل. وذهب إلى الأول ابن عمر وابن زيد، واختاره مالك، والشافعي والفراء والزجاج. قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال. وقال الزجاج: لما قال "فيهم" كان الأظهر الاكتساب، والوفاء وأداء الأمانة. وقال النخعي: إن الخير الدين والأمانة. وروي مثل هذا عن الحسن. وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة. قال الطحاوي: وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال؟ قال: والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق. قال أبو عمر بن عبد البر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال: إن علمتم فيهم مالاً، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال علمت فيه المال. هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في هذه الآية. وإذا تقرر لك هذا، فاعلم أنه قد ذهب ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب، [أما] عكرمة ومسروق وعمر بن دينار والضحاك: وأهل الظاهر، فقالوا: يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيراً. وقال الجمهور من أهل العلم: لا يجب ذلك، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ولم يجبر عليه، فكذا الكتابة لأنها معاوضة.
ولا يخفاك أن هذه حجة واهية وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأولون، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس واختاره ابن جرير. ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين، فقال: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً من المال وبأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه، وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل الثلث، وقيل الربع، وقيل العشر، ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم فإنهمم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: وآتوهم لجميع الناس. وقالزيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه: "وفي الرقاب"، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة. ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" والمراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر. والبغاء: الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاءً إذا زنت، وهذا مختص بزنا النساء، فلا يقال للرجل إذا زنا إنه بغي، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله: "إن أردن تحصناً" لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادتهم للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا، والمراد بالتحصن هنا: التعفف والتزوج. وقيل إن هذا القيد راجع إلى الأيامى. قال الزجاج والحسن بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير: أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم وإمائكم إن أردن تحصناً. وقيل هذا الشرط. ملغى. وقيل إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه، فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف، وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهن التعفف. وقيل إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن، إلا أن يقال إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد، فقد قال الحبر بن العباس: إن المراد بالتحصن التعفف والتزوج، وتابعه على ذلك غيره. ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: "لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" وهو ما تكسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل أيضاً خارج مخرج الغالب، والمعنى: أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراهالإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلاً لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغياً بإكراهها عرض الحياة الدنيا. وقيل إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهن، وهذا يلاقي المعنى الأول ولا يخالفه "ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" هذا مقرر لما قبله ومؤكد له،والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير: فإن الله غفور رحيم لهن. قيل وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة على الزنا غير أثمة. واجيب بأنها وإن كانت مكرهة، فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصراً عن حد الإلجاء المزيل للاختيار. وقيل إن المعنى: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم: إما مطلقاً، أو بشرط التوبة. ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام، شرع في وصف القرآن بصفات ثلاث: الأولى أنه آيات مبينات: أي واضحات في أنفسهن أو موضحات، فتدخل الآيات المذكورة في هذه الصورة دخولاً أولياً. والصفة الثانية كونه مثلاً من الذين خلوا من قبل هؤلاء: أي مثلاً كائناً من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، فإن العجب من قصة عائشة رضي الله عنها، هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما أتهما به، ثم تبين بطلانه وبراءتهما سلام الله عليهما.
33- "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" أي: ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون مالاً ينكحون به للصداق والنفقة، "حتى يغنيهم الله من فضله" اي: يوسع عليهم من رزقه.
قوله تعالى: "والذين يبتغون الكتاب"، أي: يطلبون المكاتبة، "مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم"، سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، فأنزل الله هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب.
والكتابة أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا من المال، ويسمي مالاً معلوماً، يؤدي ذلك في نجمين أو نجوم معلومة في كل نجم كذا، فإذا أديت فأنت حر، والعبد يقبل ذلك، فإذا أدى المال عتق، ويصير العبد/ أحق بمكاسبه بعد الكتابة، وإذا أعتق بعد أداء المال فما فضل في يده من المال، يكون له، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في حال الكتابة في العتق، وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق، وما في يده من المال يكون لمولاه، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن نافع، أخبرنا عبد الله بن عمر كان يقول:المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء.
ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: "المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم".
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: "فكاتبوهم" أمر إيجاب، يجب على المولى أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيراً إذا سأل العبد ذلك، على قيمته أو أكثر، وإن سأل على أقل من قيمته فلا يجب، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار، ولما روي أن سيرين سأل أنس بن مالك أنه يكاتبه فتلكأ عنه فشكا إلى عمر، فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة فكاتبه.
ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي، لأنه عقد جوز إرفاقاً بالعبد، ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل، فيحصل المقصود، كالدية في قتل الخطأ، وجبت على العاقلة على سبيل المواساة فكانت عليهم مؤجلة منجمة، وجوز أبو حنيفة الكتابة على نجم واحد وحالة.
قوله تعالى: "إن علمتم فيهم خيراً"، اختلفوا في معنى الخير، فقال ابن عمر: قوة على الكسب. وهو قول مالك والثوري، وقال الحسن ومجاهد والضحاك: مالاً، كقوله تعالى: "إن ترك خيراً" (البقرة-180) أي: مالاً، وروي أن عبداً لسلمان الفارسي قال له كاتبني، قال: ألك مال؟ قال: لا. قال: تريد أن تطعمني من أوساخ الناس، ولم يكاتبه.
قال الزجاج: لو أراد به المال لقال: إن علمتم لهم خيراً. وقال إبراهيم وابن زيد وعبيدة: صدقاً وأمانة. وقال طاوس، وعمرو بن دينار: مالاً وأمانة.
وقال الشافعي: وأظهر معاني الخبر في العبد: الاكتساب مع الأمانة، فأحب أن لا يمنع من كتابته إذا كان هكذا.
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو الحسن بن علي بن شريك الشافعي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم، أخبرنا أبو بكر الجوربذي، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله".
وحكى محمد بن سيرين عن عبيدة: إن علمتم فيهم خيراً أي: أقاموا الصلاة.
وقيل: هو أن يكون العبد بالغاً عاقلاً، فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح. وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق.
قوله عز وجل: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم"، اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هذا خطاب للموالي، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال كتابته شيئاً، وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة، وبه قال الشافعي.
ثم اختلفوا في قدره، فقال قوم: يحط عنه ربع مال الكتابة، وهو قول علي، ورواه بعضهم عن علي مرفوعاً، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحط عنه الثلث. وقال الآخرون: ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء، وهو قول الشافعي.
قال نافع: كاتب عبد الله بن عمر غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم.
وقال سعيد بن جبير: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته، ووضع من آخر كتابته ما أحب.
وقال بعضهم: هو أمر استحباب. والوجوب أظهر.
وقال قوم: أراد بقوله: "وآتوهم من مال الله" أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات، بقوله تعالى: وفي الرقاب (التوبة-60) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم.
وقال إبراهيم: هو حث لجميع الناس على معونتهم.
ولو مات المكاتب قبل أداء النجوم، اختلف أهل العلم فيه: فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقاً، وترتفع الكتابة، سواء ترك مالاً أو لم يترك، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع. وهو قول عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والزهري، وقتادة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد.
وقال قوم: إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حراً، وإن كان فيه فضل، فالزيادة لأولاده الأحرار، وهو قول عطاء، وطاووس، والنخعي، والحسن، وبه قال مالك، والثوري، وأصحاب الراي.
ولو كاتب عبده كتابة يعتق أداء المال لأن عتقه معلق بالأداء، وقد وجد وتبعه الأولاد والاكتساب كما في الكتابة الصحيحة، ويفترقان في بعض الأحكام: وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم، ولا تبطل بموت المولى، ويعتق بالإبراء عن النجوم، والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ويبطل بموت المولى، ولا يعتق بالإبراء عن النجوم، وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة، ويثبت في الكتابة الفاسدة، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً.
قوله عز وجل: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً" الآية، نزلت في عبد الله بن أبي سلول المنافق، كانت له جاريتان: معاذة ومسيكة، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام/ قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين، فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله هذه الآية.
وروي أنه جاءت الجاريتين يوماً ببرد وجاءت الأخرى بدينار، فقال لهما: ارجعا فازنيا، قالتا: والله لا نفعل، قد جاء الإسلام وحرم الزنا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه، فأنزل هذه الآية:
"ولا تكرهوا فتياتكم" إماءكم "على البغاء" أي: الزنا "إن أردن تحصناً" أي: إذا أردن، وليس معناه الشرط، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا وإن لم يردن تحصناً، كقوله تعالى: "وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" (آل عمران-139)، أي: إذا كنتم مؤمنين وقيل: شرط إرادة التحصن لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن، فإذا لم ترد التحصن بغت طوعاً، والتحصن: التعفف.
وقال الحسن بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء.
"لتبتغوا عرض الحياة الدنيا"، أي: لتطلبوا من أموال الدنيا، يريد من كسبهن وبيع أولادهن، "ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم"، يعني المكرهات، والوزر على المكره. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: لهن والله لهن والله.
33 -" وليستعفف " وليجتهد في العفة وقمع الشهوة . " الذين لا يجدون نكاحاً " أسبابه ، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه . " حتى يغنيهم الله من فضله " فيجدوا ما يتزوجون به . " والذين يبتغون الكتاب " المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال ، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجماً بنجوم يضم بعضها إلى بعض . " مما ملكت أيمانكم " عبداً كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره . " فكاتبوهم " أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط ، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل . " إن علمتم فيهم خيراً " أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف ، وقد روي مثله مرفوعاً . وقيل صلاحاً في الدين . وقيل مالاً وضعفه ظاهر لفظاً ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز . " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئاً من أموالهم ، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول . وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث ، وقيل يدب لهم إلى الأنفاق عليهم بعد أن يؤتوا ويعتقوا ، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنياً ، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري ، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة " هو لها صدقة ولنا هدية " . " ولا تكرهوا فتياتكم " إماءكم . " على البغاء " على الزنا ، كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . " إن أردن تحصناً " تعففاً شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه ، وإن جعل شرطاً للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه ، وإيثار إن على إذا لأن إرادة المحصن من الإماء كالشاذ النادر . " لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " أي لهن أوله إن تاب ، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص .
33. And let those who cannot find a match keep chaste till Allah give them independence by His grace. And such of your slaves as seek a writing (of emancipation), write it for them if ye are aware of aught of good in them, and bestow upon them of the wealth of Allah which He hath bestowed upon you. Force not your slave girls to whoredom that ye may seek enjoyment of the life of the world, if they would preserve their chastity. And if one force them, then (unto them), after their compulsion, Lo! Allah will be Forgiving, Merciful.
33 - Let those who find not the wherewithal for marriage keep themselves chaste, until God gives them means out of His grace. And if any of your slaves ask for a deed in writing (to enable them to earn their freedom for a certain sum), give them such a deed if ye know any good in them; yea, give them something yourselves out of the means which God has given to you. But force not your maids to prostitution when they desire chastity, in order that ye may make a gain in the goods of this life. But if anyone compels them, yet, after such compulsion, if God Oft Forgiving, Most Merciful (to them).