32 - (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) هو صغار الذنوب كالنظرة والقبلة واللمسة فهو استثناء منقطع والمعنى لكن اللمم يغفر باجتناب الكبائر (إن ربك واسع المغفرة) بذلك وبقبول التوبة ونزل فيمن كان يقول صلاتنا وصيامنا حجنا (هو أعلم) عالم (بكم إذ أنشأكم من الأرض) أي خلق أباكم آدم من التراب (وإذ أنتم أجنة) جمع جنين (في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم) لا تمدحوها على سبيل الاعجاب أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن (هو أعلم) أي عالم (بمن اتقى)
أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر ابن وأبي حاتم عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال كذبت اليهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد فأنزل الله عند ذلك هذه الآية هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض الآية
وقوله " الذين يجتنبون كبائر الإثم " يقول : الذين يبتعدون عن كبائر الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها وذلك الشرك بالله وما قد بيناه في قوله " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " ( النساء : 31) .
وقوله : " والفواحش " وهي الزنا وما أشبهه مما أوجب الله فيه حدا .
وقوله : " إلا اللمم " اختلف أهل التأويل في معنى " إلا " في هذا الموضع فقال بعضهم : هي بمعنى الاستثناء المنقطع وقالوا : معنى الكلام : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم الذي ألموا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الاسلام فإن الله قد عفا لهم عنه فلا يؤخذهم به .
ذكر من قال ذلك
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " يقول : إلا ما قد سلف .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال : المشركون إنما كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل الله عز وجل " إلا اللمم " ما كان منهم في الجاهلية . قال : واللمم : الذي ألموا به من تلك الكبائر والفواحش في الجاهلية قبل الاسلام وغفرها لهم حين أسلموا .
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية عن ابن عياش عن ابن عون عن محمد قال : سأل رجل زيد بن ثابت عن هذه الآية " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " فقال حرم الله عليك الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عبد الله بن عياش قال : قال زيد بن أسلم في قول الله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال : كبائر الشرك والفواحش : الزنى تركوا ذلك حين دخلوا في الاسلام فغفر الله لهم ما كانوا ألموا به وأصابوا من ذلك قبل الاسلام .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن وجه تأويل " إلا " في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك : لم يؤذن لهم في اللمم وليس هو من الفواحش ولا من كبائر الإثم وقد يستثنى الشيء من الشيء وليس منه على ضمير قد كف عنه فمجازة : إلا أن يلم بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر قال الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
واليعافير : الظباء والعيس : الإبل وليسا من الناس فكأنه قال : ليس به أنيس غير أن به ظباء وإبلاً وقال بعضهم : اليعفور من الظباء الأحمر والأعيس : الأبيض .
وقال بنحو هذا القول جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر عن الأعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال : زنى العينين : النظر ، وزنى الشفتين : التقبيل ، وزنى اليدين : البطش ، وزنى الرجلين : المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر قال وأخبرنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدركه ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
حدثني أبو السائب قال ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق في قوله إلا اللمم قال إن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا ابن علية قال : ثنا منصور بن عبد الرحمن قال : سألت الشعبي عن قول الله " يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال هو ما دون الزنى ثم ذكر لنا عن ابن مسعود قال زنى العينين : ما نظرت إليه وزنى اليد ما لمست وزنى الرجل ما مشت والتقيق بالفرج .
حدثني محمد بن معمر قال : ثنا يعقوب قال : ثنا وهيب قال : ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم بن عمرو القاري قال : ثني عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي قال : سألت أبا هريرة عن قول الله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال القبلة ، والغمزة ، والنظرة والمباشرة ، إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنى .
وقال آخرون : بل ذلك استشناء صحيح ومعنى الكلام : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إلا أن يلم بها ثم يتوب .
ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار قال : ثنا أبو عاصم قال : أخبرنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا الما
حدثني ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن منصور عن مجاهد أنه قال : في هذه الآية " إلا اللمم " قال الذي يلم بالذنب ثم يدعه وقال الشاعر
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال : ثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة أراه رفعه : " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال : اللمة من الزنى ثم يتوب ولا يعود واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود قال فتلك الإلمام .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قول الله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال اللمة من الزنى او السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود .
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قول الله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال اللمة من الزنى أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود .
حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن ابي رجاء عن الحسن في قوله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال قد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : هذا الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيخفيها فيتوب منها .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس " إلا اللمم " يلم بها في الحين قلت الزنى قال الزنى ثم يتوب .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور قال : قال معمر كان الحسن يقول في اللمم : تكون اللمة من الرجل الفاحشة ثم يتوب .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن إسماعيل عن أبي صالح قال : الزنى ثم يتوب .
قال ثنا مهران عن أبي جعفر عن قتادة عن الحسن " إلا اللمم " قال : أن يقع الوقعة ثم ينتهي .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس قال اللمم : الذي تلم المرة .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد قال : أخبرني يحيى بن أيوب عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : اللمم ما دون الشرك .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عامر قال : ثنا مرة عن عبد الله بن القاسم في قوله " إلا اللمم " قال : اللمة يلم بها من الذنوب .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قوله : " إلا اللمم " قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون
إن تغفر اللهم نغفر جما وأي عبد لك لا ألما
وقال آخرون ممن وجه معنى إلا الاستثناء المنقطع : اللمم هو دون حد الدنيا وحد الآخرة قد تجاوز الله عنه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن جابر عن عطاء عن ابن الزبير " إلا اللمم " قال : ما بين الحدين حد الدنيا وعذاب الآخرة .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن الحكم عن ابن عباس أنه قال : اللمم : ما دون الحدين حد الدنيا والآخرة .
حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية قال : أخبرنا شعبة عن الحكم بن عتيبة قال : قال ابن عباس اللمم ما دون الحدين حد الدنيا وحد الآخرة .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " قال : كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة تكفره الصلوات وهو اللمم وهو دون كل موجب فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه بالنار وأخر عقوبته إلى الآخرة .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى قال : ثنا الحسين عن زيد عن عكرمة في قوله " إلا اللمم " يقول : ما بين الحدين كل ذنب ليس فيه حد في الدنيا ولا عذاب في الآخرة فهو اللمم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " واللمم ما كان بين الحدين لم يبلغ حد الدنيا ولا حد الآخرة موجبة قد أوجب الله لأهلها النار أو فاحشة يقام عليه الحد في الدنيا .
وحدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن أبي مهران عن أبي جعفر عن قتادة قال : قال بعضهم اللمم : ما بين الحدين وحد الاخرة .
حدثنا أبو كريب و يعقوب قالا : ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس قال : اللمم ما بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان قال : قال الضحاك " إلا اللمم " قال : كل شيء بين حد الدنيا والآخرة فهو اللمم يغفره الله .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال إلا بمعنى الاستثناء المنقطع ووجه معنى الكلام إلى " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " بما دون كبائر الإثم ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا والعذاب في الآخرة فإن ذلك معفو لهم عنه وذلك عندي نظير قوله جل ثناؤه " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " ( النساء : 31) فوعد جل ثناؤه باجتناب الكبائر العفو عما دونها من السيئات وهو اللمم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم : " العينان تزينان ، واليدان تزينان ، والرجلان تزينان ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج وذلك هو العفو من الله عن عقوبة العبد عليه والله جل ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه والله جل ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم واللمم في كلام العرب : المقاربة للشيء ذكر الفراء أنه سمع العرب تقول : ضربة ما لمم القتل يريدون ضرباً مقاربا للقتل قال وسمعت من آخر ألم يفعل في معنى : كاد يفعل .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " أن ربك " يا محمد " واسع المغفرة " : واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم وإنما أعلم جل ثناؤه بقوله هذا عباده أنه يغفر اللمم بما وصفنا من الذنوب لمن اجتنب كبائر الإثم والفواحش .
كما حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " إن ربك واسع المغفرة " قد غفر ذلك لهم .
وقوله " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض " يقول تعالى ذكره : أعلم بالمؤمن منكم من الكافر والمحسن منكم من المسيء والمطيع من العاصي حين ابتدعكم من الأرض ، فأحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم يقول وحين أنتم حمل لم تولدوا منكم وأنفسكم بعدما صرتم رجالا ونساء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال هل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض " قال كنحو قوله " وهو أعلم بالمهتدين " ( الأنعام 117- النحل 125 القصص : 56 - القلم : 7 (.
وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " إذ أنشأكم من الأرض " قال : حين خلق آدم من الأرض ثم خلقكم من آدم وقرأ " وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " .
وقد بينا فيما مضى قبل معنى الجنين ولم قيل له جنين بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله " فلا تزكوا أنفسكم " يقول جل ثناؤه : فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي .
كما حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان قال سمعت زيد بن أسلم يقول : " فلا تزكوا أنفسكم " يقول : فلا تبرئوها .
وقوله " هو أعلم بمن اتقى " يقول جل ثناؤه : ربك يا محمد أعلم بمن خاف عقوبة الله فاجتنب معاصيه من عباده .
قوله تعالى " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " فيه ثلاث مسائل الأولى : قوله تعالى " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " هذا نعت للمحسنين أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك لأنه أكبر الآثام وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزةوالكسائي كبير على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك " والفواحش" الزنى وقال مقاتل " كبائر الإثم "كل ذنب ختم بالنار " والفواحش" كل ذنب فيه الحد . وقد مضى في النساء القول في هذا ثم استثنى استثناء منقطعا وهي :
المسألة الثانية فقال " إلا اللمم" وهي صغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه . وقد اختلف في معناها فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي اللمم كل ما دون الزنى وذكر مقاتل بن سليمان أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار كان له حانوت يبيع فيه تمرا فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : إن داخل الدكان ما هو خير من هذا فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع ، فقال لعل زوجها غاز فنزلت هذه الآية وقد مضى في آخر هود وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة . وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال زنى العينين النظر وزنى اليدين البطش وزنى الرجلين المشي وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج . فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما . وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما "قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " والمعنى : أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم والله أعلم . وفي رواية أبي صالح "عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه " خرجه مسلم وقد ذكر الثعلبي حديث طاووس عن ابن عباس فذكر فيه الأذن واليد والرجل وزاد فيه بعد العينين واللسان : وزنى الشفتين القبلة فهذا قول : وقال ابن عباس أيضا هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب قال ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
إن يغفر الله يغفر جما وأي عبد لك لا ألما
رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال النحاس هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا . وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل " إلا اللمم " قال هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده قال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
وكذا قال مجاهدوالحسن هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده ونحوه عن الزهري قال : اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود ، وأن يسرق أو يشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود . ودليل هذا التأويل قوله تعالى " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " الآية ثم قال : " أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم " فضمن لهم المغفرة كما قال عقيب اللمم " إن ربك واسع المغفرة " فعلى هذا التأويل يكون " إلا اللمم " استثناء متصل. قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللهم ما دون الشرك . وقيل : اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس . قاله ابن زيد وعكرمةوالضحاكوقتادة ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس . وقال الكلبي اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة . فلذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش . والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه . وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به . وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه وهو كقوله تعالى : " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " وقيل : اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة قاله نفطويه قال والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما أي في الحين بعد الحين . قال : ولا يكون أن يلم ولا يفعل ، لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله . وفي الصحاح : وألم الرجل من اللمم وه وصغائر الذنوب ، ويقال : هو مقاربة المعصية من غير مواقعة . وأنشد غير الجوهري :
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب وقل إن تملينا فما ملك القلب
أي اقرب وقال عطاء بن أبي رباح اللمم عادة النفس الحين بعد الحين وقال سعيد بن المسيب هو ما ألم على القلب أي خطر وقال محمد بن الحنفية كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم ودليل هذا التأويل "قوله عليه الصلاة والسلام : إن للشيطان لمة وللملك لمة " الحديث وقد مضى في البقرة عند قوله تعالى " الشيطان يعدكم الفقر " وقال أبو إسحاق الزجاج أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق في ولا يقيم عليه يقال : ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه ، ويقال ما فعلته إلا لمما وإلماما أي الحين بعد الحين وإنما زيارتك إلمام ومنه إلمام الخيال قال الأعشى :
ألم خيال من قتيلة بعدما وهى حبلها من حبلنا فتصرما
وقيل إلا بمعنى الواو وأنكر هذا الفراء وقال: المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب وقيل اللمم النظرة التي تكون فجأة .
قلت : هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به ، لأنه يقع من غير قصد واختيار وقد مضى في النور بيانه . واللمم أيضا طرف من الجنون ، ورجل ملموم أي به لمم . ويقال أيضا أصابت فلان لمة من الجن وهي المس والشيء القليل قال الشاعر
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن إلا كلمة حالم بخيال
الثالثة : قوله تعالى " إن ربك واسع المغفرة " لمن تاب من ذنبه واستغفر قاله ابن عباس . وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة فقلت لمن هذه فقالوا لذي الكلاع وحوشب وكانا ممن قتل بعضهم بعضا ، فقلت وكيف ذلك ؟ فقالوا إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة . فقال أبو خالد : بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت .
قوله تعالى " هو أعلم بكم " من أنفسكم "إذ أنشأكم من الأرض " يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع قال الترمذي أبو عبد الله : وليس هو كذلك عندنا ، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة . ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذرو النفوس على اختلاف هيئتها ، ثم استخرجها من صلبها على اختلاف الهيئات منهم كالدر يتلألأ وبعضهم أنور من بعض وبعضهم أسود كالحممة وبعضهم أشد سوادا من بعض ، فكان الإنشاء واقعا علينا وعليه . حدثنا عيسى بن حماد العسقلاني قال : حدثنا بشر بن بكر ، قال حدثنا الأوزاعي قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة فقال قائل يا رسول الله ومن مضى من الخلق قال نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق أحد قالوا : ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات قال نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها "
قلت وقد تقدم في أول الأنعام أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها " وإذ أنتم أجنة " جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن ، سمي جنينا لاجتنانه واستتاره قال عمرو بن كلثوم:
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقال مكحول كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقي ثم صرنا رضعا فهلك من من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا لا أبا لك فما بعد هذا ننتظر ؟ وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد "عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية "هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض " إلى آخرها " ونحوه عن عائشة كان اليهود بمثله . " فلا تزكوا أنفسكم" أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع . " هو أعلم بمن اتقى " أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله ، عن الحسن وغيره قال الحسن: قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة . وقد مضى في النساء الكلام في معنى هذه الآية عند قوله تعالى " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " فتأمله هناك . وقال ابن عباس : ما من أحد من هذه الأمة أزكيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم .
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض, وأنه الغني عما سواه الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق " ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " أي يجازي كلاً بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر, ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش, أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الاية الأخرى "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً" وقال ههنا: "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم" وهذا استثناء منقطع, لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر, وزنا اللسان النطق, والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن ثور, حدثنا معمر عن الأعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنا العينين النظر, وزنا الشفتين التقبيل, وزنا اليدين البطش, وزنا الرجلين المشي, ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه, فإن تقدم بفرجه كان زانياً وإلا فهو اللمم, وكذا قال مسروق والشعبي. وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له: ابن لبابة الطائفي قال: سألت أبا هريرة عن قول الله: "إلا اللمم" قال: القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة, فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل, وهو الزنا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إلا اللمم" إلا ما سلف وكذا قال زيد بن أسلم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور عن مجاهد أنه قال في هذه الاية: "إلا اللمم" قال: الذي يلم بالذنب ثم يدعه, قال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ؟
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قول الله تعالى: "إلا اللمم" قال: الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه. قال: وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون:
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ؟
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعاً قال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار, حدثنا أبو عاصم, حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم" قال: هو الرجل الذي يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ؟
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان أبي عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل ثم قال: هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق, وكذا قال البزار: لا نعلمه يروى متصلاً إلا من هذا الوجه, وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل, وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة تنزيل, وفي صحته مرفوعاً نظر. ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيغ, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أراه رفعه في: "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم" قال: اللمم من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود, واللمم من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود, قال: فذلك الإلمام, وحدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قوله تعالى: "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم" قال: اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود إليه.
وحدثني يعقوب, حدثنا ابن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قول الله: "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم" قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: هو الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها. وقال ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس "إلا اللمم" يلم بها في الحين قلت: الزنا ؟ قال: الزنا ثم يتوب. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: اللمم, الذي يلم المرة. وقال السدي: قال أبو صالح سئلت عن اللمم فقلت: هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب, وأخبرت بذلك ابن عباس فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم, حكاه البغوي وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح ـ وهو ضعيف ـ عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو قال: اللمم ما دون الشرك, وقال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن عطاء عن ابن الزبير "إلا اللمم" قال: ما بين الحدين حد الدنيا وعذاب الاخرة, وكذا رواه شعبة عن الحكم عن ابن عباس مثله سواء. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: "إلا اللمم" كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الاخرة, تكفره الصلوات فهو اللمم, وهو دون كل موجب, فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا, وأما حد الاخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وأخر عقوبته إلى الاخرة. وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك.
وقوله تعالى: "إن ربك واسع المغفرة" أي رحمته وسعت كل شيء ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها كقوله تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم" وقوله تعالى: "هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض" أي هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر عنكم, وتقع منكم حين أنشأ أباكم من الأرض, واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ثم قسمهم فريقين: فريقاً للجنة وفريقاً للسعير. وكذا قوله: "وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم" قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ؟ قال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط, وكنا فيمن بقي ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك, وكنا فيمن بقي ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك, وكنا فيمن بقي ثم صرنا شباباً فهلك منا من هلك, وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخاً لا أبالك فماذا بعد هذا ننتظر ؟ رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله تعالى: "فلا تزكوا أنفسكم" أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم "هو أعلم بمن اتقى" كما قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً". وقال مسلم في صحيحه: حدثنا عمرو الناقد, حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم" فقالوا: بم نسميها ؟ قال: "سموها زينب" وقد ثبت أيضاً في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مراراً ـ إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً, أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك" ثم رواه عن غندر عن شعبة عن خالد الحذاء به, وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من طرق عن خالد الحذاء به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا: أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه قال: فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب. ورواه مسلم وأبو داوود من حديث الثوري عن منصور به.
ثم وصف هؤلاء المحسنين فقال: 32- "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش" فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأول في قوله: "الذين أحسنوا" وقيل بدل منه، وقيل بيان له، وقيل منصوب على المدح بإضمار أعني، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم يجتنبون كبائر الإثم. قرأ الجمهور كبائر على الجمع. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب "كبير" على الإفراد، والكبائر: كل ذنب توعد الله عليه بالنار، أو ذم فاعله ذماً شديداً، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل. وكما اختلفوا في تحقيق معناها وما هيتها اختلفوا في عددها، والفواحش جمع فاحشة: وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا ونحوه. وقال مقاتل: كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه الحد. وقيل الكبائر الشرك والفواحش الزنا، وقد قدمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة، والاستثناء بقوله: "إلا اللمم" منقطع، وأصل اللمم في اللغة ما قل وضغر، ومنه: ألم بالمكان قل لبثه فيه وألم بالطعام قل أكله منه. قال المبرد: أصل اللم أن تلم بالشيء من غير أن تركبه: يقال ألم بكذا إذا قاربه ولم يخالطه. قال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب، ومنه قول جرير:
بنفسي من تجنبه عزيز علي ومن زيارته لمام
وقول الآخر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً
قال الزجاج: أصل للمم والإلمام ما يعلمه الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه، يقال ألممت به: إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال ما فعلته إلا لماماً وإلماماً: أي الحين بعد الحين، ومنه إلمام الخيال. قال الأعمش:
ألم خيال من قبيلة بعد ما وهي حبلها من حبلنا فتصرما
قال في الصحاح: ألم الرجل من ألمم وهو صغائر الذنوب، ويقال هو مقاربة المعصية من غير مواقعة، وأنشد غيره:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب وقل أن تملينا فما ملك القلب
وقد اختلفت أقوال أهل العمل في تفسير هذا اللم المذكور في الآية، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب، وقيل هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة، وقيل هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب، وبه قال مجاهد والحسن والزهري وغيرهم، ومنه:
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك إلا ألما
اختار هذا القول الزجاج والنحاس، وقيل هو ذنوب الجاهلية، فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام، وقال نفطويه: هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة. قال: والعرب تقول: ما تأتينا إلا إلماماً: أي في الحين بعد الحين. قال: ولا يكون أن يلم ولا يفعل، لأن الفعرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل، لا إذا هم ولم يفعل، والراجح الأول، وجملة "إن ربك واسع المغفرة" تعليل لما تضمنه الاستثناء: أي إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة فليس يخلو عن كونه ذنباً يفتقر إلى مفغرة الله ويحتاج إلى رحمته، وقيل إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه. ثم ذكر سبحانه إحاطة عمله بأحوال عباده فقال/ "هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض" أي خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم وقيل المراد آدم فإنه خلقه من طين "وإذ أنتم أجنة" أي هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة، والأجنة جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن سمي بذلك لاجتنانه: أس استتاره، ولهذا قال: "في بطون أمهاتكم" فلا يسمى من خرج عن البطن جنيناً، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها "فلا تزكوا أنفسكم" أي لا تمدحوها ولا تبرؤوها عن الآثام ولا تثنوا عليها، فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع، وجملة "هو أعلم بمن اتقى" مستأنفة مقررة للنهي: أي هو أعلم بمن اتقى عقوبة الله وأخلص العمل له. قال الحسن: وقد علم سبحانه من كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة.
32. ثم وصفهم فقال: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم "، اختلفوا في معنى الآية، فقال قوم: هذا استثناء صحيح، واللمم من الكبائر والفواحش، ومعنى الآية، إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة [و مجاهد ، و الحسن ]، ورواية عطاء عن ابن عباس.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك.
وقال السدي قال أبو صالح : سئلت عن قول الله تعالى: ((إلا اللمم)) فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: لقد أعانك ملك كريم.وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله: ((إلا اللمم))، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما ".
وأصل ((اللمم والإلمام)): ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين، ولا يكون إعادة، ولا إقامة.
وقال آخرون: هذا استثناء منقطع، مجازه: لكن اللمم، ولم يجعلوا اللمم من الكبائر والفواحش، ثم اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا؟ فأنزل الله هذه الآية. وهذا قول زيد بن ثابت، و زيد بن أسلم .
وقال بعضهم: هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا، وهو قول ابن مسعود، وأبي هريرة، و مسروق ، و الشعبي ، ورواية طاووس عن ابن عباس.
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، لأ محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمود بن غيلان ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه ".
ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد: " العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد [زناها] البطش، والرجل زناها الخطى ".
وقال الكلبي : ((اللمم)) على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش، والوجه الآخر هو: الذنب العظيم يلم به المسلم المة بعد المرة فيتوب منه.
وقال سعيد بن المسيب : هو ما لم على القلب أي خطر.
وقال الحسين بن الفضل : ((اللمم)) النظرة من غير تعمد، فهو مغفور، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب.
" إن ربك واسع المغفرة "، قال ابن عباس: لمن فعل ذلك وتاب، تم الكلام ها هنا، ثم قال: " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض "، أي خلق أباكم آدم من التراب، " وإذ أنتم أجنة "، جمع جنين، سمي جنيناً لاجتنانه في البطن، " في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم "، قال ابن عباس: لا تمدحوها. قال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة، فلا تزكوا أنفسكم، لا تبرؤوها عن الآثام، ولا تمدحوها بحسن أعمالها.
قال الكلبي و مقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية " هو أعلم بمن اتقى "، أي: بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى.
32-" الذين يجتنبون كبائر الإثم " ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه .وقيل ما أوجب الحد . وقرأ حمزة و الكسائي و خلف كبير الإثم على إرادة الجنس أو الشرك" والفواحش " ما فحش من الكبائر خصوصاً . " إلا اللمم " إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر ، والاستثناء منقطع ومحل " الذين " النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف " إن ربك واسع المغفرة"حيث يغفرالصغائر باجتناب الكبائر ، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ،ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأش صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى " هو أعلم بكم " أعلم بأحوالكم منكم " إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " علم بأحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام ." فلا تزكوا أنفسكم " فلا تثنوا عليها بزكاة العمل وزيادة الخير ، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل " هو أعلم بمن اتقى " فإنه يعلم التقى وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام .
32. Those who avoid enormities of sin and abominations, save the unwilled offences (for them) lo! thy Lord is of vast mercy. He is best aware of you (from the time) when He created you from the earth, and when ye were hidden in the bellies of your mothers. Therefor ascribe not purity unto yourselves. He is best aware of him who wardeth off (evil).
32 - Those who avoid great sins and shameful deeds, only (falling into) small faults, verily thy Lord is ample in forgiveness. He knows you well when He brings you out of the earth, and when ye are hidden in your mothers' wombs. Therefore justify not yourselves; He knows best who it is that guards against evil.