(ومن يفعل ذلك) أي ما نهي عنه (عدوانا) تجاوزا للحلال حال (وظلما) تأكيد (فسوف نصليه) ندخله (نارا) يحترق فيها (وكان ذلك على الله يسيرا) هينا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ومن يفعل ذلك عدوانا".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن يقتل نفسه، بمعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن، "عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت قوله: "ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا"، في كل ذلك، أو في قوله: "ولا تقتلوا أنفسكم"؟ قال: بل في قوله: "ولا تقتلوا أنفسكم".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يفعل ما حرمته عليه من أول هذه السورة إلى قوله: "ومن يفعل ذلك"، من نكاح من حرمت نكاحه، وتعدي حدوده، وأكل أموال الأيتام ظلماً، وقتل النفس المحرم قتلها ظلماً بغير حق.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يأكل مال أخيه المسلم ظلماً بغير طيب نفس منه، وقتل أخاه المؤمن ظلماً، فسوف نصليه ناراً.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معناه: ومن يفعل ما حرم الله عليه، من قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" [النساء: 19] إلى قوله: "ومن يفعل ذلك"، من نكاح المحرمات، وعضل المحرم عضلها من النساء، وأكل المال بالباطل، وقتل المحرم قتله من المؤمنين، لأن كل ذلك مما وعد الله عليه أهله العقوبة.
فإن قال قائل: فما منعك أن تجعل قوله "ذلك"، معنياً به جميع ما أوعد الله عليه العقوبة من أول السورة؟
قيل: منعني ذلك: أن كل فصل من ذلك قد قرن بالوعيد إلى قوله: "أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما" [النساء: 18]، ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرم الله في الآي التي بعده إلى قوله: "فسوف نصليه نارا". فكان قوله: "ومن يفعل ذلك" -معنياً به ما قلنا، مما لم يقرن بالوعيد، مع إجماع الجميع على أن الله تعالى قد توعد على كل ذلك- أولى من أن يكون معنياً به ما سلف فيه الوعيد بالنهي مقروناً قبل ذلك.
وأما قوله: "عدوانا"، فإنه يعني به تجاوزاً لما أباح الله له، إلى ما حرمه عليه، "وظلما"، يعني: فعلاً منه ذلك بغير ما أذن الله به، وركوباً منه ما قد نهاه الله عنه، وقوله: "فسوف نصليه نارا"، يقول: فسوف نورده ناراً يصلى بها فيحترق فيها، "وكان ذلك على الله يسيرا" يعني: وكان إصلاء فاعل ذلك النار وإحراقه بها، على الله سهلاً يسيراً، لأنه لا يقدر على الامتناع على ربه مما أراد به من سوء. وإنما يصعب الوفاء بالوعيد لمن توعده، على من كان إذا حاول الوفاء به قدر المتوعد من الامتناع منه. فأما من كان في قبضة موعده، فيسير عليه إمضاء حكمه فيه، والوفاء له بوعيده، غير عسير عليه أمر أراده به.
ذلك إشارة إلى القتل، لأنه أقرب مذكر قاله عطاء: وقيل: هو عائد إلى أكل لمال بالباطل وقتل النفس ، لأنه النهي عنهما جاء متسقاً مسروداً ثم ورد الوعيد حسب النهي وقيل: هو عام على كل ما نهي عنه من القضايا، من أول السورة إلى قوله تعالى : " ومن يفعل ذلك " وقال الطبري: ذلك عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعبد، إلا من قوله :" يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم " فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : " ومن يفعل ذلك عدوانا" والعدوان تجاوز الحد. والظلم وضع الشيء في غير موضعه وقد تقدم وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط وذكر العدوان والظلم مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما، وحسن ذلك في الكلام كما قال:
وألفى قولها كذبا ومينا
وحسن العطف لاختلاف اللفظين يقال: بعداً وسحقاً ومنه قول يعقوب : " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " [ يوسف:86] فحسن ذلك لاختلاف اللفظ و" نصليه " معناه نمسه حرها وقد بينا معنى الجمع بين هذه الآي وحديث أبي سعيد الخدري في العصاة وأهل الكبائر لمن أنفذ عليه الوعيد ، فلا معنى لإعادة ذلك وقرأ الأعمش والنخعي نصليه بفتح النون، وعلى أنه منقول من صلي ناراً، أي أصليته، وفي الخبر شاة مصلية ومن ضم النون منقول بالهمزة مثل طعمت وأطعمت .
(ذكر أقوال السلف في ذلك)
قد تقدم ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ضمن الأحاديث المذكورة, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية عن ابن عون, عن الحسن, أن أناساً سألوا عبد الله بن عمرو بمصر, فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله عز وجل أمر أن يعمل بها لا يعمل بها, فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك, فقدم وقدموا معه, فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: متى قدمت ؟ فقال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت ؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال: يا أمير المؤمنين, إن ناساً لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها, فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال: فاجمعهم لي. قال: فجمعتهم له. قال ابن عون: أظنه قال: في بهو, فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك, أقرأت القرآن كله ؟ قال: نعم. قال: فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال: اللهم لا. قال: ولو قال: نعم, لخصمه. قال: فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم قال: فثكلت عمر أمه, أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله, قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات, قال: وتلا "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" الاية. ثم قال: هل علم أهل المدينة ؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم, إسناد حسن ومتن حسن وإن كان من رواية الحسن عن عمر, وفيها انقطاع إلا أن مثل هذا اشتهر, فتكفي شهرته. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري, حدثنا علي بن صالح عن عثمان بن المغيرة, عن مالك بن جوين, عن علي رضي الله عنه. قال: الكبائر الإشراك بالله, وقتل النفس, وأكل مال اليتيم, وقذف المحصنة, والفرار من الزحف, والتعرب بعد الهجرة, والسحر, وعقوق الوالدين, وأكل الربا, وفراق الجماعة, ونكث الصفقة. وتقدم عن ابن مسعود أنه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله, واليأس من روح الله, والقنوط من رحمة الله, والأمن من مكر الله عز وجل. وروى ابن جرير من حديث الأعمش عن أبي الضحى, عن مسروق والأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, كلاهما عن ابن مسعود, قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها, ومن حديث سفيان الثوري وشعبة عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان, حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا صالح بن حيان عن ابن بريدة, عن أبيه, قال: أكبر الكبائر الشرك بالله, وعقوق الوالدين, ومنع فضول الماء بعد الري, ومنع طروق الفحل إلا بجعل.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ", وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل" وذكر تمام الحديث. وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده مرفوعاً "من منع فضل الماء وفضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي, حدثنا أبو أحمد عن سفيان, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, عن عائشة, قالت: ما أخذ على النساء من الكبائر, قال ابن أبي حاتم: يعني قوله تعالى: "على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن" الاية, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة, قال: أتينا أنس بن مالك فكان فيما حدثنا قال: لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى لم نخرج له عن كل أهل ومال, ثم سكت هنيهة ثم قال: والله لما كلفنا ربنا أهون من ذلك لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر فما لنا ولها, وتلا "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الاية.
أقوال ابن عباس في ذلك
روى ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه, عن طاوس, قال: ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا: هي سبع, فقال: هي أكثر من سبع وسبع, قال: فلا أدري كم قالها من مرة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان عن ليث عن طاوس, قال: قلت لابن عباس: ما السبع الكبائر ؟ قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. ورواه ابن جرير عن ابن حميد, عن جرير, عن ليث, عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ؟ قال: هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن طاوس عن أبيه قال: قيل لابن عباس: الكبائر سبع ؟ قال: هن إلى السبعين أقرب, وكذا قال أبو العالية الرياحي رحمه الله. وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا شبل عن قيس بن سعد, عن سعيد بن جبير: أن رجلاً قال لابن عباس: كم الكبائر سبع ؟ قال: هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع, غير أنه لا كبيرة مع استغفار, ولا صغيرة مع إصرار, وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شبل به, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب, رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا ابن فضيل, حدثنا شبيب عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: الكبائر كل ما وعد الله عليه النار كبيرة, وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية, أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين, قال: نبئت أن ابن عباس كان يقول: كل ما نهى الله عنه كبيرة, وقد ذكرت الطرفة, قال: هي النظرة, وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن حازم, أخبرنا أبو نعيم, حدثنا عبدالله بن معدان عن أبي الوليد, قال: سألت ابن عباس عن الكبائر, فقال كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة.
(أقوال التابعين)
قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية عن ابن عون, عن محمد, قال: سألت عبيدة عن الكبائر فقال: الإشراك بالله, وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها, وفرار يوم الزحف, وأكل مال اليتيم بغير حقه, وأكل الربا, والبهتان. قال: ويقولون: أعرابية بعد هجرة, قال ابن عون: فقلت لمحمد: فالسحر ؟ قال: إن البهتان يجمع شراً كثيراً. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي, حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم, عن أبي إسحاق, عن عبيد بن عمير, قال: الكبائر سبع, ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله, الإشراك بالله منهن "ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح" الاية, و "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً" الاية, و "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" " الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ", والفرار من الزحف "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً" الاية, والتعرب بعد الهجرة "إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى", وقتل المؤمن "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها" الاية, وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضاً في حديث أبي إسحاق عن عبيد بن عمير بنحوه. وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن عطاء يعني ابن أبي رباح, قال: الكبائر سبع: قتل النفس, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, ورمي المحصنة, وشهادة الزور, وعقوق الوالدين, والفرار من الزحف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا جرير عن مغيرة, قال: كان يقال: شتم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الكبائر. قلت: وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة, وهو رواية عن مالك بن أنس رحمه الله. وقال محمد بن سيرين: ما أظن أحداً ينتقص أبا بكر وعمر وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, رواه الترمذي. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عبدالله بن عياش, قال زيد بن أسلم في قول الله عز وجل "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" من الكبائر: الشرك بالله, والكفر بآيات الله ورسله, والسحر, وقتل الأولاد, ومن دعى لله ولداً أو صاحبة ـ ومثل ذلك من الأعمال والقول الذي لا يصلح معه عمل. وأما كل ذنب يصلح معه دين, ويقبل معه عمل, فإن الله يغفر السيئات بالحسنات. وقال ابن جرير: حدثنا بشر بن معاذ, حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الاية: إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر، وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اجتنبوا الكبائر, وسددوا, وأبشروا" وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس وعن جابر مرفوعاً "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي", ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف, إلا ما رواه عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ثابت, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين. وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفرداً به من هذا الوجه عن عباس العنبري, عن عبد الرزاق, ثم قال: هذا حديث حسن صحيح, وفي الصحيح شاهد لمعناه وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة "أترونها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للخاطئين المتلوثين" وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة, فمن قائل: هي ما عليه حد في الشرع, ومنهم من قال: هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنة, وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي في كتابه الشرح الكبير الشهير في كتاب الشهادات منه: ثم اختلف الصحابة رضي الله عنهم, فمن بعدهم في الكبائر وفي الفرق بينها وبين الصغائر, ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه (أحدها) أنها المعصية الموجبة للحد. (والثاني) أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة, وهذا أكثر ما يوجد لهم, وهو إلى الأول أميل, لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر. (والثالث) قال إمام الحرمين في الإرشاد وغيره: كل جريمة تنبىء بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة, فهي مبطلة للعدالة. (والرابع) ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره, وترك كل فريضة مأمور بها على الفور والكذب في الشهادة والرواية واليمين, هذا ما ذكروه على سبيل الضبط, ثم قال: وفصل القاضي الروياني فقال: الكبائر سبع: قتل النفس بغير الحق, والزنا, واللواطة, وشرب الخمر, والسرقة, وأخذ المال غصباً, والقذف, وزاد في الشامل على السبع المذكورة: شهادة الزور, وأضاف إليها صاحب العدة: أكل الربا والإفطار في رمضان بلا عذر, واليمين الفاجرة, وقطع الرحم, وعقوق الوالدين, والفرار من الزحف, وأكل مال اليتيم, والخيانة في الكيل والوزن, وتقديم الصلاة على وقتها, وتأخيرها عن وقتها بلا عذر, وضرب المسلم بلا حق, والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً, وسب أصحابه, وكتمان الشهادة بلا عذر, وأخذ الرشوة, والقيادة بين الرجال والنساء, والسعاية عند السلطان, ومنع الزكاة,. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة, ونسيان القرآن بعد تعلمه, وإحراق الحيوان بالنار, وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب, واليأس من رحمة الله, والأمن من مكر الله, ويقال: الوقيعة في أهل العلم, وحملة القرآن, ومما يعد من الكبائر: الظهار, وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة, ثم قال الرافعي: وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال. قلت: وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحواً من سبعين كبيرة, وإذا قيل: إن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار بخصوصها, كما قال ابن عباس وغيره وما تتبع ذلك, اجتمع منه شيء كثير, وإذا قيل كل ما نهى الله عنه فكثير جداً, والله أعلم.
قوله 30- "ومن يفعل ذلك" أي: القتل خاصة أو أكل أموال الناس ظلماً والقتل عدواناً وظلماً، وقيل: هو إشارة إلى كل ما نهي عنه في هذه السورة وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم" فإنه لا وعيد بعده إلا قوله "ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً" والعدوان: تجاوز الحد. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وقيل: إن معنى العدوان والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد كما في قول الشاعر:
وألفى قولها كذباً ومينا
وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك قتل الخطأ. قوله "فسوف نصليه" جواب الشرط: أي ندخله ناراً عظيمة "وكان ذلك" أي: إصلاؤه النار "على الله يسيراً" لأنه لا يعجزه شيء. وقرئ: نصليه بفتح النون، روي ذلك عن الأعمش والنخعي، وهو على هذه القراءة منقول من صلى، ومنه شاة مصلية.
30-"ومن يفعل ذلك" ، يعني : ما سبق ذكره من المحرمات،"عدواناً وظلماً" ، فالعدوان مجاوزة الحد ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ،"فسوف نصليه"، ندخله في الآخرة،"ناراً"،يصلى فيها، "وكان ذلك على الله يسيراً"، هيناً.
30" ومن يفعل ذلك " إشارة إلى القتل، أو ما سبق من المحرمات . " عدوانا وظلما " إفراطاً في التجاوز عن الحق وإتياناً بما لا يستحقه. وقيل أراد بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب. " فسوف نصليه نارا " ندخله إياها. وقرئ بالتشديد من صلى، وبفتح النون من صلاه يصليه. ومنه شاة مصلية، ويصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث أنه سبب الصلي. " وكان ذلك على الله يسيرا " لا عسر فيه ولا صارف عنه.
30. Whoso doeth that through aggression and injustice, We shall cast him into Fire, and that is ever easy for Allah.
30 - If any do that in rancour and injustice, soon shall we cast them into the fire: and easy it is for God.