ماكثين فيه أبدا) هو الجنة
وقوله " ماكثين فيه أبداً " خالدين ، لا ينتقلون عنه ، ولا ينقلون ، ونصب ماكثين على الحال من قوله " أن لهم أجراً حسناً " في هذه الحال في حال مكثهم في ذلك الأجر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن اسحاق ويبشر المؤمنين انذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً "ماكثين فيه أبداً " : أي في دار خلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به عن الله ، وعملوا بما أمرتهم .
قوله تعالى : " ماكثين فيه أبدا " أي دار الخلد لا يموتون فيها ، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال . " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " يعني قريشاً في قولهم : إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله . " ما لهم به من علم ولا لآبائهم " الذين أعظموا فراهم وعيب دينهم . " كبرت كلمة تخرج من أفواههم " أي لقولهم إن الملائكة بنات الله . " إن يقولون إلا كذبا * فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " لحزنه عليه حين فاته ما كان يرجوه منهم ، أي لا تفعل . قال ابن هشام : ( باخع نفسك ) مهلك نفسك ، فيما حدثني أبو عبيدة . قال ذو الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه بشء نحته عن يديه المقادر
وجمعها باخعون بخعة . وهذا البيت في قصيدة له . وتقول العرب : قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له . " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا" قال ابن إسحاق : أي أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي . " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلى فأجزي كلا بعلمه ، فلا تأسى ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها . وقال ابن هشام : الصعيد وجه الأرض ، وجمعه صعد . قال ذو الرمة يصف ظبياً صغيراً .
كأنه بالضحا ترممي الصعيد به دبابة عظام الرأس خرطوم
وهذا البيت في قصيدة له . والصعيد أيضاً : الطريق، وقد جاء في الحديث" إياكم والقعود على الصعدات " يريد الطرق . والجزر : الأرض التي لا تنبت شيئاً ، وجمعها أجراز . ويقال : سنة جرز وسنون أجراز ، وهي التي لا يكون فيها مطر . وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة . قال ذو الرمة يصف إبلاً :
طوى النحز والأجراز ما في بطونها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع قال ابن إسحاق : ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال : " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا" أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك . قال ابن هشام : والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم ، وجمعه رقم . قال العجاج:
ومستقر المصحف المرقم وهذا البيت في أرجوزة له قال ابن إسحاق : ثم قال " إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا * فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " .ثم قال : " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " أي بصدق الخبر " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " أي لم يشركوا بي أشركتم بي ما ليس لكم به علم . قال ابن هشام : والشطط الغلو وجاوزة الحق . قال أعشى بن قيس بن ثعلبة :
أتنتهون ولا ينهي ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن إسحاق " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين " قال ابن إسحاق : أي بحجة بالغة . " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا * وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا * وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه " قال ابن هشام : تزاور تميل ، وهو من الزور . وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلداً :
جدب المندى عن هوانا أزور ينضي المطايا خمسة العشنزر
وهذان البيتان في أرجوزة له . و( تقرضهم ذات الشمال ) تجاوزهم وتتركهم عن شمالها . قال ذو الرمة :
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالاً وعن أيمانهن الفوارس
وهذا لبيت في قصيدة له . والفجوة : السعة ، وجمعها الفجاء . قال الشاعر :
ألبس قومك محزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
" ذلك من آيات الله " أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم . " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا * وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " قال ابن هشام : الوصيد الباب . قال العبسي واسمه عبد بن وهب :
بأرض فلاة لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منك
وهذا البيت في أبيات له . والوصيد أيضاً الفناء وجمعه وصائد ووصد ووصدان . " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا" إلى قوله : " قال الذين غلبوا على أمرهم " أهل السلطان والملك منهم " لنتخذن عليهم مسجدا * سيقولون " يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم . " ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم " أي لا تكابرهم " إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " فإنهم لا علم لهم بهم . " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " أي لا تقولن لشيء سالوك عنه كما قلت في هذا إني مخركم غدا واستثن مشيئة الله ، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " أي سيقولون ذلك " قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا " أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه .
قلت : هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه . ويأتي خبر ذي الرنين ، ثم نعود غلى أول السورة فنقول : قد تقدم معنى الحمد لله . وزعم الأخفش و الكسائي و الفراء و أبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديماً وتأخيراً ، وأن المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً . و(قيماً) نصب على الحال . وقال قتادة : الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير ، ومعناه : ولم يجعل له عوجاً ولكن جعلناه قيماً . وقول الضحاك فيه حسن ، وأن المعنى : مستقيم ، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض .وقيل : ( قيماً ) على الكتب السابقة يصدقها . وقيل : ( قيماً) بالحجج أبداً . ( عوجاً ) مفعول به ، والعوج ( بكسر العين ) في الدين والرأي والأمر والطريق . وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار ، وقد تقدم . وليس في القرآن عوج ، أي عيب ، أي ليس متناقضاً مختلفاً ، كما قال تعالى : " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " [ النساء : 82] وقيل : أي لم يجعله مخلوقا ً ، كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى : " قرآنا عربيا غير ذي عوج " [ الزمر : 28] قال : غير مخلوق . وقال مقاتل : ( عوجاً ) اختلافاً . قال الشاعر :
أدوم بودي للصديق تكرماً ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
" لينذر بأسا شديدا " أي لينذر محمد أو القرآن . وفيه إضمار ، أي لينذر الكافرين عقاب الله . وهذا أبو بكر عن عاصم ( من لدنه ) بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، والهاء موضولة بياء . الباقون ( لدنه ) بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء . قال الجوهري : وفي ( لدن ) ثلاث لغات : لدن ، ولدى ، ولد . وقال :
من لد لحييه إلى منحوره المنحور لغة في المنحر .
قوله تعالى : " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم " أي بأن لهم " أجرا حسنا " وهي الجنة : " ماكثين " دائمين . " فيه أبدا " لاإلى غاية وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في ( بأن ) والأجر الحسن : الثواب العظيم الذي يؤدي إلتى الجنة .
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها, فإنه المحمود على كل حال, وله الحمد في الأولى والاخرة, ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه, فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ, بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحاً بيناً جلياً نذيراً للكافرين, بشيراً للمؤمنين, ولهذا قال: "ولم يجعل له عوجاً" أي لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا ميلاً, بل جعله معتدلاً مستقيماً ولهذا قال: "قيماً" أي مستقيما "لينذر بأساً شديداً من لدنه" أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ينذره بأساً شديداً عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى "من لدنه" أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد, ولا يوثق وثاقه أحد "ويبشر المؤمنين" أي بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح "أن لهم أجراً حسناً" أي مثوبة عند الله جميلة "ماكثين فيه" في ثوابهم عند الله, وهو الجنة خالدين فيه "أبداً" دائماً لا زوال له ولا انقضاء.
وقوله: "وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً" قال ابن إسحاق : وهم مشركو العرب في قولهم نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله " ما لهم به من علم " أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه " ولا لآبائهم " أي لأسلافهم "كبرت كلمة" نصب على التمييز تقديره كبرت كلمتهم هذه كلمةً. وقيل: على التعجب تقديره أعظم بكلمتهم كلمة, كما تقول: أكرم بزيد رجلاً, قاله بعض البصريين, وقرأ ذلك بعض قراء مكة: كبرت كلمة, كما يقال عظم قولك وكبر شأنك, والمعنى على قراءة الجمهور أظهر, فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم, ولهذا قال: "كبرت كلمة تخرج من أفواههم" أي ليس لها مستند سوى قولهم, ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم, ولهذا قال: "إن يقولون إلا كذبا" وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة, فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة, فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله, فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء, فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصفوا لهم أمره وبعض قوله, وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا, قال: فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن, فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل, وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم, فإنهم قد كان لهم حديث عجيب ؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه, وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه, وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم, فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد, قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها, فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا, فسألوه عما أمروهم به, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبركم غدا عما سألتم عنه" ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً, ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً, واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها, لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة, ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف, فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف, وقول الله عز وجل "ويسألونك عن الروح ؟ قل الروح" الاية.
حال كونهم 3- "ماكثين فيه" أي في ذلك الأجر "أبداً" أي مكثاً دائماً لا انقطاع له، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار.
3 - " ماكثين فيه أبداً " أي : مقيمين فيه
3."ماكثين فيه"في الأجر ."أبداً"بلا انقطاع.
3. Wherein they will abide for ever;
3 - Wherein they shall remain for ever: