29 - (إني أريد أن تبوء) ترجع (بإثمي) بإثم قتلي (وإثمك) الذي ارتكبته من قبل (فتكون من أصحاب النار) ولا أريد أن أبوء بإثمك إذا قتلتك فأكون منهم ، قال تعالى (وذلك جزاء الظالمين)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم : معناه : إني أريد أن تبوأ بإثمي من قتلك إياي ، لاثمك في معصيتك الله ، وغير ذلك من معاصيك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون ، قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في حديثه ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، يقول : إثم قتلي ، إلى إثمك الذي في عنقك ، "فتكون من أصحاب النار".
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، يقول : بقتلك إياي ، وإثمك قبل ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، قال : بإثم قتلي وإثمك.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، يقول : إني أريد أن يكون عليك.خطيئتك ودمي ، تبوء بهما جميعاً.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان ، عن منصور، عن مجاهد: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، يقول : إني أريد أن تبوء بقتلك إياي ، "وإثمك"، قال: بما كان منك قبل ذلك.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثني عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، قال أما "إثمك"، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس - يعني أخاه - وأما إثمه، فقتله أخاه.
وكان قائلي هذه المقالة، وجهوا تأويل قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، إلى: إني أريد أن تبوأ بإثم قتلي، فحذف القتل واكتفى بذكر الإثم، إذ كان مفهوماً معناه عند المخاطبين به.
وقال آخرون : معنى ذلك : إني أريد أن تبوء بخطيئتي ، فتتحمل وزرها، وإثمك في قتلك إياي.
وهذا قول وجدته عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطاً، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك "، يقول : إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعاً.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي ، وذلك هو معنى قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي "، وأما معنى : "وإثمك"، فهو إثمه بغير قتله ، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمال سواه.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل عليه.لأن الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه. وإذا كان ذلك حكمه في خلقه ، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذاً بها القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه ، دون ما ركبه قتيله.
فإن قال قائل : أو ليس قتل المقتول من بني آدم كان معصمة لله من القاتل؟ قيل : بلى، وأعظم بها معصية! فإن قال : فإذا كان لله جل وعز معصية، فكيف جاز أن يريد ذلك منه المقتول ، ويقول : " إني أريد أن تبوء بإثمي "، وقد ذكرت أن تأويل ذلك ، إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟
قيل : معناه : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني ، لأني لا أقتلك ، فإن أنت قتلتني ، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو إذا قتله ، فهو لا محالة باء به في حكم الله ، فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول في الخطأ.
ويعني بقوله : "فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين"، ويقول : فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم ، ووقود النار المخلدين فيها، "وذلك جزاء الظالمين"، يقول : والنار ثواب التاركين طريق الحق ، الزائلين عن قصد السبيل ، المتعدين ما جعل لهم إلى ما لم يجعل لهم.
وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض ، ووعد وأوعد.
ولولا ذلك ما قال المقتول للقاتل: "فتكون من أصحاب النار"، بقتلك إياي ، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. فكان مجاهد يقول : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة، من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
حدثنا بذلك القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قال مجاهد ذلك -قال : وقال عبد الله بن عمرو: وإنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب ، عليه شطر عذابهم.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو، خبر.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، وحدثنا سفيان قال ، حدثنا جرير وأبو معاوية،ح، وحدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع ، جميعاً، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق ، عن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، ذلك بأنه أول من سن القتل.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، ح ، وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن ، جميعاً، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حسن بن صالح ، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي قال : ما من مقتول يقتل ظلماً، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن حكيم بن حكيم : أنه حدث عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول : إن أشقى الناس رجلاً، لأبن آدم الذي قتل أخاه ، ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شيء ، وذلك أنه أول من سن القتل.
قال أبو جعفر: وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مبين عن أن القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع ، إنهما ليسا بابني آدم لصلبه ، ولكنهما رجلان من بني اسرائيل ، وأن القول الذي حكي عنه : أن أول من مات آدم ، وأن القربان الذي كانت النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه : أنه أول من سن القتل. وقد كان ، لا شك ، القتل قبل إسرائيل ، فكيف قبل ذريته ! فخطأ من القول أن يقال : أول من سن القتل رجل من بني إسرائيل.
وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال : هو ابن آدم لصلبه ، لأنه أول من سن القتل ، فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثانية -قوله تعالى :" إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " قيل معناه معنى" قول النبي صلى الله عليه وسلم
إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القتل فما بال المقتول ؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " وكأن هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك فالإثم الذي كان يحلقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي وقيل المعنى بإثمي الذي يختص بي فيما فرطت أي يؤخذ من سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي وتبوء بإثمك في قتلك، وهذا يعضده "قوله عليه الصلاة :
يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه " أخرجه مسلم بمعناه وقد تقدم ويعضده قوله تعالى :" وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " [العنكبوت :13] وهذا بين لا إشكال فيه وقيل : المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى :" وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " [ النحل: 15] أي لئلا تميد بكمن وقوله تعالى :" يبين الله لكم أن تضلوا "[ النساء: 176] أي لئلا تضلوا فحذف لا .
قلت : وهذا ضعيف "لقوله عليه السلام :
لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل "فثبت بهذا أن إثم القتل ولهذا قال أكثر العلماء: إن المعنى ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي قال الثعلبي: هذا قول عامة أكثر المفسرين وقيل: هو استفهام أي أو إني أريد على جهة الإنكار كقوله تعالى : " وتلك نعمة "[الشعراء: 22] أي أو تلك نعمة وهذا لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري وسئل أول الحسن بن كيسان : كيف يريد المؤمن أن يأثم وأن يدخل النار فقال إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل والمعنى: لئن بسطت إلى يدك لتقتلني لأمتنعن من ذلك مريداً للثواب فقيل له : فكيف قال : بإثمي وإثمك وأي إثم له إذا قتل : فقال : فيه ثلاثة أجوبه أحدها -أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من أجل لم يتقبل قربانك ويروى هذا القول عن مجاهد والوجه الآخر أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك عليه لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل والوجه الثالث أنه لو بسط يده إليه أثم فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك فإثمه يرجع صاحبه فصار هذا مثل قولك: المال بينه وبين زيد أي المال بينهما فالمعنى أن تبوء بإثمنا وأصل باء رجع إلى المباءة وهي المنزل " وباءوا بغضب من الله " [ البقرة : 61] أي رجعوا وقد مضى في البقرة مستوفى وقال الشاعر :
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محارمنا لا يبؤ الدم بالدم
أي لا يرجع الدم بالدم في القود " فتكون من أصحاب النار " دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد: وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل " فتكون من أصحاب النار " على أنه كان كافراً لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية ومعنى " من أصحاب النار " مدة كونك فيها والله أعلم .
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور, وهما قابيل وهابيل كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله, بغياً عليه وحسداً له, فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل, ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة, وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين, فقال تعالى: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق", أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم, وهما هابيل وقابيل, فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف .
وقوله "بالحق" أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب, ولا وهم ولا تبديل, ولا زيادة ولا نقصان, كقوله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق". وقوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " وقال "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق", وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف, أن الله تعالى: شرع لادم عليه السلام, أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال, ولكن قالوا: كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى, فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر, وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة, فأراد أن يستأثر بها على أخيه, فأبى آدم ذلك, إلا أن يقربا قرباناً, فمن تقبل منه فهي له, فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل, فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه .
ذكر أقوال المفسرين ههنا
قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك, وعن أبي صالح عن ابن عباس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية, فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر, ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر, حتى ولد له ابنان يقال لهما: هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع, وكان هابيل صاحب ضرع, وكان قابيل أكبرهما, وكان له أخت أحسن من أخت هابيل, وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل, فأبى عليه, وقال هي أختي ولدت معي, وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها, فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى, وأنهما قربا قرباناً إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية, وكان آدم عليه السلام قد غاب عنهما, أتى مكة ينظر إليها, قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض ؟ قال: اللهم لا . قال: إن لي بيتاً في مكة, فأته, فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت, وقال للأرض فأبت, وقال للجبال فأبت, فقال لقابيل, فقال: نعم, تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك, فلما انطلق آدم قربا قرباناً, وكان قابيل يفخر عليه, فقال: أنا أحق بها منك هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي, فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة, ففركها وأكلها فنزلت النار, فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي, فقال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير, فحدثني عن ابن عباس, قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها, وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة, فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة, فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي, فقال لا , أنا أحق بأختي, فقربا قرباناً فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع, فقتله, إسناد جيد, وحدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس وقوله "إذ قربا قرباناً" فقربا قربانهما, فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض, وصاحب الحرث بصبرة من طعامه, فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفاً, وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام, إسناد جيد,
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو, قال: إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر, كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم, وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً, وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه, وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان, غير طيبة بها نفسه, وإن الله عز وجل, تقبل قربان صاحب الغنم , ولم يتقبل قربان صاحب الحرث, وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه, قال: وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه, وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان, كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه, فأحبه حتى كان يؤثره بالليل, وكان يحمله على ظهره من حبه, حتى لم يكن له مال أحب إليه منه, فلما أمر بالقربان قربه لله عز وجل فقبله الله منه, فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه السلام, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الأنصاري, حدثنا القاسم بن عبد الرحمن, حدثنا محمد بن علي بن الحسين, قال: قال آدم عليه السلام لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان, فقربا قرباناً حتى تقر عيني, إذا تقبل قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله, وكان قابيل صاحب زرع, فقرب مشاقة من زرعه, فانطلق آدم معهما, ومعهما قربانهما, فصعدا الجبل, فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان, فبعث الله ناراً حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق, فاحتمل قربان هابيل, وترك قربان قابيل, فانصرفوا, وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه, فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك, فقال قابيل أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد علي قرباني, فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح منك, دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل منك, وكان يتوعده بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه, فقال آدم: يا قابيل, أين أخوك ؟ قال: وبعثتني له راعيا لا أدري, فقال آدم: ويلك يا قابيل, انطلق فاطلب أخاك, فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله, وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب, فقال: يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك, فقال هابيل: قربت أطيب مالي, وقربت أنت أخبث مالك وإن الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين, فلما قالها غضب قابيل, فرفع الحديدة وضربه بها, فقال: ويلك يا قابيل, أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله, فطرحه في حوبة من الأرض, وحثى عليه شيئاً من التراب .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل, وأمر هابيل أن ينكح توأمة قابيل, فسلم لذلك هابيل ورضي, وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن أخت هابيل, ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن من ولادة الجنة, وهما من ولادة الأرض, وأنا أحق بأختي, ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس, فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه, قال له أبوه: يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها, وكان قابيل على بذر الأرض, وكان هابيل على رعاية الماشية, فقرب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه, وبعضهم يقول: قرب بقرة, فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله, رواه ابن جرير .
وروى العوفي عن ابن عباس قال: من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان, إذ قالا لو قربنا قرباناً, وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله أرسل إليه ناراً فتأكله, وإن لم يكن رضيه الله خبت النار, فقربا قرباناً, وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً, وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها, وقرب الآخر بعض زرعه, فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع, وإن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد علي, فلا والله لا ينظر الناس إلي وأنت خير مني فقال: لأقتلنك, فقال له أخوه: ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن "إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين" فالسياق يقتضي أنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه, ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته, حتى قال ابن عباس وغيره إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب, والله أعلم, ولم يتقبل من قابيل, كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً, ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال الذي قرب الزرع قابيل وهو المتقبل منه, وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيداً, والله أعلم .
ومعنى قوله "إنما يتقبل الله من المتقين" أي ممن اتقى الله في فعله ذلك, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زيد, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري, قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول "إنما يتقبل الله من المتقين". وحدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم, عن ميمون بن أبي حمزة, قال: كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون ؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة .
وقوله " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه, حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة "إني أخاف الله رب العالمين" أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب, قال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع, ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس, عن بكير بن عبد الله, عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من الماشي, والماشي خير من الساعي" قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني فقال "كن كابن آدم" وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد وقال: هذا حديث حسن, وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في الإسناد رجلاً, قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي, قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي, حدثنا الفضل عن عياش بن عباس, عن بكير عن بشر بن سعيد, عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يارسول الله أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن كابن آدم" وتلا " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ".
قال أيوب السختياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " لعثمان بن عفان رضي الله عنه, رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن حزم, حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر, قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حماراً أردفني خلفه وقال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟" قال: قال الله ورسوله أعلم, قال "تعفف" قال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع ؟" قلت: الله ورسوله أعلم, قال: "اصبر" قال "يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً, يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟" قال: الله ورسوله أعلم, قال "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك" قال: فإن لم أترك, قال "فأت من أنت منهم فكن منهم" قال: فآخذ سلاحي, قال "فإذاً تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك", ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي, من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت به, ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران, عن المشعث بن طريف, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر بنحوه, قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد, وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان عن منصور, عن ربعي, قال: كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلاً يقول: سمعت هذا يقول في ناس, مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها, بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم" .
وقوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي في قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك, قاله ابن جرير. وقال آخرون: يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي, وهذا قول وجدته عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطاً لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه, يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي " قال: بقتلك إياي "وإثمك" قال: بما كان منك قبل ذلك, وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله, وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً .
(قلت) وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول, ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له "ما ترك القاتل على المقتول من ذنب" وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, حدثنا يعقوب بن عبد الله, حدثنا عتبة بن سعيد عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه" وهذا بهذا لا يصح, ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا, ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب, فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات, فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت ولم يستوف حقه, أخذ من سيئات المقتول, فطرحت على القاتل, فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل, وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها, والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم .
وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال إن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى "وإثمك" فهو إثمه يعني قتله وذلك معصية الله عز وجل في أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه وأن الله عز وجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذاً بها القاتل, وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله, هذا لفظه, ثم أورد على هذا سؤالاً حاصله كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم, وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله, بل يكف عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه, قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ, وزجراً له لو انزجر, ولهذا قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي تتحمل إثمي وإثمك "فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين" وقال ابن عباس: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر .
وقوله تعالى: "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين" أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله, أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر, وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين أنه قتله بحديدة في يده, وقال السدي, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس, وعن مرة بن عبد الله, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فطوعت له نفسه قتل أخيه, فطلبه ليقتله, فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال, فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم, فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء, رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع. وقال ابن جرير: لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه, فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر, ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر, ففعل بأخيه مثل ذلك, رواه ابن أبي حاتم, وقال عبد الله بن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, قال: أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله, فجاءه إبليس فقال: أتريد أن تقتله ؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه, قال: فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه, ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً فقال: يا حواء إن قابيل قتل هابيل, فقالت له: ويحك وأي شيء يكون القتل ؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك, قالت: ذلك الموت. قال: فهو الموت, فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح, فقال: مالك ؟ فلم تكلمه, فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله, فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك, وأنا وبني منها برآء, رواه ابن أبي حاتم .
وقوله "فأصبح من الخاسرين" أي في الدنيا والآخرة, وأي خسارة أعظم من هذه ؟ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها, لأنه كان أول من سن القتل" وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق عن الأعمش به, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ووجهه في الشمس حيثما دارت دار, عليه في الصيف حظيرة من نار, وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق, عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلاً لابن آدم الذي قتل أخاه, ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر, وذلك أنه أول من سن القتل, وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه, ورواه ابن جرير أيضاً .
وقوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم: لما مات الغلام تركه بالعراء, ولا يعلم كيف يدفن, فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, فحفر له ثم حثى عليه, فلما رآه قال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي " وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: جاء غراب إلى غراب ميت, فحثى عليه من التراب حتى واراه, فقال الذي قتل أخاه " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي ". وقال الضحاك, عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين, فرآهما يبحثان, فقال "أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" فدفن أخاه, وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتاً لا يدري ما يصنع به, يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب, فقال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقال عطية العوفي: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح, وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله, رواه ابن جرير .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سقط في يده, أي ولم يدر كيف يواريه, وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم, وأول ميت " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين ". قال: وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل, قال له الله عز وجل: يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً, فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن, أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك, فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض .
وقوله "فأصبح من النادمين" قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران, فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة, وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه, كما هو ظاهر القرآن, وكما نطق به الحديث في قوله "إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" وهذا ظاهر جلي, ولكن قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو, عن الحسن هو البصري, قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق" من بني إسرائيل, ولم يكونا ابني آدم لصلبه, وإنما كان القربان من بني إسرائيل, وكان آدم أول من مات, وهذا غريب جداً, وفي إسناده نظر, وقد قال عبد الرزاق, عن معمر عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلاً, فخذوا بالخير منهما" ورواه ابن المبارك, عن عاصم الأحول, عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً, فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم", وكذا أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني, روى ذلك كله ابن جرير. وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك, ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك, أي أضحكك, رواه ابن جرير, ثم قال: حدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم, عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم أخاه بكاه آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه على خوف فجاء بها يصيح
والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة, كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة, وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا, فإنا لله وإنا إليه راجعون .
قوله: 29- " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار " هذا تعليل لامتناعه من المقاتلة بعد التعليل الأول وهو "إني أخاف الله رب العالمين".
اختلف المفسرون في المعنى فقيل: أراد هابيل إني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك، وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي، وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيأتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي وتبوء بإثمك في قتلي. وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم، فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه"، ومثله قوله تعالى: "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم" وقيل المعنى: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" أي أن لا تميد بكم. وقوله: "يبين الله لكم أن تضلوا" أي أن لا تضلوا. وقال أكثر العلماء: إن المعنى " إني أريد أن تبوء بإثمي " أي بإثم قتلك لي: "وإثمك" الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي. قال الثعلبي: هذا قول عامة المفسرين وقيل هو على وجه الإنكار: أي أو إني أريد على وجه الإنكار كقوله تعالى: "وتلك نعمة" أي أو تلك نعمة. قاله القشيري، ووجهه، بأن إرادة القتل معصية. وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار؟ فقال: وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل، وهذا بعيد جداً، وكذلك الذي قبله. وأصل باء رجع إلى المباءة، وهي المنزل -وباءوا بغضب من الله- أي رجعوا.
29-" إني أريد أن تبوء "، ترجع ، وقيل : تحتمل، " بإثمي وإثمك "، أي : بإثم قتلي إلى إثمك ، أي إثم مصاعبك التي علمت من قبل، هذا قول أكثر المفسرين. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً، وقيل : معناه أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك ، أو إثم حسدك.
فإن قيل: كيف قال إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز؟ قيل ليس ذلك بحقيقة إرادة ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة وطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً ، وإن لم يكن مريداً حقيقة ، وقيل : معناه إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي فتكون إرادة صحيحة، لأنها موافقة لحكم الله عز وجل ، فلا يكون هذا إرادة للقتل، بل لموجب القتل من الإثم و العقاب، " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ".
29" إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " تعليل ثاني للامتناع عن المعارضة والمقاومة، والمعنى إنما أستسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسط يدك إلي ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. وقيل معنى بإثمي بإثم قتلي، وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، وكلاهما في موضع الحال أي ترجع متلبساً بالإثمين حملاً لهما، ولعله لم يرد معصية أخيه وشقاوته بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقفاً فأريد أن يكون لك لا لي، فالمراد بالذات أن لا يكون له أن يكون لأخيه ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته وإرادة عقاب العاصي جائزة.
29. Lo! I would rather thou shouldst bear the punishment of the sin against me and thine own sin and become one of the owners of the Fire. That is the reward of evil doers.
29 - For me, I intend to let thee draw on thyself my sin as well as thine, for thou wilt be among the companions of the fire, and that is the reward of those who do wrong,