وقل) له ولأصحابه هذا القرآن (الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) تهديد لهم (إنا أعتدنا للظالمين) أي الكافرين (نارا أحاط بهم سرادقها) ما أحاط بها (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل) كعكر الزيت (يشوي الوجوه) من حره إذا قرب منها (بئس الشراب) هو (وساءت) أي النار (مرتفقا) تمييز منقول عن الفاعل أي قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله الآتي في الجنة وحسنت مرتفقا وإلا فأي ارتفاق في النار
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم : الحق أيها الناس من عند ربكم ، وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد، فيؤمن ، ويضل من يشاء عن الهدى فيكفر، ليس إلي من ذلك شيء ، ولست بطارد لهواكم : من كان للحق متبعا، وبالله وبما أنزل علي مؤمنا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا فانكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم به نارا أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته ، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته .
وروي عن ابن عباس في ذلك ما :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " يقول : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء الله له الكفر كفر، وهو توله " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين" وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء ، والإيمان لمن أراد ، لانما هو تهديد ووعيد . وقد بين أن ذلك كذلك قوله " إنا أعتدنا للظالمين نارا " والآيات بعدها .
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن عمر بن حبيب ، عن داود ، عن مجاهد في قوله " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" قال : وعيد من الله ، فليس بمعجزي .
حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " وقوله " اعملوا ما شئتم " قال : هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا . وقوله " إنا أعتدنا للظالمين نارا " يقول تعالى ذكره : إنا أعددنا ، وهومن العدة . للظالمين : الذين كفروا بربهم .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله " إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها " قال : للكافرين . وقوله " أحاط بهم سرادقها " يقول : أحاط سرادق النار التي أعدها الله للكافرين بربهم ، وذلك فيما قيل : حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط ، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط ، كما قال رؤبة :
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق الفضل عليك ممدود
وكما قال سلامة بن جندل :
هو المولج النعمان بيتا سسماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
يعني : بيتا له سرادق .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله " إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها " قال : هي حائط من نار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عمن أخبره ، قال " أحاط بهم سرادقها " قال : دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي قال الله " ظل ذي ثلاث شعب " . وقد روي " عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر يدل على أن معنى قوله " أحاط بهم سرادقها " أحاط بهم ذلك في الدنيا ، وأن ذلك السرادق هو البحر."
ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس بن محمد و الحسين بن نصر ، قالا: ثنا أبوعاصم ، عن عبد الله بن أمية ، قال : ثني محمد بن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البحر هو جهنم قال : فقيل له : كيف ذلك ؟ فتلا هذه الآية، أو قرأ هذه الآية " نارا أحاط بهم سرادقها " ثم قال : والله لا أدخلها أبدا - أو ما دمت حيا - ولا تصيبني منها قطرة " .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يعمر بن بشر ، قال : ثنا ابن المبارك ، قال أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سرادق النار أربعة جدر كثف كل واحد مثل مسيرة أربعين سنة " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لسرادق النار أربعة جدر، كثف كل واحدة مثل مسيرة أربعين سنة " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ماء كالمهل - قال كعكر الزيت - فإذا قربه إليه سقط فروة وجهه فيه " . وقوله " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل " يقول تعالى ذكره : وإن يستغيث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدة ما بهم من العطش ، فيطلبون الماء يغاثوا بماء المهل .
واختلف أهل التأويل في المهل ، فقال بعضهم : هوكل شيء أذيب وانماع .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن ابن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب وفضة، فامر بأخدود فخد في الأرض ، ثم قذف فيه من جزل حطب ، ثم قذف فيه تلك السقاية، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه : ادع من يحضرنا من أهل الكوفة، فدعا رهطا فلما دخلوا عليه قال : أترون هذا؟ قالوا : نعم ، قال : ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من هذا الذهب والفضة ، حين أزبد وانماع . وقال اخرون : هو القيح والدم الأسود .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل " قال : القيح والدم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، تال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " بماء كالمهل " قال القيح والدم الأسود، كعكر الزيت . قال الحارث في حديثه : يعني درديه .
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : تني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " كالمهل " قال : يقول : أسود كهيئة الزيت .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " بماء كالمهل " ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود، وأهلها سود .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل " قال : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت . وقال آخرون : هو الشيء الذي قد انتهى حره .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر و هارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال : المهل : هو الذي قد انتهى حره . وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها، فمتقاربات المعنى ، وذلك أن كل ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حره ، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت ، فقد انتهى أيضا حره .
وقد حدثت عن معمر بن المثنى ، أنه قال : سمعت المنتجع بن نبهان يقول والله لفلان أبغض إلي من الطلياء والمهل قال فقلنا له وما هما ؟ فقال الجرباء ، والملة التي تنحدر عن جوانب الخبزة إذا ملت في النار من النار،كانها سهلة ، حمراء مدققة ، فهي أحمره . فالمهل إذا هو كل مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حره ، أو لم يكن مائعا، فانماع بالوقود عليه ، وبلغ أقصى الغاية في شدة الحر.
وقوله " يشوي الوجوه بئس الشراب " يقول : جل ثناؤه : يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم .
كما حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا حيوة بن شريح ، قال : ثنا بقية، عن صفوان بن عمرو ، عن عبدالله بن بسر ، هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه " قال : يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا قرب منه ، شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، يقول الله : " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب " .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني و بعمر بن بشر ، قالا: ثنا ابن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الله بن بسر ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر و هارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال هارون : إذا جاع أهل النار . وقال جعفر : إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارا مار بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش ، فيستغيثون ، فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
وقوله " بئس الشراب " ، يقول تعالى ذكره : بئس الشراب ، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الآية. وقوله " وساءت مرتفقا " يقول تعالى ذكره : وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا ، والمرتفق في كلام العرب : المتكأ، يقال منه : ارتفقت إذا اتكأت كما قال الشاعر:
قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحى
أراد: واتكأت على مرفقها، وقد ارتفق الرجل : إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم ، وهو مرتفق ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :
نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
وأما من الرفق فإنه يقال قد ارتفقت بك مرتفقا . وكان مجاهد يتاول قوله " وساءت مرتفقا " يعني المجتمع .
ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " مرتفقا " أي مجتمعا .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا معتمر، عن ليث ، عن مجاهد " وساءت مرتفقا" قال : مجتمعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله . ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب ، وإ نما الارتفاق : افتعال ، إما من المرفق ، واما من الرفق .
قوله تعالى : " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ( الحق ) رفع على خبر الابتداء المضمر . وأي قل هو الحق . وقيل : هو رفع على الابتداء ، وخبره في قوله (من ربكم ) . ومن ربكم ) . ومعنى الآية : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس ! من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلا ن ، وبيده الهدى والضلال ، ويهدي من يشاء فيؤمن ، ويضل من يشاء فيكفر ، ليس إلى من ذلك شيء ، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفاً ، ويحرمه من يشاء وإن كان قوياً غنياً ، ولست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا . وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر وأنا هو وعيد وتهديد . أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار ، وإن آمنتم فلكم الجنة .
قوله تعالى : " إنا أعتدنا " أي أعددنا . " للظالمين " أي للكافرين الجاحدين . " نارا أحاط بهم سرادقها " قال الجوهري : السراق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار . وكل بيت من كرسف فهو سرادق . قال رؤية :
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود
يقال : بيت مسردق . وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة :
هوالمدخل النعمان بيتاً سماؤه حدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال ابن العربي : (سرادقها ) سورها . وعن ابن عباس : حائط من نار . الكلبي عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة . و القتبي : السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط . وقاله ابن عزيز ت. وقيل : دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة ( والمرسلات ) حين يقول : " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " [ المرسلات : 30] وقوله : " وظل من يحموم " [الواقعة : 43] قاله قتادة . وقيل : إنه البحر المحيط بالدنيا . وروى يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البحر هو جهنم _ ثم تلا_ ناراً أحاط بهم سرادقها _ ثم قال : والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا يصيبني منها قطرة " ذكره الماوردي وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربيعن سنة " وخرجه فيه : حديث حسن صحيح غريب .
قلت : وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار ، وجدره ما وصف .
قوله تعالى : " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " قال ابن عباس : المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت . مجاهد : القيح والدم . الضحاك : ماء أسود ، وإن جهنم لسوداء ، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود . وقال أبو عبيدة : هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقزدير ، فتموج بالغليان ، فذلك المهل . ونحوه عن ابن مسعود . قال سعيد بن جبير : هو الذي قد انتهى حره . وقال : المهل ضرب من القطران ، يقال : مهلت البغير فهو ممهول وقيل : هو السم . والمعنى في هذه الأقوال متقارب . وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( كالمهل ) قال : "كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه فروة وجهه " قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه . وخرج عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه " [ إبراهم : 16_17] قال : ( يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى : " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " [ محمد : 15] يقول " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا " قال : حديث غريب . عليهما أهل اللغة . في الصحاح : ( المهل ) النحاس المذاب . ابنالأعرابي : المهل المذاب من الرصاص . وقال أبو عمرو . المهل دردي الزيت . والمهل أيضاً القيح والصديد وفي حديث ابي بكر : ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب . و" مرتفقا " قال مجاهد : معناه مجتمعاً ، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة . ابن عباس : منزلا ً . عطاء : مقرا . وقيل مهادا . وقال القتبي : مجلسا . والمعنى متقارب ، وأصله من المتكأ ، يقال منه : ارتفقت أب اتكأت على المرفق . قال الشاعر :
قالت له وارتفقت ألا فتى يسيوق بالقوم عزالات الضحا
ويقال : ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم . قال أبو ذؤيب الهذلي :
نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عني فيها الصاب مدبوح الحاب : عصارة شجر مر .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" هذا من باب التهديد والوعيد الشديد, ولهذا قال: "إنا أعتدنا" أي أرصدنا "للظالمين" وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه "ناراً أحاط بهم سرادقها" أي سورها. قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى , حدثنا ابن لهيعة , حدثنا دراج عن أبي الهيثم , عن أبي سعيد الخدري , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لسرادق النار أربعة جدر, كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة" وأخرجه الترمذي في صفة النار, وابن جرير في تفسيره, من حديث دراج أبي السمح به.
وقال ابن جريج : قال ابن عباس : "أحاط بهم سرادقها" قال: حائط من نار. قال ابن جرير : حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية , حدثني محمد بن حيي بن يعلى عن صفوان بن يعلى , عن يعلى بن أمية قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البحر هو جهنم قال: فقيل له كيف ذلك ؟ فتلا هذه الاية, أو قرأ هذه الاية "ناراً أحاط بهم سرادقها"ثم قال والله لا أدخلها أبداً أو ما دمت حياً لا تصيبني منها قطرة" وقوله "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه" الاية, قال ابن عباس : المهل: الماء الغليظ مثل دردي الزيت, وقال مجاهد : هو كالدم والقيح. وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حره. وقال آخرون: هو كل شيء أذيب. وقال قتادة : أذاب ابن مسعود شيئاً من الذهب في أخدود, فلما انماع وأزبد, قال: هذا أشبه شيء بالمهل. وقال الضحاك : ماء جهنم أسود وهي سوداء وأهلها سود, وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الاخر, فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها, فهو أسود منتن غليظ حار, ولهذا قال: "يشوي الوجوه" أي من حره, إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه.
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء كالمهل ـ قال ـ كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه" وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث , عن دراج به, ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين , وقد تكلم فيه من قبل حفظه هكذا, قال: وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب , عن ابن لهيعة , عن دراج , والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد : عن صفوان بن عمرو , عن عبد الله بن بسر , عن أبي أمامة , عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه ", قال: "يقرب إليه فيتكرهه, فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه " , يقول الله تعالى: "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب". وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا, فأغيثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها, فاجتثت جلود وجوههم, فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم, لعرف جلود وجوههم فيها, ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون, فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره, فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود, ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة "بئس الشراب" أي بئس هذا الشراب, كما قال في الاية الأخرى "وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم" وقال تعالى: " تسقى من عين آنية " أي حارة, كما قال تعالى: "وبين حميم آن" "وساءت مرتفقاً" أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق, كما قال في الاية الاخرى "إنها ساءت مستقراً ومقاماً".
ثم بين سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يقوله لأولئك الغافلين، فقال: 29- "وقل الحق من ربكم" أي قل لهم: إن ما أوحي إليك وأمرت بتلاوته هو الحق الكائن من جهة الله، لا من جهة غيره حتى يمكن فيه التبديل والتغيير، وقيل المراد بالحق الصبر مع الفقراء. قال الزجاج: أي الذين أتيتكم به "الحق من ربكم" يعني لم آتكم به من قبل نفسي إنما أتيتكم به من الله "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" قيل هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله، والفاء لترتيب ما قبلها على ما بعدها، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه تهديد شديد، ويكون المعنى: قل لهم يا محمد الحق من ربكم وبعد أن تقول لهم هذا القول، من شاء أن يؤمن بالله ويصدقك فليؤمن، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر. ثم أكد الوعيد وشدده فقال: "إنا أعتدنا للظالمين" أي أعددنا وهيأنا للظالمين الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه ناراً عظيمة "أحاط بهم سرادقها" أي اشتمل عليهم. والسرادق: واحد السرادقات. قال الجوهري: وهي التي تمد فوق صحن الدار، وكل بيت من كرسف فهو سرادق، ومنه قول رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن جارود سرادق المجد عليك ممدود
وقال الشاعر:
هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
يقوله سلام بن جندل لما قتل ملك الفرس ملك العرب النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة. وقال ابن الأعرابي: سرادقها سورها. وقال القتيبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. والمعنى: أنه أحاط بالكفار سرادق النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه "وإن يستغيثوا" من حر النار "يغاثوا بماء كالمهل" وهو الحديد المذاب. قال الزجاج: إنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب أو الصفر، وقيل هو دردي الزيت. وقال أبو عبيدة والأخفش: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس. وقيل هو ضرب من القطران. ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه "يشوي الوجوه" إذا قدم إليهم صارت وجوههم مشوية لحرارته "بئس الشراب" شرابهم هذا "وساءت" النار "مرتفقاً" متكأ، يقال ارتفقت: أي اتكأت، وأصل الارتفاق نصب المرفق، ويقال ارتفق الرجل: إذا نام على مرفقه، وقال القتيبي: هو المجلس، وقيل المجتمع.
29 - " وقل الحق من ربكم " ، أي : ما ذكر من الإيمان والقرآن ، معناه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس [ قد جاءكم من ربكم الحق ] وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال ، ليس إلي من ذلك شيء .
" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ، هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله : " اعملوا ما شئتم " ( فصلت -40 ) .
وقيل معنى الآية : وقل الحق من ربكم ، ولست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا ، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم ناراً أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم فلكم ما وصف الله عز وجل لأهل طاعته .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية :من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء له الكفر ،كفر ،وهو قوله : " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " ( الإنسان - 30 ) .
" إنا أعتدنا " : أعددنا ، وهيأنا ، من الإعداد ، وهو العدة ، " للظالمين " للكافرين ، " ناراً أحاط بهم سرادقها " ( السرادق ) :الحجرة التي تطيف بالفساطيط .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن رشدين بن سعد ،حدثني عمرو بن الحارث ، عن دراج بن أبي السمح ، عن أبي الهيثم بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة " .
قال ابن عباس : هو حائط من نار .
وقال الكلبي :هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة .
وقيل : هو دخان يحيط بالكفار وهو الذي ذكره الله تعالى " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " ( المرسلات - 30 ) .
" وإن يستغيثوا " ، من شدة العطش ،" يغاثوا بماء كالمهل " .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ،أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد ، حدثنا عمرو بن الحارث ،عن دراج بن أبي السمح ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " بماء كالمهل " قال كعكر الزيت ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه " .
وقال ابن عباس : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت .
وقال مجاهد : هو القيح والدم .
وسئل ابن مسعود عن : ( المهل ) فدعا بذهب وفضة فأوقد عليهما النار حتى ذابا ، ثم قال : هذا أشبه شيء بالمهل .
" يشوي الوجوه " ينضج الوجوه من حره .
" بئس الشراب وساءت " النار ،" مرتفقاً " ، قال ابن عباس : منزلاً . وقال مجاهد : مجتمعاً . وقال عطاء : مقراً . وقال القتيبي : مجلساً . وأصل ( المرتفق ) : المتكأ .
29."وقل الحق من ربكم"الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و"من ربكم"حالاً."فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وإن كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته."إنا أعتدنا"هيأنا."للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها"فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من النار.وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط .وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار"وإن يستغيثوا"من العطش."يغاثوا بماء كالمهل" كالجسد المذاب .وقيل كدردي الزيت وهو على طريقة قوله: فأعتبوا بالصيلم. "يشوي الوجوه"إذا قدم ليشرب من فرط حرارته ، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف."بئس الشراب"المهل."وساءت"النار. "مرتفقاً"متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد ، وهو لمقابلة قوله وحسنت مرتفقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار.
29. Say: (It is) the truth from the Lord of you (all). Then whosoever will, let him believe, and whosoever will, let him disbelieve. Lo! We have prepared for disbelievers Fire. Its tent encloseth them. If they ask for showers, they will be showered with water like to molten lead which burneth the faces. Calamitous the drink and ill the resting place!
29 - Say, the truth is from your Lord: let him who will, believe, and let him who will, reject (it): for the wrong doers we have prepared a fire whose (smoke and flames), like the walls and roof of a tent, will hem them in: if they implore relief they will be granted water like melted brass, that will scald their faces. how dreadful the drink how uncomfortable a couch to recline on