27 - (إلا من ارتضى من رسول فإنه) مع اطلاعه على ما شاء منه معجزة له (يسلك) يجعل ويسير (من بين يديه) أي الرسول (ومن خلفه رصدا) ملائكة يحفظونه حتى يبلغه في جملة الوحي
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول " فإنه يصطفيهم ، ويطلعهم على ما يشاء من الغيب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " إلا من ارتضى من رسول " فإنه يظهره من الغيب على ما شاء إذا ارتضاه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول " قال : ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيب القرآن ، قال : وحدثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة .
وقوله : " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " يقول : فإنه يرسل من أمامه ومن خلفه حرساً وحفظة يحفظونه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن الضحاك " إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه ، أن يتشبه الشيطان على صورة الملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن منصور ، عن إبراهيم " من بين يديه ومن خلفه رصدا " قال : ملائكة يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم " من بين يديه ومن خلفه رصدا " قال : الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجن .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن طلحة ، يعني ابن مصرف ، عن إبراهيم ، في قوله " من بين يديه ومن خلفه رصدا " قال : الملائكة رصد من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من الجن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " قال : الملائكة .
قوله تعالى : " إلا من ارتضى من رسول" وقال ابن جبير : (( إلا من ارتضى من رسول)) هو جبريل عليه السلام. وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى : أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى اللنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه : ليكون ذلك دالاً على نبوته.
الثانية : قال العلماء رحمة الله عليهم : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر مفتر عليه بحدسهوتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف انسان على اختلاف احوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسوقة، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحد؟ فإن قال المنجم قبحه الله : إنما اغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك ان هذا الطالع أبطل احكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا قائدة أبداً في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم . وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال :
حكم المنجم أن طالع مولدي يقضي علي بميته الغرق
قل للمنم صبحة الطوفان هل ولد الجميع بكوكب الغرق
وقيل لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: اتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر الى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم ؟ قال: إنك ان سرت في هذه الساعة اصابك واصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده - في كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل - فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه ان يكون كمن اتخذ من دون الله ندا او ضداً، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير الا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس اياكم وتعلم النجوم الا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، وانما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني انك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال : لو سرنا في الساعة التي امرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال: يا أيها الناس! توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه. " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " يعني ملائكة يحفظونه عن ان يقرب منه شيطان، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء الى الكهنة. قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن ان يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربك. وقال ابن عباس وابن زيد : (( رصداً)) أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين.قال قتادة و سعيد بن المسيب : هم اربعة من الملائكة حفظة. وقال الفراء: المراد جبريل، كان اذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من ان تستمع الجن الوحي، فيلقوه الى كهنتهم، فيسبقوا الرسول. وقال السدي: (( رصداً)) أي حفظة يحفظوه الوحي، فما جاء من عند الله قالوا : انه من عند الله، وما ألقاه الشيطاه قالوا : انه من الشيطان. و ((رصداً)) نصب على المفعول. وفي الصحاح: قالوا أرصاداً. والراصد للشيء الراقب له، يقال : رصده يرصده رصداً ورصداً. والترصد الترقب والمرصد مرضع الرصد.
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس إنه لا علم له بوقت الساعة ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد "قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً" أي مدة طويلة, وفي هذه الاية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام لا يؤلف تحت الأرض كذب لا أصل له, ولم نره في شيء من الكتب, وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها, ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: " يا محمد فأخبرني عن الساعة ؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال: " يا محمد متى الساعة ؟ قال: ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟ قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام ولكني أحب الله ورسوله قال: فأنت مع من أحببت" قال أنس : فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمد بن مضاء , حدثنا محمد بن حمير , حدثني أبو بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى, والذي نفسي بيده إنما توعدون لات". وقد قال أبو داود في آخر كتاب الملاحم: حدثنا موسى بن سهل , حدثنا حجاج بن إبراهيم , حدثنا ابن وهب , حدثني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تعجز الله هذه الأمة من نصف يوم" انفرد به أبو داود ثم قال أبو داود : حدثنا عمرو بن عثمان , حدثنا أبو المغيرة , حدثني صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم" قيل لسعد : وكم نصف يوم ؟ قال: خمسمائة عام. انفرد به أبو داود .
وقوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول" هذه كقوله تعالى: "ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" وهكذا قال ههنا إنه يعلم الغيب والشهادة وأنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه, ولهذا قال: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول" وهذا يعم الرسول الملكي والبشري. ثم قال تعالى: "فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً" أي يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ويساوقونه على ما معه من وحي الله, ولهذا قال: "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً" وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: "ليعلم" إلى من يعود ؟ فقيل إنه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم, وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " قال: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل "ليعلم" محمد صلى الله عليه وسلم "أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً" ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك والسدي ويزيد بن أبي حبيب .
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم" قال: ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها, وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة واختاره ابن جرير , وقيل غير ذلك كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: "إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً" قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم, وذلك حين يقول ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم" قال: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم, وفي هذا نظر. وقال البغوي : قرأ يعقوب "ليعلم" بالضم أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. ويحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الله عز وجل, وهو قول حكاه ابن الجوزي في زاد المسير , ويكون المعنى في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم, ويكون ذلك كقوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" وكقوله تعالى: "وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين" إلى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة, ولهذا قال بعد هذا "وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً". آخر تفسير سورة الجن, ولله الحمد والمنة.
ثم استثنى فقال: 27- "إلا من ارتضى من رسول" أي إلا من اصطفاه من الرسل أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته. قال القرطبي: قال العلماء: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضى من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصا وينظر في الكف ويزجر بالطين ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. وقال سعيد بن جبير: إلا من ارتضى من رسول هو جبريل، وفيه بعد. وقيل المراد بقوله: إلا من ارتضى من رسول فإنه يطلعه على بعض غيبه، وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة وأحكام التكاليف وجزاء الأعمال وما يبينه من أحوال الآخرة، لا ما لا يتعلق برسالته من الغيوب، كوقت قيام الساعة ونحوه. قال الواحدي: وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن. قال في الكشاف: وفي هذا إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال للكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. قال الرازي: وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله: "أقريب ما توعدون" الآية. فإن قيل: فما معنى الاستثناء حينئذ؟ قلنا: لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا؟ وقد قال: "يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً" فتعلم الملائكة حينئذ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع: أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلقه حفظة يحفظونه من شر مردة الجن والإنس. ويدل على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت كما يقارب التواتر أن شقا وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال: وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالهاظ وقال: فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تختلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه.
قلت: أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم كما صرح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله: أو هو استثناء منقطع فمجرد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله: إن شقا وسطيحاً الخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله "إلا من خطف الخطفة" ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث "إن في هذه الأمة محدثين وإن منهم عمر" فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له ما هذه بأول زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار بتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا:
وإذا رامت الذبابة للشمـ س غطاء مدت عليها جناحا
وقلت من أبيات:
مهب ريــاح سده بجنــاح وقابل بالمصباح ضوء صباح
فإن قلت: إذن قد تقرر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه، فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت: نعم ولا مانع من ذلك. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صح أنه قام مقاماً أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئاً مما يتعلق بالفتن ونحوها، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه. وكذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحدث من الفتن بعده، حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة ورجعوا إليه. وثبت في الصحيح وغيره "أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال: إن بينك وبينها باباً، فقال عمر: هل يفتح أو يكسر؟ فقال: بل يكسر، فعلم عمر أنه الباب، وأن كسره قتله" كما في الحديث الصحيح المعروف أنه قيل لحذيفة: هل كان عمر يعلم ذلك؟ فقال: نعم كان يعلم أن دون غد الليلة. وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذر بما يحدث له، وإخباره لعلي بن أبي طالب بخبر ذي الثدية، ونحو هذا مما يكثر تعدده ولو جمع لجاء منه مصنف مستقل. وإذا تقرر هذا فلا مانع من أن يختص بعض صلحاء هذه الأمة بشيء من أخبار الغيب التي أظهرها الله لرسوله، وأظهرها رسوله لبعض أمته، وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم، فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل، والكل من الفيض الرباني بواسطة الجناب النبوي. ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسول فقال: "فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً" والجملة تقرير للإظهار المستفاد من الاستثناء، والمعنى: أنه يجعل سبحانه بين يدي الروسل ومن خلفه حرساً من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين لما أظهره عليه من الغيب، أو يجعل بين يدي الوحي وخلفه حرساً من الملائكة يحوطونه من أن تسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة، والمراد من جميع الجوانب. قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلا ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك. قال ابن زيد: رصداً: أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة. وقال الفراء: المراد جبريل. قال في الصحاح: الرصد القوم يرصدون كالحرس يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، والرصد للشيء الراقب له، يقال: رصده يرصده رصداً ورصداً والترصد الترقب، والمرصد موضع الرصد.
27- "إلا من ارتضى من رسول"، إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب، "فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً"، ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها رصداً أي: يجعل بين يديه وخلفه حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع، ومن الجن أن يستمعوا الوحي فيلقوا إلى الكهنة.
قال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان، وإذا جاءه ملك قالوا له: هذا رسول ربك.
27-" إلا من ارتضى " لعلم بعضه حتى يكون له معجزة . " من رسول " بيان لـ" من " ، واستدل به على إبطال الكرامات ، وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط ، وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقياً عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء . " فإنه يسلك من بين يديه " من بين يدي المرتضى " ومن خلفه رصداً " حرساً من الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين وتخاليطهم .
27. Save unto every messenger whom he hath chosen, and then He maketh a guard to go before him and a guard behind him
27 - Except an apostle whom He has chosen: and then He makes a band of watchers march before him and behind him,