25 - (فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى) زيادة خير في الدنيا (وحسن مآب) مرجع في الآخرة
يعني تعالى ذكره بقوله "فغفرنا له ذلك" فعفونا عنه ، وصفحنا له عن أن نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك "وإن له عندنا لزلفى" يقول : وإن له عندنا للقربة منا يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في قوله "فغفرنا له ذلك" قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، "فغفرنا له ذلك" الذنب.
وقوله "وحسن مآب" يقول : مرجع ومنقلب ينقلب إليه يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "وحسن مآب": أي حسن مصير.
حدثنا محمد، قال : ثنا أحمد، قال : ثنا أسباط، عن السدي، قوله "وحسن مآب" قال : حسن المنقلب.
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : " فغفرنا له ذلك " أي فغفرنا له ذنبه . قال ابن الأنباري < فغفرنا له ذلك > تام ، ثم تبتدىء < وإن له > وقال القشيري : ويجوز الوقف على < فغفرنا له > ثم تبتدىء < ذلك وإن له > كقوله : " هذا وإن للطاغين " [ ص : 55 ] أي الأمر ذلك . وقال عطاء الخراساني وغيره : إن داود سجد أربعين يوماً حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه ، فنودي : أجائع فتطعم وأعار فتكسى ، فنحب نحبه هاج المرعى من حر جوفه ، فغفر له وستر بها . فقال : يارب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته ، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلاً من بني إسرائيل ، تركت أولادهم أيتاماً ، ونساءهم أرامل ؟ قال : يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم أمكنه منك ثم استوهبك منه بثواب الجنة . قال : يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة . ثم قيل : يا داود ارفع رأسك فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض ، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها . رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء . قال الوليد : وأخبرني منير بن الزبير ، قال : فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله . قال الوليد قال ابن لهيعة : فكان يقول في سجوده سبحانك هذا شرابي دموعي ، وهذا طعامي في رماد بين يدي . في رواية : إنه سجد أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ، فبكى حتى نبت العشب من دموعه . " وروي مرفوعاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن داود مكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت العشب من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده : يا رب داود زل زلة بعد بها ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلق من بعده فقال له جبريل بعد أربعين سنة يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به " وقال وهب : إن داود عليه السلام نودي إني قد غفرت لك . فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال : لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك ؟ قال : يا رب كيف وأنت لا تظلم أحداً . فقال الله لجبريل : اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه ، فأنا أسمعه نداءه . فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ، ونادى يا أوريا فقال : لبيك ! من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني ؟ فقال : أنا أخوك داود أسألك أن تجعلني في حل فإني عرضتك للقتل ، قال : عرضتني للجنة فأنت في حل . وقال الحسن وغيره : كان داود عليه السلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين ، ويقول : تعالوا إلى داود الخطاء ، ولا يشرب شراباً إلا مزجه بدموع عينيه . وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي حتي يبتل بدموعه ، وكان يذر عليه الرماد والملح فيأكل ويقول : هذا أكل الخاطئين . وكان قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر ، ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله . وقال : يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته منقوشة في كفه . فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رآها فأبكته ، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء ، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه . " وروى الوليد بن مسلم حدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنما مثل عيني داود مثل القريتين تنطفان ولقد خدد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض " . قال الوليد : وحدثنا عثمان بن أبي العاتكة أنه كان في قول داود إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين أن كان يقول : اللهم لا تغفر للخطائين . ثم صار إلى أن يقول : اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم ، سبحان خالق النور . إلهي ! خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني . إلهي ! أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها ، سبحان خالق النور . إلهي ! إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي . وفي الخبر :أن داود عليه السلام كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته ، فكان ينادي : إلهي ! إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها ، وأذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي ، رب ! اغفر للخاطئين كي تغفر لداود معهم . وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها . وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رؤوس الجبال وأفواه الغيران : ألا إن هذا يوم نوح داود ، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأتي داود فيسعده ، فيهبط السياح من الغيران والأودية ، وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عكف ، وبنو إسرائيل حول منبره ، فإذا أخذ في العويل والنوح ، وأثارت الحرقات منابع دموعه ، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحاً وبكاءً ، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم . ومات داود عليه السلام فيما قيل يوم السبت فجأة ، أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل ، فقال : جئت لأقبض روحك . فقال : دعني حتى أنزل أو أرتقي . فقال : ما لي إلى ذلك سبيل ، نفذت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق ، فما أنت بمؤثر بعدها أثر . قال : فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال . وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة . وقيل : تسع وسبعون ، وعاش مائة سنة ، وأوصى إلى إبنه سليمان بالخلافة .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " قال محمد بن كعب و محمد بن قيس : " وإن له عندنا لزلفى " قربة بعد المغفرة . " وحسن مآب " قالا : والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود . وقال مجاهد : عن عبد الله بن عمر : الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة . وعن مجاهد : يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده : فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزاً إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى . قال : ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له ها هنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له ها هنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له : ها هنا ، حتى يقرب فيسكن فذلك قوله عز وجل : " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " ذكره الترمذي الحكيم . قال : " حدثنا الفضل بن محمد ، قال حدثنا عبد الملك بن الأصبغ قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبد الملك بن سليمان عن مجاهد فذكره . قال الترمذي : ولقد كنت أمر زماناً طويلاً بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله : " ربنا عجل لنا قطنا " [ ص : 16 ] والقط الصحيفة في اللغة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم " فأما من أوتي كتابه بيمينه " [ الانشقاق : 7 ] : وقال لهم : إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم قالوا : ربنا عجل لنا قطنا أي صحيفتنا قبل يوم الحساب " قال الله تعالى : " اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد " [ ص : 17 ] فقص قصة خطيئته إلى منتهاها ، فكنت أقول أمره بالصبر على ما قالوا وأمره بذكر داود فأي شيء أريد من هذا الذكر ؟ وكيف اتصل هذا بذاك ؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه ، حتى هداني الله يوماً فألهمته أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم ، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله ، وقالوا : < ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب > فأوجعه ذلك من استهزائهم ، فأمره بالصبر على مقالتهم ، وأن يذكر عبده داود ، سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه ، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رأها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه ، وكان إذا رأها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم ، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يستوهبه منه ، وهو حبيبه ووليه وصفيه ، فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا ، فكيف كان يحل بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه ، لو عجلت بهم صحائفهم . فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود ، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف ، وقد أخبر الله عنهم فقال : " فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " [ الكهف : 49 ] فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرة والعطف لم يقم لرؤية صورتها . وقد روينا في الحديث : إذا رأها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له ها هنا ، ثم يرى فيقلق ثم يقال ها هنا ، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن .
قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم حديثاً لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضاً. وقوله تعالى: "ففزع منهم" إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما وقوله عز وجل: "وعزني في الخطاب" أي غلبني يقال عز يعز إذا قهر وغلب. وقوله تعالى: "وظن داود أنما فتناه" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أي اختبرناه. وقوله تعالى "وخر راكعاً" أي ساجداً "وأناب" ويحتمل أنه ركع أولاً ثم سجد بعد ذلك, وقد ذكر أنه استمر ساجداً أربعين صباحاً "فغفرنا له ذلك" أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد اختلف الأئمة في سجدة "ص" هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر, والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال حدثنا إسماعيل هو ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال السجدة في "ص" ليست من عزائم السجود, وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي حسن صحيح. وقال النسائي أيضاً عند تفسير هذه الاية أخبرني إبراهيم بن الحسن هو المقسمي حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال: "سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة ونسجدها شكراً" تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات.
وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع, أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي حدثنا زاهر بن أبي طاهر الشحامي أخبرنا أبو سعيد الكنجدروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريج يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت, فسجدت الشجرة بسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي عندك أجراً, واجعلها لي عندك ذخراً, وضع بها عني وزراً, واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود.
قال ابن عباس رضي الله عنهما فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة, رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه, وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال البخاري عند تفسيرها أيضاً حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال سألت مجاهداً عن سجدة "ص" فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت فقال أو ما تقرأ "ومن ذريته داود وسليمان" "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه الصلاة والسلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر هو ابن عبد الله المزني أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب "ص" فلما بلغ إلى الاية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداً قال فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد, تفرد به أحمد, وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشرف الناس للسجود فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشرفتم" فنزل وسجد وتفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيحين.
وقوله تعالى: "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العالية في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح "المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا" وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل, وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر" ورواه الترمذي من حديث فضيل وهو ابن مرزوق الأغر عن عطية به, وقال لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان سمعت مالك بن دينار في قوله تعالى: "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" قال يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول وكيف وقد سلبته ؟ فيقول الله عز وجل إني أرده عليك اليوم قال فيرفع داود عليه الصلاة والسلام بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.
ثم أخبر سبحانه أنه قبل استغفاره وتوبته قال: 25- "فغفرنا له ذلك" أي ذلك الذنب الذي استغفر منه. قال عطاء الخراساني وغيره: إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه وغمر رأسه. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: "فغفرنا له ذلك" تام، ثم يبتدئ الكلام بقوله: "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" الزلفى: القربة والكرامة بعد المغفرة لذنبه. قال مجاهد: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة، والمراد بحسن المآب: حسن المرجع وهو الجنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ما لها من فواق" قال: من رجعة. "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا" قال: سألوا الله أن يعجل لهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن عدي عنه "عجل لنا قطنا" قال: نصيبنا من الجنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: "ذا الأيد" قال: القوة. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأواب المسبح. وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب "فقال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الأواب الموقن. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق". وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً قال: لقد أتى علي زمان وما أدري وجه هذه الآية "يسبحن بالعشي والإشراق" حتى رأيت الناس يصلون الضحى. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه قال: كنت أمر بهذه الآية "يسبحن بالعشي والإشراق" فما أدري ما هي؟ حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح، فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى، ثم قال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من وجه آخر عنه نحوه. والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جداً قد ذكرناها في شرحنا للمنتقى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم فقال: إن هذا غصبني بقراً لي، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده، فأتي داود في منامه فقيل له: اقتل الرجل الذي استعدى، فقال: إن هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأتي الليلة الثانية في منامه فأمر أن يقتل الرجل فلم يفعل، ثم أتي الليلة الثالثة، فقيل له: اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال: إن الله أمرني أن أقتلك، قال: تقتلني بغير بينة ولا تثبت؟ قال نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك، فقال الرجل: لا تعجل لعلي حتى أخبرك، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت، فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وشدد به ملكه، فهو قول الله "وشددنا ملكه". وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه "وآتيناه الحكمة" قال: أعطي الفهم. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن أبي موسى الأشعري قال: أول من قال أما بعد داود عليه السلام "و" هو "فصل الخطاب". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول: فصل الخطاب الذي أوتي داود أما بعد. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن داود حدث نفسه إذا ابتلي أنه يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فقيل له اليوم الذي تبتلى فيه، فأخذ الزبور ودخل المحراب وأغلق باب المحراب وأخذ الزبور في حجره، وأقعد منصفاً: يعني خادماً على الباب وقال: لا تأذن لأحد علي اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون الطير، فيه من كل لون، فجعل يدور بين يديه، فدنا منه فأمكن أن يأخذه، فتناوله بيده ليأخذه فاستوفز من خلفه، فأطبق الزبور وقام إليه ليأخذه، فطار فوقع على كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فأفضى فوقع على خص فأشرف عليه لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها، فغطت جسدها أجمع بشعرها، وكان زوجها غازياً في سبيل الله، فكتب داود إلى
رأس الغزاة: انظر أوريا فاجعله في حملة التابوت وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم وأما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، فاشترط عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل وكتب عليه بذلك كتاباً، فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان، وشب فتسور عليه الملكان المحراب وكان شأنهما ما قص الله في كتابه وخر داود ساجداً، فغفر الله له وتاب عليه. وأخرج الحاكم وصححه والبيقي في الشعب قال: ما أصاب داود بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عجب، عجب بنفسه، وذلك أنه قال: يا رب ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك أو يسبح أو يكبر وذكر أشياء، فكره الله ذلك، فقال: يا داود إن ذلك لم يكن إلابي فلولا عوني ما قويت عليه، وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً، قال: يا رب فأخبرني به، فأخبر به فأصابته الفتنة ذلك اليوم. وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً بإسناد ضعيف. وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطولة. وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: "إن هذا أخي" قال: على ديني. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير والطبراني عنه قال: ما زاد داود على أن قال "أكفلنيها". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أكفلنيها" قال ما زاد داود على أن قال: تحول لي عنها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وقليل ما هم" يقول: قليل الذي هم فيه، وفي قوله: "وظن داود أنما فتناه" قال: اختبرناه. وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضاً أنه قال في السجود في ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وأخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال: سجدها داود ونسجدها شكراً. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص. وأخرج ابن مردويه عن أنس مثله مرفوعاً. وأخرج الدارمي وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال: "قرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "ص"، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود، فقال: إنما هي توبة ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود، فنزل فسجد". وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر يوم القيامة فعظم شأنه وشدته قال: ويقول الرحمن عز وجل لداود عليه السلام: مر بين يدي، فيقول داود: يا رب أن تدخضني خطيئتي، فيقول: خذ بقدمي، فيأخذ بقدمه عز وجل فيمر، قال: فتلك الزلفى التي قال الله "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب".
25. " فغفرنا له ذلك "، يعني: ذلك الذنب، " وإن له "، بعد المغفرة، " عندنا "، يوم القيامة، " لزلفى "، لقربة ومكانة، " وحسن مآب "، أي: حسن مرجع ومنقلب.
قال وهب بن منبه : إن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلاً ولا نهاراً، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسبح في الفيافي والجبال والسواحل، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه، فيساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه [الشجر والرمال والطير والوحوش حتىيسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه] الجبال والحجارة والدوابوالطير، حتى تسيل من بكائهم الأودية، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء والسباع، فإذا أمس رجع، فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه أن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضر من يساعده، فيدخل الدار التي فيها المحاريب، فيبسط له ثلاثة فرش مسوح حشوها ليف، فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي، فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكي حتى تغرق الفرش من دموعه، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب، فيجيء ابنه سليمان فيحمله فيأخذ من تلك الدموع بكفيه، ثم يمسح بها وجهه، ويقول: يارب اغفر لي ما ترى، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله.
وقال وهب : ما رفع داود رأسه حتى قال له الملك: أول أمرك ذنب، وآخره معصية، ارفع رأسك فرفع رأسه فمكث حياته لا يشرب ماءً إلا مزجه بدموعه، ولا يأكل طعاماً إلا بله بدموعه.
وذكر الأوزاعي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مثل عيني داود كقربتين تنطفان ماءً، ولقد خدت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض ".
قال وهب : لما تاب الله على داود قال: يارب غفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة؟ قال: فوسم الله خطيئته في يده اليمنى، فما رفع فيها طعاماً ولا شراباً إلا بكى إذا رآها، وما قام خطيباً في الناس إلا بسط راحته فاستقبل الناس ليروا وسم خطيئته، وكان يبدأ إذا دعا فاستغفر للخاطئين قبل نفسه.
وقال قتادة عن الحسن : كان داود بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين، يقول: تعالوا إلى داود الخاطئ فلا يشرب شراباً إلا مزجه بدموع عينيه، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي عليه حتى يبتل بدموع عينيه، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول: هذا أكل الخاطئين، قال: وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان، صام الدهر كله وقام الليل كله.
وقلا ثابت : كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله، فلا يشدها إلا الأسر، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت.
وفي القصة: أن الوحوش والطير كانت تستمع إلى قراءته، فلما فعل ما فعل كانت لا تصغي إلى قراءته، فروي أنها قالت: يا داود ذهبت خطيئتك بحلاوة صوتك.
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب و أبو النعمان قالا: حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( سجدة ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها )). وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي ، عن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ قال: أو ما تقرأ: " ومن ذريته داود وسليمان " إلى " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " (الأنعام-90:84) وكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة محمد بن زيد بن خنيس ،حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريج : أخبرني عبيد الله بن يزيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال الحسن : قال ابن جريج : قال لي جدك: قال ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد، فسمعته وهو يقول [مثل ذلك]، ما اخبره الرجل عن قول الشجر)).
25-" فغفرنا له ذلك " أي ما استغفر عنه . " وإن له عندنا لزلفى " لقربه بعد المغفرة " وحسن مآب " مرجع في الجنة .
25. So We forgave him that; and lo! he had access to Our presence and a happy journey's end.
25 - So We forgave him this (lapse): he enjoyed, indeed, a Near Approach to Us, and a beautiful Place of (final) Return.