23 - (قال) لهم (رجلان من الذين يخافون) مخالفة أمر الله وهما يوشع وكالب من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة (أنعم الله عليهما) بالعصمة فكتما ما اطلعا عليه من حالهم إلا عن موسى بخلاف بقية النقباء فأفشوه فجبنوا (ادخلوا عليهم الباب) باب القرية ولا تخشوهم فإنهم أجساد بلا قلوب (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) قالا ذلك تيقناً بنصر الله وإنجاز وعده (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصالحين من قوم موسى: يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، أنهما وفيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومه بني إسرائيل -الذين أمرهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين- بما رأيا وعاينا من شدة بطش الجبابرة وعظم خلقهم، ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه، كما:
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، ح، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، ح، وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: كلاب بن يافنا، ويوشع بن نون.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: يوشع بن نون، وكلاب بن يافنا، وهما من النقباء.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قصة ذكرها، قال : فرجع النقباء، كلهم ينهى سبطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون، وكلاب بن يافنة ، يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم ، فعصوهما وأطاعوا الآخرين ، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما.
حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثل حديث ابن بشار، عن ابن مهدي، إلا أن ابن حميد قال في حديثه: هما من الاثني عشر نقيباً.
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال ، حدثنا إبراهيم بن بشار قال ، حدثنا سفيان قال ، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس في قصة ذكرها. قال: فرجعوا -يعني النقباء الاثني عشر- إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم ، فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم، ولا تخبروا به أحداً من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فشلوا ولم يدخلوا المدينة. قال: فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابن عمه ، إلا هذين الرجلين -يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة- فإنهما كتما ولم يخبرا به أحداً، وهما اللذان قال الله عز وجل: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، إلى قوله: "وبين القوم الفاسقين".
حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، وهما اللذان كتماهم: يوشع بن النون فتى موسى، وكالوب بن يوفنة ختن موسى.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا عبيد الله ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، كالوب، ويوشع بن النون فتى موسى.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل : يوشع بن النون ، وكالوب بن يوفنة.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، ذكر لنا أن الرجلين، يوشع بن نون وكالب.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع: أن موسى قال للنقباء لما رجعوا فحدثوه العجب: لا تحدثوا أحداً بما رأيتم، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم، وإن القوم أفشوا الحديث في بني إسرائيل ، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، كان أحدهما، فيما سمعنا، يوشع بن نون وهو فتى موسى، والآخر كالب- فقالا: "ادخلوا عليهم الباب" إلى "إن كنتم مؤمنين".
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: "قال رجلان من الذين يخافون".
قرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشام: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، بفتح الياء من "يخافون"، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفاً، أنهما يوشع بن نون وكالب، من قوم موسى، ممن يخاف الله، وأنعم عليهما بالتوفيق.
وكان قتادة يقول: في بعض القراءة : "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما".
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، ح، وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، في بعض الحروف : "يخافون أنعم الله عليهما".
وهذا أيضاً مما يدل على صحة تأويل من تأول ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال: يوشع ، وكالب.
وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك: قال رجلان من الذين يخافون بضم الياء "أنعم الله عليهما".
حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب -ولا نعلمه أنه سمع منه- عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرؤها بضم الياء من يخافون.
وكأن سعيداً ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل: "ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، كانا من رهط الجبابرة، وكانا أسلما واتبعا موسى ، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل، وإن كانوا لهم في الدين مخالفين.
وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، قال: هي مدينة الجبارين. لما نزل بها موسى وقومه ، بعث منهم اثني عشر رجلاً -وهم النقباء الذين ذكر بعثتهم- ليأتوه بخبرهم. فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في كسائه ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه ، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى، بعثنا إليكم لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبة من عنب بوقر الرجل، فقالوا لهم : اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدروا قدر فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"! قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، وكانا من أهل المدينة أسلما واتبعا موسى وهرون، فقالا لموسى: "ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين".
قال أبو جعفر: فعلى هذه القراءة وهذا التأويل ، لم يكتم من الاثني عشر نقيباً أحد، ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة، وشدة بطشهم، وعجيب أمورهم ، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى: "ادخلوا عليهم الباب"، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخول عليهم من الجبابرة، كانا أسلما وتبعا نبي الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندنا، قراءة من قرأ: "من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، لإجماع قرأة الأمصار عليها، وأن ما استفاضت به القراءة عنهم، فحجة لا يجوز خلافها، وما انفرد به الواحد، فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في إجماع الحجة في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح الياء في ذلك ، وفساد غيره. وهو التأويل الصحيح عندنا، لما ذكرنا من إجماعها عليه.
وأما قوله: "أنعم الله عليهما"، فإنه يعني : أنعم الله عليهما بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه ، وانتهائهم إلى أمره، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل ، الذي حدث عنه أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء.
وقد قيل إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا خلف بن تميم قال ، حدثنا إسحق بن القاسم، عن سهل بن علي قوله : "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: أنعم الله عليهما بالخوف.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان الضحاك يقول، وجماعة غيره.
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثني عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، بالهدى فهداهما، فكانا على دين موسى، وكانا في مدينة الجبارين.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل، إذ جبنوا وخافوا من الدخول على الجبارين ، لما سمعوا خبرهم ، وأخبرهم النقباء الذين أفشوا ما عاينوا من أمرهم فيهم ، وقالوا: "إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، فقالا لهم: ادخلوا عليهم ، أيها القوم باب مدينتهم، فإن الله معكم ، وهو ناصركم ، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول، قال : لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر، حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة، خر موسى وهرون على وجوههما سجوداً قدام جماعة بني إسرائيل وخرق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما، وكانا من جواسيس الأرض، وقالا لجماعة بني إسرائيل: إن الأرض مررنا بها وحسسناها صالحةً، رضيها ربنا لنا فوهبها لنا، وإنها. . . تفيض لبناً وعسلاً ولكن افعلوا واحدة: لا تعصوا الله، ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم خبزنا، ومدفعون في أيدينا، إن كبرياءهم ذهبت منهم، وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد الجماعة من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم بعثوا اثني عشر رجلاً، من كل سبط رجلاً، عيوناً لهم ، وليأتوهم بأخبار القوم. فأما عشرة فجبنوا قومهم وكرهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها، وأن يتبعوا أمر الله، ورغبا في ذلك ، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "عليهم الباب"، قرية الجبارين.
قال أبو جعفر: وهذا أيضاً خبر من الله جل وعز عن قول الرجلين اللذين يخافان الله، أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك ، ويرغبانهم في المضي لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم: توكلوا أيها القوم، على الله في دخولكم عليهم ، فيقولان لهم : ثقوا بالله ، فإنه معكم إن أطعتموه فيما أموكم من جهاد عدوكم . وعنيا بقولهما: "إن كنتم مؤمنين"، إن كنتم مصدقي نبيكم صلى الله عليه وسلم فيما أنباكم عن ربكم من النصرة والظفر عليهم ، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه ، ومؤمنين بأن ربكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوه وعدوكم.
قوله تعالى:" قال رجلان من الذين يخافون " قال ابن عباس وغيره : هما يوشع وكالب بن يوقنا ويقال ابن قانيا وكانا من الاثني عشر نقيبا و" يخافون " أي من الجبارين : قتادة يخافون الله تعالى وقال الضحاك: هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى فمعنى " يخافون " على هذا أي من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على أيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله وقيل: يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم وقرأ مجاهد وابن جبير يخافون بضم الياء وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى " أنعم الله عليهما " أي بالإسلام أو باليقين والصلاح " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعباً منكم فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة ، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخولا من ذلك الباب كان لهم الغلب ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله ثم قالا: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " مصدقين به فإنه ينصركم . ثم قيل على القول الأول ، لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة وقالوا: نصدقكما وندع قول عشرة!
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور, وهما قابيل وهابيل كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله, بغياً عليه وحسداً له, فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل, ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة, وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين, فقال تعالى: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق", أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم, وهما هابيل وقابيل, فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف .
وقوله "بالحق" أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب, ولا وهم ولا تبديل, ولا زيادة ولا نقصان, كقوله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق". وقوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " وقال "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق", وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف, أن الله تعالى: شرع لادم عليه السلام, أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال, ولكن قالوا: كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى, فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر, وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة, فأراد أن يستأثر بها على أخيه, فأبى آدم ذلك, إلا أن يقربا قرباناً, فمن تقبل منه فهي له, فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل, فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه .
ذكر أقوال المفسرين ههنا
قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك, وعن أبي صالح عن ابن عباس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية, فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر, ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر, حتى ولد له ابنان يقال لهما: هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع, وكان هابيل صاحب ضرع, وكان قابيل أكبرهما, وكان له أخت أحسن من أخت هابيل, وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل, فأبى عليه, وقال هي أختي ولدت معي, وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها, فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى, وأنهما قربا قرباناً إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية, وكان آدم عليه السلام قد غاب عنهما, أتى مكة ينظر إليها, قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض ؟ قال: اللهم لا . قال: إن لي بيتاً في مكة, فأته, فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت, وقال للأرض فأبت, وقال للجبال فأبت, فقال لقابيل, فقال: نعم, تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك, فلما انطلق آدم قربا قرباناً, وكان قابيل يفخر عليه, فقال: أنا أحق بها منك هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي, فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة, ففركها وأكلها فنزلت النار, فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي, فقال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير, فحدثني عن ابن عباس, قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها, وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة, فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة, فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي, فقال لا , أنا أحق بأختي, فقربا قرباناً فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع, فقتله, إسناد جيد, وحدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس وقوله "إذ قربا قرباناً" فقربا قربانهما, فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض, وصاحب الحرث بصبرة من طعامه, فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفاً, وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام, إسناد جيد,
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو, قال: إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر, كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم, وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً, وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه, وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان, غير طيبة بها نفسه, وإن الله عز وجل, تقبل قربان صاحب الغنم , ولم يتقبل قربان صاحب الحرث, وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه, قال: وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه, وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان, كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه, فأحبه حتى كان يؤثره بالليل, وكان يحمله على ظهره من حبه, حتى لم يكن له مال أحب إليه منه, فلما أمر بالقربان قربه لله عز وجل فقبله الله منه, فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه السلام, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الأنصاري, حدثنا القاسم بن عبد الرحمن, حدثنا محمد بن علي بن الحسين, قال: قال آدم عليه السلام لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان, فقربا قرباناً حتى تقر عيني, إذا تقبل قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله, وكان قابيل صاحب زرع, فقرب مشاقة من زرعه, فانطلق آدم معهما, ومعهما قربانهما, فصعدا الجبل, فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان, فبعث الله ناراً حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق, فاحتمل قربان هابيل, وترك قربان قابيل, فانصرفوا, وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه, فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك, فقال قابيل أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد علي قرباني, فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح منك, دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل منك, وكان يتوعده بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه, فقال آدم: يا قابيل, أين أخوك ؟ قال: وبعثتني له راعيا لا أدري, فقال آدم: ويلك يا قابيل, انطلق فاطلب أخاك, فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله, وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب, فقال: يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك, فقال هابيل: قربت أطيب مالي, وقربت أنت أخبث مالك وإن الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين, فلما قالها غضب قابيل, فرفع الحديدة وضربه بها, فقال: ويلك يا قابيل, أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله, فطرحه في حوبة من الأرض, وحثى عليه شيئاً من التراب .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل, وأمر هابيل أن ينكح توأمة قابيل, فسلم لذلك هابيل ورضي, وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن أخت هابيل, ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن من ولادة الجنة, وهما من ولادة الأرض, وأنا أحق بأختي, ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس, فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه, قال له أبوه: يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها, وكان قابيل على بذر الأرض, وكان هابيل على رعاية الماشية, فقرب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه, وبعضهم يقول: قرب بقرة, فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله, رواه ابن جرير .
وروى العوفي عن ابن عباس قال: من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان, إذ قالا لو قربنا قرباناً, وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله أرسل إليه ناراً فتأكله, وإن لم يكن رضيه الله خبت النار, فقربا قرباناً, وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً, وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها, وقرب الآخر بعض زرعه, فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع, وإن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد علي, فلا والله لا ينظر الناس إلي وأنت خير مني فقال: لأقتلنك, فقال له أخوه: ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن "إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين" فالسياق يقتضي أنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه, ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته, حتى قال ابن عباس وغيره إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب, والله أعلم, ولم يتقبل من قابيل, كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً, ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال الذي قرب الزرع قابيل وهو المتقبل منه, وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيداً, والله أعلم .
ومعنى قوله "إنما يتقبل الله من المتقين" أي ممن اتقى الله في فعله ذلك, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زيد, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري, قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول "إنما يتقبل الله من المتقين". وحدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم, عن ميمون بن أبي حمزة, قال: كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون ؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة .
وقوله " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه, حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة "إني أخاف الله رب العالمين" أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب, قال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع, ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس, عن بكير بن عبد الله, عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من الماشي, والماشي خير من الساعي" قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني فقال "كن كابن آدم" وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد وقال: هذا حديث حسن, وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في الإسناد رجلاً, قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي, قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي, حدثنا الفضل عن عياش بن عباس, عن بكير عن بشر بن سعيد, عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يارسول الله أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن كابن آدم" وتلا " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ".
قال أيوب السختياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " لعثمان بن عفان رضي الله عنه, رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن حزم, حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر, قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حماراً أردفني خلفه وقال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟" قال: قال الله ورسوله أعلم, قال "تعفف" قال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع ؟" قلت: الله ورسوله أعلم, قال: "اصبر" قال "يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً, يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟" قال: الله ورسوله أعلم, قال "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك" قال: فإن لم أترك, قال "فأت من أنت منهم فكن منهم" قال: فآخذ سلاحي, قال "فإذاً تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك", ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي, من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت به, ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران, عن المشعث بن طريف, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر بنحوه, قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد, وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان عن منصور, عن ربعي, قال: كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلاً يقول: سمعت هذا يقول في ناس, مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها, بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم" .
وقوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي في قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك, قاله ابن جرير. وقال آخرون: يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي, وهذا قول وجدته عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطاً لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه, يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي " قال: بقتلك إياي "وإثمك" قال: بما كان منك قبل ذلك, وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله, وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً .
(قلت) وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول, ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له "ما ترك القاتل على المقتول من ذنب" وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, حدثنا يعقوب بن عبد الله, حدثنا عتبة بن سعيد عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه" وهذا بهذا لا يصح, ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا, ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب, فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات, فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت ولم يستوف حقه, أخذ من سيئات المقتول, فطرحت على القاتل, فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل, وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها, والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم .
وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال إن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى "وإثمك" فهو إثمه يعني قتله وذلك معصية الله عز وجل في أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه وأن الله عز وجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذاً بها القاتل, وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله, هذا لفظه, ثم أورد على هذا سؤالاً حاصله كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم, وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله, بل يكف عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه, قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ, وزجراً له لو انزجر, ولهذا قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي تتحمل إثمي وإثمك "فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين" وقال ابن عباس: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر .
وقوله تعالى: "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين" أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله, أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر, وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين أنه قتله بحديدة في يده, وقال السدي, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس, وعن مرة بن عبد الله, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فطوعت له نفسه قتل أخيه, فطلبه ليقتله, فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال, فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم, فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء, رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع. وقال ابن جرير: لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه, فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر, ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر, ففعل بأخيه مثل ذلك, رواه ابن أبي حاتم, وقال عبد الله بن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, قال: أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله, فجاءه إبليس فقال: أتريد أن تقتله ؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه, قال: فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه, ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً فقال: يا حواء إن قابيل قتل هابيل, فقالت له: ويحك وأي شيء يكون القتل ؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك, قالت: ذلك الموت. قال: فهو الموت, فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح, فقال: مالك ؟ فلم تكلمه, فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله, فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك, وأنا وبني منها برآء, رواه ابن أبي حاتم .
وقوله "فأصبح من الخاسرين" أي في الدنيا والآخرة, وأي خسارة أعظم من هذه ؟ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها, لأنه كان أول من سن القتل" وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق عن الأعمش به, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ووجهه في الشمس حيثما دارت دار, عليه في الصيف حظيرة من نار, وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق, عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلاً لابن آدم الذي قتل أخاه, ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر, وذلك أنه أول من سن القتل, وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه, ورواه ابن جرير أيضاً .
وقوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم: لما مات الغلام تركه بالعراء, ولا يعلم كيف يدفن, فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, فحفر له ثم حثى عليه, فلما رآه قال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي " وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: جاء غراب إلى غراب ميت, فحثى عليه من التراب حتى واراه, فقال الذي قتل أخاه " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي ". وقال الضحاك, عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين, فرآهما يبحثان, فقال "أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" فدفن أخاه, وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتاً لا يدري ما يصنع به, يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب, فقال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقال عطية العوفي: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح, وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله, رواه ابن جرير .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سقط في يده, أي ولم يدر كيف يواريه, وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم, وأول ميت " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين ". قال: وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل, قال له الله عز وجل: يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً, فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن, أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك, فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض .
وقوله "فأصبح من النادمين" قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران, فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة, وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه, كما هو ظاهر القرآن, وكما نطق به الحديث في قوله "إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" وهذا ظاهر جلي, ولكن قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو, عن الحسن هو البصري, قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق" من بني إسرائيل, ولم يكونا ابني آدم لصلبه, وإنما كان القربان من بني إسرائيل, وكان آدم أول من مات, وهذا غريب جداً, وفي إسناده نظر, وقد قال عبد الرزاق, عن معمر عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلاً, فخذوا بالخير منهما" ورواه ابن المبارك, عن عاصم الأحول, عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً, فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم", وكذا أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني, روى ذلك كله ابن جرير. وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك, ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك, أي أضحكك, رواه ابن جرير, ثم قال: حدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم, عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم أخاه بكاه آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه على خوف فجاء بها يصيح
والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة, كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة, وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا, فإنا لله وإنا إليه راجعون .
قوله: 23- "قال رجلان" هما يوشع وكالب بن يوفنا أو ابن فانيا، وكانا من الإثني عشر نقيباً كما مر بيان ذلك. وقوله: "من الذين يخافون" أي يخافون من الله عز وجل، وقيل من الجبارين: أي هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين، وقيل من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم، وقيل إن الواو في "يخافون" لبني إسرائيل: أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير يخافون بضم الياء: أي يخافهم غيرهم. قوله: "أنعم الله عليهما" في محل رفع على أنه صفة ثانية لرجلان، بالإيمان واليقين بحصول ما وعدوا به من النصر والظفر "ادخلوا عليهم الباب" أي باب بلد الجبارين "فإذا دخلتموه فإنكم غالبون" قالا: هذه المقالة لبني إسرائيل. والظاهر أنهما قد علما بذلك من خبر موسى، أو قالاه ثقة بوعد الله، أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً.
23-" قال رجلان من الذين يخافون "، أي: يخافون الله تعالى ، قرأ سعيد بن جبير يخافون بضم الياء ، وقال: الرجلان كانا من الجبارين فأسلما واتبعا موسى ، " أنعم الله عليهما " بالتوفيق والعصمة قالا : " ادخلوا عليهم الباب " يعني قرية الجبارين، " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون "، لأن الله تعالى منجز وعده، وإنا رأيناهم وأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، فلا تخشوهم ، " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "، فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما.
23" قال رجلان " كالب ويوشع. " من الذين يخافون " أي يخافون الله سبحانه وتعالى ويتقونه. وقيل كان رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا الواو لبني إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل، ويشهد له أنه قرئ " الذين يخافون " بالضم أي المخوفين، وعلى المعنى الأول يكون هذا من الإخافة أي الذين يخفون من الله عز وجل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد. " أنعم الله عليهما " بالإيمان والتثبيت وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض. " ادخلوا عليهم الباب " باب قريتهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من الأصحار. " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، ولأنهم أجسام لا قلوب فيها، ويجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة والسلام وقوله: " كتب الله لكم " أو مما علما من عادة الله سبحانه وتعالى في نصرة رسله، وما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة والسلام في قهر أعدائه. " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " أي مؤمنين به ومصدقين بوعده.
23. Then outspake two of those who feared (their Lord, men) unto whom Allah had been gracious: Enter in upon them by the gate, for if ye enter by it, lo! ye will be victorious. So put your trust (in Allah) if ye are indeed believers.
23 - (but) among (their) God fearing men were two on whom God had bestowed his grace: they said: assault them at the (proper) gate: when once ye are in, victory will be yours; But on God but your trust if ye have faith.