(حُرِّمَت عليكم أمهاتكم) أن تنكحوهن وشملت الجدات من قبل الأب أو الأم (وبناتكم) وشملت الأولاد وإن سفلن (وأخواتكم) من جهة الأب أو الأم (وعماتكم) أي أخوات آبائكم وأجدادكم (وخالاتكم) أي أخوات أمهاتكم وجداتكم (وبنات الأخ وبنات الأخت) ويدخل فيهن أولادهم (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) قبل استكمال الحولين خمس رضعات كما بينه الحديث (وأخواتكم من الرضاعة) ويلحق بذلك بالسنة البنات منها وهن من أرضعتهن موطوأته والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت منها لحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". رواه البخاري ومسلم. (وأمهات نسائكم وربائبكم) جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره (اللاتي في حجوركم) تربونها صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) أي جامعتموهن (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن (وحلائل) أزواج (أبنائكم الذين من أصلابكم) بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح حلائلهم (وأن تجمعوا بين الأختين) من نسب أو رضاع بالنكاح ويلحق بهما بالسنة بينها وبين عمتها أو خالتها ويجوز نكاح كل واحدة على الانفراد وملكهما معاً ويطأ واحدة (إلا) لكن (ما قد سلف) في الجاهلية من نكاحهم بعض ما ذكر فلا جناح عليكم فيه (إن الله كان غفوراً) لما سلف منكم قبل النهي (رحيما) بكم في ذلك
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره : حرم عليكم نكاح أمهاتكم ، فترك ذكر النكاح ، اكتفاء بدلالة الكلام عليه.
وكان ابن عباس يقول في ذلك ما:
حدثنا به أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع. ثم قرأ: "حرمت عليكم أمهاتكم" حتى بلغ : "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف"، قال : والسابعة : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع. ثم قرأ : "حرمت عليكم أمهاتكم" إلى قوله : "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم".
حدثنا ابن بشار مرة أخرى قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس مثله.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري بنحوه.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : حرم عليكم سبع نسباً، وسبع صهراً: "حرمت عليكم أمهاتكم" الآية.
حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي ، عن علي بن صالح ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" قال: حرم الله من النسب سبعاً ومن الصهر سبعاً. ثم قرأ : "وأمهات نسائكم وربائبكم"، الآية.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مطرف ، عن عمرو بن سالم مولى الأنصار قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع : "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت" ومن الصهر: "أمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف"، ثم قال: "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"، "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء".
قال أبو جعفر: فكل هؤلاء اللواتي سماهن الله تعالى وبين تحريمهن في هذه الآية ، محرمات ، غير جائز نكاحهن لمن حرم الله ذلك عليه من الرجال ، بإجماع جميع الأمة، لا اختلاف بينهم في ذلك ، إلا في أمهات نسائنا اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن ، فإن في نكاحهن اختلافاً بين بعض المتقدمين من الصحابة : إذا بانت الابنة قبل الدخول بها من زوجها، هل هن من المبهمات ، أمهات من المشروط فيهن الدخول ببناتهن؟
فقال جميع أهل العلم متقدمهم ومتأخرهم : من المبهمات ، وحرام على من تزوج امرأة أمها؟ دخل بامرأته التي نكحها أو لم يدخل بها. وقالوا : شرط الدخول في الربيبة دون الأم ، فأما أم المرأة فمطلقة بالتحريم. قالوا : ولو جاز أن يكون شرط الدخول في قوله : "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، يرجع موصولاً به قوله : "وأمهات نسائكم"، جاز أن يكون الاستثناء في قوله : "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" من جميع المحرمات بقوله : "حرمت عليكم"، الآية.
قالوا: وفي إجماع الجميع على أن الاستثناء في ذلك إنما هو ما وليه من قوله : "والمحصنات"، أبين الدلالة على أن الشرط في قوله : "من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، مما وليه من قوله : "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، دون أمهات نسائنا.
وروي عن بعض المتقدمين أنه كان يقول : حلال نكاح أمهات نسائنا اللواتي لم ندخل بهن ، وأن حكمهن في ذلك حكم الربائب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي رضي الله عنه ، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها؟ قال : هي بمنزلة الربيبة.
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد قال ، حدثنا قتادة، عن خلاس ، عن علي رضي الله عنه قال : هي بمنزلة الربيبة.
حدثنا حميد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد قال ، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت ، أنه كان يقول : إذا ماتت عنده وأخذ ميراثها، كره أن يخلف على أمها. وإذا طلقها قبل أن يدخل بها، فإن شاء فعل.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها، فلا بأس أن يتزوج أمها.
حدثنا القاسم قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني عكرمة بن خالد: أن مجاهداً قال له "وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم"، أريد بهما الدخول جميعاً.
قال أبو جعفر والقول الأول أولى بالصواب ، أعني قول من قال : الأم من المبهمات. وإنما الله لم يشوط معهن الدخول ببناتهن ، كما شرط ذلك مع أمهات الربائب ، مع أن ذلك أيضاً إجماع من الحجة الله التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر، غير أن في إسناده نظراً ، وهو ما:
حدثنا به المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا نكح الرجل المرأة، فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالابنة أم لم يدخل. وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الإبنة.
قال أبو جعفر وهذا خبر، وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به ، مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال لعطاء: الرجل ينكح المرأة لم يرها ولم يجامعها حتى يطلقها، أيحل له أمها؟ قال: لا، هي مرسلة. قلت لعطاء: أكان ابن عباس يقرأ : وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن؟ قان . لا، تترى. قال حجاج ، قلت لابن جريج : ما ترى قال : كأنه قال : لا! لا!
وأما الربائب فإنه جمع ربيبة، وهي ابنة امرأة الرجل. قيد لها ربيبة لتربيته إياها، وإنما هي مربوبة صرفت إلى ربيبة ، كما يقال : هي قتيلة من مقتولة. وقد يقال لزوج المرأة : هو ربيب ابن امرأته، يعنى به : هو رابه، كما يقال : هو خابر، وخبير و شاهد ، وشهيد.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : "من نسائكم اللاتي دخلتم بهن".
فقال بعضهم : معنى الدخول في هذا الموضع ، الجماع.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، والدخول النكاح.
وقال آخرون : الدخول في هذا الموضع : هو التجريد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قلت لعطاء : قوله : "اللاتي دخلتم بهن"، ما الدخول بهن ؟ قال : أن تهدى إليه فيكشف ويعتس ويجلس بين رجليها. قلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها؟ قال : هو سواء، وخسبه ! قد حرم ذلك عليه ابنتها. قلت : تحرم الربيبة ممن يصنع هذا بأمها؟ ألا يحرم علي من أمتي إن صنعته بأمها؟ قال : نعم ، سواء. قال عطاء: إذا كشف الرجل أمته وجلس بين رجليها، أنهاه عن أمها وابنتها.
قال أبو جعفر: وأولى القولين عندي بالصواب في تأويل ذلك ، ما قاله أبن عباس ، من أن معنى : الدخول الجماع والنكاح. وإنما ذلك لا يخلو معناه من أحد أمرين: إما أن يكون على الظاهر المتعارف من معاني الدخول في الناس ، وهو الوصول إليها بالخلوة بها، أو يكون بمعنى الجماع. وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يحرم عليه ابنتها إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها، أو قبل النظر إلى فرجها بالشهوة، ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك ما قلناه.
وأما قوله : "فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم"، فإنه يقول : فإن لم تكونوا، أيها الناس ، دخلتم بأمهات ربائبكم اللاتي في حجوركم فجامعتموهن حتى طلقتموهن ، "فلا جناح عليكم"، يقول : فلا حرج عليكم في نكاح من كان من ربائبكم كذلك.
وأما قوله : "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، فإنه يعني : وأزواج أبنائكم الذين من أصلابكم.
وهي جمع حليلة وهي امرأته.
وقيل : سميت امرأة الرجل حليلته ، لأنها تحل معه في فراش واحد.
ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل ، حرام عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح ، دخل بها أولم يدخل بها.
فإن قال قائل : فما أنت قائل في حلائل الأبناء من الرضاع ، فإن الله تعالى إنما حرم حلائل أبنائنا من أصلابنا؟
قيل : إن حلائل الأبناء من الرضاع وحلائل الأبناء من الأصلاب ، سواء في التحريم. وإنما قال : "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، وإنما معناه : وحلائل أبناء الذين ولدتموهم ، دون حلائل أبنائكم الذين تبنيتموهم ، كما:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، قال : كنا نحدث ، والله أعلم ، أنها نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم حين نكح امرأة زيد بن حارثة، قال المشركون في ذلك ، فنزلت : "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، ونزلت : "وما جعل أدعياءكم أبناءكم" [سورة الأحزاب :4 ]، ونزلت : "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" [الأحزاب : 40].
وأما قوله : "وأن تجمعوا بين الأختين" فإن معناه : وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح ، فـ"أن" في موضع رفع ، كأنه قيل : والجمع بين الأختين.
"إلا ما قد سلف" لكن ما قد مضى منكم ، "إن الله كان غفورا" لذنوب عباده إذا تابوا إليه منها، "رحيما" بهم فيما كلفهم من الفرائض ، وخفف عنهم فلم يحملهم فوق طاقتهم.
يخبر بذلك جل ثناؤه : أنه غفور لمن كان جمع بين الأختين بنكاح في جاهليته ، وقبل تحريمه ذلك ، إذا اتقى الله تبارك وتعالى بعد تحريمه ذلك عليه ، فأطاعه باجتنابه ، رحيم به وبغيره من أهل طاعته من خلقه.
فيه : إحدى وعشرون مسألة:
الأولى- قوله تعالى :" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم" الآية أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم، كما ذكر تحريم حلية الأب فحرم الله سبعاً من النسب وستاً من رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ونص عليه الإجماع وثبتت الرواية عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية. وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك وقال : السابعة قوله تعالى " والمحصنات" فالسبع المحرمات من النسب والأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والسبع المحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين والسابعة " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " قال الطحاوي وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات اللواتي لم يدخل بها أزواجهن فإن الجمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم وبهذا قول جميع أئمة الفتوى بالأمصار .وقالت طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى.
قالوا: معنى قوله " وأمهات نسائكم" أي الاتي دخلتم بهن " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعاً رواه خلاس عن علي بن أبي طالب وروى عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وهو قول ابن الزبير ومجاهد قال مجاهد: الدخول مراد في النازلتين وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا: لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي وحديث خلاس لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عن أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة قال ابن جريج: قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها لا يجامعها حتى يطلقها أو تحل له أمها؟ قال: لا هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل فقلت له: أكان ابن عباس يقرأ " وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " قال : لا. وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : " وأمهات نسائكم" قال: هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت وفيه : فقال زيد لا الأم مبهمة ليس فيها شرط وإنما الشرط في الربائب قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى :" وأمهات نسائكم " ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحداً فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون الظريفات نعتاً لنسائك ونساء زيد فكذلك الآية لا يجوز أن يكون "اللاتي" من نعتها جميعاً لأن الخبرين مختلفان ولكنه يجز على معنى أعني وأنشد الخليل وسيبويه:
إن بها أكتل أو رزاما خويربين ينفقان الهاما
خويربين يعني لصبن، بمعنى أعني وينفقان : يكسران نفقت رأسه كسرته، وقد جاء صريحاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدة "عن النبي صلى الله عليه وسلم :
إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت " أخرجه في الصحيحين .
الثانية- وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان والأعيان ليست مورداً للتحليل والتحريم ولا مصدراً وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون لكن الأعيان لما كانت مورداً للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازاً على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به .
الثالثة- قوله تعالى :" أمهاتكم " تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه، ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته، وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحترمات والأمهات جمع أمهة يقال: أم وأمهة بمعنى واحد، وجاء القرآن بهما. وقد تقدم في الفاتحة بيانه وقيل: إن أصل أم أمهة على وزن فعله مثل قبرة وحمرة لطيرين، فسقطت وعادت في الجمع قال الشاعر:
أمهتي خندف والدوس أبي
وقيل : أصل الأم أمة وأنشدوا:
وتقبلتها عن أمة لك طالما تثوب إليها في النوائب أجمعا
ويكون جمعها أمات قال الراعي:
كانت نجائب منذر ومحرق أمانهن وطرقهن فحيلا
فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة فيدخل في ذلك الأم دنية، وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علوان. والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة وإن شئت قلت: كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن والأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما، والبنات جمع بنت والأصل بنية والمستعمل ابنه وبنت قال الفراء: كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو، فإن أصل أخت أخوة والجمع أخوات، والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما وإن شئت قلت: كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخت أب أمك والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما، وإن شئت قلت: كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة، وكذلك بنت الأخت فهذه السبع المحرمات من النسب. وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس- بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة .
الرابعة- قوله تعالى :" وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" وهي في التحريم مثل من ذكرنا "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وقرأ عبد الله وأمهاتكم اللائي بغير تاء كقوله تعالى :" واللائي يئسن من المحيض" [الطلاق:4] قال الشاعر:
من اللاء لم يحجبن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا
" أرضعنكم" فإذا أرضعت المرأة طفلاً حرمت عليه لأنها أمة ،وبنتها لأنها أخته وأختها لأنها خالته، وأمها لأنها جدته، وبنت زوجها صاحب اللبن لأنه أخته، وأخته لأنها عمته وأمه لأنها جدته، وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته .
الخامسة- قال أبو نعيم عبيد الله بن هشام الحلبي: سئل ملك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة؟ قال: نعم قال أبو نعيم : وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتها قال : يفرق بينهما وما أخذت من شيء له فهو لها وما بقي عليه فلا شيء عليه، ثم قال مالك: إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذا فأمر بذلك فقالوا: يا رسول الله إنها امرأة ضعيفة "فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أليس يقال إن فلانا تزوج أخته؟".
السادسة- التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين، كما تقدم في البقرة ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصه واحدة واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين: أحدهما خمس رضعات، لحديث عائشة قالت:
كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخاً للخمس ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس، لأنه لا ينسخ بهما وفي حديث سهلة :
"أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن " الشرط الثاني- أن يكون في الحولين، فإن كان خارجاً عنهما لم يحرم لقوله تعالى :" حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " [البقرة :233] وليس بعد التمام والكمال شيء. واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر ومالك الشهر ونحوه وقال زفر: ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين وقال الأوزاعي : إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وروي عن أبي موسى الأشعري، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها فجعل يمصه ويمجه فدخل في بطنه جرعة منه، فسأل أبا موسى فقال : بانت منك وأت ابن مسعود فأخبره ففعل فأقبل بالأعرابي إلى أن أبي موسى الأشعري: وقال : أرضيعاً ترى هذا الأشمط إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم، قال الأشعري : لا تسألين عن شء وهذا الحبر يبن أظهركم، فقوله : لا تسألوني يدل على أنه رجع عن ذلك واحتج عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأه كان رجلاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسلة بنت سهيل: أرضيعه " خرجه الموطأ وغيره وشذن طائفة فاعتبرت عشر رضعات، تمسكاً بأنه كان فيما أنزل: عشر رضعات وكأنهم لم يبلغهم الناسخ. وقال داود: لا يحرم إلا بثلاث رضعات واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا تحرم الإملاجة والإملاجتان" خرجه مسلم ، وهو مروي عن عائشة وابن الزبير وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وهو تمسك بدليل الخطاب وهو مختلف فيه. وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا، متمسكين بأقل منا ينطلق عليه اسم الرضاع، وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر، بعلة أنه معنى طارئ يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر وقال الليث بن سعد: وأجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم قال أبو عمر:لم يقف الليث على الخلاف في ذلك .
قلت- وأنص ما في هذا الباب "قوله صلى الله عليه وسلم :
لا تحرم المصة ولا المصتان" أخرجه مسلم في صحيحه، وهو يفسر معنى قوله تعالى : " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" أي أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع، "لقوله : عشر رضعات معلومات وخمس رضعات معلومات" فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف ويفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم والله أعلم، وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت لأنه مرة يرويه لا يثبت لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عيه وسلم ومرة يروية عن عائشة ومرة يرويه عن أبيه ، ومثل هذا الاضطراب يسقطه وروي عن عائشة أنه لا يحرم إلا سبع رضعات ، وروي عنها أنها أمرت أختها أم كلثوم أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات، وروي عن حفصة مثله وروي عنها ثلاث وروي عنها خمس كما قال الشافعي رضي الله عنه وحكي عن إسحاق .
السابعة- قوله تعالى :" وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" استدل به من نفى لبن الفحل وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سليمة بن عبد الرحمن وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئاً من قبل الرجل وقال الجمهور : قوله تعالى :" وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" يدل على أن الفحل أب لأن اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده، وهذا ضعيف فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعاً، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غي أن يكون مضافاً إلى الرجل بوجه ما ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن وإنما اللبن لها ، لا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء و"قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يحرم من الرضاع ما يحرم م النسب " يقتضي التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها، ونعم الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة "عن عائشة رضي الله عنها:
أن أفلح اخا القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب قالت : فأبيت أن آذن له : فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فال: ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك " وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها، وهذا أيضاً خبر واحد. ويحتمل أن يكون ألفح مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك قال "ليلج عليهم فإنه عمك " وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله ولكن العمل عليه، والاحتياط في التحريم أولى ، مع أن قوله تعالى :" وأحل لكم ما وراء ذلكم" [النساء:24] يقوي قول المخالف.
الثامنة- قوله تعالى : " وأخواتكم من الرضاعة" وهي الأخت لأب وأم وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدها والأخت من الأب دون الأم، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك، والأخت من الأم دون الأب، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر، ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى: "وأمهات نسائكم" والصهر أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم .
التاسعة- قوله تعالى :" وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " هذا مستقل بنفسه ولا يرجع قوله:" من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " إلى الفريق الأول بل هو راجع إلى الربائب إذ هو أقرب مذكور كما تقدم والربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره سميت بذلك لأنه يربيها في حجرة فهي مربوبة فعليه بمعنى مفعولة واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها، واحتجوا بالآية فاقلوا: حرم الله تعالى الربيبة بشرطين: أحدهما- أن تكون في حجر المتزوج بأمها. والثاني- الدخول بالأم فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم واحتجوا "بقوله عليه السلام:
لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي أنها ابنة أخي من الرضاعة " فشرط الحجر ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك قال ابن المنذر والطحاوي: أما الحديث عن علي فلا يثبت لأن رواية إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن عليج وإبراهيم هذا لا يعرف، أكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف قال أبو عبيد ويدفعه" قوله :
فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن " فعم ولم يقل: اللائي في حجري ولكنه سوى بينهن في التحريم، قال الطحاوي: وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك فعلى الأغلب مما يكن عليه الربائب لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك .
العاشرة- قوله تعالى :" فإن لم تكونوا دخلتم بهن " يعني بالأمهات " فلا جناح عليكم" يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم. وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب، فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما، واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر، فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها، وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة، وقال الثوري: يحرم إذا نظر إلى فرجها متعمداً أو لمسها، ولم يذكر الشهوة وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعي. والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ وقد يحتمل أن يقال: إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع، فإن النظر اجتماع ولقاء، وفيه بين المحبين استمتاع، وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا:
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تدان
نعم وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني
فكيف بالنظر والمجالسة والمحادثة واللذة.
الحادية عشرة- قوله تعالى :" وحلائل أبنائكم " الحلائل جمع حليلة وهي الزوجة سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل فهي فعليه بمعنى فاعلة وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظ الحلال فهي حليلة بمعنى محللة وقيل: لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.
الثانية عشرة- أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء، كان مع العقد وطء أو لم يكن لقوله تعالى :" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " وقوله تعالى:" وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم" فإن نكح أحدهما نكاحاً فاسداً حرم على الأخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح لأن النكاح الفاسد لا يخلو: إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفاً فيه فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكماً وكان وجوده كعدمة وإن كان مختلفاً فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح، لاحتمل أن يكون نكاحاً فيدخل تحت مطلق اللفظ والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحري والله أعلم قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولده وأجمع العلماء وهي المسألة :
الثالثة عشرة- على أن عقد الشراء على الجارية يحرمها على أبيه وابنه فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه لا أعلمهم يختلفون فيه فوجب تحريم ذلك تسليماً لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه. وقال يعقوب ومحمد : إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه وتحرم عليه أمها وابنتها وقال مالك: إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعداً لذلك وإن لم يفض إليها، أو قبلها، أو باشرها أو غمزها تلذذاً فلا تحل لابنه. وقال الشافعي: إنما يحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس، وهو قول الأوزاعي.
الرابعة عشرة - واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا فقال أكثر أهل العلم : لو أصاب الرجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك وكذلك لا تحريم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، ثم يدخل بامرأته ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك وقالت طائفة: تحرم عليه روي هذا القول عن عمران بن حصين، وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي عن مالك وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال، وهو قول أهل العراق. والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز: أن الزنى لا حكم له لأن الله سبحانه وتعالى قال:" وأمهات نسائكم " وليست التي زنى بها من أمهات نسائه ولا ابنتها من ربائبه وهو قول الشافعي وأبو ثور لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز وروى الدارقطني من حديث الزهري "عن عروة عن عائشة قال :
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح" ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج وقوله :
يا غلام من أبوك ؟ قال:فلان الراعي فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال فلا تحل أم المزني ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده وهي رواية ابن القاسم في المدونة ويستدل به أيضاً على أن المخلوقة من ماء الزاني لا تحل للزاني بأمها وهو المشهور "قال عليه السلام:
لا ينظر الله إلى الرجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها " ولم يفصل بين الحلال والحرام و"قال عليه السلام:
لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها" قال ابن خويز منداد ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة وقال عبد الملك الماجشون إنها تحل وهو الصحيح لقوله تعالى :" وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا" [ الفرقان:54] يعني بالنكاح الصحيح على ما يأتي في الفرقان بيانه. ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريح أنه نسب ابن الزنى للزاني وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فثبتت البنوة وأحكامها .
فإن قيل: فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك وقد أنفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة؟ .
فالجواب- إن ذلك موجب ما ذكرناه، وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثناه ويبقي الباقي على أصل ذلك الدليل والله أعلم .
الخامسة عشرة- واختلف العلماء أيضاً من هذا الباب في مسألة اللائط فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم لا يحرم النكاح باللواط، وقال الثوري : إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه وهو قول أحمد بن حنبل. قال : إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنه بنت من قد دخل به وهو قول أحمد بن حنبل.
السادسة عشرة - قوله تعالى : " الذين من أصلابكم" تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب. ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون: تزوج امرأة ابنه وكان عليه السلام تبناه على ما يأتي بيانه في الأحزاب وحرمت حليلة الابن من الرضاع- وإن لم يكن للصب- بالإجماع المستند إلى "قوله عليه السلام :
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "
السابعة عشرة- قوله تعالى :" وأن تجمعوا بين الأختين " موضع أن رفع على العطف على " حرمت عليكم أمهاتكم" والأختان لفظ يعلم الجميع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية و"قوله عليه السلام:
لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" واختلفوا في الأختين بملك اليمين ، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء وإن كان يجوز الجمع في الملك بإجماع، وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة. واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. قال أبو عمر: من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه ومن جعله كالوطء لم يجزه وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة لقول الله تعالى :" وأن تجمعوا بين الأختين " يعني الزوجتين بعقد النكاح فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب إن شاء الله والله أعلم .
الثامنة عشرة- شذ أهل الظاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين حرمتهما آية وأخلتهما آية ذكره عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال : لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتها آية فخرج السائل فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معمر: أحسبه قال علي- قال: وما سألت عنه عثمان ؟ فأخبره بما سأله وبما أفتاه فقال له: لكني أنهاك ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالاً وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان والآية التي أحلتهما قوله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم " ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول ، لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل وممن قال ذلك من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير. وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهم بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك وجعل مالكاً فيمن كره، ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك وكذلك الأم وابنتها قال ابن عطية: ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء وتستقرأ الكراهية من قول مالك: إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حداً. قال أبو عمر: أما قول علي لجعلته نكالاً ولم يقل لحدته حد الزاني فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراماً فليس بزان بإجماع وإن كان مخطئاً إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر جهله. وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين : أحتلهما آية وحرمتهما آية معلوم محفوظ كيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية ؟ وبالله التوفيق .
التاسعة عشرة - واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوجها، قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثلث- وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما هكذا قال الحكم، وحماد وروي معنى ذلك عن النخعي ومذهب مالك : إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك : إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ولم يوكل ذلك إلى أمانته، لأنه متهم فيمن قد وطئ ولم يكن قبل متهماً إذ كان لم يطأ إلا الواحدة، ومذهب الكوفيين في هذا الباب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى، فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة فأما بعد انقضاء العدة فلا حتى يملك فرج التي يطأ غيره، وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه. قالوا: لأن الملك الذي منع وطء الجارية في الابتداء موجود فلا فرق بين عودتها إليه وين بقائها في ملكه، وقول مالك حسن، لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال ولم يختلفوا في العتق لأنه لا يتصرف فيه بحال وأما المكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه.فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختا ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح الثالث- في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم أحداهما مع كراهية لهذا النكاح إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح، كما تقدم عن الشافعي: وفي الباب بعينه قول آخر: أن النكاح لا ينعقد، وهو معنى قول الأوزاعي وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة.
الموفية عشرين- وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعاً سواها حتى تنقضي عدة المطلقة واختلفوا إذا طلقها طلاقاً لا يملك رجعتها فقالت: طائفة ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق وروي عن علي وزيد بن ثابت، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: له أن ينكح أختها وأربعاً سواها وروي عن عطاء وهي أثبت الروايتين عنه وروي عن زيد بن ثابت أيضاً وبه قال سعيد بن المسيب والحسنو القاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول.
الحادية والعشرون- قوله تعالى :" إلا ما قد سلف" يحتمل أن يكون معناه معنى قوله " إلا ما قد سلف" في قوله " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " ويحتمل معنى زائداً وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين على ما قاله مالك والشافعي من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع وسواء عقد عليهما عقداً واحداً جمع به بينهما أو جمع يبنهما في عقدين وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد. وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال : كان أهل الجاهلية يعرفون هذا المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين إحداهما نكاح امرأة الأب، والثانية الجمع بين الأختين ألا ترى أنه قال:" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" ولم يذكر في سائر المحرمات إلا ما قد سلف والله أعلم .
هذه الاية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: حرمت عليكم سبع نسباً وسبع صهراً, وقرأ "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" الاية، وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد, حدثنا أبو أحمد, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن إسماعيل بن رجاء عن عمير, مولى ابن عباس, عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع, ثم قرأ "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت" فهن النسب. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى: "وبناتكم" فإنها بنت, فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل, وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتاً شرعية, فكما لم تدخل في قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" فإنها لا ترث بالإجماع, فكذلك لا تدخل في هذه الاية, والله أعلم, وقوله تعالى: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة" أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك, كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك, ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن عمرة بنت عبد الرحمن, عن عائشة أم المؤمنين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة", وفي لفظ لمسلم "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب", وقال بعض الفقهاء: كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاعة إلا في أربع صور, وقال بعضهم: ست صور هي مذكورة في كتب الفروع والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك, لأنه يوجد مثل بعضها من النسب, وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر فلا يرد على الحديث شيء أصلاً البتة, ولله الحمد وبه الثقة. ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة, فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الاية, وهذا قول مالك, ويروى عن ابن عمر, وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وقال آخرون: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات, لما ثبت في صحيح مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه, عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" وقال قتادة, عن أبي الخليل, عن عبد الله بن الحارث, عن أم الفضل, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان, والمصة ولا المصتان", وفي لفظ آخر "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان" رواه مسلم. وممن ذهب إلى هذا القول: الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه, وأبو عبيد وأبو ثور, وهو مروي عن علي وعائشة وأم الفضل وابن الزبير وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير رحمهم الله. وقال آخرون: لا يحرم أقل من خمس رضعات, لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر, عن عمرة, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: كان فيما أنزل من القرآن "عشر رضعات معلومات يحرمن" ثم نسخن بخمس معلومات, فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن, وروى عبد الرزاق عن معمر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة, نحو ذلك. وفي حديث سهلة بنت سهيل, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة خمس رضعات, وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات, وبهذا قال الشافعي وأصحابه, ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله "يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" ثم اختلفوا هل يحرم لبن الفحول, كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم, أو إنما يختص الرضاع بالأم فقط, ولا ينتشر إلى ناحية الأب, كما هو قول لبعض السلف ؟ على قولين, تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير. وقوله " وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ", أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها, سواء دخل بها أو لم يدخل, وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل, فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها, ولهذا قال " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " في تزويجهن, فهذا خاص بالربائب وحدهن. وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب, فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها, لقوله "فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم". وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن علي رضي الله تعالى عنه, في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها, أيتزوج أمها ؟ قال: هي بمنزلة الربيبة, وحدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن زيد بن ثابت, قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وفي رواية عن قتادة, عن سعيد, عن زيد بن ثابت, أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها, فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل. وقال ابن المنذر: حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق, عن ابن جريج, قال: أخبرني أبو بكر بن حفص عن مسلم بن عويمر الأجدع, أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف, قال: فلم أجامعها حتى توفى عمي عن أمها, وأمها ذات مال كثير, فقال أبي: هل لك في أمها ؟ قال: فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر, فقال: انكح أمها ؟ قال: وسألت ابن عمر, فقال: لا تنكحها, فأخبرت أبي بما قالا, فكتب إلى معاوية فأخبره بما قالا, فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله, ولا أحرم ما أحل الله, وأنت وذاك والنساء سواها كثير. فلم ينه ولم يأذن لي فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عن رجل عن عبد الله بن الزبير, قال: الربيبة والأم سواء لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة, وفي إسناده رجل مبهم لم يسم. وقال ابن جريج: أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهداً قال له "وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم" أراد بهما الدخول جميعاً, فهذا القول كما ترى مروي عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس, وقد توقف فيه معاوية. وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني فيما نقله الرافعي عن العبادي. وقد روي عن ابن مسعود مثله, ثم رجع عنه, قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري, حدثنا عبد الرزاق عن الثوري, عن أبي فروة, عن أبي عمرو الشيباني, عن ابن مسعود: أن رجلاً من بني كمخ من فزارة تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته. فاستفتى ابن مسعود, فأمره أن يفارقها ثم تزوج أمها, فتزوجها وولدت له أولاداً, ثم أتى ابن مسعود المدينة, فسئل عن ذلك, فأخبر أنها لا تحل له, فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل: إنها عليك حرام ففارقها. وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم, فإنها تحرم بمجرد العقد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن محمد ابن هارون بن عزرة, حدثنا عبد الوهاب عن سعيد, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس, أنه كان يقول: إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها, وروي أنه قال: إنها مبهمة, فكرهها. ثم قال: وروي عن ابن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وطاوس وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وابن سيرين وقتادة والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة, وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً, ولله الحمد والمنة ـ قال ابن جرير: والصواب قول من قال: الأم من المبهمات, لأن الله لم يشترط معهن الدخول كما اشترطه مع أمهات الربائب, مع أن ذلك أيضاً إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر غير أن في إسناده نظراً, وهو ما حدثني به المثنى, حدثنا حبان بن موسى, حدثنا ابن المبارك, أخبرنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها, دخل بالبنت أو لم يدخل, وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلقها, فإن شاء تزوج الابنة", ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه, فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره. وأما قوله تعالى: "وربائبكم اللاتي في حجوركم" فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل, أو لم تكن في حجره, قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, كقوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا". وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان, وفي لفظ لمسلم عزة بنت أبي سفيان, قال "أو تحبين ذلك" ؟ قالت: نعم لست لك بمخلية, وأحب من شاركني في خير أختي, قال "فإن ذلك لا يحل لي". قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة, قال "بنت أم سلمة" ؟ قالت: نعم. قال "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي, إنها لبنت أخي من الرضاعة, أرضعتني وأبا سلمة ثويبة, فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" وفي رواية للبخاري "إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي", فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة, وحكم بالتحريم لذلك, وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف وقد قيل: بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل, فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, أنبأنا هشام ـ يعني ابن يوسف ـ عن ابن جريج, حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة, أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان, قال: كانت عندي امرأة فتوفيت, وقد ولدت لي فوجدت عليها, فلقيني علي بن أبي طالب فقال: ما لك ؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة ؟ قلت: نعم وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك ؟ قلت: لا, هي بالطائف قال: فانكحها, قلت: فأين قول الله "وربائبكم اللاتي في حجوركم" ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك, هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم, وهو قول غريب جداً, وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله, واختاره ابن حزم, وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله, فاستشكله وتوقف في ذلك, والله أعلم. وقال ابن المنذر, حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قوله "اللاتي في حجوركم", قال: في بيوتكم, وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس, عن ابن شهاب: أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين, توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر: ما أحب أن أخبرهما جميعاً يريد أن أطأهما جميعاً بملك يميني, وهذا منقطع. وقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا أبو الأحوص, عن طارق بن عبد الرحمن, عن قيس, قال: قلت لابن عباس: أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له ؟ فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية, ولم أكن لأفعله. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين, لأن الله حرم ذلك في النكاح, قال "وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم" وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس, وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. وروى هشام عن قتادة: بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة, وكذا قال قتادة عن أبي العالية, ومعنى قوله "اللاتي دخلتم بهن" أي نكحتموهن, قاله ابن عباس وغير واحد. وقال ابن جريج عن عطاء: هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها. وقلت: أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها ؟ قال: هو سواء, وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها. وقال ابن جرير: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا يحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
وقوله تعالى: "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم" أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم, يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية. كما قال تعالى: " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم " الاية, وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم". قال: كنا نحدث ـ والله أعلم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد, قال المشركون بمكة في ذلك, فأنزل الله عز وجل: "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم" ونزلت "وما جعل أدعياءكم أبناءكم", ونزلت "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم", وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا الجرح بن الحارث عن الأشعث, عن الحسن بن محمد: أن هؤلاء الايات مبهمات "وحلائل أبنائكم" "وأمهات نسائكم", ثم قال: وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول, نحو ذلك. (قلت) معنى مبهمات أي عامة في المدخول بها وغير المدخول, فتحرم بمجرد العقد عليها, وهذا متفق عليه, فإن قيل: فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة كما هو قول الجمهور, ومن الناس من يحكيه إجماعاً وليس من صلبه, فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وقوله تعالى: "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" الاية. أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين معاً في التزويج, وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف, كما قال "لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى" فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً, وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح, ومن أسلم وتحته أختان, خير فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة. قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجيشاني, عن الضحاك بن فيروز, عن أبيه, قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان, فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق أحداهما. ثم رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن لهيعة, وأخرجه أبو داود والترمذي أيضاً من حديث يزيد بن أبي حبيب, كلاهما عن أبي وهب الجيشاني, قال الترمذي واسمه ديلم بن الهوشع. عن الضحاك بن فيروز الديلمي, عن أبيه به, وفي لفظ للترمذي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اختر أيتهما شئت", ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد رواه ابن ماجه أيضاً بإسناد آخر فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرعيني, قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية, فقال "إذا رجعت فطلق إحداهما" قلت: فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز, ويحتمل أن يكون غيره, فيكون أبو وهب قد رواه عن اثنين عن فيروز الديلمي, والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى, حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني, حدثنا هيثم بن خارجة, حدثنا يحيى بن إسحاق عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن رزيق بن حكيم, عن كثير بن مرة, عن الديلمي, قال: قلت: يا رسول الله, إن تحتي أختين, قال "طلق أيهما شئت", فالديلمي المذكور أولاً هو الضحاك بن فيروز الديلمي قال أبو زرعة الدمشقي: كان يصحب عبد الملك بن مروان, والثاني هو أبو فيروز الديلمي رضي الله عنه, وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي المتنبىء لعنه الله, وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضاً لعموم الاية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة, عن عبد الله بن أبي عنبة أو عتبة عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين, فكرهه فقال له ـ يعني السائل: يقول الله تعالى: "إلا ما ملكت أيمانكم" فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وبعيرك مما ملكت يمينك. وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم, وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك, عن ابن شهاب, عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين, هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية, وما كنت لأصنع ذلك, فخرج من عنده, فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك, فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. قال مالك: قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب. قال: وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك. قال ابن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستذكار: إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طاب لصحبته عبد الملك بن مروان, وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ثم قال أبو عمر: حدثني خلف بن أحمد قراءة عليه: أن خلف بن مطرف حدثهم: حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة, قالوا: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي, حدثني عمي إياس بن عامر, قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني, اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولاداً ثم رغبت في الأخرى فما أصنع ؟ فقال علي رضي الله عنه: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى, قلت: فإن ناساً يقولون: بل تزوجها ثم تطأ الأخرى, فقال علي: أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها, أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد, أو قال: إلا الأربع, ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب, ثم قال أبو عمر: هذا الحديث رحلة, لو لم يصب الرجل من أقصى المغرب أو المشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته. قلت: وقد روي عن علي نحو ما روي عن عثمان. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن العباس, حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي, حدثنا عبد الرحمن بن غزوان, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال لي علي بن أبي طالب: حرمتهما آية وأحلتهما آية ـ يعني الأختين ـ قال ابن عباس: يحرمهن علي قرابتي منهن ولا يحرمهن علي قرابة بعضهن من بعض, يعني الإماء وكانت الجاهلية يحرمون ما تحرمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. فلما جاء الإسلام أنزل الله "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" يعني في النكاح, ثم قال أبو عمر: روى الإمام أحمد بن حنبل, حدثنا محمد بن سلمة عن هشام, عن ابن سيرين, عن ابن سيرين, قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد, وعن ابن مسعود والشعبي نحو ذلك. قال أبو عمر: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس, ولكنهم اختلف عليهم, ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا العراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب, إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس, وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه, وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" إلى آخر الاية, أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء, فكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم, وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. وقوله تعالى: "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات, وهن المزوجات "إلا ما ملكت أيمانكم", يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن, فإن الاية نزلت في ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان هو الثوري عن عثمان البتي, عن أبي الخليل, عن أبي سعيد الخدري, قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس, ولهن أزواج, فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج, فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الاية "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" فاستحللنا بها فروجهن, وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم, ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج, ثلاثتهم عن عثمان البتي, ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سوراي عن عثمان البتي, ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة, كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم, عن أبي سعيد الخدري, فذكره, وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة, عن أبي الخليل, عن أبي سعيد الخدري به. وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل, عن أبي علقمة الهاشمي, عن أبي سعيد الخدري, قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد, عن قتادة, عن أبي الخليل, عن أبي علقمة, عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس, لهن أزواج من أهل الشرك, فكأن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن, قال: فنزلت هذه الاية في ذلك "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة, زاد مسلم: وشعبة, ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى, ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن, ولا أعلم أن أحداً ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة ـ كذا قال ـ وقد تابعه سعيد وشعبة, والله أعلم.
وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في سبايا خيبر, وذكر مثل حديث أبي سعيد, وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقاً لها من زوجها أخذاً بعموم هذه الاية, وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى, حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال: كان عبد الله يقول: بيعها طلاقها. ويتلو هذه الاية "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود, قال: بيعها طلاقها وهو منقطع, ورواه سفيان الثوري عن خالد, عن أبي قلابة, عن ابن مسعود, قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج, فسيدها أحق ببضعها. ورواه سعيد عن قتادة, قال: إن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس, قالوا: بيعها طلاقها. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب ابن علية عن خالد, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: طلاق الأمة ست: بيعها طلاقها, وعتقها طلاقها, وهبتها طلاقها, وبراءتها طلاقها, وطلاق زوجها طلاقها, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله "والمحصنات من النساء" قال: هن ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك, فبيعها طلاقها. قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك, وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن الحسن في قوله "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" قال إذا كان لها زوج, فبيعها طلاقها. وروى عوف عن الحسن: بيع الأمة طلاقها, وبيعه طلاقها, فهذا قول هؤلاء من السلف, وقد خالفهم الجمهور قديماً وحديثاً, فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقاً لها لأن المشتري نائب عن البائع, والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها, واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما, فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ونجزت عتقها, ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث, بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, بين الفسخ والبقاء, فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة, فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم, فلما خيرها دل على بقاء النكاح, وأن المراد من الاية المسبيات فقط, والله أعلم. وقد قيل: المراد بقوله "والمحصنات من النساء" يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي, واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً, حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عمر وعبيدة "والمحصنات من النساء" ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.
وقوله تعالى: "كتاب الله عليكم" أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم, فالزموا كتابه, ولا تخرجوا عن حدوده, والزموا شرعه وما فرضه. وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله "كتاب الله عليكم" يعني الأربع. وقال إبراهيم "كتاب الله عليكم" يعني ما حرم عليكم. وقوله تعالى: "وأحل لكم ما وراء ذلكم" أي ما عدا من ذكرن من المحارم, هن لكم حلال, قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي "وأحل لكم ما وراء ذلكم" ما دون الأربع, وهذا بعيد, والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة: "وأحل لكم ما وراء ذلكم" يعني ما ملكت أيمانكم, وهذه الاية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين, وقول من قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية, وقوله تعالى: "أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين" أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع, أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي, ولهذا قال "محصنين غير مسافحين". وقوله تعالى: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" أي كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك, كما قال تعالى: "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض" وكقوله تعالى: "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة", وكقوله "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" وقد استدل بعموم هذه الاية على نكاح المتعة, ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام, ثم نسخ بعد ذلك, وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ مرتين. وقال آخرون: أكثر من ذلك. وقال آخرون: إنما أبيح مرة ثم نسخ مرة, ثم نسخ, ولم يبح بعد ذلك. وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة, وهو وراية عن الإمام أحمد, وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ", وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة, ولكن الجمهور على خلاف ذلك. والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة, وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام. وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني, عن أبيه, أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة, فقال "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء, وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة, فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله, ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" وفي رواية لمسلم: في حجة الوداع, وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام, وقوله تعالى: "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة" من حمل هذه الاية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى, قال: فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به, وزيادة للجعل, قال السدي: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى, يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما, فقال: أتمتع منك أيضاً بكذا وكذا, فازاد قبل أن يستبرىء رحمها يوم تنقضي المدة, وهو قوله تعالى: "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة". قال السدي: إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل, وهي منه بريئة وعليها أن تستبرىء ما في رحمها, وليس بينهما ميراث, فلا يرث واحد منهما صاحبه, ومن قال بهذا القول الأول جعل معناه كقوله "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة" الاية, أي إذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه, فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الأعلى, حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه, قال: زعم الحضرمي أن رجالاً كانوا يفرضون المهر, ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة, فقال: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ. واختار هذا القول ابن جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة" والتراضي أن يوفيها صداقها ثم يخيرها, يعني في المقام أو الفراق. وقوله تعالى: "إن الله كان عليماً حكيماً" مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.
قوله 23- "حرمت عليكم أمهاتكم" أي: نكاحهن، وقد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحل وما يحرم من النساء فحرم سبعاً من النسب، وستاً من الرضاع والصهر، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، ووقع عليه الإجماع. فالسبع المحرمات من النسب الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. والمحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، فهؤلاء ست، والسابعة منكوحات الآباء، والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها. قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم. وقال بعض السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى. قالوا: ومعنى قوله "وأمهات نسائكم" أي: اللاتي دخلتم بهن، وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعاً، رواه خلاس عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وابن الزبير ومجاهد، قال القرطبي: ورواية خلاس عن علي لا تقوم بها حجة، ولا تصح روايته عند أهل الحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة. وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحداً، فلا يجوز من جهة الإعراب، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحداً، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهويت نساء زيد الظريفات، على أن يكون الظريف نعتاً للجميع، فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهن نعتاً لهم جميعاً، لأن الخبرين مختلفان. قال ابن المنذر: والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله "وأمهات نسائكم". ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها، فإن شاء تزوج الابنة" قال ابن كثير في تفسيره مستدلاً للجمهور: وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظراً، فذكر هذا الحديث ثم قال، وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فإن إجماع الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره، قال في الكشاف: وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى انتهى. ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم. واعلم أنه يدخل في لفظ الأمهات أمهاتهن وجداتهن وأم الأب وجداته وإن علون، لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدته وإن سفل. ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد وإن سفلن، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين أو لأحدهما، والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو أحدهما. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأم. والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت، وكذلك بنت الأخت. قوله "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حنيفة، وظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعاً، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة، والبحث عن تقرير ذلك وتحقيقه يطول، وقد استوفيناه في مصنفاتنا وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع. قوله "وأخواتكم من الرضاعة" الأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الإخوة والأخوات، والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. قوله "وأمهات نسائكم" قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول وعدمه. والمحرمات بالمصاهرة أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن. قوله " وربائبكم " الربيبة بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة فعلية بمعنى مفعولة. قال القرطبي: واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر، فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها، وقد روي ذلك عن علي. قال ابن المنذر والطحاوي: لم يثبت ذلك عن علي لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس بن الحدثان عن علي، وإبراهيم هذا لا يعرف. وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم. والحجور جمع حجر. والراجح أنهن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن كما هو الغالب- وقيل المراد بالحجور البيوت: أي في بيوتكم، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة. قوله "فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم" أي: في نكاح الربائب، وهو تصريح بما دل عليه مفهوم ما قبله.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب: فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما. وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث والزيدية: إن الزوج إذا لمس الأم لشهوة حرمت عليها ابنتها وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن جرير الطبري: وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها وقبل النظر إلى فرجها لشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع انتهى. وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها. واختلفوا في النظر، فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة، وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة. وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعي. والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعاً أو لغة، فإن كان خاصاً بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك. وأما الربيبة في ملك اليمين فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك. وقال ابن عباس: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله. وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين لأن الله حرم ذلك في النكاح قال "وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم" وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم انتهى. قوله "وحلائل أبنائكم" الحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة، سميت بذلك لأنها تحل مع الزوج حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن، لقوله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" وقوله "وحلائل أبنائكم".
واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسداً هل يقتضي التحريم أم لا؟ كما هو مبين في كتب الفروع. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده. وأجمع على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه، فإذا اشترى جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه لا أعلمهم يختلفون فيه، فوجب تحريم ذلك تسليماً لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال: لا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه. قوله: "الذين من أصلابكم" وصف للأبناء: أي دون من تبنيتم من أولاد غيركم كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، ومنه قوله تعالى "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً" ومنه قوله تعالى "وما جعل أدعياءكم أبناءكم" ومنه: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" وأما زوجة الابن من الرضاع فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه، وقد قيل إنه إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب. ووجهه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ولا خلاف أن أولاد الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم.
وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم: إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوج بأم من زنى بها وبابنتها. وقالت طائفة من أهل العلم: إن الزنا يقتضي التحريم. حكي ذلك عن عمران بن حصين والشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكي ذلك عن مالك، والصحيح عنه كقول الجمهور. احتج الجمهور بقوله تعالى "وأمهات نسائكم" وبقوله "وحلائل أبنائكم" والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ولا من حلائل أبنائهم.
وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها، فقال: لا يحرم الحرام الحلال". واحتج المحرمون بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال: يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا، وهذا احتجاج ساقط، واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ولم يفصل بين الحلال والحرام". ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرم الحلال.
واختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري: إذا لاط بالصبي حرمت عليه أمه، وهو قول أحمد بن حنبل قال: إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته. وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به. ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم. قوله "وأن تجمعوا بين الأختين" أي: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين فهو في محل رفع عطفاً على المحرمات السابقة، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين. وقيل: إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين، وأما في الوطء بالملك فلا حق بالنكاح، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد النكاح.
واختلفوا في الأختين بملك اليمين، فذهب كافة العلماء إلى أنه يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط. وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك، وسيأتي بيان ذلك. واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك. فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك يمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. وقد ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك. قال ابن عبد البر بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس، ولكنهم اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءها من المشرق ولا بالشام ولا المغرب إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس. وقد ترك من تعمد ذلك. وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" إلى آخر الآية، أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، فكذلك يجب أن يكون قياساً ونظراً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب، وكذا هو عند جمهورهم، وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها، والله المحمود انتهى.
وأقول: ها هنا إشكال، وهو أنه قد تقرر أن النكاح يقال على العقد فقط، وعلى الوطء فقط، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، أو كونهما حقيقتين معروف، فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية وهي قوله "حرمت عليكم أمهاتكم" إلى آخرها، على أن المراد تحريم العقد عليهن لم يكن في قوله تعالى "وأن تجمعوا بين الأختين" دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك، وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم" إلى آخره، يستوي فيه الحرائر والإماء والعقد، والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أول الآية إلى آخرها، فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور، فالحق لا يعرف بالرجال، فإن جاء به خالصاً عن شوب الكدر فبها ونعمت، وإلا كان الأصل الحل، ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعاً أعني العقد والوطء، لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع، أو من باب الجمع بين معنيي المشترك، وفيه الخلاف المعروف في الأصول فتدبر هذا.
وقد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك، فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة، وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه ولا يقربها، ثم يمسك عنها حتى تستبرئ المحرمة ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث، وهو أنه لا يقرب واحدة منهما، هكذا قال الحكيم وحماد. وروي معنى ذلك عن النخعي. وقال مالك: إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو كتابة أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ولم يوكل ذلك إلى أمانته لأنه متهم. قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقاً لا يملك رجعتها، فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق. روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت ومجاهد وعطاء والنخعي والثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي. وقال طائفة: له أن ينكح أختها وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهن طلاقاً بائناً. روي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد. قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك. وهو أيضاً إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء. قوله "إلا ما قد سلف" يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدم من قوله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" ويحتمل معنى آخر، وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين. والصواب الاحتمال الأول.أ
23-قوله تعالى: "حرمت عليكم أمهاتكم" الآيه، بين الله تعالى في هذه الآية المحرمات بسبب الوصلة، وجملة المحرمات في كتاب الله تعالى أربعة عشر: سبع بالنسب، وسبع بالسبب.
فأما السبع بالسبب فمنها اثنتان بالرضاع وأربع بالصهرية والسابعة المحصنات، وهن ذوات الأزواج.
وأما السبع بالنسب قوله تعالى: "حرمت عليكم أمهاتكم" وهي جمع أم فيدخل فيهن الجدات وإن علون من قبل الأم ومن قبل الأب، "وبناتكم" جمع: البنت، فيدخل فيهن بنات الأولاد وإن سفلن، "وأخواتكم"، جمع الأخت سواء كانت من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما، "وعماتكم" جمع العمة، ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك وأجدادك وإن علون، "وخالاتكم"جمع خاله، ويدخل فيهن جميع أخوات أمهاتك وجداتك، "وبنات الأخ وبنات الأخت"، ويدخل فيهن بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن،وجملته: أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده، والأصول هي الأمهات والجدات، والفصول البنات وبنات الأولاد،وفصول أول أصوله هي الأخوات وبنات الإخوة والأخوات، وأول فصل من كل أصل بعده هن العمات والخالات وإن علون.
وأما المحرمات بالرضاعة فقوله تعال :"وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة".
وجملته: أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبوإسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة".
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي قال: أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن "عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، فقالت عائشه رضي الله عنها فقلت: يا رسول الله لو كان فلان حياً - لعمها من الرضاعة - أيدخل علي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة".
وإنما تثبت حرمة الرضاعة بشرطين، أحدهما: أن يكون قبل استكمال المولود حولين، لقوله تعالى "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" (البقرة - 233) ور
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم"، وإنما يكون هذا في حال الصغر .
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: مدة الرضاع ثلاثون شهراً لقوله تعالة: "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً" (الأحقاف- 15)، وهو عند الأكثرين لأقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع وأقل مدة الحمل ستة أشهر.
والشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات، يروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وبه قال عبد الله بن الزبير وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره يحرم، وهو قول ابن عباس وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب سفيان الثوري،ومالك والأوزاعيوعبد الله بن المبارك وأصحاب الرأي.
واحتج من ذهب إلى أن القليل لا يحرم بما أخبرناأحمد بن عبد الله الصالحيأناأبو سعيد محمد بن موسى الصيرفيأناأبو العباس الأصمأنامحمد بن عبد الله بن عبد الحكمأناأنس بن عياض عنهشام ابن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحرم المصة من الرضاع والمصتان " هكذا روى بعضهم هذا الحديث ورواه عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح.
أخبرناأبو الحسن السرخسي أنازاهر بن أحمدأناأبو إسحاق الهاشميأناأبو مصعب عنمالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عنعمرة بنت عبد الرحمنعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.
وأما المحرمات بالصهرية فقوله:"وأمهات نسائكم" / وجملته :أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب بنفس العقد.
"وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن"، والربائب جمع : ربيبة: وهي بنت المرأة ، سميت ربيبة لتربيته إياها ، وقوله :"في حجوركم " أي: في تربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته،"دخلتم بهن"أي: جامعتموهن.
ويحرم عليه أيضاً بنات المنكوحة وبنات أولادها، وإن سفلن من الرضاع والنسب بعد الدخول بالمنكوحة، حتى لو فارق المنكوحة قبل الدخول بها أو ماتت جاز له أن ينكح بنتها،(ولا يجوز له أن ينكح أمها) لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات وقال في تحريم الربائب:
"فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم" ، يعني: في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن او متن ، وقال علي رضي الله عنه: أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت كالربيبة.
"وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم"، يعني:أزواج أبنائكم، واحدتها: حليلة، والذكر حليل، سميا بذلك لأن كل واحد منها (حلال لصاحبه، وقيل: سميا بذلك لأن كل واحد منهما) يحل حيث يحل صاحبه من الحلول وهو النزول ، وقيل: إن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه من الحل وهو ضد العقل.
وجملته:أنه يحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد، وإنما قال "من أصلابكم" ليعلم أن حليلة المتبنى لا تحرم على الرجل الذي تبناه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم .
والرابع من المحرمات بالصهرية: حليلة الأب والجد وإن علا، فيحرم على الولد وولد الولد بنفس العقد سواء كان الأب من الرضاع أو من النسب ، لقوله تعالى:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". وقد سبق ذكره.
وكل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين ، والوطء بشبهة النكاح، حتى لو وطىء امرأة / بالشبهة أو جارية بملك اليمين فتحرم على الواطىء أم الموطوءة وابنتها وتحرم الموطوءة على أب الواطىء وعلى ابنه.
ولو زنى بامرأة فقد اختلف فيه أهل العلم: فذهبت جماعة إلى أنه لا تحرم على الزاني أم المزني بها وابنتها، وتحرم الزانية على أب الزاني وابنه، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والزهري ، واليه ذهب مالك والشافعي رحمهم الله تعالى.
وذهب قوم إلى التحريم ، يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة رضي الله عنهما، وبه قال جابر ابن زيد والحسن وهو قول أصحاب الرأي.
ولو لمس امرأة بشهوة أو قبلها ، فهل يجل ذلك كالدخول في إثبات حرمة المصاهرة؟ وكذلك لو لمس امرأة بشهوة فهل يجعل كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان، أصحهما وهو قول أكثر أهل العلم :أنه تثبت به الحرمة، والثاني : لا تثبت كما لا تثبت بالنظر بالشهوة.
قوله تعالى:"وأن تجمعوا بين الأختين"، لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح سواء كانت الأخوة بينهما بالنسب أو بالرضاع، فإذا نكح امرأة ثم طلقها بائناً جاز له نكاح أختها، وكذلك لو ملك أختين بملك اليمين لم يجز له أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطىء إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرم الأولى على نفسه.
وكذلك لا يجوز أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخاتلها، لما أخبرناأبو الحسن السرخسيأخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشميأناأبو مصعب عنمالك عنأبي الزنادعنالأعرجعن أبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجمع بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها".
قوله تعالى:"إلا ما قد سلف"يعني: لكن ما مضى فهو معفو عنه، لأنهم كانوا يفعلونه قبل الإسلام ، وقالعطاءوالسدي: إلا ما كان من يعقوب عليه السلام فإنه جمع بين ليا أم يهوذا وراحيل أم يوسف ، وكانتا أختين "إن الله كان غفوراً رحيماً".
23" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت " ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد بهن، ولأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله: " حرمت عليكم الميتة " ولأن ما قبله وما بعده في النكاح، وأمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك وإن علت، وبناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها وإن سفلت، وأخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة. وكذلك الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد ذكراً ولدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريباً أو بعيداً، وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى. " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " نزل الله الضراعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أماً والمرضعة أختاً، وأمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة ووالد الطفل الذي در عليه اللبن قال عليه الصلاة والسلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب. " وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ذكر أولاً محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة، لأن لها لحمة كلحمة النسب، ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج، والربائب جمع ربيبة. والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر، فعيل بمعنى مفعول وإنما لحقه التاء لأنه صار اسماً من نسائكم متعلق بربائبكم، واللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإجماع قضية للنظم، ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضاً لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية، وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بياناً لنسائكم والكلمة الواحدة لا تحمل عل معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله:
إذا حاولت في أسد فجوراً فإني لست منك ولست مني
على معنى أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما فقال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها "إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها". وإليه ذهب عامة العلماء، غير أنه روي أن علي رضي الله تعالى عنه تقييد التحريم فيهما. ولا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لان عاملهما مختلف، وفائدة قوله " في حجوركم " تقوية العلة وتكميلها، والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن وهن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها وبين أولادكم وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة، وإله ذهب جمهور العلماء. وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جعله شرطاً، والأمهات والربائب يتناولان القريبة والبعيدة، وقوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر وهي كناية عن الجماع، ويؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة، أو ملك يمين. وعند أبي حنيفة لمس المنكوحة ونحوه كالدخول. " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " تصريح بعد إشعار دفعاً للقياس. " وحلائل أبنائكم " زوجاتهم، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج. " الذين من أصلابكم " احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد " وأن تجمعوا بين الأختين " في موضع الرفع عطفاً على المحرمات، والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي حرمة في ملك اليمين، ولذلك قال عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما: حرمتهما آية وأحلتهما آية، يعنيان هذه الآية. وقوله: " أو ما ملكت أيمانكم " فرجح علي كرم الله تعالى وجهه التحريم، وعثمان رضي الله تعالى عنه التحليل. وقول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غي ذلك ولقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام". " إلا ما قد سلف " استثناء من لازم المعنى، أو منقطع معناه ما قد سلف مغفور له لقوله: " إن الله كان غفورا رحيما ".
23. Forbidden unto you are your mothers, and your daughters, and your sisters, and your father's sisters, and your mother's sisters, and your brother's daughters and your sister's daughters, and your foster mothers, and your foster sisters, and your mothers-in-law, and your stepdaughters who are under your protection (born) of your women unto whom ye have gone in but if ye have not gone in unto them, then it is no sin for you (to marry their daughters) and the wives of your sons who (spring) from your own loins. And (it is forbidden unto you) that ye should have two sisters together, except what hath already happened (of that nature) in the past. Lo! Allah is ever Forgiving, Merciful.
23 - Prohibited to you (for marriage) are: your mothers, daughters, sisters; father's sisters, mother's sisters; brother's daughters, sister's daughters; foster mothers (who gave you suck), foster sisters; your wives' mothers; your step daughters under your guardianship, born of your wives to whom ye have gone in, no prohibition if ye have not gone in; (those who have been) wives of your sons proceeding from your loins; and two sisters in wedlock at one and the same time, for God is oft forgiving, most merciful;