23 - (وقدمنا) عمدنا (إلى ما عملوا من عمل) من الخير كصدقة وصلة رحم وقرى ضيف وإغاثة ملهوف في الدنيا (فجعلناه هباء منثورا) هو ما يرى في الكوى التي عليها الشمس كالغبار المفرق أي مثله في عدم النفع به إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا
يقول تعالى ذكره : " وقدمنا " وعمدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون " من عمل " ، ومنه قول الراجز :
و قدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم و قالوا
إن دماءكم لنا حلال
يعنى بقوله : قدم : عمد .
و بنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، و حدثني الحارث ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : " وقدمنا " قال : عمدنا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله . وقوله : " فجعلناه هباء منثورا " يقول : فجعلناه باطلا ، لأنهم لم يعلموه لله وإنما علموه للشيطان . والهباء : هو الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوة يحسبه الناظر غبارا ليس بشيء تقبض عليه الأيدي و لا تمسه ، و لا يرى ذلك في الظل .
و اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال ، ثنا محمد ، قال ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية " هباء منثورا " قال : الغبار الذي يكون في الشمس .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " قال : الشعاع في كوة أحدهم إن ذهب يقبض عليه لم يستطع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، و حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " هباء منثورا " قال : شعاع الشمس من الكوة .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله " هباء منثورا " قال : ما رأيت شيئا يدخل البيت من الشمس تدخله من الكوة ، فهو الهباء .
و قال آخرون : بل هو ما تسفيه الرياح من التراب ، و تذروه من حطام الأشجار ، و نحو ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : " هباء منثورا " قال : ما تسفي الريح و تبثه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، " هباء منثورا " قال : هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " هباء منثورا " قال : الهباء : الغبار .
و قال آخرون : هو الماء المهراق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " هباء منثورا " يقال : الماء المهراق .
قوله تعالى : " وقدمنا إلى ما عملوا من " هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة ، أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم . يقال : قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده . وقال مجاهد : " قدمنا " أي عمدنا . وقال الراجز :
وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم فقالوا إن دماءكم
لنا حلال
وقيل : هو قدوم الملائكة ، أخبر به عن نفسه تعالى فاعله . " فجعلناه هباء منثورا " أي لا ينتفع به ، أي أبطلناه بالكفر . وليس " هباء " من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين . والتصغير هبي في موضع الرفع ، ومن النحويين من يقول : هبي في موضع الرفع ، حكاه النحاس . وواحدة هباة والجمع أهباء . قال الحارث بن حلزة يصف ناقة :
فترى خلفها من الرجع والوقع منيناً كأنه أهبـاء
وروى الحارث عن علي قال : القباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة وقال الأزهري : الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار . تأويله : إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور . فأما الهباء المنيث فهو ما تثيره الخيل بسانبكها من الغبار . والمنبث المتفرق . وقال ابن عرفة : الهبوة الهباء التراب الدقيق . الجوهري : ويقال له إذا اربفع هبا يهبو وأهبيته أنا . والهبوة الغبرة . قال رؤبة :
تبدو لنا أعلامه بعد الغرق في قطع الآل وهبوات الدقق
وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة . وقيل : إنه ما ذرته الرياح من يابس من أوراق الشجر ، وقاله قتادة وابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً : إنه الماء المهراق . وقيل : إنه الرماد ، قاله عبيد بن يعلى .
يقول تعالى مخبراً عن تعنت الكفار في كفرهم, وعنادهم في قولهم "لولا أنزل علينا الملائكة" أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء, كما أخبر الله عنهم في الاية الأخرى "قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله" ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا "لولا أنزل علينا الملائكة" فنراهم عياناً فيخبرونا أن محمداً رسول الله, كقولهم " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان, ولهذا قالوا: "أو نرى ربنا" ولهذا قال الله تعالى: "لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً" وقد قال تعالى: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى " الاية. وقوله تعالى: "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً" أي هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم, بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم, وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار, والغضب من الجبار, فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه, اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث, اخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم, فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه, كما قال الله تعالى: "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم" الاية, وقال تعالى: "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم" أي بالضرب "أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون" ولهذا قال في هذه الاية الكريمة "يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين" وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم, فإنهم يبشرون بالخيرات, وحصول المسرات, قال الله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم ". وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب : أن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب إن كنت تعمرينه, اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم عند قوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ".
وقال آخرون: بل المراد بقوله "يوم يرون الملائكة لا بشرى" يعني يوم القيامة, قاله مجاهد والضحاك وغيرهما, ولا منافاة بين هذا وما تقدم, فإن الملائكة في هذين اليومين: يوم الممات ويوم المعاد, تتجلى للمؤمنين وللكافرين, فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان, وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران, فلا بشرى يومئذ للمجرمين "ويقولون حجراً محجوراً" أي وتقول الملائكة للكافرين: حرام محرم عليكم الفلاح اليوم. وأصل الحجر المنع ومنه يقال حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف, إما لفلس أو سفه أو صغر أو نحو ذلك, ومنه سمي الحجر عند البيت الحرام, لأنه يمنع الطواف أن يطوفوا فيه, وإنما يطاف من ورائه, ومنه يقال للعقل حجر, لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق, والغرض أن الضمير في قوله "ويقولون" عائد على الملائكة, هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني وخصيف وغير واحد واختاره ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو نعيم , حدثنا موسى يعني ابن قيس , عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في الاية "ويقولون حجراً محجوراً" قال: حراماً محرماً أن يبشر بما يبشر به المتقون. وقد حكى ابن جرير عن ابن جريج أنه قال ذلك من كلام المشركين "يوم يرون الملائكة" أي يتعوذون من الملائكة, وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقول "حجراً محجوراً" وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه, ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه, ولكن قد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله "حجراً محجوراً" أي عوذاً معاذاً فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج , ولكن في رواية ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال "حجراً محجوراً" عوذاً معاذاً الملائكة تقول ذلك, فا لله أعلم.
وقوله تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل" الاية, هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر, فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء, وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشريعة المرضية فهو باطل, فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين, وقد تجمعهما معاً فتكون أبعد من القبول حينئذ, ولهذا قال تعالى: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً" قال مجاهد والثوري "وقدمنا" أي عمدنا, وكذا قال السدي , وبعضهم يقول: أتينا عليه.
وقوله تعالى: "فجعلناه هباء منثوراً" قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله "هباء منثوراً" قال: شعاع الشمس إذا دخل الكوة, وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك وغيرهم, وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدهم, ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "هباء منثوراً" قال: هو الماء المهراق. وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي "هباء منثوراً" قال: الهباء رهج الدواب, وروي مثله عن ابن عباس أيضاً و الضحاك , وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال قتادة في قوله "هباء منثوراً" قال: أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح ؟ فهو ذلك الورق. وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن عبيد بن يعلى قال: وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح, وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الاية, وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء, فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا إنها لا شيء بالكلية, وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية, كما قال تعالى "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح" الاية. وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا " وقال تعالى: "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً" وتقدم الكلام على تفسير ذلك, ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً" أي يوم القيامة "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون" وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات الامنات, فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام "خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً" وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات, والحسرات المتتابعات, وأنواع العذاب والعقوبات "إنها ساءت مستقراً ومقاماً" أي بئس المنزل منظراً, وبئس المقيل مقاماً, ولهذا قال تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً" أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا, وصاروا إلى ما صاروا إليه, بخلاف أهل النار فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار, فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء, وأنه لا خير عندهم بالكلية, فقال تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً" قال الضحاك عن ابن عباس : إنما هي ضحوة فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين, ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين.
وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار, فيقيل أهل الجنة في الجنة, وأهل النار في النار, قال الله تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً". وقال عكرمة : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة, فينصرف أهل النار إلى النار, وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة فكانت قيلولتهم في الجنة, وأطعموا كبد حوت فأشبعهم كلهم, وذلك قوله "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً" وقال سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء, ثم قرأ "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً" وقرأ "ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم".
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً" قال: قالوا في الغرف من الجنة, وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة, وذلك الحساب اليسير, وهو مثل قوله تعالى: " فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا ". وقال قتادة "خير مستقراً وأحسن مقيلاً" مأوى ومنزلاً. وقال قتادة : وحدث صفوان بن محرز أنه قال: يجاء برجلين يوم القيامة أحدهما كان ملكاً في الدنيا إلى الحمرة والبياض, فيحاسب فإذا عبد لم يعمل خيراً قط فيؤمر به إلى النار, والاخر كان صاحب كساء في الدنيا فيحاسب فيقول: يا رب ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به, فيقول الله: صدق عبدي فأرسلوه فيؤمر به إلى الجنة, ثم يتركان ما شاء الله, ثم يدعى صاحب النار فإذا هو مثل الحممة السوداء, فيقال له: كيف وجدت ؟ فيقول: شر مقيل, فيقال له: عد, ثم يدعى بصاحب الجنة فإذا هو مثل القمر ليلة البدر, فيقال له: كيف وجدت ؟ فيقول: رب خير مقيل, فيقال له: عد. رواها ابن أبي حاتم كلها. وقال ابن جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب , أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيداً الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس, وإنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس, وذلك قوله تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً".
23- "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً" هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعلمون أعملالاً لها صورة الخير: من صلة الرحم، وإغاثة الملهوف وإطعام الطعام وأمثالها، ولم يمنع من الإثابة عليها إلا الكفر الذي هم عليه، فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى ما معهم من المتاع فأفسده ولم يترك منها شيئاً، وإلا فلا قدوم ها هنا. قال الواحدي: معنى قدمنا عمدنا وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده، ومنه قول الشاعر:
وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال
وقيل هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى، والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل: الهباء التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل في الكوة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، وكذا قال الأزهري: والمنثور المفرق، والمعنى: أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرق متبدد، وقيل إن الهباء ما أذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، وقيل هو الماء المهراق، وقيل الرماد. والأول هو الذي ثبت في لغة العرب ونقله العارفون بها. ثم مير سبحانه حال الأبرار من حال الفجار.
23- "وقدمنا"، وعمدنا، "إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً"، أي: باطلاً لا ثواب له، فهم لم يعلموه لله عز وجل.
واختلفوا في الهباء، قال علي: هو ما يرى في الكوة إذا وقع ضوء الشمس فيها كالغبار، ولا يمس بالأيدي، ولا يرى في الظل، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد، والمنثور: المتفرق.
وقال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير: هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر.
وقال مقاتل: هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير.
وقيل: الهباء المنثور: ما يرى في الكوة، والهباء المنبث: هو ما تطيره الرياح من سنابك الخيل.
23ـ " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً " أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقري الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره ، وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثراً ، والـ " هباء " غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار ، و
" منثوراً " صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم التي كانوا يتوجهون به نحوها ، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى : " كونوا قردة خاسئين " .
23. And We shall turn unto the work they did and make it scattered motes.
23 - And We shall turn to whatever deeds they did (in this life), and We shall make such deeds as floating dust scattered about.