(ولا تنكحوا ما) بمعنى من (نكح آباؤكم من النساء إلا) لكن (ما قد سلف) من فعلكم ذلك فإنه معفو عنه (إنه) أي نكاحهن (كان فاحشة) قبيحا (ومقتا) سببا للمقت من الله وهو أشد البغض (وساء) بئس (سبيلاً) طريقاً ذلك
قال أبو جعفر: قد ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يخلفون على حلائل آبائهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فحرم الله تبارك وتعالى عليهم المقام عليهن ، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشركهم من فعل ذلك ، لم يؤاخذهم به ، إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه.
ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال ، حدثنا قراد قال ، حدثنا ابن عيينة وعمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين.
قال: فأنزل الله : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف"، "وأن تجمعوا بين الأختين"،
حدثنا محمد بن بشار قال ،حدثنامحمد بن عبد الأعلى قال ،حدثنا سعيد،عن قتادة في قوله :"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الآية، قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله ، إلا أن الرجل كان يخلف على حليلة أبيه ، ويجمعون بين الأختين ، فمن ثم قال الله : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف"، قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت ، خلف على أم عبيد بنت صخر، كانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خلف ، وكان خلف عنى بنت أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ؟كانت عند أبيه خلف ، وفي فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية، وفي منظور بن زبان ، وكان خلف على مليكة ابنة خارجة، وكانت عند أبيه زبان بن سيار.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء بن أبي رباح : الرجل ينكح المرأة، ثم لا يراها حتى يطلقها، أتحل لابنه؟ قال : هي مرسلة، قال الله تعالى : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". قال : قلت لعطاء: ما قوله : "إلا ما قد سلف"؟ قال : كان الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ين أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الآية، يقون : كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك ، دخل أو لم يدخل ، فهي عليك حرام.
واختلف في معنى قوله : "إلا ما قد سلف".
فقال بعضهم :معناه :لكن ما قد سلف فدعوه ،وقالوا: هو من الاستثناء المنقطع.
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا نكاح آبائكم ، بمعنى : ولا تنكحوا كناحكم ، كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الإسلام ، "إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا"، يعني : أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحوا إنما في جاهليتهم ، كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا - إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح ، لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفو لكم عنه . وقالوا: قوله : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"، كقول القائل، للرجل : لا تفعل ما فعلت ، ولا تأكل ما أكلت ، بمعنى: لا تأكل كما أكلت ، ولا تفعل كما فعلت.
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم ، إلا ما قد سلف منهم من وجوه بالزنا عندهم ، فإن نكاحهن لكم حلال ، وإنما هن لم يكن لهم حلائل ، وإنما كان ما كان من آبائكم ومنهن من ذلك ، فاحشة ومقتاً وساء سبيلا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" الآية، قال : الزنا، "إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا"، فزاد ههنا المقت.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، على ما قاله أهل التأويل في تأويله ، أن يكون معناه: لا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم ، إلا ما قد سلف منكم فمضى في الجاهلية، فإنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا، فيكون قوله : "من النساء" من صلة قوله : "ولا تنكحوا"، ويكون قوله : "ما نكح آباؤكم" بمعنى المصدر، ويكون قوله : "إلا ما قد سلف" بمعنى الاستثناء المنقطع ، وإنما يحسن في موضعه : لكن ما قد سلف فمضى، "إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا".
فإن قال قائل : وكيف يكون هذا القول موافقاً قول من ذكرت قوله من أهل التأويل ، وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم في ذلك ، إنما قالوا : أنزلت هذه الآية في النهى عن نكاح حلائل الآباء، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم ؟
قيل له: إنما قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل ، إذ كانت ما في كلام العرب لغير بني آدم ، وأنه لو كان المقصود بذلك النهي عن حلائل الآباء، دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراماً ابتداء مثله في الإسلام بنهي الله جل ثناؤه عنه ، لقيل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، وإنما ذلك هو المعروف في كلام العرب ، إذ كان من لبني آدم ، و ما لغيرهم ، ولم يقل : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء". وأما قوله تعالى ذكره : "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" فإنه يدخل في "ما"، ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم. فحرم عليهم في الإسلام بهذه الآية، نكاح حلائل الآباء وكل نكاح سواه نهى الله تعالى ذكره [عن] ابتداء مثله في الإسلام ، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم.
ومعنى قول: إلا ما قد سلف، إلا ما قد مضى، "إنه كان فاحشة"، يقول : إن نكاحكم الذي سلف منكم كنكاح آبائكم المحرم عليكم ابتداء مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم ، "فاحشة" يقول : معصية، "ومقتا وساء سبيلا"، أي بئس طريقاً ومنهجاً، ما كنتم تفعلون في جاهليتكم من المناكح التي كنتم تناكحونها.
فيه أربع مسائل
الأولى- قوله تعالى :" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" يقال: كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" حتى نزلت هذه الآية: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " فصار حراماً في الأحوال كلها لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الثانية- قوله تعالى :" ما نكح" قيل: المراد بها النساء. وقيل العقد: أني نكاح آبائكم الفاسد المخالف لدين الله ، إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه، وهو اختيار الطبري في من متعلقه ب تنكحوا و " ما نكح" مصدر قال : ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللآتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع ما من فالنهي على هذا إنما وقع على ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد، والأول أصح وتكون ما بمعنى الذي ومن الدليل عليه أن الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى، ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء. وقد كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافراً وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره فكان بنو أمية أخوة مسافر وأبي معيط وأعمامها ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أميه قتل عنها، ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكه بنت خارجة وكانت تحت أبيه زبان بن سيار ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن. والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه وقال الأشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولداً، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة.
الثالثة- قوله تعالى :" إلا ما قد سلف" أي تقدم ومضى والسلف: من تقدم من آبائك وذوي قرابتك، وهذا استثناء منقطع أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه وقيل إلا بمعنى نبعد أي بعدما سلف كما قال تعالى :" لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى" [الدخان:56] أي بعد موته الموتة الأولى ، وقيل: " إلا ما قد سلف " أي ولا ما سلف، كقوله تعالى :" وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " [النساء:92] يعني ولا خطأ وقيل: في الآية تقديم وتأخير معناه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف وقيل: في الآية إضمار لقوله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف .
الرابعة- قوله تعالى :" إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا" عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية. قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي عن النكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أ ومات عنها ويقال لهذا الرجل: الضيزن وقال ابن عرفة: كانت العرب إذا تزوج الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد: المقتي وأصل المقت البغض من مقته يمقته مقتاً فهو ممقوت ومقيت فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه: مقيت، فسمى تعالى هذا النكاح مقتا إذ هو مقت يلحق فاعله وقيل: المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، إلا ما قد سلفت من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن، وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آبائكم من الزنى، قاله ابن زيد، وعليه فيكون الاستثناء متصلاً، ويكون أصلاً في أن الزنى لا يحرم على ما يأتي بيانه والله أعلم .
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الشيباني عن عكرمة, عن ابن عباس, ـ قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي, ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ـ "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كانوا إذا مات الرجل, كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها, وإن شاؤوا زوجوها, وإن شاؤوا لم يزوجوها, فهم أحق بها من أهلها, فنزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان, عن عكرمة, وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء, كوفي أعمى, كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي, حدثني علي بن حسين عن أبيه, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله تعالى عن ذلك, أي نهى عن ذلك, تفرد به أبو داود, وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. فقال وكيع عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عن مقسم, عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها, فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها, فنزلت "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية, ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها, وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها, وروى العوفي عنه: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم, ألقى ثوبه على امرأته, فورث نكاحها, ولم ينكحها أحد غيره, وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية, فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وقال زيد بن أسلم في الاية: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية, ورث امرأته من يرث ماله, وكان يعضلها حتى يرثها, أو يزوجها من أراد, وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها, ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها, فنهى الله المؤمنين عن ذلك, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا علي بن المنذر, حدثنا محمد بن فضيل, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, عن أبيه, قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت, أراد ابنه أن يتزوج امرأته, وكان لهم ذلك في الجاهلية, فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به. ثم روى من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة, حبسها أهله على الصبي يكون فيهم, فنزلت "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" الاية. وقال ابن جريج: قال مجاهد: كان الرجل إذ توفي, كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها, أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس, توفي عنها أبو قيس بن الأسلت, فجنح عليها ابنه, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله, لا أنا ورثت زوجي, ولا أنا تركت فأنكح, فأنزل الله هذه الاية. وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها, جاء وليه فألقى عليها ثوباً, فإن كان له ابن صغير, أو أخ, حبسها حتى يشب, أو تموت فيرثها, فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوباً, نجت, فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وقال مجاهد في هذه الاية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها, فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه, رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان, نحو ذلك. قلت: فالاية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد, ومن وافقه, وكل ما كان فيه نوع من ذلك, والله أعلم. وقوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أي لا تضاروهن في العشرة, لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك, أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "ولا تعضلوهن" يقول: ولا تقهروهن "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" يعني الرجل, تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها, ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي, وكذا قال الضحاك وقتادة, واختاره ابن جرير, وقال ابن المبارك وعبد الرزاق: أخبرنا معمر, قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن البيلماني, قال: نزلت هاتان الايتان, إحداهما في أمر الجاهلية, والأخرى في أمر الإسلام. قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" في الجاهلية, "ولا تعضلوهن" في الإسلام. وقوله "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال: يعني بذلك الزنا, يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها, وتضاجرها حتى تتركه لك, وتخالعها, كما قال تعالى في سورة البقرة: " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " الاية, وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان, واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان, والنشوز وبذاء اللسان, وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها, وهذا جيد, والله أعلم. وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفرداً به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت, أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله عن ذلك, أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري: وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية, ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام, وقال عبد الرحمن بن زيد: كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة, فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه, فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد, فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال: فهذا قوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" الاية, وقال مجاهد في قوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" أي طيبوا أقوالكم لهن, وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها, فافعل أنت بها مثله, كما قال تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي" وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر, يداعب أهله, ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته, ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, يتودد إليها بذلك, قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته, وذلك قبل أن أحمل اللحم, ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني, فقال "هذه بتلك" ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان, ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها, وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد, يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار, وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام, يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام, ولله الحمد.
وقوله تعالى "فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه, خير كثير لكم في الدنيا والاخرة, كما قال ابن عباس في هذه الاية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً, ويكون في ذلك الولد خير كثير, وفي الحديث الصحيح "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر".
وقوله تعالى: "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال, وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا. وفي هذه الاية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل, وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق, ثم رجع عن ذلك, كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين, قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي, قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا في صداق النساء, فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله, كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم, ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية, وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة, ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مسيب البصري, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(طريق أخرى عن عمر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد, عن الشعبي, عن مسروق, قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس, ما إكثاركم في صدق النساء. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم, فما دون ذلك, ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل, فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين, نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم, قال: نعم, فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال: وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله يقول "وآتيتم إحداهن قنطاراً" الاية ؟ قال: فقال: اللهم غفراً, كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم, فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل, إسناده جيد قوي.
(طريق أخرى) قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق, عن قيس بن ربيع, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء, فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر, إن الله يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً" ـ من ذهب ـ قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود, " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ", فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
(طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد, ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة من صفة النساء طويلة, في أنفها فطس: ما ذاك لك. قال: ولم ؟ قالت: لأن الله قال "وآتيتم إحداهن قنطاراً" الاية, فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكراً "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض" أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك ؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد: يعني بذلك الجماع ـ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما "الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب ؟" قالها ثلاثاً, فقال الرجل: يا رسول الله مالي ؟ ـ يعني ما أصدقها ـ قال "لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها, وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها". في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها, فإذا هي حامل من الزنا, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له, فقضى لها بالصداق, وفرق بينهما, وأمر بجلدها, وقال "الولد عبد لك. فالصداق في مقابلة البضع" ولهذا قال تعالى "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض".
وقال تعالى: "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, أن المراد بذلك العقد. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي, نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الاية: هو قوله "أخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله" فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة, قال: وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, قال له "جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي" رواه ابن أبي حاتم, وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها "واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
وقال تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الاية, يحرم الله تعالى زوجات الاباء تكرمة لهم, وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده, حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها, وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت, عن رجل من الأنصار, قال: لما توفي أبو قيس ـ يعني ابن الأسلت ـ وكان من صالحي الأنصار, فخطب ابنه قيس امرأته, فقالت: إنما أعدك ولداً وأنت من صالحي قومك, ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أبا قيس توفي, فقال "خيراً" ثم قالت: إن ابنه قيساً خطبني, وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولداً فما ترى ؟ فقال لها "ارجعي إلى بيتك", قال: فنزلت "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الاية, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخرة, وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف, وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار, وكان عند أبيه خلف, وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف, فخلف عليها صفوان بن أمية. وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الاباء كان معمولاً به في الجاهلية, ولهذا قال "إلا ما قد سلف" كما قال "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" قال: وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة, تزوج بامرأة أبيه, فأولدها ابنه النضر بن كنانة, قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم "ولدت من نكاح لا من سفاح" قال: فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك, فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً فيما بينهم. فقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي, حدثنا قراد, حدثنا ابن عيينة عن عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين, فأنزل الله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" "وأن تجمعوا بين الأختين", وهكذا قال عطاء وقتادة, ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر, والله أعلم, وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الاية, مبشع غاية التبشع, ولهذا قال تعالى: "إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً" وقال " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " وقال " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا " فزاد ههنا "ومقتاً" أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه, ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته, فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله, ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب, بل حقه أعظم من حق الاباء بالإجماع, بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه . وقال عطاء بن أبي رباح في قوله "ومقتاً" أي يمقت الله عليه, "وساء سبيلاً" أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس, فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه, فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب, عن خاله أبي بردة ـ وفي رواية: ابن عمر, وفي رواية: عن عمه ـ أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت, عن البراء بن عازب, قال: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم أين بعثك النبي ؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
(مسألة) وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة, واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع, أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية, فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضاً بذلك, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة, فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب, فجعل يهوي به إلى متاعها, ويقول: هذا المتاع, لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال: لا, ادع لي ربيعة بن عمرو الجرسي, وكان فقيهاً, فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد, فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له, ثم قال: نعم ما رأيت, ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري, فدعوته وكان آدم شديد الأدمة, فقال: دونك هذه بيض بها ولدك, قال: وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته, ثم أعتقته, ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه.
قوله 22- "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" نهي عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم. ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال "إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً" هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشد المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت. قال ثعلب: سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها، ويقال لهذا الضيزم، وأصل المقت البغض، من مقته يمقته مقتاً فهو ممقوت ومقيت. قوله "إلا ما قد سلف" هو استثناء منقطع أي: لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه، وقيل: إلا بمعنى بعد: أي بعد ما سلف، وقيل: المعنى ولا ما سلف، وقيل: هو استثناء متصل من قوله "ما نكح آباؤكم" يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال: يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا، فلا يحل لكم غيره. قوله "وساء سبيلاً" هي جارية مجرى بئس في الذم والعمل، والمخصوص بالذم محذوف: أي ساء سبيلاً سبيل ذلك النكاح، وقيل: إنها جارية مجرى سائر الأفعال، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها.
وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معمر بن معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت، فتوفي عنها فجنح عليها ابنه، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن " قال: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام. قال ابن المبارك "أن ترثوا النساء كرهاً" في الجاهلية، ولا تعضلوهن في الإسلام. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله "ولا تعضلوهن" قال: لا تضر بامرأتك لتفتدي منك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد "ولا تعضلوهن" يعني: أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كان العضل في قريش بمكة: ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها، وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" قال: البغض والنشوز، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال الفاحشة هنا الزنا. وأخرج ابن جرير عن أبي قلابة وابن سيرين نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله "وعاشروهن بالمعروف" قال: خالطوهن. قال ابن جرير: صحفه بعض الرواة وإنما هو خالقوهن وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: حقها عليك الصحبة الحسنة والكسوة والرزق المعروف. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "وعاشروهن بالمعروف" يعني صحبتهن بالمعروف " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا " فيطلقها فتتزوج من بعده رجلاً فيجعل الله له منها ولداً ويجعل الله في تزويجها خيراً كثيراً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الخير الكثير أن يعطف عليها فترزق ولدها ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ما قال مقاتل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "وإن أردتم استبدال زوج" الآية، قال: إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها فطلقت هذه وتزوجت تلك فأعط هذه مهرها وإن كان قنطاراً. وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى. قال السيوطي بسند جيد: أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله يقول "وآتيتم إحداهن قنطاراً" فقال: اللهم غفراً كل الناس أفقه من عمر، فركب المنبر فقال: يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. قال ابن كثير: إسناده جيد قوي، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة، هذا أحدها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الإفضاء هو الجماع، ولكن الله يكني. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس في قوله "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" قال: الغليظ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه وقال: وقد كان ذلك يؤخذ عنه عقد النكاح: الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر كان إذا نكح قال: أنكحتك على ما أمر الله به، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد في قوله: "وأخذن منكم ميثاقاً غليظا " قال: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو قول الرجل: ملكت. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كلمة النكاح التي تستحل بها فروجهن. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في سننه في قوله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك "إلا ما قد سلف" إلا ما كان في الجاهلية. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.
22-قوله عز وجل: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء"، كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم، قال الأشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني اتخذتك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره، فأتته فأخبرته، فأنزل الله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف "، قيل: بعد ما سلف، وقيل: معناه لكن ما سلف، أي: ما مضى في الجاهلية فهو معفو عنه، "إنه كان فاحشةً" أي: إنه فاحشة، و(كان) فيه صلة، والفاحشة أقبح المعاصي، "ومقتاً" أي: يورث مقت الله، والمقت: أشد البغض، "وساء سبيلا" وبئس ذلك طريقاً وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه (مقيت) وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية.
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو سهل محمد بن عمرو السجزي أنا الإمام أبو سليمان الخطابي أنا أحمد بن هشام الحضرمي أنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن حفص بن غياث عن أشعث ابن سوار عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: مر بي خالي ومعه لواء فقلت: أين تذهب؟ قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه.
22" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم، وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة، وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر " النساء" بيان ما نكح على الوجهين. " إلا ما قد سلف " استثناء من المعنى اللازم لنهي وكأنه قيل: وتستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، أو من للمبالغة في التحريم والتعميم كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى ولا تنكحوا حلائل لابائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحهن وقيل الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر. " إنه كان فاحشة ومقتا " علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم، ممقوتاً عند ذوي المروءات ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي " وساء سبيلا " سبيل من يراه ويفعله.
22. And marry not those women whom your fathers married, except what hath already happened (of that nature) in the past. Lo! it was ever lewdness and abomination, and an evil way.
22 - And marry not women whom your fathers married, except what is past: it was shameful and odious, an abominable custom indeed.