214 - (وأنذر عشيرتك الأقربين) وهم بنو هاشم وبنو المطلب وقد أنذرهم الله جهارا رواه البخاري ومسلم
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين بدأ بأهل بيته وفصيلته فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله وأخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
القول في تأويل قوله تعالى : " وأنذر عشيرتك الأقربين " .
قوله تعالى : " وأنذر عشيرتك الأقربين " وفيه مسألتان :
الأولى قوله تعالى : " وأنذر عشيرتك الأقربين " خص عشيرته الأقربين بالإنذار لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك . وعشيرته الأقربون قريشش . وقيل : بنو عبد مناف . ووقع في صحيح مسلم .
" وأنذر عشيرتك الأقربين " ( ورهطك منهم المخلصين ) وظاهر هذا أنه كان قرآناً يتلى وأنه نسخ ، إذ لم يثبت نقله في المصحف ولا تواتر . ويلزم على ثبوته إشكال ، وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته ، فإن المؤمنين هم الذين يوصفون بالإخلا ص في دين الإسلام وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم لا المشركون ، لأنهم ليسوا على شيء من ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم دعا عشيرته كلهم مؤمنهم وكافرهم ، وأنذر جميعهم ومن معهم ومن يأتي بعدهم صلى الله عليه وسلم ، فلم يثبت ذلك نقلاً ولا معنى . وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال : " لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الأقربين " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص فقال : يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن ك عب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها " .
الثانية : في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الأساب لا ينفع مع البعد في الأسباب ، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته ، لقوله : " إن لكم رحماً سأبلها ببلالها " وقوله عز وجل : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " [ الممتحنة : 8 ] الآية ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله .
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له, ومخبراً أن من أشرك به عذبه. ثم قال تعالى آمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين, أي الأدنين إليه, وأنه لا يخلص أحداً منهم إلا إيمانه بربه عز وجل, وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين, ومن عصاه من خلق الله كائناً من كان فليتبرأ منه, ولهذا قال تعالى: "فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون" وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها, كما قال تعالى: "لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون", وقال تعالى: "لتنذر أم القرى ومن حولها" وقال تعالى: "وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم", وقال تعالى: "لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً", وقال تعالى: "لأنذركم به ومن بلغ", كما قال تعالى: "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده". وفي صحيح مسلم "والذي نفسي بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني, ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الاية الكريمة فلنذكرها:
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الله بن نمير , عن الأعمش عن عمرو بن مرة , عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أنزل الله عز وجل "وأنذر عشيرتك الأقربين" " أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا, فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني عبد المطلب, يا بني فهر, يا بني لؤي, أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟ قالوا: نعم. قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم, أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله "تبت يدا أبي لهب وتب" " ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الأعمش به.
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع , حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين" قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة ابنة محمد, يا صفية ابنة عبد المطلب, يا بني عبد المطلب, لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من مالي ما شئتم" انفرد بإخراجه مسلم .
(الحديث الثالث) قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو , حدثنا زائدة , حدثنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية "وأنذر عشيرتك الأقربين" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً, فعم وخص فقال "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار, يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار, فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها". ورواه مسلم والترمذي من حديث عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه, ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلاً, ولم يذكر فيه أبا هريرة , والموصول هو الصحيح, وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة , وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد , حدثنا محمد يعني ابن إسحاق , عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة , رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله , يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله, فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً, سلاني من مالي ما شئتما" تفرد به من هذا الوجه, وتفرد به أيضاً عن معاوية عن زائدة , عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ورواه أيضاً عن حسن حدثنا ابن لهيعة : عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً, وقال أبو يعلى : حدثنا سويد بن سعيد , حدثنا همام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم "يا بني قصي, يا بني هاشم, يا بني عبد مناف, أنا النذير, والموت المغير, والساعة الموعد".
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد التيمي عن أبي عثمان عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو , قالا: لما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين" صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضمة من جبل على أعلاها حجر, فجعل ينادي: "يا بني عبد مناف, إنما أنا نذير, وإنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فذهب يربأ أهله يخشى أن يسبقوه, فجعل ينادي ويهتف: يا صباحاه" ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن طرخان التيمي عن أبي عثمان عبد الرحمن بن سهل النهدي , عن قبيصة وزهير بن عمرو الهلالي به.
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر , حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية "وأنذر عشيرتك الأقربين" جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته, فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا, قال: وقال لهم "من يضمن عني ديني ومواعيدي, ويكون معي في الجنة, ويكون خليفتي في أهلي ؟ فقال رجل لم يسمه شريك: يا رسول الله أنت كنت بحراً من يقوم بهذا, قال: ثم قال الاخر ـ ثلاثاً ـ قال: فعرض ذلك على أهل بيته, فقال علي : أنا.
(طريق أخرى بأبسط من هذا السياق) قال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا أبو عوانة , حدثنا عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ماجد عن علي رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أو دعا رسول الله ـ بني عبد المطلب وهم رهط, وكلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق, فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا, وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس, ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب, وقال "يابني عبد المطلب, إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة, فقد رأيتم من هذه الاية ما رأيتم, فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي قال: فلم يقم إليه أحد, قال: فقمت إليه وكنت أصغر القوم, قال: فقال اجلس ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي ".
(طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر) قال الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ , أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب , حدثنا أحمد بن عبد الجبار , حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل , واستكتمني اسمه, عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره فصمت, فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك" قال علي رضي الله عنه فدعاني, فقال: يا علي إن الله تعالى قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين, فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره, فصمت عن ذلك, ثم جاءني جبريل فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك, فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام, وأعد لنا عس لبن, ثم اجمع لي بني عبد المطلب" ففعلت فاجتمعوا إليه, وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً, فيهم أعمامه: أبو طالب, وحمزة, والعباس, وأبو لهب الكافر الخبيث, فقدمت إليهم تلك الجفنة, فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة فشقها بأسنانه, ثم رمى بها في نواحيها, وقال "كلوا بسم الله فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم, والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً, وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله, فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهدما سحركم صاحبكم, فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب, فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم ففعلت, ثم جمعتهم له, فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس, فأكلوا حتى نهلوا عنه, وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً, وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله, فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب بالكلام, فقال: لهدما سحركم صاحبكم, فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان من الغد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب, فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم ففعلت ثم جمعتهم له, فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس, فأكلوا حتى نهلوا ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه, وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به, إني قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة" قال أحمد بن عبد الجبار : بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال عن عمرو عن عبد الله بن الحارث .
وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق , عن عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث , عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب فذكر مثله, وزاد بعد قوله "إني جئتكم بخير الدنيا والاخرة, وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا ؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت ـ وإني لأحدثهم سناً, وأمرصهم عيناً, وأعظمهم بطناً, وأحمشهم ساقاً ـ: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه, فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي, وكذا وكذا, فاسمعوا له وأطيعوا قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع " . تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم , وهو متروك كذاب شيعي, اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث, وضعفه الائمة رحمهم الله.
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي أخبرنا الحسين عن عيسى بن ميسرة الحارثي , حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال: قال علي رضي الله عنه: لما نزلت هذه الاية "وأنذر عشيرتك الأقربين" قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا قال: ففعلت, ثم قال :ادع بني هاشم قال: فدعوتهم وإنهم يومئذ أربعون غير رجل, أو أربعون ورجل, قال: وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذعة بإدامها, قال: فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذروتها ثم قال فأكلوا حتى شبعوا, وهي على هيئتها لم يزرؤوا منها إلا اليسير, قال: ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رووا, قال: وفضل فضل, فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم فبدروه الكلام, فقالوا ما رأينا كاليوم في السحر. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام فصنعت, قال: فدعاهم فلما أكلوا وشربوا, قال: فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى, فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال لي اصنع لي رجل شاة بصاع طعام فصنعت, قال: فجمعتهم فلما أكلوا وشربوا بدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام, فقال :أيكم يقضي عني ديني, ويكون خليفتي في أهلي ؟ قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله, قال: وسكت أنا لسن العباس. ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس, فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله. قال: وإني يومئذ لأسوأهم هيئة, وإني لأعمش العينين, ضخم البطن, خمش الساقين, فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي رضي الله عنه, ومعنى سؤاله صلى الله عليه وسلم لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ويخلفوه في أهله, يعني إن قتل في سبيل الله, كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل, فلما أنزل الله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس" فعند ذلك أمن " , وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الاية "والله يعصمك من الناس" ولم يكن أحد في بني هاشم إذ ذاك أشد إيماناً وإيقاناً وتصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه, ولهذا بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان بعد هذا ـ والله أعلم ـ دعاؤه الناس جهرة على الصفا, وإنذاره لبطون قريش عموماً وخصوصاً, حتى سمى من سمى من أعمامه وعماته وبناته لينبه بالأدنى على الأعلى, أي إنما أنا نذير والله يهدي من يشاء إلى صرط مستقيم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي ـ غير منسوب ـ من طريق عمرو بن سمرة , عن محمد بن سوقة عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدث الناس ويفتيهم, وولده إلى جنبه, وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون, فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم, وأهل بيتك جلوس لاهين ؟ فقال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أزهد الناس في الدنيا الأنبياء, وأشدهم عليهم الأقربون" وذلك فيما أنزل الله عز وجل, قال تعالى: " وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ".
وقوله تعالى: "وتوكل على العزيز الرحيم" أي في جميع أمورك, فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك. وقوله تعالى: "الذي يراك حين تقوم" أي هو معتن بك كما قال تعالى: "واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا" قال ابن عباس "الذي يراك حين تقوم" يعني إلى الصلاة. وقال عكرمة يرى قيامه وركوعه وسجوده. وقال الحسن "الذي يراك حين تقوم" إذا صليت وحدك, وقال الضحاك "الذي يراك حين تقوم" أي من فراشك أو مجلسك. وقال قتادة "الذي يراك" قائماً وجالساً وعلى حالاتك.
وقوله تعالى: "وتقلبك في الساجدين" قال قتادة " الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين " قال: في الصلاة يراك وحدك, ويراك في الجمع, وهذا قول عكرمة وعطاء الخراساني والحسن البصري . وقال مجاهد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما يرى من أمامه, ويشهد لهذا ما صح في الحديث "سووا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري" وروى البزار وابن أبي حاتم من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الاية: يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبياً. وقوله تعالى: "إنه هو السميع العليم" أي السميع لأقوال عباده, العليم بحركاتهم وسكناتهم, كما قال تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه " الاية.
214- "وأنذر عشيرتك الأقربين" خص الأقربين لأن الاهتمام بشأنهم أولى، وهدايتهم إلى الحق أقدم. قيل هم قريش، وقيل بنو عبد مناف، وقيل بنو هاشم. وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا فعم وخص، فذلك منه صلى الله عليه وسلم بيان للعشرة الأقربين، وسيأتي بيان ذلك.
214- "وأنذر عشيرتك الأقربين"، روى محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب. قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي إن الله يأمرني أن أنذر عشيرتي عليها جاءني جبريل، فقال لي: يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به. قال علي رضي الله عنه: ففعلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى مالهم بشيء حاجة، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم: ثم قال: اسق القوم فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا جميعاً، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الغد: يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القوم فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعتهم فدعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة. وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على أمري هذا؟ ويكون أخي ووصيتي وخليفتي فيكم، فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت -وأنا أحدثهم سناً- أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. قال: فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو أسامة، حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لما نزلت: "وأنذر عشيرتك الأقربين" ورهطك من المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من صفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام: فنزلت " تبت يدا أبي لهب وتب "" هكذا قرأ الأعمش يومئذ.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثني عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "لما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين"، صعد نبي الله على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر ،يا بني عدي -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: " تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب "".
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، فقال: يا معشر قريش، أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً".
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرني جدي أبو سهل بن عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، وإنه قال: إن كل مال نحلته عبادي فهو لهم حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وإن الله تعالى أمرني أن أخوف قريشاً، فقلت: يا رب إنهم إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزةً، فقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وقد أنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه في المنام واليقظة، فاغزهم نغزك، وأنفق تنفق عليك، وابعث جيشاً نمددك بخمسة أمثالهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، ثم قال: أهل الجنة ثلاثة: إمام مقسط، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل غني متصدق، وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا دين له، الذين هم فيكم تبع لا يتبعون بذلك أهلاً ولا مالاً، ورجل إن أصبح أصبح يخادعك عن أهلك ومالك، ورجل لا يخفى له طمع -وإن دق- إلا ذهب به، والشنظير الفاحش. قال: وذكر البخل والكذب".
214 -" وأنذر عشيرتك الأقربين " الأقرب منهم فالأقرب فإن الاهتمام بشأنم أهم . روي أنه " لما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا وناداهم فخذاً فخذاً حتى اجتمعوا إليه فقال : لو أخبرتكم أن يسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي ، قالوا نعم قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " .
214. And warn thy tribe of near kindred,
214 - And admonish thy nearest Kinsmen,