208 - (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) رسل تنذر أهلها
يقول تعالى ذكره " وما أهلكنا من قرية " من هذه القرى التي وصفت في هذه السور " إلا لها منذرون " يقول : إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم وسخطنا عليهم " ذكرى " يقول : إلا لها منذرون ينذرونهم ، تذكرة لهم وتنبيها لهم على ما فيه النجاة لهم من عذابنا . ففي الذكرى وجهان من الإعراب : أحدهما النصب على المصدر من الإنذار على ما بينت ، والآخر : الرفع على الابتداء ، كأنه قيل : ذكرى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى " قال : الرسل . قال ابن جريج : وقوله " ذكرى " قال الرسل .
قوله " وما كنا ظالمين " يقول : وما كنا ظالميهم في تعذيبناهم وإهلاكهم ، لأنا إنما أهلكناهم ، إذ عتوا علينا ، وكفروا نعمتنا ، وعبدوا غيرنا بعد الإعذار إليهم والإنذار ، ومتابعة الحجج عليهم بأن ذلك لا ينبغي أن يفعلوه ، فأبوا إلا التمادي في الغي .
وقوله " وما تنزلت به الشياطين " يقول تعالى ذكره : وما تنزلت بهذا القرآن الشياطين على محمد ، ولكنه ينزل به الروح الأمين " وما ينبغي لهم " يقول : وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه ، ولا يصلح لهم ذلك " وما يستطيعون " يقول : وما يستطيعون أن يتنزلوا به ، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء " إنهم عن السمع لمعزولون " يقول : إن الشياطين عن سمع القرآن من المكان الذي هو به من السماء لمعزولون ، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ،قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " وما تنزلت به الشياطين " قال : هذا القرآن . وفي قوله " إنهم عن السمع لمعزولون " قال : عن سمع السماء .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه ، إلا أنه قال : عن سمع القرآن .
والقراء مجمعة على قراءة " وما تنزلت به الشياطين " بالتاء ورفع النون ، لأنها نون أصلية ، واحدهم شيطان ، كما واحد البساتين بستان ، وذكر عن الحسن أنه كان يقرأ ذلك وما تنزلت به الشياطون بالواو وذلك لحن ، وينبغي أن يكون ذلك إن كان صحيحا عنه ، أن يكون توهم أن ذلك نظير المسلمين والمؤمنين ، وذلك بعيد من هذا .
قوله تعالى : " إلا لها منذرون " أي يرسل . " ذكرى " قال الكسائي : " ذكرى " في موضع نسب على الحال . النحاس ، وهذا لا يحصل ، والقول فيه قول الفراء و أبي إسحاق أنها في موضع نصب على المصدر ، قال الفراء : أي يذكرون ذكرى وهذا قول صحيح ، لأن معنى " إلا لها منذرون " إلا لها مذكرون . و" ذكرى " لا يتبين فيه الإعراب ، لأن فيها ألفاً مقصورة . ويجوز " ذكرى " بالتنوين ، ويجوز أن يكون " ذكرى" في موضع رفع على إضمار مبتدأ قال أبو إسحاق : أي إنذارنا ذكرى . وقال الفراء : أي ذلك ذكرى ، وتلك ذكرى . وقال ابن الأنباري قال بعض المفسرين : ليس في ( الشعراء ) وقف تام إلا قوله " إلا لها منذرون " وهذا عندنا وقف حسن ، ثم يبتدئ " ذكرى " على معنى هي ذكرى أي يذكرهم ذكرى ، والوقف على " ذكرى " أجود .
يقول تعالى: كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد, أي أدخلناه في قلوب المجرمين "لا يؤمنون به" أي بالحق "حتى يروا العذاب الأليم" أي حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم, ولهم اللعنة ولهم سوء الدار "فيأتيهم بغتة" أي عذاب الله بغتة " وهم لا يشعرون * فيقولوا هل نحن منظرون " أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله, كما قال الله تعالى: " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال " فكل ظالم وفاجر إذا شاهد عقوبته ندم ندماً شديداً, هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما " فأثرت هذه الدعوة في فرعون, فما آمن حتى رأى العذاب الأليم " حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " وقال تعالى: "فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده" الايات.
وقوله تعالى: "أفبعذابنا يستعجلون" إنكار عليهم وتهديد لهم, فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيباً واستبعاداً: ائتنا بعذاب الله, كما قال تعالى: "ويستعجلونك بالعذاب" الايات, ثم قال " أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال, ثم جاءهم أمر الله أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم "كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها" وقال تعالى: "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" وقال تعالى: "وما يغني عنه ماله إذا تردى" ولهذا قال تعالى: "ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون".
وفي الحديث الصحيح "يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيراً قط ؟ هل رأيت نعيماً قط ؟ فيقول: لا والله يا رب, ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا, فيصبغ في الجنة صبغة, ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط ؟ فيقول: لا والله يا رب" أي ما كأن شيئاً كان. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت:
كأنك لم تؤثر من الدهر ليلة إذا أنت أدركت الذي أنت تطلب
ثم قال تعالى مخبراً عن عدله في خلقه أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم, والإنذار لهم, وبعثة الرسل إليهم, وقيام الحجة عليهم, ولهذا قال تعالى: "وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين" كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" وقال تعالى: " وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ".
208- "وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون" من مزيدة للتأكيد: أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا لها منذرون. وجملة "إلا لها منذرون" يجوز أن تكون صفة للقرية، ويجوز أن تكون حالاً منها، وسوغ ذلك سبق النفي، والمعنى: ما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد الإنذار إليهم والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
208- "وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون"، رسل ينذرونهم.
208 -" وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون " أنذروا أهلها إلزاماً للحجة .
208. And We destroyed no township but it had its warners
208 - Never did We destroy a population, but had its warners