20 - (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) فأنت مثلهم في ذلك وقد قيل لهم ما قيل لك (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) بلية ابتلي الغنى بالفقير والصحيح بالمريض والشريف بالوضيع يقول الثاني في كل مالي لا أكون كالأول في كل (أتصبرون) على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا (وكان ربك بصيرا) بمن يصبر وبمن يجزع
وأخرج الواحدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقه وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق الآية
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا " مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " الفرقان : 7 وجواب لنم عنه يقول لهم جل ثناؤه : و ما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، و يمشى في الأسوق ، من أكلك الطعام ، و مشيك في الأسواق ، و أنت لله رسول ، فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا من إنهم ليأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كالذي تأكل أنت و تمشي، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة . فإن قال قائل : فإن من ليست في التلاوة ، فكيف قلت : معنى الكلام : إلا من إنهم ليأكلون الطعام ؟ قيل : قلنا في ذلك : معناه : أن الهاء و الميم في قوله : إنهم كناية أسماء لم تذكر ، ولا بد لها من أن تعود على من كني عنه بها ، و إنما ترك ذكر من و إظهاره في الكلام ، اكتفاء بدلالة قوله " من المرسلين " عليه ، كما اكنفي في قوله " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات : 164 من إظهار من ، ولا شك أن معنى ذلك : وما منا إلا من له مقام معلوم ، كما قيل " وإن منكم إلا واردها " مريم : 71 و معناه : و إن منكم إلا من هو واردها ، فقوله " إنهم ليأكلون الطعام " صلى لمن المتروك ، كما يقال في الكلام : ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة ، فإنه ليبلغك الرسالة : صلة لمن .
و قوله " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " يقول تعالى ذكره : و امتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيا ، و خصصناه بالرسالة ، و هذا ملكا ، و خصصناه بالدنيا ، و هذا فقير ، و حرمناه الدنيا ، لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني ، و الملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطي ، و قسم له ، طاعته ربه من ما حرم مما أعطي غيره . يقول : فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا ، و جعلته يطلب المعاش في الأسواق ، ولأبتليكم أيها الناس ، و أختبر طاعتكم ربكم ، و إجابتكم رسلوه إلى ما دعاكم إليه ، يغير عرض من الدنيا تردونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه ، لأني لو أعطيته الدنيا ، لسارع كثير منكم إلى اتباعه ، طمعا في دنياه أن ينال منها .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : ثني عبد القدوس ، عن الحسن ، في قوله " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " ... الآية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، و يقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان ، و يقول هذا السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " قال : يمسك عن هذا ، و يوسع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، و يبتلى بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان ، في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، فيما يروي الطبري ، عن عكرمة أو عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : و أنزل عليه في ذلك من قولهم " مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " الفرقان : 7 الآية " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء ، لتصبروا على ما تسمعون منهم ، و ترون من خلافهم ، و تتبعوا الهدي بغير أن أعطيهم عليه الدني ، و لو شئت أن أجعل الدني مع رسلى فلا يخالفون ، لفعلت ، و لكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم ، و أبتليكم بهم .
و قوله " و كان ربك بصيرا " يقول : وربك يا محمد بصير بمن يجزع ، و من يصبر على ما امتحن به من المحن .
كما حدثنا القاسم قال ، ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج " و كان ربك بصيرا " إن ربك لبصير بمن يجزع ، و من يصبر .
فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى " وما أرسلنا قبلك من المرسلين " نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا : ( مال الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) . وقال ابن عباس :
لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا : ( مال الرسول يأكل الطعام ) الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له ، فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله ! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك : " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " أي يبتغون المعايش في الدنيا .
الثانية : قوله تعالى : " إلا إنهم ليأكلون الطعام " إذا دخلت اللام لم يكن في ( إن ) إلا الكسر ، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر ، لأنها مستأنفة . هذا قول جميع النحويين . قال النحاس : إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن زيد قال : يجوز في ( إن ) هذه الفتح وإن كان بعدها اللام ، وأحسبه وهماً منه . قال أبو إسحاق الزجاج : وفي الكلام حذف ، والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلاً إلا إنهم ليأكلون الطعام ، ثم حذف رسلاً ، لأن في قوله : " من المرسلين " ما يدل عليه . فالموصوف محذوف عند الزجاج . ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء . قال الفراء : والمحذوف ( من ) والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام . وشبهه بقوله : " وما منا إلا له مقام معلوم " [ الصافات : 164 ] وقوله : " وإن منكم إلا واردها " [ مريم : 71 ] أي ما من كم إلا من هو واردها . وهذا قول الكسائي أيضاً . وتقول العرب : ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك . فقولك : إنه ليطيعك صلة من . قال الزجاج : هذا خطأ ، لأن من موصلة فلا يجوز حذفها . وقال أهل المعاني : المعاني ، وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون ، دليله قوله تعالى : " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " [ فصلت : 43] . وقال ابن الأنباري ( إنهم ) بعد ( إلا) للاستئناف بإضمار واو . أي إلا وإنهم وذهبت فرقة إلى أن قوله : " ليأكلون الطعام " كناية عن الحدث قلت : وهذا بليغ في معناه ، ومثله " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام " [ المائدة : 75 ] . " ويمشون في الأسواق " قرأ الجمهور " يمشون " بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة . وبمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين والمشدودة ، وهي بمعنى يمشون ، قال الشاعر :
ومشى بأعطان المباءة وابتغى قلائص منها صعبة وركوب
وقال كعب بن زهير :
منه تظل سباع الجو ضامزة ولا تموشي بواديه الأراجيل
بمعنى تمشي .
الثالثة : هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك . وقد مض ى هذا المعنى في غير موضع ، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فيقول : قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى : إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء ، فقالت مجيباً له : هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء ، والرعاع السفهاء ، أو من طاعن في الكتاب والاحتراف العلياء ، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه وبالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق : " وعلمناه صنعة لبوس لكم " [ الأنبياء : 80 ] وقال : " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " قال العلماء : أي يتجرون ويحترفون . وقال عليه الصلاة والسلام :
" جعل رزقي تحت ظل رمحي " وقال تعالى : " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " [ الأنفال : 69 ] وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعلمون ومن خالفهم من الكفار يقاتلون ، أتراهم ضعفاء ! بل هم كانوا والله الأقوياء ، وبهم الخلف الصالح اقتدى ، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء . قال : إنما تناولها لأنهم أئمة الاقتداء ، فتناولها مباشرة في حق الضعفاء ، فأما في حق أنفسهم فلا ، وبيان ذلك أصحاب الصفة .
قلت : لو كان ذلك لوجب عليهم وعلي الرسول معهم البيان ، كما ثبت في القرآن " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " [ البقرة : 159 ] الآية . وهذا من البيان والهدى . وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلا م عند ضيق الحال ، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بما ، وإذا أتته هدية أكلها معهم ، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم . كذا وصفهم البخاري وغيره . ثم لما يدل على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم ، فلو أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذا ذلك سبب من أسباب النصر ، نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا ، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله ، وهو الحق المبين ، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين ، وإلا كان يكون قوله الحق : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل " [ مريم : 25] وقد كان قادراً على سقوط الرطب دون هز ولا تعب ، ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان ، أو تجاب دعوته ، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأحل غيره ، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة . هيهات هيهات ! لا يقال فقد قال الله تعالى : " وفي السماء رزقكم وما توعدون " [ الذاريات : 22 ] فإنا نقول : صدق الله العظيم ، وصدق رسول الكريم ، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل ، بدليل ، قوله : " وينزل لكم من السماء رزقا " [ غافر : 13] وقال : " ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد " [ ق : 9 ] ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم ، بل الأسباب أصل في وجود ذلك ، وهو معنى قوله عليه السلام : " اطلبوا الرزق في خبايا الأرض " أي بالحرث والحفر والغرس . وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه ، وسمي المطر رزقاً لأنه يكون الرزق ، وذلك مشهور في كلا م العرب . وقال عليه السلام . " لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحداً أعطاه أو منعه " وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب ، ولو قدر رجل بالجبال منقطعاً عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به ، وهو معنى قوله عليه السلام : " لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " فغدوها ورواحها سبب ، فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق ، ويقعد على ثنيات الطريق ، ويدع الطريق المستقيم ، والمنهج الواضح القويم . ثبت في البخاري عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون ، فإذا قدموا سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى " وتزودوا " ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد ، وكانوا المتوكلين حقاً . والتوكيل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه ، ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر . وهذا هو الحق . سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال : إني أريد الحج على قدم التوكل . فقال : اخرج وحدك ، فقال : لا ، إلا مع الناس . فقال له : أنت إذن متكل على أجربتهم ، وقد أتينا على هذا في كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكسب والصناعة .
الرابعة : خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها " وخرج البزار عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تكونن إن استطعت أو لمن يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته " أخرجه أبو بكر البرقاني مسنداً عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ _ من رواية عاصم _ عن أبي عثمان الهندي عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ " ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق ، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان . وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر : كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيهاً لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها . فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل الشيطان ومحل جنوده ، وأنه إن أقام هناك هلك ، ومن كانت هذه حاله9 اقتصر من ه على قدر ضرورته ، وتحرز من سوء عاقبته وبليته .
الخامسة : تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن ، وذلك أن المعركة موضع القتال ، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه ، ومصارعه بعضهم بعضاً . فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة ، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة ، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها .
السادسة : قال ابن العربي : أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه ، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون : لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح ، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها ، لأن ذلك إسقاط للمرءة وهدم للحشمة ، ومن الأحاديث الموضوعة " الأكل في السوق دناءة " قلت : ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو ، فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن ، إذا ليس بذلك من حاجتهن . وأما غيرهما من الأسواق فمشحونة منهن ، وقلة الحياة قد غلبت عليهن ، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها ، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا. نعوذ بالله من سخطه .
السابعة: خرج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال : حدثنا عمر بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم أبيه عن عمر بن الخطاب ( عن النبي صلى الله عليه وسلم ) قال :
" من دخل سوقاً من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصراً في الجنة " خرجه الترمذي أيضاً وزاد بعده ( ومحا عنه ألف ألف سيئة ) : ( ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتاً في الجنة ) وقال : هذا حديث غريب . قال ابن العربي : وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذا عمرت بالمعصية ، وليحليها بالذكر إذا عطلت بالغفلة ، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين .
الثامنة : قوله تعالى : " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، عليه أن يواسه ولا يخسر منه . والفقير ممتحن بالغني ، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق ، كما قال الضحاك في معنى " أتصبرون " أي على الحق . وأصحاب البلايا يقولون : لم لم نعف ؟ والأعمى يقول : لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة . والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره . وكذلك العلماء وحكام العدل ، ألا ترى إلى قولهم : " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " [ الزخرف : 31 ] فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى ، ويحقر المعافى المبتلى . والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر ، وذاك عن الضجر . " أتصبرون " محذوف الجواب ، يعني أم لا تصبرون . فيقضي جواباً كما قاله المزني ، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصياً في مراكب ومناكب ، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية : " أتصبرون " فقال : بلى ربنا ! نصبر ونحتسب . وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابراً عليه ، ثم أجاب نفسه بقوله : سنصبر . وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل لسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة وهو قوله: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " "أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته . وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ، و عقبة بن أبي معيط و عتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث حين رأوا أبا ذر و عبد الله بن مسعود ، وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامر بن فهيرة ، وسالماً مولى أبي حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبراً مولى الحضرمي ، وذويهم ، فقالوا على سبيل الاستهزاء : أنسلم فنكون مثل هؤلاء ؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين : " أتصبرون " على ما ترون من هذه الحال الشهيدة والفقر ، فالتوقيف بـ" أتصبرون " خاص للمؤمن ين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين ، أي اختباراً لهم . ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم : " إني جزيتهم اليوم بما صبروا " [ المؤمنون : 111] .
التاسعة : قوله تعالى : " وكان ربك بصيرا " أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع ، ومن يؤمن ومن لا يؤمن ، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي . وقيل : " أتصبرون " أي اصبروا . مثل : " فهل أنتم منتهون " [ المائدة : 91 ] أي انتهوا ، فهو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر .
يقول تعالى مخبراً عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين: أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به, ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة, وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم, فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة, ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاؤوا به من الله, ونظير هذه الاية الكريمة قوله تعالى: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى" وقوله "وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام" الاية. وقوله تعالى: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" أي اختبرنا بعضكم ببعض, وبلونا بعضكم ببعض, لنعلم من يطيع ممن يعصي, ولهذا قال "أتصبرون وكان ربك بصيراً" أي بمن يستحق أن يوحي إليه, كما قال تعالى: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" قال: يقول الله: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت, ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم. وفي صحيح مسلم عن عياض بن عماد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتل بك" وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة" وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً, فاختار أن يكون عبداً رسولاً.
فقال: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" قال الزجاج: الجملة اواقعة بعد إلا صفة لموصوف محذوف، والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا أكلين وماشين، وإنما حذ الموصوف لأن في قوله من المرسلين دليلاً عليه، نظيره "وما منا إلا له مقام معلوم" أي وما منا أحد. وقال الفراء لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول، والتقدير: إلا من أنهم فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى المقدرة، ومثله قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها" أي إلا من يردها، وبه قرأ االكسائي. قال الزجاج: هذا خطأ لأن من الموصولة لا يجوز حذفها. وقال ابن الأنباري: إنها في محل نصب على الحال، والتقدير: إلا وإنهم، فالمحذوف عنده الواو. قرأ الجمهور "إلا إنهم" بكسر إن لوجود اللام في خبرها كما تقرر في علم النحو، وهو مجمع عليه عندهم. قال النحاس: إلا أن علي بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجوز في إن هذه الفتح وإن كان بعدها اللام وأحسبه وهما. وقرأ الجمهور. "يمشون" بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهي بمعنى القراءة الأولى، قال الشاعر:
أمشي بأعطان المياه وأتقي قلائص منها صعبة وركوب
وقال كعب بن زهير:
منه تظل سباع الحي ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيل
"وجعلنا بعضكم لبعض فتنة" هذا الخطاب عام للناس، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير، وقيل المراد بالبعض الأول كفار الأمم، وبالبعض الثاني المرسل، ومعنى الفتنة الابتلاء والمحنة. والأول لأولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به، فالمريض يقول لم لم أجعل كالصحيح؟ وكذا كل صاحب آفة، والصحيح مبتلى بالمريض فلا يضجر منه ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغني يحسده، ونحو هذا مثله. وقلي المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف وقال لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة "أتصبرون" هذا الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره أم لا تصبرون: أي أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة والابتلاء العظيم. قيل موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله: "أيكم أحسن عملاً" في قوله: "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" ثم وعد الصابرين بقوله: "وكان ربك بصيرا" أي بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه. وقيل معنى أتصبرون: اصبروا مثل قوله: "فهل أنتم منتهون" أي انتهوا.
قوله عز وجل: 20- "وما أرسلنا قبلك من المرسلين"، يا محمد، "إلا إنهم ليأكلون الطعام"، روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، أنزل الله عز وجل هذه الآية. يعني: ما أنا إلا رسول وما كنت بدعاً من الرسل، وهم كانوا بشراً يأكلون الطعام، "ويمشون في الأسواق". وقيل: معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال في موضع آخر: "ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك" (فصلت-43).
"وجعلنا بعضكم لبعض فتنة"، أي بلية، فالغني فتنة للفقير، يقول الفقير: ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض، والشريف فتنة للوضيع. وقال ابن عباس: أي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى.
وقيل: نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أنف، وقال: أسلم بعده فيكون له علي السابقة والفضل؟! فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام، فذلك افتتان بعضهم ببعض، وهذا قول الكلبي.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، والوليد بن عقبة، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث، وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر، وابن مسعود، وعماراً، وبلالاً، وصهيباً، وعامر بن فهيرة، وذويهم، قالوا: نسلم فنكون مثل هؤلاء؟
وقال: نزلت في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش، كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمداً من موالينا وأراذلنا، فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين: "أتصبرون" يعني على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى.
"وكان ربك بصيراً"، بمن صبر وبمن جزع. أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا زكريا بن يحيى المروزي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم".
20ـ " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " أي رسلاً إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى : " وما منا إلا له مقام معلوم " ، ويجوز أن تكون حالاً اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقولهم " مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " . وقرئ " يمشون " أي تمشيهم حوائجهم أو الناس . " وجعلنا بعضكم " أيها الناس . " لبعض فتنةً " ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء ، والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم ، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه بعد نقضه ، وفيه دليل على القضاء والقدر . " أتصبرون " علة للجعل والمعنى " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى : " ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " ، أو حث على الصبر على ما افتتنوا به . " وكان ربك بصيراً " بمن يصبر أو بالصواب فيما يبتلى به وغيره .
20. We never sent before thee any messengers but lo! they ate food and walked in the markets. And We have appointed some of you a test for others: Will ye be steadfast? And thy Lord is ever Seer.
20 - And the apostles whom We sent before thee were all (men) who ate food and walked through the streets: we have made some of you as a trial for others: will ye have patience? For God is One Who sees (all things).